صفحات الناس

تتمات في سيرة الرقة: في مخيم عين عيسى/ أحمد إبراهيم

 

 

هذا النص هو الجزء الثالث من تتمات في سيرة الرقة، وكان الجزء الأول حكاية خروج إيمان وعائلتها من المدينة، والثاني حكاية الطريق الذي سلكوه وصولاً إلى مخيم عين عيسى.

فقدتُ محدثتي منذ أكثر من شهرين، ولم أستطع التواصل معها بسبب ظروفها ومحاولاتها إخراج عائلتها خارج البلد، حتى كانت عودة التواصل بيننا قبل عدة أيام، لتكمل الفصل الأخير من رحلة الاقتلاع وبداية رحلة التشرد، في روايتها عن 27 يوماً عاشتها في مخيم عين عيسى:

لمحة

عين عيسى، حسب التقسيمات الإدارية السورية، تسمّى بلدة، وفيها مركز ناحية تتبع إدارياً لمنطقة تل أبيض بمحافظة الرقة، تبلغ مساحتها 1195 كم²، تقع شمالي الرقة بـ 60 كم وجنوب غرب تل أبيض بـ 55 كم.

يبلغ عدد سكان الناحية حسب السجل المدني لمركز الناحية لعام 2011 40 ألف نسمة، 10 آلاف منهم سكان البلدة، والباقي يتوزعون على قراها ومزارعها البالغة 136 قرية ومزرعة.

عين عيسى منطقة استقرار رابعة حسب التقسيمات المناخية في سورية، أي أنها شبه بادية، تصل درجات الحرارة فيها إلى 45 مئوية، وأحياناً أكثر، ويتحكم «العجاج» أو الزوابع الرملية بأغلب نهاراتها.

هنا أُقيمَ مخيّمٌ للاجئين من الرقة، حيث يتقاسم أكثر من عشرين ألف إنسانٍ بقعةً من هذا المكان، سُمّيت مخيّم عين عيسى.

المخيّم

منتصفَ تسعينيات القرن الماضي، أقامت وزارة الزراعة ما يسمى «حلقة أقطان عين عيسى»، على أراضٍ تابعة لأملاك الدولة، على مساحة 40 هكتاراً شمال بلدة عين عيسى بنحو 1.5 كم، وذلك لاستلام محصول القطن من الفلاحين، ثم شحنه لاحقاً إلى المعامل والمحالج.

على هذا المكان أقيم «معسكرٌ» للاجئين يوم 1 كانون الأول 2016.

وصفٌ من الداخل

تقول محدثتي: حتى تستطيع أن تعيش هنا عليك أن تستنفر حواسك الخمسة، وتُشغِّلَ معها الحاسة السادسة والسابعة والعاشرة أيضاً، وأن تتأقلم وترصد وتتعرف، بأقصى ما يمكنك، إلى كلِّ ما يحيط بك. لن أقول إنني أعرف كل ما يحصل هناك، ولكنني أستطيعُ أن أقول إن ما يحصل هناك هو استعباد، واضطهاد، وقهر، واستغلال، وسلب، وامتهانُ كرامةٍ بكل ما تعنيه الكلمة.

قبل أن أبدأ، أريدُ أن أوضح لك أنني لست متحاملة على أحد، ولكن الحقيقة هكذا ببساطة. المخيّم لا زال موجوداً، وبإمكان أي أحد أن يتحقق مما سأقوله.

سأصفُ لكُ المكان حسب ما عرفته وخبرته أولاً، كوني تطوعتُ أنا وأختيّ بعد الأسبوع الأول للمساعدة في التعليم، وأيضاً في كثير من الأنشطة التي تحدث في المخيم. من خلال هذا التطوّع، عرفتُ ما عرفت.

تتوزع 1200 خيمةٍ للسكن على جغرافيا المخيّم، وهي من خِيَم الأمم المتّحدة. مساحةُ الواحدة 16 م²، وقماشها على طبقتين. الخيمة مخصصة لعائلة واحدة، سواء كانت من شخصين أو عشرين شخصاً، حسب تصريح رب العائلة عند مكتب الدخول.

ينقسم المخيم إلى ثمانية قطاعات وثلاثة عشر محوراً، القطاعات مرقمة بالأعداد من واحد إلى ثمانية، والمحاور بالأحرف الإنكليزية تراتبياً من الحرف A إلى الحرف M. لكل عشرين خيمة سكن خيمةُ مطبخ واحدة تحتوي على أربعة غازات للأعمال الخفيفة والشاي والقهوة، لكن عملياً في أغلب الأحيان لا يوجد غاز. ولكل عشرين خيمة سكن حمّامان، واحدٌ للنساء والآخر للرجال، وأربعة مراحيض، اثنان للرجال واثنان للنساء. وأيضاً لكل عشرين خيمة مختار، هو الصلة بين إدارة المخيم وسكان الخيم العشرين، ويشرف على توزيع وجبة الأكل الوحيدة التي يقدّمها المخيم، وأيضاً يكتب التقارير، بمعنييها «السوري» والخدمي، إلى إدارة المخيم وإلى مكتب الاستخبارات.

أيضاً هناك في المخيم تسعة صيوانات استقبالٍ للقادمين الجدد، لحين تخصيصهم بخيم. وأربعة صيوانات أقصى شمال شرقي المخيم، هي عبارة عن عيادات طبية ومركز تلقيح، وهناك مستودعٌ إسمنتيٌ كبيرٌ جداً، أصفرُ اللون، هو من أساسيات مركز الأقطان. يحوي بداخله عدة مكاتب سيأتي ذكرها، وأيضاً هناك غرفتان من الإسمنت مقابل المدخل الرئيسي إلى الشرق، هما في الأصل غرفتا القبّان الأرضي الذي كان يُستخدم لوزن الأقطان الواردة، وتُستخدمان الآن، الأولى كصيدلية مركزيّة للمخيم، والثانية كمركز للإنترنيت. وأيضاً هناك على يسار المدخل الرئيسي مكاتب، هي عبارة عن غُرف مسبقة الصنع، كانت تشكل إدارة حلقة الاقطان، وهي الآن إدارة المخيم.

المخيم مسوّرٌ بالكامل بسورٍ على طبقتين، الأول من الأسلاك الشائكة، والثاني شبكٌ معدنيٌ على ارتفاع مترين. تتوزع أبراج الحراسة الاثنا عشر على الزوايا، وتتولى شركة خاصة تسمى «الجوهرية» حراسة كامل السور، عبر حراس «شداد غلاظ»، يحرصون على منع خروج أي أحد من معسكر الاعتقال هذا. وعلاقة هذه الشركة فقط مع مكتب الاستخبارات، أما الباب الرئيس فحراسته للأسايش، أو كما تتمّ تسميتهم هنا «الأمن العام والاستخبارات».

بالعودة إلى سياق قصتنا

اجتازَ السرفيس البوابة الحديدة السوداء التي تُفتَحُ على الجانبين، وتوقّفَ بعدها فوراً. هناك أنزلونا على يمين الباب الرئيسي وغير بعيد عنه، عند مظلات واسعة على واجهتها كُتبت عناوين المكاتب، وأولها كان «مكتب الاستقبال».

هنا أيضاً وأيضاً تم تفتيشنا، وتفتيش حقائبنا. هنا بالذات يحتشد عددٌ من الشباب والصبايا، يحملون كاميرات وأجهزة تسجيل صوت، كصحفيين أو مراسلين، ويطلبون ممن ترغب من النساء أن يتمّ تصويرها. هم يريدون فقط حاجتين: صورة وهي ترمي العباءة، أو صورة وهي تشعل سيجارة.

انتقلنا إلى المكتب الثاني، مكتب المفوضية العامة للاجئين، حيث تمَّ تسجيلنا كلاجئين «أمميين» رسمياً، وأعطونا بطاقة كرتونية تسمى هنا «الأرومة»، تُخوِّلُنا هذه البطاقة استلام الخيمة والفرش والبطانيات.

المكتب الثالث كان مكتب الدخول، أيضاً حصلنا على بطاقة دخول، تتضمن الاسم وتاريخ الدخول وعدد أفراد العائلة، وتحت ذلك عدة حقول: مكتب الدخول، الأمن العام «الاستخبارات»، مكتب الخروج، الحلّاق، الاستعلامات، الأرشيف، السابع والأخير إدارة المخيم. ومن الخلف حقلان: الطبابة واللقاح. وطبعاً نحتاج تواقيع جميع الجهات المذكورة في هذه الحقول.

أخيراً قسم «الاستقبال الصحي-مكاتب الاطباء»، وهناك شرحتُ وضعَ أمي، فقرروا نقلها مع زوجة أخي إلى ما قالوا إنه النقطة الطبية. سلَّمَتني أمي عُكّازها، وهمست في أذني أن أحافظَ عليه كما أحافظُ على نفسي!!

خارج السياق

منذ زمن طويل لم أرَ الشمس وهي تغرب هكذا وبشكل مباشر، فالفضاء هنا مفتوح، مفتوحٌ ومن جهاته الأربعة كما حياتنا منذ البارحة.

وبالعودة

دلّونا على ما يسمى صيوانات الاستقبال، وهذه عبارة عن تسعة خيم كبيرة مرصوفة بجانب بعضها بعضاً، ومشرعة الأبواب على عرضها. سننام اليوم هنا إلى حين تخصيصنا بخيمة خاصة. وقفنا وَجِلين تائهين ومحبطين بباب أحد الصيوانات التي حددوها لنا: «يا ربي… هل سننام هنا نحن وكل هؤلاء الناس دون حواجز، لو حتى من القماش؟». رجال ونساء، أطفال وشيوخ، شباب صبايا. لا خصوصية في أي شيء، وقتٌ قليلٌ وتذوب كل الخشية من الآخر، ونتحول من كتل بشرية غير متجانسة إلى ما يشبه قطيعاً متجانساً يوحِّدُنا إحساسٌ بالمصير المشترك. لم أعد أرى الرجال كأغراب، وأعتقد أنهم أيضاً باتوا ينظرون إلينا كذلك، فالجميع مشغولون بهمّهم.

على أرض لا يغطيها سوى نايلون رقيق، تتجمع العائلات على شكل حلقات. ولكن المشكلة الأكبر لم تكن الفُرَشَ أو الأغطية، بل كانت العقارب. كانت ليلة ليلاء، إذ كان بعضنا فراشاً للأطفال، والبعض الآخر حرّاساً من العقارب، ولكن في النهاية تلاها صبح. في كل حياتي لم أرَ الشمس وهي تشرق، فنحن سكان المدن «نستلم الشمس جاهزةً».

بدأَ الدوام الرسمي، وبدأنا نحن «أرباب» العائلات الجديدة رحلةَ تأمين الخيمة، أو «الوطن الجديد ومستلزماته» كما أسماه الشاب الديري صاحب اليدِ التي قَطَعتها قذيفةٌ من طائرات النظام عام 2012، والروحِ المرحة، الذي تطوع لمساعدتنا وإرشادنا إلى الاماكن المذكورة في البطاقة.

بدأنا من مكتب الدخول الذي مررنا به البارحة، لم يسألوا من جديد، بل وقَّعوا. ومن ثم ذهبنا إلى «الأمن العام». أسئلةٌ سخيفةٌ وتلطيشات وإزعاجات: «هل تعرفون أحداً في داعش؟ كم داعشي يوجد في الرقة؟ ماهي جنسياتهم؟». نصف ساعة من السخافة للتسلية، ثم أعطوني موعداً بعد ثلاثة أيام في مكتب الاستخبارات بجانب إدارة المخيم.

خارج السياق

لم أدخل في حياتي فرع مخابرات أو حتى قسم شرطة. ولم يُحقَّق معي حتى من قبل الموجِّهين التربويين طوال فترة عملي التدريسي، كنتُ أشاهدُ المُحقِّقين فقط في الأفلام. ولكن منذ البارحة تكونت عندي قناعةٌ أن المحققين حتى يكونوا محققين، يجب أن يكونوا حُقَرَاء، بل أحقر البشر وبلا أخلاق أيضاً، وبلا قلوب: «الحيوان الأخير كان ناقص يسألني عن أسماء الدواعش واحد واحد، ولك تضرب أنتَ وهمَّ واحد واحد».

بالعودة

من هناك ذهبت الى الحلّاق، «أي والله ذهبت إلى الحلاق… وياااا إلهي ماذا رأيت». كثيرٌ من اللحى كانت تحت الصرامي، بعيداً عن الدين حتى لا «أعلَقَ» مع أحد، أتحدّثُ هنا عن الشعر الذي أُجبِرَ الناس على تربيته على وجوههم، والذي شكَّلَ كثيرٌ منه طوال ما يقرب من أربع سنوات فوبيا كبيرة بالنسبة لنا. كثيرٌ من اللحى التي أرهبَتنا رأيتها هناك أيضاً، كلّها تحت الصرامي خلال أقلّ من دقيقة.

وقَّعَ لي الرجلُ المسؤول عن مكتب الحلاقة أنه لا ذقنَ لي، أقصدُ أنه لا ذكور في العائلة. وبرفقة بسّام، الشاب الديري، ذهبتُ إلى الأرشيف الذي يقع ضمن المستودع الأصفر الكبير، المقسّم عدة أقسام، فإلى اليمين مكتوب «المطبخ المركزي»، يقابله مستودع «الأمم المتحدة- المفوضية»، بعده مستودع «جمعية الفرات» الذي يقابله «مكتب دعم المرأة»: «أي والله مكتب دعم المرأة هنا في المستودع، لا تحط ببالك، جد مكتب دعم المرأة بالمستودع!!». وآخر مكتب هو الأرشيف، كل ذلك ضمن بناء المستودع الكبير.

قال لنا الشاب المسؤول عن الأرشيف: «لا عمل لكِ هنا، ولكن عندما تريدين أن تغادري سوف تأخذين الهويات من هنا، وأيضاً عندما تصل أماناتكم وهواتفكم بعد أن يعملوا لها عمليات استرجاع، تأخذينها من هنا».

– «استرجاااع؟؟!!».

– «نعم يا أختي، فهم يسترجعون كل الملفات والصور المحذوفة».

سألتُه: «حتى محادثات الواتس آب؟؟؟».

بقي توقيعٌ واحدٌ على الوجه الأماميّ للبطاقة، هو توقيع إدارة المخيّم. يقول مرافقي إن مدير المخيم هو شخص محترم، و«ابن عشاير». تقع الإدارة على يسار الباب الرئيسي بالنسبة للداخل إلى المخيم، وغرف الإدارة هذه عبارة عن غرف مسبقة الصنع مدهونة باللون الأزرق، وعلى واجهتها مظلات قماشية، وهي بالترتيب إدارة المخيم ثم إدارة الاستخبارات ثم مكتب منظمة الرؤية العالمية، يليه منظمة الكونسيرن، فمكتب منظمة LRD، ثم مكتب إدارة أطباء بلا حدود، فمكتب إدارة مفوضية اللاجئين، يليه مكتب الهلال الأحمر الكردي، ومن ثم منظمة روج آفا، وآخر مكتب لمنظمة بهار.

دخلتُ إدارة المخيم. كان هناك شخصٌ يجلس وراء الطاولة في صدر المكتب، يلبس لباس عربياً ويضع على رأسه جمدانة «شماغ» وعقال، ونظارةٌ شمسيةٌ تغطي عينيه!

«نعم يا أختي». مددتُ له الورقة، أزاحَ نظارته الشمسية وطلبَ مني الجلوس. من خلال الكنية سألني إذا كان «فلان» من أقربائي. كان الرجل فعلاً من أقاربنا، فاهتمَّ بي وقدَّمَ لي القهوة. حكيتُ له مختصراتٍ عن الوضع، فوقَّعَ لي الورقة، وقال: «عندنا 1200 خيمة لا يوجد واحدة منها فارغة، ولكن لعيونك رح نفضي خيمة». قلتُ له إنني لا أريد أن نأخذ مكان أحد، فقال إن عدة خيم احتياطية تحت تصرّف إدارة المخيم. وفعلاً نقلونا وسط نظرات الدهشة الممزوجة بالحسد من قبل كثيرٍ من العائلات، التي يتوسد أغلبها الارض الممدودة بنايلون أزرق منذ أيام، وربما بعض العائلات منذ أسابيع.

نقلونا مع عائلة العم أبو صلاح، الذين لم أقبل أن أخرج من الصيوان إلا معهم، إلى خيمتين متجاورتين تتوسطهما كومة كبيرة من الإسفنجات والبطانيات، على عدد أفراد كلّ عائلة.

قلتُ له إننا لا نريد الاستقرار هنا في المخيم، فقال: «يلزمكم كفيل للخروج من هنا إذا أردتم البقاء ضمن روج آفا».

«عندنا كفيل»، وذكرتُ له عنوان قريبي واسمه، وكان يعرفه كونهما أبناء منطقة واحدة، فوعدني أنه سيتصلُ به.

حياة المخيّم

سأختصرُ لك حكاية عمرٍ امتدَّ لـسبعة وعشرين يوماً. نعم إنه عُمر، عمرٌ كاملٌ على قلّة أيامه، إلا أنه أطول من أربع وثلاثين سنة عشتها في هذه الدنيا. هي حكاية الناس هناك، هي حكاية آلاف من البشر في هذا المعتقل الكبير.

فمن أصدَقُ ليخبرَ عمّا يحصلُ هناك؟ من أصدقُ ممن ينقلون الأخبار؟ أهم هؤلاء الزائرون الرسميون، الذين يكوّنون صورةً عما يجري في المخيم من خلال زيارة رسمية قصيرة مرسومة الخطوات، يقابلون فيها أشخاصاً تم تحديد أسمائهم مسبقاً؟ أم من خلال تحقيق صحفي مُتفق عليه مع إدارة الاستخبارات والمخيم؟ أم من خلال تقرير يقدّمه موظف ميداني في جمعية خيرية، يرفعه لداعميها ومموليها، الذين أتخيلُ أن الصور التي تصلهم ترضي إنسانيتهم المشكوك بها؟

فمن أصدقُ ليخبر عما يحصل هنا أكثر ممن عاشَ هنا؟ وخصوصاً إذا كان من يروي الأحداث امرأةٌ تتحدّثُ عن معاناة وآلام نساء مثلها.

لن أسرد لكَ وقائع الأيام سرداً، بل سأضيئُ على صور شهدتُها بعد أن استقرَّ بنا المقام، وبدأ قريبي الذي زارنا في مكتب إدارة المخيم إجراءات خروجنا.

لقطة 1: على طرفي الطريق المؤدي إلى إدارة المخيم، هناك ما يسمى بالسوق، الذي يباع فيه كل شيء، من البالة، التي هي ثياب من لا يملك ثمن الطعام من سكّان المخيّم، إلى كثيرٍ من التذكارات الخفيفة التي أحضرها بعض اللاجئين، إلى الإسفنج والبطانيات وكثيرٍ من المستلزمات الصحيّة والشخصيّة التي توزعها المنظمات على اللاجئين، إلى الخضار، وحتى الحشيش وبعض أنواع الحبوب المخدرة، إلى الأدوية الشائع استعمالها، كحبوب الصداع وخافضات الحرارة للأطفال، وحتى بعض المطاعم البسيطة.

المُستثّمِرُ الرئيس في هذا السوق هو مدير المخيم، اسمه جلال العيّاف، وقد عرفتُ لاحقاً أنه ابن عشيرة كبيرة، وكان سابقاً أمين فرقة في حزب البعث، وبعدها كان له نفوذٌ أيام داعش، واليوم أصبح مدير مخيّم عند قسد! وبالإضافة إليه، كان هناك شخص آخر «مدعوم من الاستخبارات» اسمه عُمّر، وكانا يدخلان شراكة مع أغلب البائعين هنا، وشراكتهم تكون عبر منح التراخيص بالنسبة للمدير، وتأمين البضاعة من قبل عُمَر.

jll_lyf.jpg

لقطة 2: مجموعة أشخاص مدنيين يحاورون أحد سكان الخيمة التي بجانبنا:

– يا أخ، لنا عندك باقٍ من ثمن السيارة اللي أخذتها من معرضنا عام 2011، مبلغ خمسة وسبعين ألف ليرة سوريّة.

– يردُّ الرجل الستينيّ: نعم، وكان هذا القسط مُستحَقَّاً، ولكن «مثل ما تعرف يا إبني، عين العرب خربت، وما قدرنا نوصللكم المبلغ»، ولم نجد لكم عنواناً حتى نرسلها إليه.

– طيب، ها نحن، ولكن عندما أخذتَ السيارة، الدولار كان بـ 44 ليرة، واليوم الدولار بـ 544 ليرة.

– نعم، حقّك يا أخي، ولكن «شوفة عينك» السيارة والبيت تدمروا، وثلاثة من الأولاد ماتوا تحت ركام البيت، ومن بقي منّا هنا في المخيّم بالكاد يحصلون على قوت يومهم.

بعدها قام عناصر مكتب الاستخبارات بأخذ الرجل الستينيّ، ولم يعيدوه إلّا في اليوم الثالث، وكان رجلاً مختلفاً.

عاد جماعة معرض السيارات مرة ثانية عصر اليوم الذي عاد الرجل فيه:

– حجي، نحن لا نريدك أن تطبع لنا نقوداً، نحن نريد الورق المطبوع عندك، نريد أوراق البيت.

– ولكنه مُدمَّر.

– «معليش ولا يهمك، نحن راضيين».

– «ولكن الله ما يرضى».

– يا حاج، إذا جاء الشباب (الاستخبارات) إليكَ مرةً أخرى، فنحن غير مسؤولين.

وهكذا سَلَّمَ الحجي الأوراق، وزوجته تنعي: «حتى قبر للأولاد استكثروه علينا».

لقطة 3: الخيمة الثالثة إلى الشرق من خيمتنا، ذات صباح:

مجموعة من «المعرّفين» يقفون بباب خيمة، والمعرِّفون هم أشخاصٌ من تنظيم داعش، قاموا بإجراء تسويات مع قسد، ولأنهم يعرفون عناصر داعش وعائلاتهم، ولديهم معرفةٌ واسعةٌ بأهالي المحافظة، وَظَّفتهم قسد كمعرّفين، يدورون في المخيم وهم ملثمون حتى لا يتعرف عليهم الناس، ويدلّون استخبارات قسد على منتسبي داعش أو عائلاتهم.

يتعمّد المعرّفون رفع أصواتهم حتى تسمع بقية الخيم، وهم يناقشون رجلاً خمسينيّاً:

– السلام عليكم حجي، اليوم في مكتب الإستخبارات كانوا يقولون إنكم دواعش، و«رَح يشيلوك» أنت وأولادك بعد يومين.

– «وكّل الله يا إبن الحلال، شو داعش ماعش، كل الدنيا تعرف أنو مالي علاقة بداعش، وكل الناس شافت إبني بالإصدار وداعش يذبحوه».

– «والله حجي، الله وكيلك نحنا هذا اللي سمعناه»، أنظر هنا: أليست هذه صورتك؟ أليست هذه هويتك، وهذه صورة ابنك، وحتى أنني سمعتهم يقولون «أنو بنتك كانت بـ (كتيبة) الخنساء».

– «يا رب دخيلك على هالعلقة».

– ثمَّ يا حجي، أرأيت ماذا فعلوا بأبو تحسين، «شحطوه ومحّد يعرف وينو الحزّ، لا هو ولا أولاده».

يغادورن، ليعودوا مساءً:

– يا حجي، توسطنا لكَ عند «هافال خابات»، لكن أنت تعرف حتى ينهي الأمر يريد… «يفرّكُ إبهامه بسبابته».

– «يا بني والله تعرف خرجنا بثيابنا فقط، لا فرنك ولا غيره».

– كما تريد يا حجي، ولكنهم «الصبح رَح يجولوك»، فماذا تريد أن نقول لـ «هافال خابات». حجي، حجي «ببالي مو عندك سيارة أمام المخيم».

– بلى «هي سوزكي صغيرة، والله هي اللي كانت بعد الله معيشتنا».

سلَّمَ الحجي المفاتيح وأوراق السيارة، ووضعَ توقيعه على عقد بيع فارغ.

لقطة 4: علا صراخُ النساء والأولاد، خرجنا. أربعة مقاتلين يجرون فتاةً من شعرها، عمرها ست عشرة أو سبع عشرة سنة. أمها تركض حافية، وتتعلق بأذيال المقاتلين، وتصرخ بأحدهم: يا «أبو وايل»، أنت تعرفنا.

– «أكيد أنا أعرفكم، أنتو لسه عندكم أخّ بداعش».

– «يا أخي عمره أربطعش سنة، وضحكم عليه ومات من سنتين، وما لحّق يسوي شي. مات وهو لسه بدورة التدريب».

أُخِذَت الفتاة، وبعد ثلاثة أيام عادت ولكنها ليست فتاة. هي جثة تتحرك، تصحو ساعة، و«تفصل» ساعات. تتحدث عن العرس وعن عرسانها الخمسة، ثم «تفصل»، تنكش شعرها وتخرج من الخيمة، تضحك، تبكي، ثم تختم وصلتها حين يلحقها أحد أفراد عائلتها لإرجاعها.

لقطة 5: مكتبُ «الرفيقة يازي» وهي مسؤولة مكتب العبور رسمياً، و«القوّادة» ومدبرة الزيجات لزوار المخيم، اللذين يأتون ليلاً بتسهيل مباشر من مكتب الاستخبارات، يشترون بضاعتها، بضاعتها التي تبحث في كل الخيم نهاراً عنها، مُستخدمة نفوذها في البحث عن بنات بين خمس عشرة وعشرين سنة.

زبائنها يدفعون لها ولمن أدخلهم بسخاء، نقوداً أو «مواقف» معينة، ومن هذه المواقف أن أغلب هؤلاء يكونون من كبار السنّ ووجهاء في بعض القرى، فيقومون بتجميع أهالي قراهم ونقلهم إلى المخيم بغية تسجيلهم كلاجئين، ثم إعادتهم. وعندها تقدِّرُ الاستخبارات مواقفهم هذه، وتسمح لهم بزيارة مكتب الرفيقة يازي.

تتمّ معاينة «البضاعة» في مكتب الرفيقة يازي، القادمة من ريف الحسكة. هي من عرب الغمر، ومنتسبة منذ خمس سنوات للحزب.

عملياتُ البيع والشراء تتم تحت نظر مكتب الاستخبارات، وجُلُّ الزبائن كهولٌ أو متقدمون في العمر، وهناك متعهدُ يأتي كل خمسة عشر يوماً، «ياخذ بالشيلة»، ونعم هناك من يبيع. يجعلون الأمر يبدو كما لو أنه زواج، لكن هذا ليس زواجاً في ظروف كهذه، هذا إتجارٌ بالبشر، وتسهيلٌ لدعارة مُقنّعة.

لقطة 6: يحضر إلى خيمتنا مدير المخيّم و«هافالات» الاستخبارات، ومراسلون أجانب يحملون كاميرات. يحدّثني المدير:

– يا آنسة، أنتِ تتكلمين الإنكليزية. نريد أن تتحدثي لمدة خمس دقائق فقط وبالإنكليزية، وأنتِ تلقين بالعباءة وتشعلين سيجارة، والنص مكتوبٌ وجاهز.

– لا يا أستاذ، أولاً لأننا نلبس العباءة التقليدية منذ ما قبل داعش، وكذلك «الملافع». أما الدخّان، فأنا لا أدخّنُ أصلاً. و«إذا بدي أحكي»، لن أتكلم من خلال نصٍ معدٍّ سلفاً، سأتحدّثُ عن داعش، وعمّن قتل أخي، وعمّا يجري منذ لحظة خروجنا.

انتبهتُ أنني أتحدّثُ بحدّة، فقلت: «اعذرونا، لا نستطيعُ التحدُّث، فأوضاعنا النفسية لا زالت سيئة».

بعد ذلك أصبحت خيمتنا مَحجّة لكل «عرصة» يظن أن عِرضنا رخيص، حتى وقفتُ لهم بباب الخيمة وطردتُ الجميع، بمن فيهم مدير المخيم وجماعة الاستخبارات، وبعدها تحولّنا في نظرهم إلى داعشيات من كتيبة الخنساء.

هل تتخيّلُ أن الاغتصاب هو الإجبار على ممارسة الجنس فقط، إذا كان هذا مفهومك عن الاغتصاب فأنت مخطئ. كُنّا نغتصب هناك عشرات المرات في اليوم، ولأننا نساء فقط ولا حاميَ لنا. عندما يركّز أحدهم نظره الى صدر المرأة، فهو يغتصبها. عندما يحصر نظرته إلى خلفيتها، فهو يغتصبها. عندما تتحدثُ المرأة إلى أحدٍ وهو لا ينتبه لكلامها، بل يكاد لعابه يسيل وهو يركّزُ نظره إلى ما بين ساقيها ويتخيل نفسه فوقها، فهو يغتصبها. عندما تسمع المرأة من خلف ظهرها عبارة: «نحن أحسن من الدواعش» فهذا اغتصابٌ أيضاً، «وكأننا كنا فقط فاتحين رجلينا ليل نهار للدواعش». عندما تسمعُ المرأة عبارة «مجاهدات نكاح»، فقط لأنها لم ترضَ أن تصوّر معهم البروباغندا الخاصة بهم، فهذا اغتصابٌ أيضاً. ليس الاغتصابُ فقط أن يعتليَّ رجلٌ المرأة كل لحظة. نحن كنّا نُغتصب هناك.

لقطة 7: هيَ الصورة التي رصدتها ميادة أختي خلال عملها التطوعي في مساعدة القادمين الجدد.

رسمياً، الموجودون داخل المخيم بحدود عشرين ألف شخص، ولكن «الحزب» يأخذ مساعدات على اثنين وتسعين ألف إنسان. كلُّ هذا الفارق، وجزءٌ من مخصصات العشرين ألفاً، يذهبُ إلى دعم وإطعام «قوات سورية الديموقراطية».

يقوم الحزب بمصادرة الناس من الطرقات ومن قراهم، ليسجّلهم كلاجئين، ثم يتركهم بعد أخذ بياناتهم.

*****

جاء الفرج، وقُبِلَت كفالة قريبنا لخروجنا من المخيم، وبدأتُ أبحثُ في مكتب الأرشيف عن هوياتنا وأوراقنا التي سبقَ أن صادروها، وكذلك متعلّقاتنا الشخصية كالهواتف، وهنا وجبَ عليَّ أن أدفع 2500 ليرة عن كل شخص من أفراد عائلتي ثمن الاستضافة.

فكَّت أمي الجزء المنحني من عكازها، وأخرجَت لفّاتٍ من النقود، لُفَّت على قدر محيط العكاز، وقالت: «ادفعي ما يريدون، ليتَ كل الأمور تُحلُّ بالنقود».

موقع الجمهورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى