صفحات سوريةمعتز حيسو

تحولات المشهد السوري/ معتز حيسو

إن تعقيدات المشهد السوري، وتعدد الأطراف الفاعلة، وتضارب المصالح والرؤى، إضافة إلى بعض السياسات والآليات المتناقضة والملتبسة، ودخول الأطراف الجهادية حقل الأزمة السورية، زائدةً ضخاً إعلامياً يشتغل على تأجيج النزعات الطائفية، جميعها عوامل أسهمت في تحويل الحراك الوطني الديموقراطي السلمي، إلى صراع دموي تشوبه أبعاد مذهبية طائفية.

منذ البداية، حذرنا من خطورة المأزق الذي ستنجر إليه سوريا، في حال دخول السوريين حقل الصراع الطائفي المحمول على أبعاد سياسية لاعقلانية مفرغة من مضامينها الإنسانية؛ لأنه سيقود إلى انقسامات مذهبية عصبوية، قد تشكّل مدخلاً إلى حملات تصفية وإبادة طائفية وعرقية، تؤدي إلى كارثة إنسانية ووطنية.

وقد أسهم في هذا التحول العصبويّون، من كافة الأطراف، ولا سيما الجهاديون الذين يرون في بلاد الشام ساحة للجهاد الإسلامي العالمي ضد النظام الشيعي، (لكونها ستشهد الملاحم الحاسمة التي تترافق مع ظهور المهدي المنتظر وما يسبقها من ظهور السفياني واليماني والأبقع. حتى إن أبا محمد العدناني قال في خطاب صوتي بتاريخ 30 تموز (يوليو)، إنهم لن يتركوا الجهاد حتى يسلموا الراية إلى عيسى بن مريم الذي سيظهر، وفق اعتقادهم، شرقي دمشق). (حسين جمو، «الحياة»، 9/8/2013).

من هذا المنظور، أصبح شكل الصراع في سوريا محمولاً على خطاب تكفيري يستهدف أبناء الطوائف الشيعية. ولخطورة هذا الخطاب وآلياته التفكيكية على بنية المجتمع السوري، نرى ضرورة مواجهته بعقل سياسي عقلاني.

لكن واقع الصراع وحيثياته، وحتى آليات عمل الإعلام، يميلان بوضوح إلى التعامل مع الوقائع اليومية للصراع، على أنه بات يتموضع في الحقل المذهبي الطائفي. لهذا، إن الانغلاق على الهوية المذهبية قد يكون نتيجة التقية والخوف. ونشدّد على أن تعميم أشكال الصراع الطائفي سيقود إلى صراع أعمى، لا يملك من أدوات وآليات، إلا العنف العاري الذي يتنافي مع كافة القيم الإنسانية والاجتماعية والحضارية التي كانت بلادنا مهداً لها. كذلك فإنه يقضي على أي خطاب سياسي عقلاني……

عود على بدء

كان الانتماء الوطني يشكّل القاسم المشترك لمن شارك من الفئات الاجتماعية في بداية الحراك؛ إذ إن مشاركة الشباب من كافة الانتماءات المذهبية كان واضحاً، فكان الهم الوطني هو الطاغي.

لكن السياسات الأمنية، والتركيز الإعلامي على الدلالات والأبعاد الدينية والمذهبية، وعلى المظاهر العنفية، وإهمال النشاطات السلمية، وتحديداً في المناطق ذات غالبية شيعية، كان له لاحقاً انعكاسات سيئة، وتحديداً إذا علمنا بأن هذه المناطق حافظت على أشكال الحراك الوطني الديموقراطي السلمي حتى في لحظة طغيان العنف والعنف المضاد.

وازدادت الأزمة تعقيداً عندما أصبحت تحمل أبعاداً عرقية وقومية، أدت إلى استهداف الأكراد من قبل بعض الأطراف الجهادية. وتشير المعلومات إلى أن بعض هذه المواجهات، كانت تنتهي بحملات تصفية وإبادة لمواطنين أكراد، بذريعة أن هذه الفئات كما الشيعة، موالية للنظام. وهذا يقود السوريين إلى معركة تدمير ذاتي، وقودها الفقراء من الشعب السوري، ويقودها من منظور ديني أصولي مدمّر للدولة والمجتمع، جهاديون تكفيريون مدعومون من بعض الدول الخليجية (السعودية وقطر…). ويحمل هذا التحول داخل الأقليات المذهبية والعرقية الرعب من طغيان الأكثرية الدينية، التي تبرر في كثير من اللحظات استباحة أبناء هذه الأقليات.

فالسلطة لا تمثّل طائفة بحد ذاتها، ولا حتى طوائف بعينها. وضمانها حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية يؤكد ذلك. لذا، إن اتهام النظام بالطائفية، واعتماد هذه الذريعة في تعويم الشكل الطائفي للصراع. يحمل أبعاداً تضليلية ومخاطر تقود إلى تدمير النسيج الاجتماعي. وأكدنا ونؤكد أن بنية السلطة كانت تعبيراً عن تحالفات لرجال المال والسياسة. وحتى لو تجلت هذه العلاقات في بعض اللحظات على أنها ذات بعد عائلي أو حتى طائفي، لكن بنيتها العميقة تشكّل تعبيراً عن بنية رأسمالية متخلفة.

ومع هذا، إن شكل التحولات الأخيرة في بنية الصراع وشكله، تنذر بالمزيد من الكوارث الإنسانية والاجتماعية، وبذات اللحظة تفتح المجتمع السوري على مرحلة من التدمير الذاتي.

إن ما يحصل من حملات تصفية جماعية بحق سكان بعض المناطق الكردية، وفي ريف اللاذقية (ذبح، بقر بطون النساء الحوامل، قتل أطفال، اغتصاب، فسخ، اختطاف، سبي النساء…)، وقبلها في العديد من المدن والبلدات، وأيضاً التفجيرات والقذائف التي تستهدف الأبرياء من المدنيين في مدينتي جرمانا والسلمية… تضع السوريين على عتبة الانفجار المذهبي والطائفي والعرقي.

هذا التحوّل يُسهم في فتح جروح قديمة، كان السوريون صادقين في تجاوزها ونسيانها، حتى إنهم وضعوها في ذمة التاريخ. لكن ممارسة العنف الهمجي بحق مواطنين فقراء وبسطاء أبرياء، يفتح الباب واسعاً أمام مرحلة من الاضطهاد والعنف اللاإنساني. فالفئات التي يجري استهدافها وتصفيتها بأبشع الأشكال وأقساها، لا علاقة لها بالصراع المحمول على أبعاد طائفية. فهي ضحية الإفقار والتهميش، وهي ضحية التعصب والتكفير.

فعمليات من هذا النوع، تفتح المجتمع السوري على كارثة إنسانية، واسعة وعميقة، وتنذر بانقسام السوريين على ذاتهم عمودياً، كذلك فإنها تهدد بتقسيم سوريا، التي يجب على الجميع المحافظة على وحدتها ووحدة شعبها في إطار التعايش والمشاركة.

فالعنف، كما أسلفنا لن ينتج إلا العنف، كذلك فإن العنف الطائفي المتخلف، لن ينتج إلا اصطفافات مذهبية وعنفاً طائفياً. لذا كنا حرصاء منذ البداية على رفض العنف، والعنف الطائفي؛ لأنه سيؤدي بالجميع إلى الهلاك والدمار، وسيحوّل سوريا إلى ساحة للجهاديين المدفوعين بوهم إقامة الدولة الإسلامية.

فالصراع في سوريا، ليس في سبيل الإسلام والمسلمين، بل هو جهاد تكفيري يستهدف الأقليات المذهبية، ويستهدف التنوع والاعتدال الإسلامي. فالإسلام الشعبي في سوريا هو إسلام معتدل، يتعايش مع كافة التنويعات والثقافات والعقائد المختلفة، والعكس أيضاً صحيح.

فهو بهذا المعنى جهاد من أجل فرض الوجه المتخلف والمتطرف، من الإسلام السياسي. وهذا سيحقق غرض الدول الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، في إعادة توضيب المنطقة على أسس مذهبية وطائفية تفتت نسيج المجتمع وتهدّم كيانية الدولة. وفي الوقت نفسه يعطيها المبرر لخوض غمار الحروب ضد الإرهاب الذي ساهمت وتساهم في تغذيته. وهذا سيفتح المجتمعات العربية، لا المجتمع السوري فقط على مستقبل يسوده صراع مذهبي وديني. وهذا بالضبط يساهم في إجهاض أي عملية تحوّل ثورية تقود إلى تنمية اقتصادية وبشرية تقطع مع رأس المال العالمي المستبد. فالاستبداد أياً تكن هويته، جنسيته، موطنه، سياسياً كان أو دينياً، فإنه يمثل الوجه الآخر للتخلف، وأيضاً الوجه الآخر لسلطة رأس المال ودول الغرب الاستعمارية.

وإذا لم يعِ المواطن العربي مصالحه الحقيقية، وخطورة ما يُرسم لمستقبله، فإنه سيبقى رهينة لمطامع الغرب الاستعماري. وأسيراً لسلطات القهر.

وخطورة اللحظة الراهنة تكمن في أن الصراع الدائر في سوريا، يدار إقليمياً ودولياً، من منظور طائفي هدّام للدولة والمجتمع. وهذا يستوجب من الجميع وعي اللحظة وإدراكها وطنياً. وإن لم يُخرَج المجاهدون التكفيريون من المشهد السوري، فإن سوريا مقبلة على مزيد من حملات التصفية والإبادة. لذا، إن إنهاء الصراع الدائر على الأرض السورية يجب أن يكون الهدف الأساس لكافة السوريين.

* باحث وكاتب سوري

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى