صفحات الناسعزيز تبسي

تراب الأهل/ عزيز تبسي

 

 

تحررت المقابر من تهديد رصاص القناصة، وبات بإمكان دفن الموتى الجدد بالقرب من الموتى القدامى، ونقل رفات من دفنوا بالحدائق العامة وحدائق الشوارع والبراري إلى بيوت الموتى.

بمرور سبع سنوات تبدلت الكثير من الأسماء، الشبيحة باتوا قوات الدفاع الوطني وحزب العمال الكردستاني الاتحاد الديموقراطي الكردستاني والقوات التابعة له من الأشاييس إلى قوات سورية الديموقراطية، وتبدل اسم تنظيم القاعدة إلى جبهة النصرة، وبدل المنشقون عنه اسمها إلى الدولة الإسلامية في العراق والشام، بينما بدلت جبهة النصرة اسمها الى هيئة تحرير الشام.. لم تنته الصراعات الحربية، إذن هناك فرص أخرى لتبدل الأسماء، لكنها المقابر حافظت على مواقعها وأسمائها. قد يكون هذا من فضائل ترفع الموتى عن المشاركة في القتال.

ما الذي يدفع المرء لزيارة الأموات، في زمن لا يتيح زيارة الأحياء. الموتى في ترابهم، ربما ينتظرون، كما وعدوا، يوم القيامة، لينفضوا التراب عن أبدانهم النحيلة… ويظهروا تبرّمهم من ضيق مكان نومهم المثقل بالحصى والرمل.

لم تتغير الواجبات تجاه الموتى؟ الواجبات الاعتيادية ذاتها، دفنهم بعد غسلهم والصلاة عليهم، وتذكرهم من وقت لآخر، بحمل باقات الزهور إلى قبورهم والدعاء لهم. هشة أرض المقبرة؟ أم الأرض كلها باتت هشة، لم تعد تحتمل خطى أبنائها؟

– تتصاعد رائحة الموت.

– من الطبيعي أن تفوح من الموتى رائحة الموت، لكنها تفوح اليوم من الأحياء.

تعايش الناس مع المقابر، وكانت لزمن طويل ملاصقة لبيوتهم، أكلوا فيها الأطعمة الساخنة، مدّوا الأطباق فوق أحجار قبورها، وزعوا اللحم بعجين وأقراص الكعك، دخنوا لفائف التبغ الثقيل، وخاضوا في ثرثرات لا نهاية لها… وانتظروا مواكب العميان، الذين يقايضون الدعاء للموتى بالنقود والأطعمة، وأسراب المتسولين الذين يلهجون برتابة معتادة بأدعية للموتى الذين يجهلونهم ولم يلتقوهم البتة، وبدعاء على الأحياء، الواقفين أمامهم بألبستهم الرسمية، حين لا ترضيهم الإكرامية.

“بالأمس كنت معكم، وأنا اليوم تحت التراب” اذكروني بالرحمة.

طالبهم قبل موته، الكتابة على شاهدة قبره، “البقاء للأمة” وهم التزموا بوصيته لكن قبره اليوم ضائع في هذه المقبرة، يحتاج البحث عنه إلى جهد.. ولا أحد على يقين إن كانت الأمة ستبقى، بعد رحيل أبنائها.

وكان من المستحسن اصطحاب آلة موسيقية أثناء زيارة الموتى، بشرط إجادة العزف عليها.. شائن إقلاق راحة الموتى، صحيح أنه فعل لا تحاسب عليه القوانين، كما الكثير من الأفعال الشائنة الأخرى، كاقتلاع أظافر السجناء، وحرق صدورهم بالسجائر. رغم أننا غير متأكدين، من استجابة الموتى لإغاثات الموسيقى…كما نحن غير متأكدين من يوم بعثهم… الموسيقى ستريحهم، علّها تذكرهم بعالم الأحياء الذي غادروه…يوضع زائر المقابر أمام مهام مستحيلة: استخلاص الموسيقى من هدير النواح، الانزلاق إلى نزوة التحقق من الزمن، عبر محاولة ضبط الساعة اليدوية، في مكان لا شيء فيه قابل للضبط إلاها.

لا أحد ينتظر فعلاً من الموتى. غافون في جوف تراب أثقل صدره الرخام الصقيل، كما لا أحد يراهن على الموتى واستنهاضهم، عبر النداء عليهم بأسمائهم، للمشاركة في قتال لا نهاية له.

لا يسمعوننا، لكن من الواجب إبلاغهم أن الرصاص لا دين له، وأن الموت مآل طبيعي للحياة، وأننا لاحقون بهم لنزودهم بحكايات لم يسمعوها.

القتل تعبير عن وضاعة معروفة إلى حد ما، وتحول الموت مع تكراره وتعدد أسبابه إلى عادة، فقدت أسرارها وغموضها ومهابتها.

لم تسقط السلطة بالقرع على الطناجر، ولم يخرج، بالقرع ذاته، الحوت من جوفه القمر الذي ابتلعه. في حين تسبب هذا القرع المتواصل الذي تجاوز حدود القرع على الطناجر، إلى القرع على كل ما يخرج صوتاً، بما فيها الرؤوس المحشوة بالقش، برفع نسبة الصمم بين الشعوب المذعورة، وباتت تنفر من الكلام، وتتحسب لأي حركة في الشفتين…لا يكترث الأطرش بالكلام، ويبتعد عن مجالسه.. أُوصلت الشعوب إلى عتبة عدم المفاضلة بين الكلام والصمت، كما أُوصلت قبل ذلك إلى عدم المفاضلة بين الموت والحياة…ودفعت إلى تصنّع العيش كبديل عنه.

لكن عندما تصمت الشعوب، هناك دوماً من هم حاضرون للتحدث نيابة عنها، أي نيابة عن صمتها…كما ستجد السلطات العقائدية، من يتحدث عن الصمت، بوصفه فضيلة، تضاف إلى ثبت فضائل أخرى، كالصبر والرضى والطاعة.

الكلام واجب صعب لأسباب كثيرة للغاية، منها تكاليفه الباهظة، انعدام قابلية الاستماع عند من يوجه الكلام لهم، ويزداد ثقله المعنوي حين يجري نيابة عن الموتى أو عن الخرسان، أي نيابة عن الناس الذين انتزعت “الظروف القاهرة” حقهم البيولوجي به… حينها تقتضي الواجبات الأخلاقية على الأقل، توضيح عباراتهم الغامضة: الكلمات التي قالوها وهم سائرون تحت أمطار الشوارع، شرح صورهم التذكارية وهم يحتفون بأصدقائهم في الحدائق، توضيح مصائر الذين دفعوا للموت ولم يذهبوا إليه، الذين ناموا ولم يستيقظوا تحت ركام أسقف بيوتهم، الذين هربوا من الموت فتبعهم وكان أسرع منهم، الذين رحلوا عن أمل توهج في صدروهم وانتزعه القتل بالسواطير، ولا يعلمون ما حصل بعد غيابهم.

من الواجب البحث عن أهلهم، لإعادة قطع الشوكولا وحبيبات مربّى السوس والنعناع وشرائح قمر الدين التي أرسلوها لهم، وتأخّر وصولها. كما يجب الحفاظ على أسرار الموتى. للموتى أسرار كذلك، هم غير الخراف الذبيحة المتدلية من كلاليب الحديد في المسالخ. في جيوبهم الداخلية رسائل الحب الذي دقّ القلب كمطارق من فولاذ، الكلام عن بلاد لا تباع ولا تشترى كما العقارات والثياب المستعملة، والأمل الذي أضاء الليالي كنيزك وأطفئ بغتة، وهناك عصائر الحنين للأهل البعيدين، الذين تدق قلوبهم كطبول.

تستدل المرأة المكللة بالسواد، على القبر الذي ينفخ وجه الأرض ككمأة. تتلمس ترابه، وكأنها تمسد صدر رضيع.

الرصاص لا دين له، ترى هل عرف ذلك كل أولئك الذين اختلفوا وتذابحوا فوق التراب، وهم الآن صامتون تحته.. أكان من الضروري التفكير بوسائل للصراع دون سلاح، بوسائل تحاصر الموت، تحجر عليه، تدفعه للخيبة، وتسخر منه بمد الألسنة.

ستتوحد عظامهم، قبل أن تفتتها الجرافات، كما يحصل كل ربع قرن، حين تضيق بلديات المدن ذرعاً بالشوارع الضيقة، وتقرر توسيعها على حساب المقابر، لأنه ليس للناس حقوق بعد موتهم، كما لم يكن لهم حقوق قبلها.

ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى