صفحات العالم

تركيا تعترف بأكرادها وألبانها: الهوية تتسع للماضي والمستقبل

 

محمد م. الأرناؤوط

استناداً إلى الصحافة التركية فإن «الربيع التركي» يأتي بطعم كردي وألباني، إذ من المتوقع أن يحمل «عيد النوروز» 21 آذار(مارس) أخباراً سارة للأكراد نتيجة للمفاوضات التي تجري بسرية كبيرة مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله اوجلان في سجنه بجزيرة إيمرالي في بحر مرمرة ، بينما جاء تدخل أردوغان القوي لصالح النائب في البرلمان التركي من أصل ألباني خاقان شُكُر ليحمل رسالة قوية حول انفتاح تركيا الأردوغانية على مكوناتها الإثنية المختلفة التي تشكلّ غنى لتركيا وليس إضعافاً لها.

ووفق التسريبات المنشورة في الصحافة التركية فإن الأيام القادمة مهمة لإظهار ما حصل من تقدم في المفاوضات نحو حل سلمي وشامل للمسألة الكردية. ومن الواضح أن أوجلان أصبح أقرب إلى الحل السلمي أو الحل الوسط من القيادة الكردية في الخارج (في جبال قنديل) التي لا تزال تتمسك بحكم ذاتي إقليمي وحكم فيديرالي على الطريقة العراقية. وتفيد التسريبات بأن المفاوضات قطعت شوطاً كبيراً نحو التخلي عن السلاح وانسحاب مقاتلي حزب العمال من دون أسلحتهم خارج تركيا مع ضمان عدم ملاحقتهم، والتحول نحو حل سلمي يقوم على حق الأكراد بتعلم لغتهم وتنمية ثقافتهم ومشاركتهم في التنمية والحياة السياسية من خلال الإدارة المحلية والأحزاب الديموقراطية.

وبعبارة أخرى، ما هو مطروح يصب في خانة حكم ذاتي غير إقليمي أو غير مرئي يمكن فيه الأكراد أن يكتسبوا حقوقهم ويتحملوا مسؤولية تنمية المناطق التي يشكلون فيها غالبية من خلال الإدارة المحلية، لأن «الحكم الذاتي الإقليمي» و»الحكم الفيديرالي» على النمط العراقي خط أحمر لا يمكن أن يتكرر في تركيا بسبب الأوضاع الإقليمية التي تمرّ بها المنطقة.

وإذا كان الحل السياسي أو الحل الوسط صعباً على الأكراد فهو صعب أيضاً على الأتراك الذين جبلوا منذ تأسيس الجمهورية التركية على العقيدة الأتاتوركية التي تقوم على القومية وعلى اعتبار أن تركيا دولة قومية للأتراك. صحيح أن أتاتورك مات في 1938 ولكن الأتاتوركية باقية بقوة في الدولة بسبب «حراسة» الجيش والقوى القومية اليمينية لها. ولكن مع تولي حزب «العدالة والتنمية» الحكم في 2002 بدأ رجب طيب أرودوغان سياسة ناعمة في الانفتاح الهادئ والحذر على المكوّنات الإثنية في تركيا، التي أثمرت إطلاق روح جديدة تساعد على استيعاب الأكراد وغيرهم في الجمهورية التركية وتسمح لاحقاً بتعديلات دستورية تعتمد على المواطنة التركية وليس على القومية التركية على نمط ما حصل في دول البلقان المجاورة (بلغاريا ومكدونيا الخ) التي ضمنت للأقلية التركية شخصيتها ومشاركتها ضمن مفهوم المواطنة.

وفي هذا الجو الجديد أصبح في إمكان الشخصيات العامة أن تعترف بأصولها غير التركية من دون خوف على مركزها، كما حدث مؤخراً مع لاعب المنتخب التركي المعروف عالمياً والنائب الحالي في البرلمان خاقان شُكر. فقد دعي النائب شُكر إلى إلقاء محاضرة في جامعة محمد عاكف أرسوي في 23 شباط (فبراير) المنصرم تناولت الحالة الراهنة في تركيا، بما في ذلك وضع الأكراد، وفي لحظة ما خرج النائب شُكر عن السياق ليقول فجأة : «أنا ألباني، لست تركياً، وإذا ما نظرتم لي من هذه الناحية ستروني مختلفاً… لقد عايشنا انقسامات كثيرة وهو ما أخذ تلوّنات إثنية، ولأجل هذا على الدولة أن تتحرك وهو ما نحاوله الآن كحزب حاكم من أجل وحدة وسلامة بلدنا مع التأكيد على مساهمة الجميع في بناء الدولة التركية». وقد ذكّر النائب شُكر بالماضي القريب الذي كان يتم فيه التمييز على أساس اللغة والدين والأصل وحين كان على كل فرد أن يسعى للمطالبة بحقوقه منتهياً إلى أن «تركيا الآن تولي هذه المسائل ما تستحقه من أهمية».

هذه الكلمات على بساطتها جاءت كقنبلة في الرأي العام وبخاصة في الأوساط القومية التركية التي «صدمت» وشنّت حملة على النائب شُكر لخروجه عن المألوف والاعتراف بأنه ألباني وليس تركياً، ولكنه رفع عالياً اسم تركيا في العالم عندما كان نجماً رياضياً وها هو الآن يتألق في البرلمان التركي ضمن الكتلة النيابية لحزب «العدالة والتنمية». وبسبب الحملة الشرسة التي انطلقت فوراً ضد النائب شُكر فقد كان على أردوغان أن يتدخل في ذلك اليوم لحمايته وحماية غيره من الذين قد يتابعون النائب شُكر في ما قاله فصّرح قائلاً :»نعم، شُكر ألباني ولكنه عمل لأجل تركيا. إنه يستحق الاحترام والتقدير. وقال في محاضرة له: أصلي ليس تركياً بل أنا ألباني، وأنا أقول إن محمد عاكف ألباني أيضاً وهو من كتب النشيد الوطني لتركيا».

وليس واضحاً ما إذا كانت مصادفة أن تكون محاضرة النائب شُكر في جامعة محمد عاكف ما سمح لأردوغان بهذا التخريج الذكي لما قاله النائب شُكر لأن الكثير من القوميين الأتراك سيصدمون بدورهم حين يسمعون أو يعترفون بأن نشيدهم الوطني قد كتبه ألباني تحمل اسمه الآن جامعة، بالإضافة إلى شوارع ومؤسسات أخرى في أنحاء تركيا. وكأن أردوغان أراد أن يوجه رسالة تقول إن الإنسان يصبح مواطناً تركياً بما يقدمه لتركيا التي ساعد تاريخها العثماني وموقعها على ضم مكوّنات إثنية عديدة.

الأكراد والألبان

وربما هنا يكمن الفرق بين الأكراد والألبان والبشناق والشركس والبلغار وغيرهم. فألبان تركيا هم حصيلة تاريخها العثماني حيث شكلوا قوة ضاربة في الجيش الإنكشاري الذي برز منه عشرات الصدور العظام ومئات الوزراء والقادة العسكريين، كما كانت العاصمة إسطنبول تجتذب النخبة الألبانية للعمل والعيش فيها. ولكن العدد الأكبر من ألبان تركيا جاؤوا إليها بعد انهيار الحكم العثماني في مناطقهم (جنوب صربيا ومكدونيا وكوسوفو) حيث لم يعودوا مرغوبين من قبل الدول الجديدة باعتبارهم من «الأتراك». وبعد انهيار الدولة العثمانية جاءت موجة كبيرة من الألبان إلى تركيا الأتاتوركية نتيجة لاتفاقيات بين تركيا ويوغسلافيا الملكية ثم الجمهورية، إذ إن أنقرة كانت تعزز آنذاك علاقاتها مع دول البلقان (على حساب المسلمين فيها) وكانت ترى في توطين الألبان فصلاً للأكراد عن بقية تركيا.

ومع استمرار هجرة الألبان قبل حوالى مئة سنة من جنوب صربيا وكوسوفو ومكدونيا (1878-1966) ازداد عدد الألبان في تركيا وأخذوا في الصعود التدريجي في هرم المجتمع الجديد. وفي ما يتعلق بعددهم الحالي تتراوح التقديرات بين مليونين وخمسة ملايين وفق ما تعنيه الكلمة (ألباني أو من أصول ألبانية). ففي حين كانت المصادر الرسمية والصحافة تصمت عن هذا الموضوع خلال العهد الأتاتوركي وما بعد الأتاتوركي نجد أن الإشارة الوحيدة وردت عام 1960 على لسان الرئيس التركي آنذاك جودت سوناي خلال استقباله لوفد ألباني، حين اعترف بوجود مليوني ألباني في تركيا. أما الدراسات الألبانية فترتفع بالعدد الآن إلى خمسة ملايين على الأقل، مع أن بعضها يتجاوز ذلك. وقد بقيت المصادر الرسمية والصحافة التركية صامتة حتى عندما قام الجنرال كنعان إيفرين بانقلابه العسكري في 12 أيلول(سبتمبر) 1982 وأصبح رئيساً لتركيا 1982-1989 بينما كانت الصحافة اليوغسلافية تتحدث عن ألبانيته وعن هجرة أسرته إلى تركيا من جنوب صربيا. ولكن هذا الموضوع أثير بخجل حين تولى الجنرال إيلكر باسبورغ قيادة الجيش التركي (2008-2011)، الذي كان قد ولد عام 1943 لوالدين ألبانيين مهاجرين من جنوب صربيا.

الآن جاء تصريح النائب شُكر ودفاع أردوغان عنه ليشيرا إلى تطور مهم في تركيا حيث لم يعد التصريح بالأصل والاعتزاز به يحرج صاحبه طالما أنه اختار العيش في تركيا والولاء للدولة التركية. وربما ليست صدفة أن يتزامن في اليوم نفسه تصريح النائب شُكر مع افتتاح «المركز الثقافي الكوسوفي» في إسطنبول (23/2/2013) بحضور رسمي تركي وكوسوفي. فمن الملاحظ أن كوسوفو قررت أن تفتح أول مركز ثقافي لها في الخارج في تركيا بالذات لكي تعزز علاقات الألبان بثقافتهم، وهو ما لم يخفه وزير الدياسبورا الكوسوفي إبراهيم ماكولي في كلمته حين قال «ليست صدفة أن تقوم كوسوفو بفتح أول مركز ثقافي لها في تركيا بسبب العدد الكبير للمواطنين هنا الذين تعود أصولهم إلى مناطقنا».

مع هذا المركز وغيره تنفتح تركيا بهدوء تجاه مكوّناتها الإثنية المختلفة حيث تنكشف بالتدريج عن بلد غني بالتنوع الإثني وقوي بالولاء لدولة جميع المواطنين المتساوين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى