صفحات العالم

تركيا – سوريا: سقوط الرهانات والدور؟

مالك ابي نادر
ثلاث رهانات خاطئة كانت كافية لينزع العرب والغرب الملف السوري من الديبلوماسية التركية ليعود الى محور التجاذب الدولي…
لا تزال منطلقات وابعاد التورط التركي المباشر في الأزمة السورية تثير الكثير من التساؤل والاستغراب حيث اعلنت تركيا الحرب على النظام الحاكم في سوريا من باب المساندة الفعلية لتحركات الاسلاميين والثوار، ومن استقبال اللاجئين والفارين واستضافة مؤتمرات المعارضة الخارجية السورية وفتح الحدود لمرور الاسلحة والسماح لعناصر من دول غربية وعربية الدخول عبرها، وقد ترافق ذلك مع حملة ديبلوماسية تركية غير مسبوقة توجهت الى كل من ايران وروسيا والصين في محاولة لعزل الاسد. وقد تولى هذه الحملة وزير الخارجية احمد داود اوغلو من دون ان يقنع المحور الدولي Brics الداعم لسوريا في مواجهة التحالف العربي – الغربي. وكان ثبات الحكومة السورية في وجه المتشددين وعدم تجاوب الاكثرية السنية في سوريا مع الصراع المذهبي المفتعل قد اديا الى محاولات دولية وعربية لاستنساخ التجربة الليبية من خلال استدراج التدخل الدولي للتخلص من الاسد وفريقه.
ولكن مع تحول الصراع في سوريا ازمة دولية كان على الديبلوماسية التركية تبرير فشل دورها، ففي لقاء مع اركان الصحافة والاعلام التركيين عقد في الاسبوع الاول من تشرين الاول الماضي اوضح اوغلو ان الرهان هو على انقلاب داخل السلطة في سوريا من خلال دعوة الضباط السنة الكبار في الجيش للقيام بانقلاب يطيح الاقلية العلوية الحاكمة ويمهد لاستلام الاخوان المسلمين السلطة.
ولكن بعد شهر تقريباً على حديثه هذا عاد اوغلو وأوضح لصحيفة “حريت” التركية ان مقومات صمود الاسد حتى الآن تعتمد على دعم البورجوازية السنية وتأييد الاقليات وخاصة الاقلية المسيحية مؤكداً ان العقوبات الاقتصادية ستؤلب الطبقة الغنية وأرباب العمل السنة وان تركيا ستسعى لطمأنة الاقليات وضمان مستقبلهم في ظل الدولة الاخوانية المقبلة. ويبدو هنا انه وضع الاصبع على الجرح، فالرئيس الاسد – كما يبدو – لا يزال يتمتع بتأييد ما يسمى البورجوازية السنية والتي تتركز في حلب ودمشق. وطبعاً هذه الطبقة التي تتألف من كبار التجار والصناعيين وارباب العمل والعائلات الكبيرة تلتحق بها بحكم الواقع طبقات من الموظفين والنقابيين والعمال واصحاب الحرف والتقنيين من الذين يكملون دورة الاقتصاد السوري. وهذه الطبقات تشكل القسم الاكبر من السكان في سوريا. وهذا ما يفسر ان الاحتجاجات والتظاهرات والاعمال الخارجة عن سلطة الدولة تنحصر بالمناطق الحدودية والفقيرة حيث تقل الاستثمارات وتنعدم التنمية وتضعف قبضة الدولة.
في السياق ذاته لا تزال النخب الصناعية في مدينة حلب تعاني من الاتفاق الاقتصادي الموقع بين سوريا وتركيا وتأثيره المباشر على الصناعات السورية وخاصة النسيج. ومن هنا نفهم مدى الشراسة الغربية والعربية في تطبيق عقوبات اقتصادية وتجارية محكمة ضد سوريا بغض النظر عمّن تطول، ويبدو ان المطلوب اركاع البورجوازية السنية ومعاقبتها لدعمها الاسد. ولكن علاقات سوريا التجارية مع دول Brics والتواجد الجغرافي السوري قرب العراق ولبنان والبحر قوض فاعلية هذه العقوبات ما يعني سقوط الرهان الثاني على فك تحالف الاسد مع القسم الاكبر من الشارع السني.
يبقى الرهان الأخير على اقناع الاقلية المسيحية بفك تحالفها مع العلويين وتأييدها الثورة التي يتزعمها الاخوان المسلمون والمتحالفة مع “القاعدة”.
وفي هذا المجال حاول اوغلو خلال زيارته لبنان اقناع القيادات المسيحية التي التقاها وخاصة البطريرك الراعي بوجهة نظره مؤكداً له أن تعاطي الاخوان مع المسيحيين في سوريا ستحكمه ضمانات تركية معتقداً ان ذاكرة المسيحيين تخونهم، فما كان من الراعي الا ان اجابه بأن تركيا “العلمانية” حوّلت الكنائس جوامع ومنعت ابناء الطوائف المسيحية من اطلاق اسماء مسيحية على مواليدهم عدا عن التهجير المنهجي والمستمر للمسيحية من تركيا منذ المجازر ضد الأرمن والسريان في اوائل القرن الماضي وحتى أيامنا هذه ويشهد على ذلك ما اصاب الموارنة من تهجير في قبرص التركية اخيراً.
ولكنه تابع مهماته فدعا الرئيس امين الجميل الى تركيا وطلب من الدكتور جعجع زيارة كردستان ولقاء برهان غليون في محاولات لاظهار انفتاح الثورة السورية على الاقليات المشرقية، واستطاع بمساعدة قطر استمالة وليد جنبلاط زعيم الدروز في لبنان معتقداً أنه بذلك يضمن انضمام دروز سوريا الى صفوف المعارضة، ولكنه فشل بسبب استقلالية هؤلاء واقتناعهم بأن الآتي الى سوريا من نظام حكم سيكون اشد ظلماً من البعث. ولكنه لم يستطع ان يحرز اي تقدم مع رؤساء الطوائف المسيحية في سوريا والدروز بسبب معرفتهم الصحيحة بواقع ما يجري وبأن ما يدبر لمسيحيي الشرق بدأت طلائعه مع الدخول الاميركي الى العراق والتهجير المسيحي من قبل اليهود في فلسطين المحتلة. والواقع العام الذي يعيشه المسيحيون في ظل الأنظمة الاسلامية، لن يكون سوى تهجير جماعي لهؤلاء من الشرق او تعايش في ظل احكام الذمة.
منذ سقوط الامبراطورية العثمانية تعيش تركيا عقدة الدور المفقود والظهير العاجز. فالحرب الباردة وضعتها تحت رحمة المعسكر الغربي الذي أهملها بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. اما سياساتها الوسطية في الصراع العربي – الاسرائيلي فلم تؤمن لها أن تلعب ادوارا اكبر مما تسمح به الولايات المتحدة واسرائيل، وحتى سوريا الاسد التي ادارت وجهها ناحية ايران التي لا تشكل لها اي تهديد مذهبي او سياسي. فسوريا حاجة ايرانية على المتوسط اما بالنسبة لتركيا فهي مستعمرة سابقة على حدودها لا يمكن أن تستغل نفطها أو تبيعها مياها.
والآلية التركية التي قامت على “فرض التوازن” نجحت في تسويق صورة تركيا الوسطية، لكنها فشلت في فرض الحلول التي توصلت اليها، ابتداء من التوسط ما بين اسرائيل وسوريا وانتهاء بالمبادرة لحل ازمة ايران النووية، وبهذه الصورة بدت تركيا دولة تعمل جاهدة داخل دور يمتد على طول الاستقطاب الاقليمي، فلم تحقق اختراقاً حقيقيا في أي من الأزمات التي تعاملت معها، وتحاول الآن من جديد فرض نفسها في ظل الثورات العربية القائمة لكنها لم تجد لها مكانا في مصر بعد سقوط مبارك، ولن تجد لها ايضا مكانا – بحسب العديد من المراقبين – في سوريا.
ثلاثة رهانات خاطئة كانت كافية لينزع العرب والغرب الملف السوري من الديبلوماسية التركية ليعود الى محور التجاذب الدولي. فالواقع الجيوسياسي لسوريا اثبت انه اكبر من ان تتولاه دولة اقليمية كتركيا لأنه محصن بدول ومرتبط بملفات اقليمية سرعان ما تحولت دولية بسبب وجود النفط والسباق الدائر على من يسبق في ايصال انابيبه الى المتوسط. وبناء عليه يبدو ان اخفاقاً جديداً اصاب الديبلوماسية التركية وانهى دورها التي راهنت على تزخيمه على أمل ان يكون عنوان العودة الى المعادلة الشرق الاوسطية بعد ان سدت في وجهها سبل الانخراط في النعيم الاوروبي.
النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى