صفحات سورية

تسويات على ظهر سلحفاة!


صبحي غندور *

على رغم التعثّر الواضح في تطبيق وقف إطلاق النار على الأراضي السورية، وهو البند الأساس لتنفيذ خطة كوفي أنان، فإنّ هذه الخطة هي الآن الخيار الوحيد الممكن للتعامل مع واقع الأحداث الدموية التي تشهدها سورية منذ أكثر من عام. بل يمكن اعتبار هذه الخطة محصّلة لفشل كل المراهنات الأخرى التي حاولت تطبيقها كل الجهات المحلية والإقليمية والدولية المعنيّة بتطوّرات الأزمة السورية. فلا مراهنة السلطات السورية على الحل الأمني نجحت، ولا مراهنة بعض قوى المعارضة على تغيير النظام تحقّقت، ولا الوعود والتهديدات بالتدخّل العسكري الأجنبي كان ممكناً تنفيذها.

أيضاً، فإنّ المراهنات على حصول تفكّك في قوى الحكم السوري مقابل بناء معارضة سورية موحّدة، قد سقطت في الحالتين، إذ ما زال الحكم في سوريا قوياً موحّداً، بينما شهدت قوى المعارضة مزيداً من التباعد بين أركانها حتى في داخل «المجلس الوطني» نفسه، وهو المجلس الذي كان يُراد من تأسيسه إيجاد نقطة جذب لقوى سورية عديدة فإذا به يتحوّل إلى مصدر تنافر وتناحر بين مؤسسيه.

لكن خطة كوفي أنان لم تكن أصلاً ببادرةٍ منه، كأمين عام سابق للأمم المتحدة، وهي ليست أيضاً مجرّد مبادرة من الأمين العام الحالي بان كي مون، فهي أولاً وأخيراً صيغة أميركية – روسية جرى التوافق عليها وتسويقها لاحقاً لدى حلفاء كل طرف حتى وصلت إلى الأراضي السورية والأطراف المحلية والإقليمية المعنيّة. وهذا التوافق الروسي- الأميركي على خطة أنان إعداداً وإعلاناً رافقه أيضاً التفاهم على طريقة التعامل مع الملف النووي الإيراني، إذ تزامن إعلان الخطة في شأن سورية والإجماع في مجلس الأمن على دعمها، مع نجاح جلسة المفاوضات في إسطنبول حول الملف النووي الإيراني. وكثيرة هي الآن التصريحات الإيجابية عن المتوقَّع أيضاً من الجولة المقبلة للمفاوضات في بغداد.

لقد أصبح واضحاً الآن أنّ إدارة الرئيس باراك أوباما لا تجد مصلحةً أميركية في زيادة الخلاف والتناقض مع المواقف الروسية والصينية. كذلك أيضاً هي رؤية الاتحاد الأوروبي، المتضرّر الأول من عودة أجواء «الحرب الباردة» بين موسكو وواشنطن، في ظلّ التراجع الاقتصادي الأوروبي والحاجة الأوروبية إلى علاقات اقتصادية وسياسية جيدة مع الصين وروسيا. أيضاً، لا تجد الإدارة الأميركية الآن أيَّ مصلحةٍ في تصعيد التوتّر مع إيران أو في تبنّي مقولة الحكومة الإسرائيلية في بشأن استخدام الضربات العسكرية على مواقع إيرانية، بل تنظر إدارة أوباما إلى هذا العمل العسكري المطلوب إسرائيلياً كخطرٍ أكبر على أميركا ومصالحها من أيّ حربٍ أخرى خاضتها في المنطقة.

لذلك حصلت التفاهمات الأميركية – الروسية على طريقة التعامل مع الملفين السوري والإيراني دون أن يعني ذلك «يالطا» جديدة أو تفاهمات على توزيع الحصص الجغرافية في العالم، كما حصل بين موسكو وواشنطن عقب الحرب العالمية الثانية. فهي الآن تفاهمات على منع استمرار الانحدار السلبي للملفين السوري والإيراني أو وصول أيٍّ منهما إلى حالة الحرب الإقليمية، لكن لم يحصل بعد التفاهم الأميركي – الروسي على المطلوب مستقبلاً من وجهة نظر كلّ طرف، فهي مسألة مفتوحة الآن على مزيدٍ من التفاوض، وخصوصاً بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل حين ستكون إعادة انتخاب أوباما لفترةٍ ثانية هي الأساس لجوهر الاتفاقات الممكنة بين المحورين: الأميركي – الأوروبي، والروسي – الصيني، على قضايا دولية عديدة أهمّها خط الأزمات الممتد من طهران إلى غزة. ففي حال إعادة انتخاب أوباما واستمرار نهج التفاهم بين موسكو وواشنطن، فإنّ الصراع العربي – الإسرائيلي سيكون المحطّة المقبلة لقطار التفاهمات الدولية، من خلال الدعوة لمؤتمر دولي (ربّما في موسكو) على غرار مؤتمر مدريد مطلع تسعينات القرن الماضي، ومن أجل إعلان «الدولة الفلسطينية» وتوقيع معاهدات على الجبهتين السورية واللبنانية.

خيار التسويات

خيار التسويات هو المطلوب حالياً من الأقطاب الدوليين حتى لو كانت هناك معارضات لهذه التسويات على مستويات محلية وإقليمية. لكن هذه التسويات توضع الآن على «ظهر سلحفاة» بعدما فشلت تجارب دولية انفرادية سابقة في وضع مشاريع تسوية في «قطار سريع» لكن على سكك معطوبة أو ملغومة هل هذه التوقّعات عن التسويات الدولية الممكنة لأزماتٍ في المنطقة ومحيطها تعني «برداً وسلاماً» للأوطان العربية وشعوبها؟ الإجابة هي نعم في الحدّ الأدنى، وفي ظلّ الظروف العربية السلبية القائمة حالياً وما فيها من أخطار أمنية وسياسية على الكيانات الوطنية، لكن هي حتماً مراهناتٌ عربية جديدة على «الخارج» لحلّ مشاكل مصدرها الأساس هو ضعف «الداخل» وتشرذمه. فأيُّ حلٍّ يرجوه العرب لمصلحتهم إذا سارت التفاهمات الدولية والإقليمية تبعاً لمصالح هذه الأطراف غير العربية ولموازين القوى على الأرض، وليس مرجعية الحقوق المشروعة للشعوب والأوطان؟

إنّ الأوطان العربية مهدّدة الآن بمزيدٍ من التشرذم، ليس حصيلة التدخل الأجنبي والدور الإسرائيلي فقط، بل أصلاً بسبب البناء الهش للدول العربية ولعدم تحصينها ضدّ التدخلات الأجنبية. فـ «القابلية للاستعمار» التي تحدّث عنها في القرن الماضي المفكر الجزائري مالك بن نبي، هي الآن أيضاً حالة «القابلية للتفكّك»، بل كل حالة هي محصّلة طبيعية للحالة الأخرى.

إنّ العرب لم يتعلّموا سابقاً من «قابلية ظروفهم للاستعمار». فالمنطقة العربية (وأنظمتها تحديداً) لم تستفد من دروس أخطار فصل حرّية الوطن عن حرّية المواطن. لم تستفد المنطقة أيضاً من دروس التجارب المرّة في المراهنة على الخارج لحلِّ مشاكل عربية داخلية. والأهمُّ في كلّ دروس تجارب العرب الماضية، والتي ما زال تجاهلها قائماً، هو درس أخطار الحروب الأهلية والانقسامات الشعبية على أسسٍ طائفية أو إثنية، بحيث تكون هذه الانقسامات دعوةً مفتوحة للتدخّل الأجنبي ولعودة الهيمنة الخارجية.

ولا شك في أنّ المنطقة العربية تتميّز عن بقية دول العالم الثالث من حيث أنّ الدول الكبرى، الإقليمية والدولية، تتعامل مع هذه المنطقة كوحدةٍ متكاملة مستهدَفة وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما تعيش شعوب المنطقة في أكثر من عشرين دولة وفق الترتيبات الدولية الي وضعتها مطلع القرن العشرين القوى الأوروبية الكبرى. وقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، ولا يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادّية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين مشروع عربي فاعل يواجه المشاريع والتحدّيات الخارجية أو يسمح بالقيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً إلى عجزٍ أمني ذاتي في مواجهة ما يطرأ من أزماتٍ وصراعات داخل المنطقة، ممّا يدفع البعض للاستعانة بقوًى أمنية خارجية قادرة على ضبط هذه الصراعات. فهناك على الطرف العربي غيابٌ للقرار السياسي بالتعاون والتكامل، ثمّ إذا ما توافر هذا القرار عابَهُ سوء الأسلوب في الإدارة والتعامل والخطط التنفيذية، كما حصل في تجارب عربية عديدة أدّت نتائجها إلى مزيدٍ من الشرخ بدلاً من الاتحاد والتكامل.

ولا تنحصر سلبيّات الواقع العربي الراهن في الأخطار الناجمة عن عدم إدراك العرب دروس تاريخهم وأهمية موقع أوطانهم وثرواتها، بل تشمل سوء رؤية أصحاب الأرض العربية لأنفسهم ولهويّتهم ولأسلوب إصلاح أوضاعهم السياسية والاجتماعية. فتداعيات العنف الداخلي المسلّح، المرافق الآن لانتفاضاتٍ شعبية في بعض البلدان العربية، تُنذر بالتحوّل إلى حروبٍ أهلية عربية يكون ختامها نجاح المشروع الإسرائيلي حصراً، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة. فمن المهمّ عربياً في هذه المرحلة عدم الفصل بين الحاجة إلى تغييراتٍ وإصلاحات داخلية في بعض الأوطان وبين مسؤوليات ما تفرضه التحدّيات الخارجية على المنطقة ككل، ثم ما تحتّمه أيضاً دواعي الأمن الوطني كما الحال الآن بالنسبة إلى الثورة المصرية، المنشغلة في ترتيب «البيت الداخلي» المصري بينما تشتعل نيرانٌ في «البيوت العربية» المجاورة لها. فمصر معنيّةٌ الآن بدورٍ أكثر فعالية في مواجهة ما يحدث في السودان وليبيا من أخطار واحتمالات، بعد تدويل الأزمات في كلٍّ منهما، وما نتج عن هذا التدويل من تقسيم للسودان ومن تهديد لوحدة ليبيا وأمنها.

مصر أيضاً معنيّةٌ بجبهتها الشرقية المتوترة مع إسرائيل وبما يحدث في سورية والمشرق العربي عموماً وبإنجاح المصالحة الفلسطينية على أسسس وطنية فلسطينية مشتركة. مصر معنيّةٌ كذلك بحفظ عروبة منطقة الخليج العربي وبرسم حدود العلاقات العربية مع إيران وتركيا، وهي كلّها مسؤوليات تصبّ في صالح الأمن الوطني المصري المباشر وتتطلّب دوراً مصرياً أكثر فعالية في جامعة الدول العربية وفي قضايا المنطقة عموماً. فالمؤسف في واقع الحال العربي أنَّه، على رغم الاشتراك في التحدّيات والهموم، تتعامل الحكومات العربية مع قضاياها من منظورٍ فئويٍّ خاصّ وليس في إطار رؤيةٍ عربيةٍ مشتركة تصون الحقَّ وتردع العدوان وتحقِّق المصالح العربية.

* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى