بيسان الشيخصفحات العالم

“تصطفل ميريل ستريب”/ بيسان الشيخ

 

 

لم يكن كثيرون في حاجة لخطاب النجمة الأميــركيـة مــيـريل ستريب الأخير الذي ألقته في حفلة توزيع جوائز «غولدن غلوب»، وهاجمت فيه الرئيس المنتخب دونالد ترامب، ليتيقنوا من ان الهوة بين أميركا وأميركا تتسع.

فهي ليست المرة الأولى التي توجه فيها ستريب انتقاداً لاذعاً وعلنياً لترامب، مستفيدة من حصانة معنوية تستمدها من موقعها العام ورصيدها المهني العريق. إذ سبق لها أن جعلت من ترامب، وكان لا يزال مرشحاً للرئاسة، اضحوكة علنية حين حلت ضيفة على برنامج تلفزيوني وقد «تنكرت» بشخصه. ثم لم توفر فرصة خلال الحملة الانتخابية، إلا عبرت فيها عن خصومتها معه. وكان لها «رفاق نضال» إذا صح التعبير، تنتمي غالبيتهم الى أبناء جيلها من الممثلين والفنانين وسط غياب شبه تام لجيل الشباب. فكما هو التقليد الراسخ في هوليوود، آثر هؤلاء النأي بنفسهم عن السياسة ما لم تكن مؤيدة للخط الرسمي.

وكان الأسبوع الماضي شهد كمّاً من الاستعراضات والخطابات والبهرجة المشهدية، يكفل تسلية الجمهور الأميركي والدولي لفترة من الزمن. فمن كلمة ستريب ورد ترامب عليها، ثم الخطاب العاطفي للرئيس المغادر باراك أوباما، وحفل تقليد نائبه وساماً غير متوقع، ومشاركات ميشيل أوباما التلفزيونية في برامج مضحكة وعاطفية وجدية في آن، وتسجيل ذلك كله عبر لقطات سريعة على وسائل التواصل الاجتماعي… ذلك كله وغيره الكثير من صناعة النجومية والاحتفاء بها، وتداخل السياسي بالهوليوودي كشف عمق الأزمة بين أميركا وأميركا، وتخبط تلك الراحلة، حيال هذه الوافدة.

لكن ذلك ليس جديداً سوى أنه ربما بلغ حداً غير مسبوق، سيما مع سلطة الصورة التي كرستها وسائل التواصل الاجتماعي في العقد الأخير. فإذا تغاضينا عن عهد رونالد ريغان وما رافقه من سخرية وانتقادات له ولزوجته المحبة للمنجمين، واعتبرنا أنها تعود الى روحية الحرب الباردة، يبقى أن المؤشرات الى صعود «أميركا العميقة» كانت جلية مع المرشحة السابقة عن الحزب الجمهوري، حاكمة ولاية ألاسكا، سارة بايلين. فلم يمض وقت كاف بعد لننســى ربة المنزل التي تعلي دور الرجل على المرأة، وتحتفي باقتناء السلاح وترى في الحرب على العراق «حكمة إلهية». وهي، أكثر من ذلك، كانت تعتزم بناء سياستها الخارجية على مبدأ أنها «تطل على روسيا من شرفة منزلها»!

تلك هي تركة الحزب الجمهوري التي فازت اليوم عبر دونالد ترامب، والتي تسخر منها ميريل ستريب وعموم الديموقراطيين الذي فشلوا خلال ولايتين لرئيس «تقدمي» كأوباما في صياغة خطاب وسطي جامع وغير ضدي.

والحال أن فصام الأميركتين يتخطى بطبيعة الحال شخص ميريل ستريب، أو جيل هوليوود الذي أتيح له التعبير عن نفسه أخيراً، الى من يمثلهم هؤلاء من تيار اوسع. تيار «نخبوي» قطع مع هموم المواطن الأميركي المتوسط ومعارفه وتطلعاته، والأهم، انه رسم لنفسه سلم قيم مختلفاً جذرياً، ومفهوماً آخر عن «الصواب السياسي».

وهنا تحديداً تكمن أهمية خطاب ستريب وجدّته. فعلى رغم مآخذ كثيرة قد تحسب عليه، يبقى أنه تناول قطاعين رئيسين في صياغة رأي عام قد يلتقي حول قيم مشتركة إذا ما تعبدت الطريق لذلك.

فهو يشكل أولاً انعطافة حقيقية في هوليوود، لا تقتصر على الناحية الجيلية فحسب وإنما تتخطاها الى إقحام السياسة عارية وفجة في معقل صناعة الترفيه. فمعلوم أن هوليوود «البيضاء» التي لم تعترف بنجومها الملونين إلا بعد عقود على إسقاط قوانين الفصل العنصري في أميركا، هي القوة الناعمة لـ «مؤسسة الحكم» (الإستابلشمانت). فطوال عقود، كانت هوليوود ونجومها أداة بروباغاندا فعلية اشتغلت على ترسيخ مفاهيم عامة من الحلم الأميركي، الى القيم الأسرية، كما ساهمت افلامها في رفع الشعور الوطني خلال الأزمات والحروب.

وهي هوليوود نفسها التي عاقبت نجوماً خرجوا عن طاعتها، بأن منعت التعامل معهم وألغت عقودهم، واضعة حداً لمسيرتهم المهنية وهي في أوجها. وآخر هؤلاء شون بن الذي أزيح من المشهد العام، لأنه وقف ضد الحرب على العراق في 2003.

لذا فإن كلمة ستريب التي لم تخل من فوقية حيال ترامب، إذ ترفعت حتى عن ذكر اسمه، جاءت لتنقل تلك النقاشات «النخبوية» التي تدور خلف كاميرات التصوير وفي أروقة السياسة، الى الجمهور العريض، فوضعتها في المتناول وفي مصاف «الثقافة العامة/ الشعبية».

وإلى ذلك، فإن دفاع ستريب عن حرية الإعلام ومطالبتها الأميركيين بدعم «لجنة حماية الصحافيين»، ليتمكنوا من القيام بدورهم في المحاسبة والكشف، بعيداً من ضغوط التمويل والتحالفات السياسية، ليس بالتفصيل العابر. فهو ينم عن مخاوف حقيقية لم يتأخر ترامب في تأكيدها. فعدا كونه أسكت مراسل «سي ان ان» خلال أول مؤتمر صحافي له كرئيس، ووصف الشبكة بأنها نموذج عن الإعلام السيء، امتنع عن الإجابة عن أسئلة كثيرة ينتظر الناخب الأميركي اجابات عنها، وأولها ما إذا كان للمخابرات الروسية دور في فوزه في الانتخابات، وما إذا كان متورطاً في فضيحة جنسية خلال زيارته الأخيرة الى موسكو. ففي حال صح أي من ذلك، وثبت، ستكون فضيحتا مونيكا لوينسكي التي اودت بمستقبل الرئيس بيل كلينتون، وقبلها «ووترغيت» التي كشفها صحافيان من «واشنطن بوست» وأطاحت الرئيس نيكسون، مجرد مزحة.

وبهذا يكون ترامب قد جمع المجد من طرفيه: جنس واستخبارات روسية في آن… مع فارق أن الزمن تغير، وقد تكون محاسبة «اميركا العميقة» لرئيسها أقل قسوة من محاسبة واشنطن. فلا يبقى لميريل ستريب حينذاك إلا أن تصطفل.

< العنوان للروائي رشيد الضعيف.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى