صفحات سوريةعمر قدور

تعفيش صلاة العيد/ عمر قدور

 

 

ليست مفاجأة خارجة عن سياق النظام أن يتقصد بشار الأسد أداء صلاة العيد في داريّا، فالحس الانتقامي لديه شخصياً كان واضحاً في عدة مناسبات، بل كان واضحاً منذ تكذيبه بنفسه الأوهام التي أحاطت بتوريثه السلطة بعد وفاة أبيه. وكان واضحاً أيضاً منذ خطابه الأول بعد اندلاع الثورة، عندما خرج ضاحكاً في مجلس شعبه، وفي الحديث الذي نُقل عنه عندما التقى بعضاً من أهالي درعا، وقال لهم إن دماء أطفالهم مقابل الأذى الذي ألحقوه بتمثال أبيه.

وإذا صحَّ عموماً الحذرُ من تأويل الأحداث السياسية على محمل شخصي فهذا لا يصحّ في حالتنا، أي لا يصحّ استبعاد العامل الشخصي لبنية حكم عائلية أصلاً، ومن ثم استبعاد البنية الانفعالية للمتسلط وتأثيرها العام. ففي حالة داريا، كمثال على حالات مشابهة، لم يكن كل ما حصل إثر مغادرة المقاتلين والسكان يخرج عن سياق متكامل ينسجم فيه النظام مع نفسه، بدءاً من الرأس. بمعنى، كان ينبغي أن يصلّي بشار في المكان الذي دمّره وهجّر سكانه جميعاً، ثم تولت قواته وشبيحته السطو على كافة الممتلكات، تلك القوات التي نحتت مصطلحاً خاصاً بها هو التعفيش، لتأتي صلاة العيد أخيراً استكمالاً لمفهومَي الانتقام والتعفيش.

لا مغزى لأداء الصلاة في مدينة عدد سكانها صفر سوى تعفيش هذه الصلاة بغياب أصحابها الأصليين، وهي أيضاً تعفيش من جهة عدم احترام الصلاة ذاتها من قبل شخص تصوره دعايته أمام الغرب كعلماني وسط قوم من المتعصبين، ذلك إذا لم نأخذ بالحسبان زلاته في عدة صلوات بروتوكولية، تفضح عدم معرفته بقواعد الصلاة. المسألة ليست انتقاماً من قائد عسكري يصلّي صلاة المنتصر، هي تماماً في ذلك السطو على الفضاء الرمزي للسكان، بعد تهجيرهم والسطو على ممتلكاتهم، وهي في ذلك الحقد الدفين الذي يرى عيده فيما خلّفه من دمار.

قد يُقال الكثير عن بسالة أهالي داريّا التي جعلتهم هدفاً لتنكيل لم يتوقف حتى الآن، وقد يُقال إن صلاة العيد على أنقاضهم عمل فيه ما فيه من الخفة و”الولدنة”. وإذا صح القول الأول فالثاني لا يعبّر عن واقع الحال، إذ يُعدّ الطيش وصفاً مخففاً جداً لفعل يندرج في سياق متكامل، فلا طيش هنا عن نهج أحسن، ولا غياب للعقلانية عن نظام اشتُهر بها يوماً. وقد يُقال إن الثورة أطاحت صواب من كان يحسب نفسه رباً، لكن أيضاً هذا قول يعوزه الكثير من التدقيق، لأن النهج المعتمد قبل الثورة يشي بتفاقمه الوضيع بعدها، وإن لم تبلغ مخيلاتنا حداً من الوحشية يسمح بتصوره. علينا أن نسترجع تنكيل النظام نفسه بالسوريين بدءاً من السبعينات، دون أن ننسى تنكيله باللبنانيين والفلسطينيين أيضاً، ودون أن ننسى تعفيش قواته ممتلكات اللبنانيين قبل السوريين.

مع ذلك، قد يجوز القول بأن بشار الأسد ورث السلطة مرتين، مرة من أبيه تقمص فيها لبرهةٍ هيئةً مغايرة عنه، لمقتضيات نفسية أكثر منها سياسية. وورثها مرة أخرى، بعد انطلاق الثورة، من ذاته بإشراف إيراني ومن ثم تواطئ دولي، وفي هذه المرة تراجعت مقتضيات التمايز عن الأب، مثلما تراجع بعض الحياء الذي كانت تتطلبه الدبلوماسية الدولية ليس إلا. بشار الأول كان يصر على استعراضات الظهور في الأماكن العامة وسط الناس، الأمر الذي لم يُعرف عن أبيه إطلاقاً، أما بشار الثاني فصاحب هوس في زيارة وتفقد ما دمّرته قواته ورؤية الأنقاض من دون أهلها؛ هذا ما فعله في داريا وتخوم جوبر وبابا عمرو من قبل.

صورة بشار، كما يريدها هو بنفسه، تختصرها داريا بما تعرضت له من دمار وإبادة وحصار وتجويع، وصولاً إلى إفراغها تماماً من السكان والصلاة فوق أنقاضها. هذه الصورة الفعّالة والنشطة مغايرة لما يُراد ترويجه اليوم، بدءاً من وصفه روسياً بـ”ذيل الكلب”، وصولاً إلى تحليلات سياسية تطلب عدم التوقف عنده أو عند مصيره، بذريعة أنه لم يعد يتحكم بشيء على الأرض. تصغيره على هذا النحو يبطن التقليل من حجم مسؤوليته الشخصية، مثلما يبطن الدعوة إلى القبول ببقائه منزوعَ القرار. هاتان الصورتان لا تميزان جيداً بين الإهانات التي يتلقاها دولياً والسماح له بالاستمرار بقهر السوريين يومياً مادياً ومعنوياً، بدعم أو تواطؤ ممن يوجه لها الإهانات، ولا تميزان بين أن يكون منزوعَ القرار سيادياً وأن يبقى له داخلياً ليفرغ صغَره الخارجي بربوبية داخلية.

التقليل من شأنه وإهانته خارجياً ليس بريئاً أبداً، وهو على الأرجح يقدم خدمة لبشار بتمييع مسؤوليته الشخصية، وقد تكون أفضل ترجمة له دعوات البعض إلى عدم التفريط بالبلد بسبب التوقف عند شخصه والإصرار على رحيله. أصحاب هذه الدعوة لا يقولون إن الشخصنة تأتي أصلاً من الإصرار على بقائه، وبالطبع سيبحثون عن تفسيرات لذهابه إلى صلاة العيد في داريا تستثني حقده الشخصي، وسيكون هذا سهلاً عليهم بعد تناسي إبادته أكثر من نصف مليون، وكأنه كان يتوق إلى هذه الثورة كي ينكّل بالسوريين.

هي مسألة شخصية، في جانب منها، ولا عيب في هذا القول. ذهاب بشار إلى داريا وتعفيش صلاة العيد ثأر شخصي بينه وبين السوريين، ومطالبة السوريين بالقصاص منه ومن أفراد عائلته وعصابته المتورطين في الدمار أمر شخصي وعام معاً. لتأكيد ما سبق يبدأ بشار تصريحاً لإعلامه التلفزيوني، بعد الانتهاء من الصلاة، بالقول أن وجوده في داريا رسالة غير موجهة للسوريين. هذه ليست زلة لسان، هي إشارة واضحة لمن لا يريد أن يفهم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى