صبر درويشصفحات سورية

تقرير من القلمون..


صبر درويش

“حديث عن المدن المحررة”

على امتداد جبال القلمون القاسية، الواقعة إلى الشمال من العاصمة دمشق، والممتدة غرباً حتى الحدود اللبنانية، تتناثر مدن وبلدات سوريّة، تضج بالحراك الثوري، مدن يصح بأن نسميها بالمدن المحررة، كيبرود وقارة، رنكوس وعسال الورد.. ومدينة النبك التي في طريقها إلى التحرير.

قادتنا رحلتنا إلى بلدة قارة، إحدى مدن القلمون الثائرة؛ قارة بلدة يقطنها حوالي الخمس وعشرين ألف نسمة، أغلبيتهم من الاسلام، وأقل من خمسة في المائة من المسيحيين.

لا شيء يشير في المدينة إلى أن “كتائب النظام مرت من هنا”، لا بيوت مهدمة، وكل شيء هادئ، يخرج المتظاهرين، يتجمعون في أحد ساحات البلدة، يهتفون ملأ حناجرهم للحرية، ويعودون إلى منازلهم من دون ضحايا. ثلث المتظاهرين من الأطفال، بدءً بعمر الخمس السنوات، والجميع بدون استثناء يحفظ الهتافات والأغاني الثورية عن ظهر قلب. يتنافسون جميعاً للوقوف في المقدمة أمام المغني، أو لمسك علم الثورة الكبير؛ ويتحركون في ضجيج قلّ نظيره، حتى ليكاد المرء يخال نفسه في عرس أو عيد لا في مظاهرة، وهذا إحدى مميزات المدن المحررة.

يرفض ابو محمد، وهو أحد أبرز الناشطين في البلدة، سؤالي حول متى التحقت قارة بالثورة. فهو يصر على أن حراك المدينة الثوري بدء قبل الخامس عشر من آذار العام الماضي، ولديه الأدلة على ذلك، يقول: [كان لدينا منذ عام 2009 موقع الكتروني اسمه: “الطحليجة”، ومع انطلاق ثورة تونس تم تنشيط الموقع، واستخدم في البداية كوسيلة للتحريض على الثورة، وفي منتصف شباط من العام الأول للثورة، ساهم الموقع في نشر الدعوة الأولى للتظاهر، إلى جانب ذلك، فإن شباب البلدة ومنذ ذلك الوقت قاموا بكتابة الشعارات المناوئة للنظام على جدران المدينة، متحدين بذلك السلطة الأمنية].

أول مظاهرة خرجت في المدينة وموثقة بالفيديو، كانت في الخامس والعشرين من أذار العام الماضي، سبق المظاهرة حادثة لابد من الإشارة إليها.

في تلك الأثناء، كانت الأحداث في بدايتها، والبلدة كانت ماتزال مترددة في الخروج للمشاركة في المظاهرات، مما دفع بأحد الشبان في صلاة يوم الجمعة لاعتلاء منبر الجامع، ويروي لنا ابو سامر وهو شاب في الثلاثينات من عمره، خريج كلية الهندسة، متزوج ورب أسرة: [في أحد الجمع وبعد أن أنها خطيب الجامع خطبته، اعتليت المنبر وأخذت الميكروفون، وصرخت بأعلى صوتي: حرية. كنت متأثراً بما يجري في درعا، كنت أرى دمّ إخوتي يسيل في الشوارع، ونحن هنا جالسين، فصعدت ودعوت الناس للخروج إلى الشارع للتظاهر؛ فما كان من إمام الجامع إلا أن حرض أعوانه عليّ، فقاموا بضربي وإخراجي من الجامع؛ وتم اعتقالي بعد ذلك من قبل أحد الأفرع الأمنية، حيث قضيت أحد عشر يوما في التحقيق وخرجت بعد أن تعرضت إلى تعذيب شديد].

بعد هذه الحادثة، ستبدأ البلدة تدريجياً بالخروج  في المظاهرات، وسيتخذ الناشطون قراراً بمنع إمام الجامع من أن يئّم بالمصلين بعد تلك الحادثة؛ فالمدينة في تلك الأثناء كانت قد اتخذت قراراها في الانضمام إلى ثورة أهلهم في باقي المدن الثائرة.

************

لمدينة قارة منشد، يقول ابو محمد: [في حماه يوجد القاشوش، وفي حمص الساروت، وفي قارة يوجد “دولي القلمون” كما يحب ان يسموه]. دولي القلمون هو الاسم الذي يطلق على ابو حمزة، الرجل الذي يقود الهتافات في المظاهرات.

ابو حمزة شاب لم يتجاوز الثلاثين عاماً من عمره على أبعد تقدير، يوحي شكله للوهلة الأولى بالقسوة، قسوة أهل الجبال، ذقن سوداء كثّة، بشرة سمراء، يدخل علينا وفي يده اليسرى جهاز اللاسلكي، ويصافحنا بيمناه، بقبضة قوية، قليل الكلام، عيناه توحيان بالترقب.

بيد أن الثورة السورية علمتنا ألا نتسرع في الحكم، علمتنا أن الشكل ليس من الضروري أن يطابق المضمون؛ فعندما توجهت إلى ابو حمزة ببعض الأسئلة حول مشاركته بالثورة وكيف ينظر إلى تطور الأمور.. إلخ، انتابه موجه من الخجل، وكاد أن يرفض الإجابة، فعمد أصحابه إلى تحميسه، مع بعض الضحكات التي لا تخلو من قليل من السخرية. كان يبدو أبو حمزة كطفل في تلك اللحظة، مرتبكاً خجولاً، فقرر في النهاية المشاركة، لكنه اشترط علينا أن تكون مشاركته غناءً، فغنى لنا أغنية من تأليفه؛ تقول بعض مقاطع الأغنية: [كل ما بتبرد حمّيا بنار وبارود.. الثورة الله بيحميها الله الموجود.. بدنا نوحد كلمتنا بثورتنا.. ولو بدنا عن بكرتنا مانخون وعود.. وبدنا سوريا حرّة لأول مرة.. والخاين يطلع برا كنو مطرود].

في الحقيقة، لا يكف الباحث في الشأن السوري عن الشعور بالدهشة حيال حراك سياسي يتجلى عبر إبداعات أبنائه، فلنشطاء قارة البلدة الصغيرة، موقعهم الالكتروني كما أسلفنا، ولديهم جريدة مطبوعة تصدر كل خمسة عشر يوماً، وتوزع في مدن القلمون المختلفة، ولهم صفحاتهم على موقع التواصل فيسبوك، ولهم عشقهم لثورتهم ولحراكهم الثوري، ولهم فرحهم يعبرون عنه من خلال أغانيهم الثورية التي لم تكف عن تحدي النظام الحاكم، والمطالبة بالحرية ليس أكثر ولكن ليس أقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى