صفحات العالم

تقييم أداء الأسد… ليس مجنوناً بل يتشبث بالبقاء


ألاستير سميث وبروس بينو دي ميسكويتا

تدور جميع التقييمات المتعلقة بالرئيس السوري بشار الأسد، غداة المقابلة التي أجراها مع باربرا والترز في شهر ديسمبر، حول نقاط مشتركة؛ فقد أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية مثلاً أن الأسد يبدو “منفصلاً بمعنى الكلمة عن الواقع الذي يحدث في بلده”، وقال أحد المحللين السياسيين: “لقد اتضح الآن أن الأسد مجنون بطريقته الخاصة”.

نجمت هذه الاستنتاجات عن جواب الأسد عندما سألته والترز: “هل تظن أن قواتك العسكرية قمعت المتظاهرين بقوة مبالغ فيها؟”. فأجاب: “تلك القوات ليست ملكي بل هي قوات عسكرية تابعة للنظام… أنا لا أملكها، فأنا الرئيس ولا أملك البلد، وبالتالي، هي ليست قواتي الخاصة”. في أي نظام ديمقراطي غربي، يصعب تقبل موقف أي قائد ينكر مسؤوليته عن الأفعال التي يرتكبها نظامه الخاص، لكن هل الأسد بعيد عن أحداث الواقع فعلاً أم أن الغربيين هم الذين لا يدركون واقع الأمور؟

بناءً على المنطق الذي اتبعه المحللون في “كتيب الدكتاتور” (The Dictator’s Handbook)، يمكن اعتبار أن معظم المراقبين ربما أساؤوا فهم الأسد أو ربما صدرت أحكام خاطئة بحقه. في الكتاب نفسه، يعتبر المحللون أنه ما من زعيم (ولا حتى لويس الرابع عشر أو أدولف هتلر أو جوزيف ستالين) يستطيع حكم بلده وحده. يجب أن يعتمد كل حاكم على مجموعة من المؤيدين الذين يضمنون الحفاظ على النظام والسلطة، وتتكل تلك المجموعة بدورها على علاقة قائمة على المصالح المشتركة مع الرئيس. وهكذا يضمن هؤلاء المؤيدون بقاء الحاكم في السلطة ويحرص الحاكم من جهته على مدّهم بالأموال اللازمة، وفي حال فشل أحد الطرفين في تلبية حاجات الطرف الآخر، يسقط النظام.

الأسد ليس استثناء على هذه القاعدة، فقد قال بنفسه إن النظام ليس ملكه، وبالتالي، هو لا يستطيع القيام بما يريده، حتى إنه قد يكون رجلاً إصلاحياً بطبيعته (كان هذا الرأي شائعاً في وسائل الإعلام الغربية قبل الربيع العربي) أو قد يكون حاكماً وحشياً فعلاً كما تشير الأوضاع الراهنة. عملياً، يبدو أنه يقوم بكل ما يلزم للحفاظ على ولاء الأطراف التي تضمن بقاءه في السلطة.

يعتمد الأسد على دعم أعضاء أساسيين من العشائر العلوية، وهي جماعة مشتقة من الطائفة الشيعية وتشكل بين 12 و15% من سكان سورية السنّة في معظمهم، يشكل العلويون 70% من الجيش السوري و80% من الضباط وحوالي 100% من نخبة الحرس الثوري والفرقة المدرعة الرابعة بقيادة شقيق الرئيس ماهر الأسد. استناداً إلى دراسة جرت في عام 2007، تبين أن أبرز داعمي الأسد (أي الأشخاص الذين يضمنون صمود الأسد ومن دونهم سيترك السلطة حتماً) يتألفون من 3600 شخص من أصل شعب يضم 23 مليون نسمة (أي أقل من 0.02%). ليس الأسد الشخص الوحيد الذي يتّكل على مجموعة دعم صغيرة، بل إن مجموعة الدعم التي يعتمد عليها آية الله علي خامنئي في إيران أصغر حجماً بعد. ويشمل داعموه الأساسيون قيادة الحرس الثوري، والتكتلات الاقتصادية الكبرى، ورجال الدين النافذين، ومجموعة محدودة من رجال الأعمال، ما يساوي حوالي ألفي شخص من أصل شعب مؤلف من 70 مليون نسمة.

لا شك أن أي نظام سياسي يعتمد على هذه النسبة الضئيلة من الشعب للحفاظ على القيادة السياسية سيكون فاسداً وانتهازياً حيث يتم شراء الولاء عن طريق الرشوة وتقديم الامتيازات. تملك سورية هذه الصفات حتماً.

كشفت “منظمة الشفافية الدولية” في تقريرها الأخير أن سورية تحتل المرتبة الثالثة على لائحة الفساد عالمياً، وبالتالي، عندما يقول الأسد إن النظام ليس ملكاً له، فهو محق في ذلك، وإذا خان مصالح أقرب حلفائه العلويين، من خلال تطبيق الإصلاحات التي ستحرمهم من حصتهم من الغنائم، فهم سيغتالونه على الأرجح قبل أن يتمكن المتظاهرون من إسقاط نظامه.

قد تؤدي الانتفاضة أو التدخل الدولي إلى إنهاء حكمه في نهاية المطاف طبعاً، لكن لا تزال هذه الاحتمالات مجرد تكهنات، وفي حال انهيار الدعم الذي يحصل عليه من 3600 مؤيد له وامتناع هؤلاء عن قمع الاحتجاجات، سيرحل الأسد من السلطة فوراً، وبما أن الأسد وقع أسير حاجات حلفائه، فها هو يتجاهل مطالب 23 مليون سوري ويتحدى الرأي العام الدولي.

تبرز أدلة حقيقية على أن الأسد لديه بعض الميول الإصلاحية، فخلال 11 عاماً في السلطة، قام بتعزيز القدرة التنافسية في الاقتصاد وتحرير القطاع المصرفي (بنسبة معينة)، وقد وسع قاعدة دعمه العلوية بحوالي 50% عندما خلف والده (لكن بعد أن ضمن بقاءه في السلطة، تخلص من الأعداد الإضافية وتراجعت قاعدة دعمه في عام 2005 إلى ما كانت عليه في عهد والده).

على صعيد آخر، شهدت سورية نسبة نمو جيدة في عهده، مع أنها تواجه أيضاً ارتفاعاً في نسبة العجز والمديونية (حوالي 27% من الناتج المحلي الإجمالي)، بالإضافة إلى ارتفاع معدل البطالة وتحديداً في الأرياف وفي حزام الفقر حول دمشق. صحيح أن معدل البطالة الرسمي يبلغ حوالي 8.9%، لكن يشير بعض الخبراء الاقتصاديين السوريين إلى أن ذلك المعدل يتراوح فعلياً بين 22 و30%.

بعد أن فرضت جامعة الدول العربية عقوبات اقتصادية صارمة، يجازف نظام الأسد الآن بمواجهة تدهور اقتصادي خطير، إذ يعيش السوريون في مجتمع حيث تُوزَّع المكافآت على نسبة ضئيلة من الأشخاص، وبعد سلسلة الانتفاضات الحاصلة في أماكن أخرى من العالم العربي، لا عجب أن الشعب السوري قرر الانتفاض على واقعه، ولا عجب أيضاً أن أصحاب الامتيازات قرروا الرد بوحشية على الاحتجاجات حفاظاً على امتيازاتهم.

هناك ردان فاعلان على أي انتفاضة حاشدة (عدا تنحي الحاكم طبعاً، وهو أمر لا ينفذه أي زعيم حتى زوال جميع الخيارات الأخرى المتاحة أمامه): توسيع هامش الحرية لمعالجة شكاوى الشعب أو شن حملة قمعية تؤدي إلى تراجع احتمالات نجاح النظام في الصمود. غالباً ما يختار القادة الذين يفتقرون إلى الموارد المالية لشراء ولاء العملاء خيار توسيع هامش الحرية. (نذكر في هذا الإطار ما حصل مع فريدريك ويليام دي كليرك في جنوب إفريقيا، فهو تفاوض على نشوء حكومة انتقالية مع المؤتمر الوطني الإفريقي بقيادة نيلسون مانديلا عندما أصبح صمود نظام الفصل العنصري مستحيلاً بسبب الانهيار الاقتصادي). أما الحكام الذين يملكون الأموال الكافية للحفاظ على ولاء عملائهم فيفعلون العكس. لهذا السبب، لم تشهد الدول الغنية بالنفط أي إصلاحات ولن تصبح ليبيا بلداً ديمقراطياً على الرغم من الانتفاضة التي وقعت فيها. تشكل سورية نموذجاً آخر يثبت صحة ادعاء الأسد بأن البلد ليس ملكه، لكن بشكل جزئي، وبصفته رئيس البلاد، يمكنه توسيع هامش الحرية لشراء ولاء الثوار، لكن لن يسمح له داعموه الأساسيون بالقيام بذلك طالما الأموال موجودة لدفع رواتب الجنود كي يتابعوا قمع المحتجين. في ظل تراجع الثروات النفطية في سورية وتراكم العقوبات الاقتصادية الصارمة، يبدو أن النظام أصبح أمام خيارين: إما توسيع هامش الحرية وإما إيجاد موارد مالية جديدة. ويبدو أنهم نجحوا في تحقيق الهدف الثاني حتى الآن.

نقلت وكالة “رويترز” في 15 يوليو أن إيران منحت 5 مليارات دولار على شكل مساعدات لنظام الأسد، وقد دُفع مبلغ 1.5 مليار دولار فوراً، ويساوي مبلغ الخمسة مليارات دولار حوالي 40% من عائدات النظام السوري. منذ الإعلان عن عقوبات جامعة الدول العربية، وقعت إيران والعراق وفنزويلا اتفاقات لتوسيع التبادل التجاري وحجم الاستثمارات في سورية بقيمة تفوق السبعة مليارات دولار لعام 2012، بما في ذلك مشروع لبناء مصفاة للنفط. إنها الصيغة التي تضمن صمود الأسد سياسياً. من المتوقع أن يساهم ضخ الأموال النقدية على المدى القصير في الحفاظ على ولاء الجيش وقوى الأمن، ومن المتوقع أن يقوم الجيش بكل ما يلزم لإبقاء الرئيس في السلطة طالما يستمر تدفق الأموال. إنها التدابير اللازمة للحفاظ على التنسيق المناسب بين الحكام وقواعد دعمهم.

على المدى الطويل، أي في السنتين المقبلتين أو السنوات الخمس المقبلة، من المتوقع أن تحصل إصلاحات في سورية، ربما عن طريق الانتفاضة الداخلية أو الضغوط الخارجية. وقد يكون الأسد أداة التغيير المنشودة، غير أن الوصول إلى تلك المرحلة سيكون عملية بشعة وموجعة ووحشية طالما تهتم إيران والعراق وفنزويلا بتقديم الخدمات لنظام الأسد بدل تأمين راحة الشعب السوري.

لكن لا يمكن تحديد الفترة التي ستتابع فيها تلك الدول اتباع هذا النهج في التعاطي. يُقال إن الرئيس الفنزويلي هوغو تشافيز مصاب بمرض خطير، فهل سيصرّ خلفاؤه على دفع التكاليف نفسها حفاظاً على علاقات وثيقة مع سورية؟ وبينما تواجه إيران مشاكلها الاقتصادية الخاصة، إلى متى سيضحي نظام الجمهورية الإسلامية لدعم الأسد؟ إذا خصص النظام الإيراني نسبة أكبر من عائدات مصادر الطاقة خدمةً لشؤونه الداخلية، فهل ستتابع الحكومة العراقية، برئاسة نوري المالكي، توثيق علاقاتها مع جارتها السورية مع أنها تواجه أيضاً مقاومة داخلية ناشطة؟ في مطلق الأحوال، من الواضح أن الوضع الراهن لن يدوم طويلاً. هذا هو مصدر الأمل الأكبر بالنسبة إلى الشعب السوري.

* فورين بوليسي

الجريدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى