صفحات سورية

تمرد الدم على السيف في درعا وانتزع الرّهاب من سوريا

 


محمود جلبوط

لم يغب الحضور السوري عن مواكب الانتفاضات العربية أبدا كما ظن البعض عن سوء أو حسن نية رغم صمته الطويل والذي يرجع أحد أسبابه إلى جرعة الخوف الزائدة التي حقنها النظام عن دراية في قلوب عامة الشعب من خلال ممارسات فاشية في ظل صيغة استثنائية من الاستبداد المختلط والمميز والممتد لعشرات السنين حاول النظام في معظم مراحله أن يماهي ما بين شخصه والبلد بل ذهب أبعد من ذلك عندما ماهى شخص “القائد الفذ والملهم” والبلد لدرجة بات من الصعوبة على المواطن السوري أن يعرّف نفسه كسوري خارج ولائه للأسد وللنظام .

إن إصرار النظام ورأسه على تعميم ازدواجية الولاء لسوريا وللأسد معا جعل من “مواطنية” الفرد والجماعة تركيبة هلامية مسترقة هي من اختصاص الأجهزة الأمنية لدى جميع اللحكام العرب يصعب في ظل تركيبتها الفصل بين ماهية الوطن وماهية النظام ورأس النظام , فصارت البلد لا تعرّف سياسيا دون لزوم هذه الثنائية الاسترقاقية التي اختصت بها الوصفة العربية من الحكام كما الحركة التصحيحية : “سوريا الأسد” أو “عرين الأسد” , تضاعفت منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي ولغاية وفاة الرئيس الراحل حافظ الأسد ثم استراحت قليلا بعيد وراثة الابن الرئيس بشار الأسد لحكم أبيه عندما زف إلى الشعب بشائر إصلاح ضمّنه في خطاب القسم مما دفع الشعب للتفاؤل فأطلق على الحراك الذي رافقه اسم “ربيع دمشق” . وما كاد الشعب يستشرف مخرجا للاستعصاء والانسداد الداخلي التي عانت منهما البلد بسبب ما مرت به من احتقان سياسي وطائفي عهد الأب فترة ثمانيات القرن الماضي أثناء الصراع الطائفي بين النظام وإخوان المسلمين(بالمناسبة كان رفعت الأسد وعبد الحليم خدام كليهما إحدى رموز النظام المتشددة في هذه الصراع الملعون) حتى عادت الأجهزة الأمنية لتغتال هذا الربيع وتدوس زهوره قبل أن تبرعم , فعاود الشعب القنوت والخوف , وعاد لمزاولة الرقص والدبك في الشوارع من جديد احتفاءا بالرئيس , وعاد أعضاء مجلس الشعب لممارسة مهامهم في التصفيق لمجد الأسد وقرظ المديح له إلى أن جاء الأمس القريب وانتفض الدم القاني في درعا على السيف ليعمّدها سيدي بوزيد الثانية بطبعتها السورية ولينتشر زكيا في بقية المدن الأخرى.

إن انضمام الانتفاضة السورية المتأخر إلى ركب شقيقاتها تسقط بما لا يدعو للشك ما سوّق له النظام من دعوى “الاستثناء السوري” عند تعليق رجالاته على الانتفاضات العربية وهما وتضليلا أن ما يدور من انتفاضات عربية اقتصر وسيقتصر حسب أوهامه ساحات “الدول المعتدلة” الحليفة لأمريكا والمطبعة مع “إسرائيل” على اعتبار أن سوريا تنعم بالحرية والصلاح لذا هي بمنأى عن ضرورات الانتفاض للتغيير مادام نظامها نظام “ممانع”إلى أن تحين فرصته إن تخلت “إسرائيل” عن تعنتها وتقبل الدخول في مفاوضات “جدية” غير تسويفية معه لتوقيع اتفاق “سلام كامل” معها كما عبر الرئيس الراحل حافظ الأسد لإنهاء حالة الحرب بينهما وتأكيد الاعتراف بها لزوم التطبيع من بعده , ولكن “إسرائيل” لم تترك أي فرصة سنحت لتقول بطريقة أو بأخرى بأنها ليست مضطرة للتخلي عن تعنتها وترفض الدخول في أي مفاوضات ستتخلى بموجبها عن الجولان التي ضمتها إليها عام 1981( أي منذ ثلاثين عاما ولم يحرك النظام ساكنا لتغيير هذا الواقع بينما أثناء هذه الفترة حررت المقاومة اللبنانية الإسلامية خلال هذه الفترة جنوب لبنان وهزمت الآلة العسكرية الصهيونية في حرب 2006) لم تكتف “إسرائيل” بتعنتها مع النظام السوري بل نفذت في أكثر من مرة ضربات جوية لأهداف سورية دون أي رد سوري سوى أن “سوريا ستختار الوقت والمكان المناسب للرد” , لذا فلسان حال إسرائيل يقول بأنها مكتفية من النظام السوري بما هو قائم بينها وبينه إن على صعيد الجبهة أو على صعيد الاعتراف وهي لا تحتاج لأعباء استحقاقات توقيع اتفاقية سلام تعيد بموجبه إليه الجولان , فهو في كل الأحوال معترف بما اغتصبت من أراض فلسطين العربية عن طريق الإبادة والتهجير الجماعي لتقيم عليها “دولتها” مثله في ذلك مثل جميع “أعضاء الجامعة العربية” من خلال اعترافه بالقرارين 242 و338 والتسويق لحل الدولتين : فلسطينية ويهودية منذ انقلاب الحركة التصحيحية , وهو ملتزم بالمواثيق والتعهدات المقطوعة وفقا لاتفاقية فض الاشتباك الموقعة مع الكيان الصهيوني بعيد حرب تشرين 1973 تجلى هذا من خلال تبريده التام لجبهة الجولان ليس على الأرض فقط بل وفي وجدان ووعي النازحين من سكانها (الذين بالتأكيد يتحرقون للعودة إليها ولو عن طريق خوض المقاومة لاستردادها إن سمح لهم بذلك , فإن مقاتلي حزب الله ليس أكثر شجاعة منهم) بالرغم من مرور عشرات السنين على احتلالها , ولا يجبّ عنه ما تميزت به سياسته الخارجية والعربية من إيجابيات وما قدّمه من دعم للمقاومة اللبنانية والفلسطينية في مواجهة الاحتلال الصهيوني آثامه : اعترافه بالعدو وبدولته الاستيطانية على حساب الأرض العربية , مشاركته بتحطيم العراق وجيش العراق من خلال مساهمته بإرسال الجيش السوري للقتال إلى جانب الجيش الأمريكي علما أن الجيش العراقي قد ساهم وفي أكثر من مرة بالذود عن الأراضي السورية في وجه العدو الصهيوني.

إن الانتفاضة السورية الوليدة مدعوة اليوم للتحول إلى انتفاضة شعبية عامة لتسقط الاستبداد وتنهي الفساد وتعيد الكرامة “المواطنية” وتجلب الحرية وتسعى لدخول طور الثورة الشعبية الديمقراطية بالانضمام إلى شقيقاتها العربيات , فالثورة الديمقراطية السورية لا تكتمل دون عروبتها كما أن الثورات العربية لا تكتمل دون انضمام ثورة سورية إليها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى