صفحات سوريةعلي جازو

تنازع الوطنية السورية بين العسكر والمدنيين


علي جازو

بالعودة إلى تاريخ سوريا السياسي أعوام 46 حتى 63 من القرن الفائت، تبرز مرحلة ما بعد الاستقلال واعدة وهشّة. اختلط نظام الحكم في الجمهورية السورية الناشئة بين البرلماني والرئاسي (العسكري)، ولم يغب عن البرلمان حينها مناقشة “دين الدولة”. وكان للصحافة السورية دور المراقب والناقد، وتشهد صحف “الأيام” و”المنار” و”القبس” على حيوية ومدنية مجتمع سوريا الأربعينات والخمسينات. كانت ثمة كتلة وطنية ضخمة، أخذت غالبية مقاعد البرلمان بسبب اتفاقها على استقلال سوريا وانهاء الانتداب الفرنسي، ملتفة حول زعامات تقليدية كشكري القوتلي وخالد العظم وفارس الخوري، ومعهم بدء ظهور أوائل الديكتاتوريين العسكريين أمثال حسني الزعيم وسامي الحناوي وأديب الشيشكلي. وإذ أخفقت العاطفية الوطنية التي مثلها المدنيون في تثبيت البعد الجمهوري البرلماني كقانون يسم نظام الحكم ويقنع العسكر بالخضوع للقوانين لا للقوة، وشاب الوطنية الغموض والتناقض والتشتت بين “القطري” و”القومي”، وحالت نكبة 1948 دون إيلاء الوطنية السورية رسوخاً في وجهة دستورية ناجزة، أبدى العسكر الطمع في السياسة.

وأمام طموحات الـ”العقداء” الثلاثة، تحولت سوريا المفترضة جمهورية برلمانية، إلى دولة لا ينتظر سكانها سوى انقلاب بعد آخر (49 إلى 54). وساهمت الوحدة المصرية السورية في تكريس نفوذ الضباط، الأمنيين منهم بخاصة، ومنعت الأحزاب من العمل، وتحول البعثيون إلى السرّية التي هي النوع المفضل لدى قوميي العسكر “الثوريين” إلى أن تحول الضابط إلى متحكم خفي ووحيد في الوطنية السورية التي تحولت لاحقاً إلى مرتبة مقدسة تأخذ من الجيش الإلهام الحماسي مقابل الولاء المطلق.

غير أن عسكر ما قبل البعث هم غير عسكر ما بعده. فالأوائل رغم حماستهم الخرقاء، لم يدفعوا سوريين إلى قتل سوريين على النحو المرير الذي تشهده سوريا منذ أشهر. لكن العسكرة هذه دفعت الكثير إلى التطوع في الجيش حينها رغبة في الحصول على وظيفة و”احتلال دور اجتماعي” ليس بمقدورهم الحصول عليه خارج “المؤسسة العسكرية” التي نظر قادتها “الحالمون” إلى فلسطين وضرورة الحرب مع الكيان الصهيوني لاستعادة الأرض المحتلة، فكان أن أضيفت أراض محتلة إلى الأراضي المحتلة.

غير أنه كلما طفت النوازع القومية الفضفاضة، تراخى الداخل السوري وصار أكثر خفاء داخل ثياب العسكر. رسخ انقلاب 1970 الاستبداد العسكري وحقق نقلة “نوعية” بعد أزمة الثمانينيات بإحداث دولة أمنية سريّة صارت المتحكم الوحيد بالسياسة والثروة.

والانتفاضة السورية، التي لا تحركها الاشتراكية ولا القومية، ولا يقودها العسكر ولا حلم الوحدة، تبرز شدة تنوع المجتمع السوري، غير أن ما ينقصها هو الاتفاق على تحديد دور للعسكر في مستقبل سوريا، وإحداث تغيير جذري في العقلية العسكرية التي ينظر بها “الضابط” إلى “الشعب” ولعل حدوث انشقاقات عسكرية تمهد لهكذا تحوّل وسلوك يستندان على وظيفة جديدة للجيش، هي الوظيفة الأساسية التي يفترض به أداؤها: حماية الشعب وحراسة حدود الدولة. هكذا تلتقي مطامح الشعب مع تغير نظرة العسكر إلى أنفسهم. المطلب الأساس هو مدنية الدولة، والتداول السلمي للسلطة. ويمكن ترجمة هذه المدنية بأساس جديد للوطنية السورية قوامها حاجة الشعب إلى جيش يمثله، واعتماد الجيش على شرعية وثقة مصدرهما الشعب. ويأتي اختيار شخصية مدنية كبرهان غليون لرئاسة المجلس الوطني، واتفاق غالبية المحتجين على دعم المجلس واعتباره ممثلا للسوريين، علامة على نهوض وطنية غير عسكرية، قوامها مدنية الدولة وسلمية تداول السلطة.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى