أكرم البنيصفحات الرأي

تناسخ إعلام الأنظمة في زمن الثورات!

 


أكرم البني *

محظوظة مرتين الشعوب العربية التي بادر حكامها لإجراء إصلاحات سياسية استباقية تزيل أسباب الاحتقان وتلاقي مطالب الناس في الحرية والديموقراطية كما حال المغرب وعمان، مرة لأنها تفادت خوض صراع مفتوح لا يمكن لأحد أن يتكهن بماهية أضراره، ومرة لأنها بقيت في منأى من عقوبة الاستماع الى خطاب إعلامي رسمي هو أشبه بفيلم ممل يعاد عرضه وينتقل من بلد إلى آخر! بعد ثورة تونس تناوب إعلام الأنظمة العربية على تناسخ صور المبالغة، كل من طرفه، في إظهار الخصوصية، عن أن مصر ليست تونس وأن ليبيا ليست مصر وتونس، وتكر السبحة ومعها جرأة لافتة في التنكر لشعارات طالما نادت بها هذه الأنظمة، عن المعاناة المشتركة والروابط القومية والجغرافية السياسية الواحدة، ولنشهد تفنناً في استنباط ما يعتقد أنها نقاط تميز وتفارق في محاولة لإقناع الذات ربما قبل إقناع الآخرين بأن هذا البلد من دون غيره سيبقى في مأمن من رياح التغيير القادمة.

صحيح أن مصر ليست تونس، واليمن ليس ليبيا أو البحرين، والجزائر ليست سورية أو عمان، وصحيح أن لكل مجتمع خصوصيته ويختلف عن غيره في طابع مشكلاته ومستوى تفاقمها وفي إيقاع خطواته نحو الخلاص ونيل الحرية، لكن الصحيح أيضاً أن الشعوب العربية تتشابه، وإلى حد مذهل أحياناً، في أسباب أزماتها وتماثل ما تكابده وتعانيه من قهر وفقر وتالياً في اجتراح سبل الحل والعلاج.

ويزداد تناسخ أساليب إعلام الأنظمة بعد وقوع الواقعة وتنامي الحراك الجماهيري المعارض، بداية بالهروب من مواجهة الحقيقة، وإنكار ما يحدث إنكاراً تاماً والادعاء بأن البلاد تعيش في أحسن حال، وما أن تصل الأمور الى حد يصعب إغفاله يجري التقليل من أهمية ما يحصل، واعتباره مجرد منغصات أو جزيرة معزولة في بحر آمن ومستقر، ثم يبدأ الهجوم الصريح على التحركات الشعبية حين تفرض وزنها على الأرض، من خلال كيل اتهامات التخوين لها بالقول إن ما يجري هو فعل لعصابات مأجورة تهدف إلى هز استقرار البلاد أو لجماعات إرهابية غريبة عن المجتمع، ولا علاقة لها بمعاني الحرية والديموقراطية، أو ربطها بقوى خارجية تحسدنا على ما نحن فيه وبمخطط لأعداء الوطن للنيل من مواقفه وسمعته الحضارية، موظفة منهجها الانتقائي الأصيل في التعاطي مع الحقائق والوقائع الملموسة، فتقزم وتمسخ ما يعارض سياسات الحكومات وتضخم الداعم لها، وتتلاعب بالمفاهيم والمصطلحات، للسخرية من بعضها، بخاصة المتعلقة بالحرية وحقوق الإنسان، والترويج لتلك التي تساعد على تبرئة الذات والدفاع عن الوضع القائم والهروب من الاعتراف بالأخطاء والمثالب لتبرير الاستئثار بالسلطة وتسويغ الحل الأمني، ربطاً بالعمل الحثيث للطعن بالصفة الوطنية الجامعة لهذا الحراك الجماهيري والتشكيك بدوافعه السياسية الديموقراطية إما بإرجاعه إلى صراعات قبلية أو عشائرية وإما إلى صراعات طائفية أو مذهبية، في محاولة لتخويف الناس من نتائجه وبأنه سيجر البلاد الى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر!

إلى جانب ما سبق يخصص إعلام الأنظمة قسطاً كبيراً من خطابه لخوض معركة شعاراتية مع ما يفترض أنه قوى خارجية متربصة بالبلاد والترويج لمقولات إيديولوجية حماسية عن القومية والوطنية كشف الناس زيفها منذ زمن طويل وعافتها نفوسهم، من دون أن يكل أو يمل من تعميم صور مضللة عن المواطن الوديع والممتن وهو يردد جملاً ممجوجة عن إعجابه بحياته الآمنة وبالشروط المتميزة التي يعيش في كنفها، أو يكرر عبارات المديح والشكر للقيادات الحاكمة والحكيمة التي تهتم دائماً بأحواله ومشاكله، في إشارة إلى بعض القرارات الاقتصادية التي صدرت هنا وهناك لتسكين جوع الناس وسد بعض عوزهم، بينما غرضها الأساسي هو الالتفاف على جوهر الأزمة السياسي واستحقاقاتها.

وحيث أن مهمة الإعلام الرسمي هي أشبه بفعل روتيني للدفاع عن سياسات النخب المسيطرة، فلا قيمة عند أهله لاحترام رأي المواطن وعقله وملكته النقدية بل يتقصد التعامل مع الناس على أنهم جهلة لا يفقهون شيئاً ولا يعرفون ما يجري أو يجب أن لا يعرفوا، وتعجب كيف يغفل هؤلاء أو يتغافلون عن الفرص الكبيرة التي تتيحها عشرات الفضائيات ومئات الصحف والمجلات ومواقع الانترنت لتمكين البشر من متابعة ما يحدث وبأدق التفاصيل، وتعجب أيضاً كيف لا يرف لإعلام الأنظمة جفن حين يبني على معلومات ثبت عدم صحتها، أو يقول اليوم ما يناقض أقواله البارحة، من دون حاجة للاعتذار أو إيضاح سبب هذا التحول.

وما يزيد الطين بلة تناوب إعلام الأنظمة على شن حملة شعواء على وسائل الإعلام العربية التي تنقل الحدث بأنها تبالغ وتضخم في عرض ما يجري بهدف تشويه سمعة البلاد وصورتها الناصعة، مستسهلاً كيل الاتهامات والشتائم ضدها، وإطلاق التهم من دون وجه حق لتصل غالباً إلى حد التخوين والإدانة بالعمالة لجهات أجنبية مغرضة، وطبعاً تتصاعد حدة هذه الهجمات وشدة الشتائم طرداً مع تنامي الهزيمة التي يمنى بها الإعلام الرسمي ومع ازدياد انكشاف عمق أزمته وعجزه عن أداء دوره في الدفاع عن سياسات الحكومات وفق العقل والمنطق، وعبر مقارعة الحجة بالحجة، والواقعة بالواقعة.

لم يلعب حدث دوراً كاشفاً ومعرياً لأزمة الإعلام الرسمي مثلما فعلت الثورات العربية، ليس فقط بسبب عجزه واضطرابه في التعامل مع ما يحدث، بل لأنه أسير رؤية ضيقة تجد في أي نقد للحال القائمة تشهيراً وعداءً وإسهاماً في نصرة المخطط الخارجي المعادي، أياً كان هذا الخارج، الأمر الذي أدى في تطبيقاته العملية إلى إشاعة مفهوم مدمر حول الإعلام باعتباره منبراً لدعم سياسات حكام لا يرضون بغير صوتهم صوتاً أو حقلاً سياسياً مسخراً لنصرة برامج السلطات والترويج لمواقفها، ما أفضى إلى إجهاض الدور البناء المنوط بالإعلام في نشر الموضوعية والعقلانية وأسس المنهج العلمي وتطبيقاته العملية في تفسير الواقع الحي بعيداً من تأثير المصالح الذاتية والتحيّز.

مرحلة جديدة تصنعها الثورات العربية عنوانها الرئيس احترام حقوق الشعوب وحرياتها ودورها في تقرير مصيرها من دون مصادرة أو وصاية من أحد، وعنوانها، إعلامياً، احترام عقول البشر ونقض النظرة النمطية السابقة عن مجتمعات عربية جاهلة وقاصرة وغير قادرة على إدارة شؤونها بنفسها، وبمعنى آخر يغدو الرهان على إحياء الدور الطبيعي والصحي للإعلام ومعالجة أزماته ومشكلاته هو رهان سياسي بامتياز، يقترن بداهة بمعالجة منظومة الحقوق والحريات الأساسية الغائبة في مجتمعاتنا!

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى