صفحات مميزة

تنظيم “الدولة الإسلامية”: النشأة، التأثير، المستقبل/ تحرير د. فاطمة الصمادي

 

 

باحث أول في مركز الجزيرة للدراسات

نظرًا للموقع الذي بات يحظى به تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) على المستوى الدولي، والاهتمام الذي يبديه بشأن التنظيم سياسيون وباحثون في مختلف المراكز البحثية، سعى مركز الجزيرة للدراسات إلى تقديم هذا الملف بغية إجراء مراجعة دقيقة للمعلومات المتوفرة بشأنه، فضلاً عن تقديم تفسير عميق للظاهرة. وعليه، فإن هذا الملف يسعى إلى تحقيق عدد من الأهداف، أهمها:

معرفة خلفيات وأسباب صعود هذه الظاهرة.

تقديم قراءة معمقة تمحص الصحيح والسقيم بشأن أصول هذا التنظيم، ومصادر دعمه وتمويله.

تقديم نظرة استشرافية لمستقبل هذا التنظيم.

محاولة بناء رؤية استراتيجية لمواجهة هذا الفكر.

مقدمة

منذ ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وتمدده، والمحاولات المتعجلة لا تتوقف عن تفسير هذه الظاهرة دون دراسة متأنية، وفهمٍ عميق للخلفيات والأرضيات التي أسهمت في نشوء هذه الظاهرة. ولم يحظى تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، والذي أعلن الخلافة، وبات يسيطر على المشهد السياسي والعسكري في سوريا والعراق، ويحمل تهديدًا واضحًا لدول أخرى، إلى اليوم بدراسة بحثية رصينة يمكنها أن تقرأ بشكل جيد أسباب الظهور، ومستقبل هذه الظاهرة.

يأتي هذا الملف “تنظيم “الدولة الإسلامية”: النشأة، التأثير، المستقبل (ملف)” والذي ينشره مركز الجزيرة للدراسات، ليفكك الكثير من المقولات والأساطير التي أحاطت بـ”داعش”، وهو لا يهدف من ذلك إلى تجريم أو شيطنة أو إعفاء بعض الأطراف من المسؤولية الملقاة على عاتقها تجاه ما وصلت إليه المنطقة العربية، ومحاولات التهرب من مسؤولية تعثُّر الثورات العربية وإعاقة مسار التغيير في العالم العربي، عبر مساندة أو غضِّ الطرف عن الثورات المضادة والانقلابات العسكرية.

يقترح هذا الملف مقاربة تفسيرية لظاهرة (داعش) تقوم على تجاوز فكرة “تَفَرُّد” التنظيم، والتحرر من قَيد كونه “تهمةً” يتم إلصاقها بفكر أو جهة دون سواها، وهذا يتجسد في تحليل البِنية الفكرية للتنظيم (جذورها وتطوراتها وأصولها وفروعها) من جهة، وفي تحليل الواقع المعقد الذي ظهرت فيه تلك الأفكار من جهة أخرى.

يكمن الخطأ الفادح في القول بأن صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” يأتي بمعزل عن السياق السياسي العام في المنطقة؛ فعنف التنظيم وسلوكه الحاد ليس نشازًا، بل هو جزء من “العنف البنيوي” الراهن، الذي يجتاح العديد من الدول والمجتمعات العربية. ومن الضروري أن تتم قراءة هذا الفاعل السياسي الجديد في إطار العنف السلطوي، سواء كان ذا طابع طائفي، مثل: العراق وسوريا، أو استبدادي، كما هي الحال في مصر والجزائر والدول العربية الأخرى، وفي إطار الأزمات البنيوية التي تعاني منها الدول العربية، وتخلق مشاعر شعبية جامحة للتهميش والإقصاء وغياب الأفق السلمي والظروف الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة. ومن الضروري، كذلك، النظر إلى صعود تنظيم الدولة في سياق الفوضى الطاحنة في ليبيا، والفراغ السياسي ونمو الجماعات المرتبطة بالسلفية الجهادية هناك، وفي صحراء سيناء، وفي اليمن مع سيطرة الحوثيين على صنعاء، ومع الأزمة البحرينية والأزمات الداخلية العربية، فهنالك اليوم حالة جديدة متنامية من تفكيك المجتمعات وانهيار السلطة الأخلاقية للدولة، والعودة إلى الأشكال الأولية من التعبير عن الهوية.

تخلق مثل هذه المناخات جاذبية لنموذج الدولة الإسلامية وقابلية لاستنساخه وتطبيقه في العديد من المجتمعات، طالما أن المسارات البديلة مغلقة إلى الآن، فليست خطورة هذا التنظيم أنه اجتاز الحدود وأقام كيانًا عابرًا لها، ومتوحشًا في سلوكه مع الخصوم، بل أنه أصبح نموذجًا للوعي الشقي السلبي ولحالة المجتمعات العربية والمسلمة.

أصبح هذا التنظيم “نموذجًا”، وقد وجدنا كيف سعت جماعات أخرى في ليبيا واليمن ومصر إلى استنساخه، فطالما أن الأزمة السياسية السنية لم تُحل، والأزمة السلطوية العربية قائمة، فإن هذا التيار والتيارات الأخرى، سواء كانت شيعية أو عِرقية أو غيرها ستجد فرصة للنمو والصعود والتكيف مع الضغوط والظروف المختلفة، وإذا تراجعت في مكان ستتنشر في مكان آخر.

نظرًا إلى الاهتمام الذي بات “تنظيم الدولة” يحظى به على المستوى الدولي، والاهتمام الذي يبديه الباحثون في مختلف المراكز البحثية ومن بينهم مركز الجزيرة للدراسات، كان من الواضح أن تناولاً سريعًا، في ورقة أو ورقتين، ليس كافيًا لتفحص، ومراجعة المعلومات المتوفرة بشأنه، فضلاً عن تقديم تفسير عميق للظاهرة. وعليه، فإن هذا الملف يسعى إلى تحقيق عدد من الأهداف، أهمها:

معرفة خلفيات وأسباب صعود هذه الظاهرة.

تقديم قراءة معمقة تمحِّص الصحيح والسقيم بشأن أصول هذا التنظيم، ومصادر دعمه وتمويله، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار السرعة الهائلة التي أسقط التنظيم فيها الجيش العراقي في الموصل، وبات يسيطر على ما يقرب من 25% من أراضي سوريا وأكثر من 40% من أراضي العراق.

محاولة بناء رؤية استراتيجية لمواجهة هذا الفكر.

تقديم نظرة استشرافية لمستقبل هذا التنظيم.

توفير معلومات ذات مصداقية عالية، وتحليلات معمَّقة عن تنظيم “الدولة الإسلامية”.

تضمن هذا الملف عددًا من المحاور تم بحثها من قبل عدد من الباحثين المختصين بهذا الموضوع، وجاءت على النحو التالي:

أولاً: الجذور الأيديولوجية والفكرية لتنظيم “الدولة الإسلامية”

ما هي الجذور الأيديولوجية للدولة الإسلامية؟

ما هي العلاقة بين تنظيم “الدولة الإسلامية” و”تنظيم القاعدة”: أين يلتقيان وأين يختلفان؟

ما هي العلاقة بين تنظيم “الدولة الإسلامية” والسلفية و”السلفية الجهادية”؟ وهل التنظيم هو ابن شرعي لها؟

ما هي المقاربات التفسيرية التي تناولت هذه القضية؟

ما هي علاقة تنظيم “الدولة الإسلامية” بمنظومة “الجهاد العالمي”؟

جرى تناول هذا المحور في ورقتين:

حيث بحث الدكتور معتز الخطيب هذه الأسئلة في ورقته المعنونة بـ”تنظيم الدولة الإسلامية”: البنية الفكرية وتعقيدات الواقع”.

كما تناولها الباحث شفيق شقير في ورقته المعنونة بـ”الجذور الأيدلوجية لتنظيم الدولة الإسلامية”.

ثانيًا: بنية تنظيم “الدولة الإسلامية” وحضوره إقليميًّا ودوليًّا

الهيكل التنظيمي لتنظيم “الدولة الإسلامية”

هل من خصوصية لهذا الهيكل التنظيمي؟

كم يبلغ عدد مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية”؟

من هم قيادات تنظيم “الدولة الإسلامية”؟ وخلفياتهم (فترة السجن، الإثنية، المهنة، المعرفة الإسلامية… إلخ)؟.

ما هي المؤسسات التابعة لـ”تنظيم الدولة الإسلامية”: التمويل، والإعلام… إلخ.

تقدم ورقة الباحث حسن أبو هنية والمعنونة بـ”البناء الهيكلي لتنظيم “الدولة الإسلامية”، إجابات كثيرة بشأن هذه الأسئلة، وغيرها مما يرتبط بهيكل هذا التنظيم.

ثالثًا: تنظيم “الدولة الإسلامية”: التداعيات والآثار

تنظيم “الدولة الإسلامية” والمجتمعات العربية

كيف أثَّر فكر تنظيم “الدولة الإسلامية” على المجتمعات التي ظهر فيها؟

ما هو نوع المناصرة المجتمعية الذي يتلقاها تنظيم “الدولة الإسلامية”؟

هل نشأ من قلب المجتمع الذي يتواجد فيه أم أتى من خارجه؟

يحاول الصحفي والكاتب حازم الأمين تناول هذه الأسئلة والإجابة عليها في ورقته المعنونة بـ”عن “داعش” ومجتمعاتها: اللعب خارج السوسيولوجيا”، مستندًا إلى مقابلات مع جهاديين وعائلاتهم في لبنان والأردن وتونس.

“الربيع العربي”: الدولة القُطرية، والعلاقات بين الدول

كيف أثَّر بزوغ تنظيم “الدولة الإسلامية” على الثورات العربية؟

ما هو التأثير الذي سيتركه على مستقبل الدولة القُطرية؟

ما هو التأثير الذي تركه ويتركه على العلاقات بين الدول في الشرق الأوسط؟

يجادل الباحث طارق عثمان في هذه التأثيرات من خلال ورقته المعنونة بـ”مفارقات (داعش): الآمال السياسية التي خابت”.

الحضور الدولي لتنظيم “الدولة الإسلامية”

هل يمتد حضور تنظيم الدولة إلى القوقاز ووسط آسيا؟

ما هي احتمالات حضور تنظيم “الدولة الإسلامية” في المنطقة الأوراسية وخاصة القوقاز وآسيا الوسطى؟

ما هي الدول التي قد تصبح هدافاً لعمليات التنظيم؟

ما هي المخاطر التي تواجه منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى؟

كيف ستتعامل كل من روسيا وإيران مع هذه المخاطر والاحتمالات؟

يناقش الباحث تامر بدوي هذه الأسئلة ويسعى للإجابة عليها من خلال ورقته “(داعش) في المجال الأوراسي: الأبعاد والتداعيات الإقليمية”

رابعًا: التحالف الدولي” ومستقبل تنظيم الدولة

ما هي مآلات الحرب على تنظيم “الدولة الإسلامية”؟

ما هو مستقبل هذا التنظيم ؟

يتناول الباحث د. محمد أبو رمان هذه الأسئلة ويقدم إجابات عليها من خلال ورقته، “اليوم التالي: مستقبل الحرب على تنظيم “الدولة الإسلامية”.

ومن خلال هذه الأوراق مجتمعة نضع بين يدي القارئ مجموعة من الخلاصات والنتائج.

 

“تنظيم الدولة الإسلامية”: البنية الفكرية وتعقيدات الواقع/ معتز الخطيب

ملخص

تناقش هذه الورقة عددًا من المقاربات التي قُدِّمت في سبيل تفسير ظاهرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتركز هنا على أربع مقاربات، هي: السياق وعوامل التشكل، والنصوص الدينية والفقهية، إضافة إلى المقاربة الاجتماعية والنفسية، فيما تحاول المقاربة الرابعة القول بأن “داعش” طفرة في تاريخ الجهاد العالمي. ويقترح الباحث مقاربة تقوم على أمرين، هما: تجاوز فكرة “تَفَرُّد” التنظيم التي تعزله عن حركة الجهاد العالمي، والتحرر من قَيد كونه “تهمة” يتم إلصاقها بفكر أو جهة، وهذا يتجسد في تحليل البِنية الفكرية للتنظيم (جذورها وتطوراتها وأصولها وفروعها) من جهة، وفي تحليل الواقع المعقد الذي ظهرت فيه تلك الأفكار من جهة أخرى. ويُجري الباحث هذه المقاربة بالعودة إلى النصوص الأصلية لفقهاء الجهاد العالمي، ورصد سير وتطور الأحداث على وقع العلاقات التنظيمية، مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الدولي من جهة وسياق المشاريع الإسلامية الحركية الأخرى من جهة أخرى.

وتخلص الورقة إلى أن تنظيم الدولة نتاج سياقات مركبة تداخل فيها النص بالواقع أو العكس، وهو تطور من داخل حركة الجهاد العالمي وليس خارجًا عنها.

مقدمة

خضع تنظيم “الدولة الإسلامية” لمقاربات مختلفة سعت إلى تفسيره، ويمكن حَصْرها في أربع: تجد الأولى في السياق وعوامل التشكل والأدوات التي تُعين في فهم وتفسير الظاهرة، والسياق هنا يشتمل على أبعاد متعددة، فمن الناحية الاجتماعية ثمة الانفجار الديمغرافي والبطالة ومستوى التعليم وغيرها، ومن الناحية السياسية هناك الاستبداد السياسي (خصوصًا في أرض التنظيم: العراق وسوريا)، وفشل الدولة الوطنية في التنمية والمواطنة وإدارة العلاقة بين الهويات المختلفة، ومن الناحية التاريخية هناك المجازر وأهوال السجون والتعذيب والحروب الأهلية. فهذا السياق المركب يحيل إلى عقود من تاريخ المنطقة حافلة بالتغيرات والأحداث، ولكنه يهمِّش البنية الفكرية للجهاد العالمي ونصوصه وحججه، وقد يوهم بأن الجهاديين منفعلون بالبيئة ولا مدخل لهم في الفعل نفسه؛ فالمقاربة السياقية تقصِّر في شرح العملية المعقدة التي تتولد فيها الظاهرة.

المقاربة الثانية تحيل إلى النصوص الدينية أو الفقهية حتى لَيغدو النص -بذاته- مولِّدًا للظاهرة، ولكنها لا تفسر لنا لماذا هي ظاهرة حديثة رغم أن النصوص قديمة، ولماذا لم تُنتِج النصوص مثل هذه الظواهر من قبلُ. أما المقاربة الثالثة فهي المقاربة الاجتماعية والنفسية، والتي تركز على الفاعلين وتكوينهم الاجتماعي وبيئاتهم وتجاربهم وبنائهم النفسي، ولكن هذه المقاربة تكاد تُخفق في شرح تعقيدات الفعل والانفعال، بمعنى: هل هؤلاء الأشخاص هم نتاج البيئة أم مؤثرون فيها ومسهمون في صياغتها وصناعة ظروفهم، أو هما معًا؟

أما المقاربة الرابعة فتحاول أن تخرج خارج المألوف عبر القول: إن “داعش” طَفْرة في تاريخ جماعات الجهاد العالمي، ومن ثم فالقوالب التفسيرية وأدواتها المألوفة تعجز عن استيعابها. مشكلةُ هذه النظرة -رغم أنها لا تقدم مقاربة حقيقية- هي إيمانها بتفرد الظاهرة تَفَردًا لا يجد تفسيره إلا في مبلغ وحشيتها وفي تركيبتها التي تبدو مُلغَّزة ومُفاجِئة، وهو تفردٌ محلُّ نقاشٍ؛ سواءٌ بالنظر إلى تاريخ الجهاديين أم تاريخ الصراعات وما شهدته من أفعال وحشية، لكن الفارق المؤثر اليوم هو جاذبية الصورة والضخُّ الإعلامي.

إن المقاربة التي نراها أَجدى تبدأ بأمرين: تَجَاوز فكرة “تَفَرد” التنظيم التي تعزله عن حركة الجهاد العالمي، والتحرر من قَيد كونه “تهمة” يتم إلصاقها بفكر أو جهة، أو “تهمة” يتم دفعُها ونفيها عن دين أو أناس بعينهم، وهذا يتجسد في تحليل البِنية الفكرية للتنظيم (جذورها وتطوراتها وأصولها وفروعها) من جهة، وفي تحليل الواقع المعقد الذي ظهرت فيه تلك الأفكار من جهة أخرى. فهذه المقاربة تبني على أن الأفكار تتشكل في سياقات مركبة تؤثر فيها وتتأثر بها في عملية معقدة لا ينفك فيها النص عن الواقع، بغض النظر عن أيهما أسبق في ذهن الجهاديِّ: النص أم الواقع؛ لأن هذه الأسبقية تؤثر في تحديد طبيعة ونوع العلاقة بالنص وبالواقع هل هي علاقة صدور عن النص أم هي عودة شعائرية إلى النص، وهل النص حاكم أم مجرد غطاء يُتَوسَّل به من أجل الشرعية الدينية، ولكنها -الأسبقية- لا تؤثر في أن الناتج هو مركَّب منهما ونتاجُ تفاعل بينهما؛ وفق شروط خاصة بعضها نفسيٌّ.

لا مناص في هذه المقاربة من العودة إلى النصوص الأصلية لفقهاء الجهاد العالمي (نسميهم فقهاء تَجَوُّزًا)، والإنصات بعناية إلى تصريحات قادتهم، بالإضافة إلى مراقبة سير وتطور الأحداث على وقع العلاقات التنظيمية دون الخوض في تفاصيلها، مع تأمل السياق الدولي من جهة وسياق المشاريع الإسلامية الحركية الأخرى من جهة أخرى.

أولاً: تنظيم الدولة ومشروع الجهاد العالمي

لا يخرج تنظيم الدولة عن منظومة فكر الجهاد العالمي الذي يقوم على أصول وفروع، فالأصل الذي تُجمِع عليه تنظيماته كافةً يتلخص في تحكيم “شرع الله”، وإقامة “الحكم الإسلاميِّ” المتمثل في الخلافة/الدولة الإسلامية، ولا يتحقق ذلك إلا بالجهاد، ومن هذا الأصل القطعي لديهم تتناسل كل المفاهيم والتفاصيل والإجراءات التي سميناها فروعًا ويقع فيها الخلاف. يتجلَّى هذا المعنى بوضوح في التصريحات المتعاقبة لقيادات القاعدة وتنظيم الدولة والنصرة منذ ظهر الخلاف بينهم إلى العلن، فنجده يتكرر في تصريحات أيمن الظواهري وأبي بكر البغدادي وأبي محمد العدناني والجولاني(1) فضلاً عن أدبياتهم المكتوبة.

تقدِّم الجدالات الشفوية والمكتوبة بين تنظيم الدولة والقاعدة مادة نموذجية للتحليل، فهي تُظهر الاتفاق أكثر مما تُظهر الخلاف، فالتصريحات تُظهر اتفاقهم على إقامة مشروع “الدولة الإسلامية في الشام” ثم إعلان “الخلافة” -كما في تصريح الظواهري(2)- وأن هذا المشروع يواجه مشروعين: مشروع إقامة دولة مدنية ديمقراطية وهو مشروع علماني، ومشروع إقامة دولة محلية وطنية تسمى إسلامية، وحقيقته أنه مشروع دولة وطنية تخضع للطواغيت في الغرب يَهدف إلى حَرْف مسار الجهاد كما يقول العدنانيُّ(3)، والجميع متفقٌ على أن العلمانية والقومية والوطنية والديمقراطية “كفرٌ بَوَاح مناقضٌ للإسلام مُخرجٌ من الملة”(4).

وتكشف المساجلات بين العدناني والظواهري شكل العلاقة بين تنظيم الدولة والقاعدة(5)، ووجود مراسلات مستمرة بينهما حتى الشهر الأول من عام 2014، وتفيد بأن تنظيم الدولة تابع للقاعدة وقدَّم لها البيعة والتزم بأوامرها في شؤون الجهاد -كما يفيد الظواهري- ولكنْ “خارج حدود الدولة” على الأقل كما يوضح العدناني، ولكنَّ انشقاق تنظيم الدولة عن القاعدة وقع لأسباب منهجية بحسب العدناني، فـ”القاعدة لم تَعُد قاعدة الجهاد”، بل باتت قيادتها “مِعْولاً لهدم مشروع الدولة الإسلامية والخلافة القادمة بإذن الله”.

ورغم محاولة العدناني توصيف الخلاف بأنه خلاف منهجي فإنه من الواضح أنه خلافٌ لا يتناول التصورات والأصول؛ بقدر ما يتناول المسائل التنظيمية والإجرائية، فتنظيم الدولة لم يكن راضيًا عن ابتعاد الظواهري عن ساحات القتال، وعما بدا أنه تراجع أو مهادنة في مسائل الجهاد باتجاه “السلمية”(6)، والخلاف كله يدور على مسألة إعلان “الدولة في العراق والشام” وضمّ النُّصرة، ثم على توقيت إعلان “الخلافة” وإجراءاتها(7)، وهو تَحَلُّل من احتكار الظواهري لقيادة الجهاد العالمي ما دام خارج ساحة المعارك وفَقَدَ سيطرته على تفاصيل التنظيمات الجهادية، وهو تَحَللٌ تدفع إليه إنجازاتٌ على الأرض تهيئ لإعلان خليفة واحد فيها جميعًا يُعلن كفره بالطاغوت ويتبرأ من الكفر والشرك وأهله، ويحكِّم “شرع الله”، وهو الحل الذي قدمه العدناني لحالة التشرذم والاختلاف بين تنظيمات الجهاد والتي يرى أن الظواهري قد تَسبب فيها.

ويكشف أبو قتادة الفلسطيني عن “رسائل وكلام” كان بين أبي محمد المقدسي وتنظيم الدولة، وقد أدرك أبو قتادة أن “إعلان الخلافة هو إذهابٌ للخلاف الجاري بينها وبين خصومها على قيادة الجهاد إلى الدم الصريح وإعطائه صفة الشرعية” (فقه البغاة)(8)، وهو في رده عليهم لا يجادل في أصل المشروع وإنما في تفاصيله الإجرائية وكيفية تحقيق الخلافة؛ فقد دخل “الانحراف” إلى تنظيم الدولة -وفق تشخيصه- من جهتين: الأولى: من أفراخ جماعة الخلافة الذين كانوا حريصين على أن يحصلوا على تزكية منه لأفكارهم التي تتلخص في أن سبب الفساد هو غياب الخلافة، وأنها تحصل بأن يبايع واحد من المسلمين واحدًا من آل البيت، وهي الفكرة التي تلقفها منهم تنظيم الدولة، والثانية: من بقايا جماعات التوقف والتبيُّن وبقايا جماعات الغلو (جماعات التكفير) الذين شاركوا في الجهاد ثم نشروا بعض الأفكار المنحرفة في عقول الشباب الذين تدينوا فجأة والعجمِ الذين أسلموا وهم خالو الذهن من المعرفة الشرعية(9).

“الانحراف” الذي تحدث عنه أبو قتادة الذي كتب ردَّه هذا بطلب من أبي محمد المقدسي، يذكّرنا بما حدث من قبل (1425هـ/2004م) حين كتب أبو محمد المقدسي رسالة لأبي مصعب الزرقاوي الأب الروحي لتنظيم الدولة بعنوان “الزرقاوي مناصرة ومناصحة”(10)، فجوهر هذا “الانحراف” المتكرر في حالتي الزرقاوي والبغدادي يقوم على أمرين:

الأول: التفلت من قيود العمل الجهادي التي أرساها فقهاء القاعدة، بدءًا من مفهوم الجهاد وعدم تحويله إلى “قتال نكائي” أو ثأري، ثم عدم تأثر “الاختيارات الجهادية” بضغوط الأعداء وإجرامهم، والتحرز من التوسع في تكفير المسلمين، ومراعاة الفوارق بين دار الكفر الأصلية التي جمهور أهلها كفار ودار الكفر الاصطلاحية الحادثة التي جمهور أهلها من المنتسبين إلى الإسلام.

الثاني: الطبيعة المتصلبة لقيادة تنظيم الدولة، فافتقار الزرقاوي للمرونة “حرَمه الاندماجَ في القاعدة والنزول تحت إمرة الشيخ أسامة” كما يقول أبو محمد في رسالته، ويشير إلى أن “أبو أنس” الذي قرّبه الزرقاوي ليسترشد به “لم يكن يتبنى اختياراتنا بحذافيرها”، والأمرُ نفسه رأيناه في حالة البغدادي مع الظواهري.

ومن اللافت أن أبا محمد ينص -في حالة الزرقاوي- على أن عدم التقيد بضوابط الجهاد كما تقرره المرجعية سيؤدي إلى بروز قوم “سيَثبون إلى القتال دون ضوابط وسيخرجون على الأمة لا يميزون بين برِّها وفاجرها ولا يوازنون بين مصالحها ومفاسدها”، في حين أن أبا قتادة يرى -في حالة البغدادي- أن “الدولة” ضربت “المشروع الجهادي في نقطتين: الأولى: أنها قسمت المشروع [الجهادي]، والثانية: أنها وجهت الصراع نحو الداخل؛ لدرجة أن خصومتها مع النُّصرة انتقلت خلال ستة شهور من خصومة على الإمارة إلى صراع عقدي”(11) حين جعلت من نفسها “خلافة” على معنى “جماعة المسلمين” لا جماعة من المسلمين.

لا تقدم فكرة “الغلو والانحراف” مسوِّغًا كافيًا لجَعل تنظيم الدولة مختلفًا كليًّا عن القاعدة؛ بقدر ما تدفع إلى القول: إننا أمام تطور داخل العالم المفاهيمي للجهاد العالمي وانفلات من القيود المفروضة من القيادة المركزية؛ تجاوبًا مع الإمكانات التي يتيحها المشروع الجهادي نفسه وما تفرضه التطورات على الأرض، والاختلاف حول الوسائل الأجدى لتحقيق المشروع، بالإضافة إلى الصراع على الإمارة نفسها التي هي مركزية في المشاريع الحركية التنظيمية عامة. فلا يمكن لمسلسل الخروج عن “نظام الفقه الإسلامي” الذي بدأه فقهاء الجهاد العالمي أن يقف عند الحد الذي رسموه هم لأنفسهم وأتباعهم، فمنطق الخروج متسلسل ويدفع إلى مزيد من التشظي، وهو ما عرفناه من تجارب هذه التنظيمات حيث تسيطر فيها الأفكار والتصورات دون القوالب التنظيمية وقيودها فتنفجر الحدود وفق شروط معينة.

 

ثانيًا: مقولة تَمَيُّز تنظيم الدولة

أسهمت مقولة تَمَيُّز تنظيم الدولة في إضفاء مزيد من الغموض والتعقيد، وتقوم فكرة التميز على جملة اعتبارات: الأول: التغير الذي طرأ على سلوك القاعدة وكشفته الوثائق التي عثر عليها الأميركيون في الحاسوب الشخصي لبن لادن، والذي بدا في تصرفات جبهة النصرة في سوريا، والثاني: الرؤية الأيديولوجية الصلبة والحدِّية التي تُغلِّب الجانب العقائدي والطائفي والهويَّاتي(12)، والثالث: مبلغ التوحش الذي وصل إليه التنظيم ما جعل القاعدة تتحدث عن الغلو والتكفير، والرابع: حالة متقدمة من البراغماتية والانتهازية التي جعلته يكفِّر ويقاتل الجهاديين الآخرين في الوقت الذي يَقبل مبايعة كثيرين بعضهم قطَّاع طرق(13).

لا يحيل أيٌّ من هذه الاعتبارات -إن سلَّمنا بها- إلى أيّ تَغَير في المشروع بل في السياسات كما سبق، فالعدنانيُّ في سجاله مع الظواهري كان صريحًا في تمسك تنظيم الدولة بنهج القاعدة قبل التَّغَيُّر المفتَرَض من قبل الظواهري، ونهج القاعدة كما نفهمه من تصريحات البغدادي والعدناني هو [أننا] “لا نترك السلاح حتى يحكم الشرع”، “ولَنقاتلنَّ لإقامة الدولة الإسلامية”، وأن الأنظمة والجيوش التي تدافع عنها كلها كافرة، وأن الجهاد فريضة(14)، وتشرح الرسالة المنسوبة للظواهري والتي وجهها إلى الزرقاوي في أكتوبر/تشرين الأول 2005 مراحل المشروع كما تصورها الظواهري وتبدأ بإخراج الأميركان من العراق ثم إقامة إمارة إسلامية يتم تطويرها حتى تبلغ مرتبة الخلافة على أكبر جزء يمكنها بسط سلطانها عليه من العراق، خصوصًا في مناطق العرب السنة، ثم مدِّ الموجة الجهادية إلى ما جاور العراق من دول علمانية، ثم “الصدام مع إسرائيل؛ لأن إسرائيل ما أُنشئت إلا للتصدي لأي كيان إسلامي وليد”(15).

الاختلاف بين تنظيم الدولة والقاعدة يظهر في التقديرات والحسابات السياسية خصوصًا مع حنكة وخبرة القاعدة وصِدَامية تنظيم الدولة؛ فمشروع الجهاد العالمي هو إقامة الدولة الإسلامية، والطريق الوحيد لذلك هو الجهاد، وفي عقيدة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين أن الجهاد “ماضٍ إلى قيام الساعة بوجود الإمام وعدمه… وينبغي لكل مؤمن أن يجاهد أعداء الله تعالى وإن بقي وحدَه”، فإن عطَّل الإمام الجهاد قام الواحد والجماعة بالفرض المعطَّل، كما أن “الرافضة طائفة شِرْك وردَّة”، و”قتال المرتدين أولى عندنا من قتال الكافر الأصلي”(16)، وقد شخَّص الجولاني زعيم النصرة الصراعَ بأنه “صراع بين المسلمين وبين اليهود والقوى الصليبية وبين الصفويين والقوى الدولية”، وأنه “صراع طائفي”(17)، وتفيد الرسالة المنسوبة للظواهري -المشار إليها سابقًا- أنه يتفق مع الزرقاوي في حكم الشيعة، ولكنه لا يرى مصلحة في استهدافهم، وأن من مصلحة القاعدة وإيران أن نكفَّ عنها وتكفَّ عنَّا؛ خصوصًا مع وجود نحو مائة معتقل من القاعدة في إيران.

إنه من المثير للتأمل ذلك التناقض في توصيف تنظيم الدولة؛ ففي حين يراه البعض حدّيًّا صلبًا يراه آخر براغماتيًّا إلا مع أقرانه الجهاديين، والواقع أن القاعدة وتنظيم الدولة يُبديان تصلبًا وبرغماتيةً بحسب التقديرات ووفق منطق واحد، فقد أبدت القاعدة براغماتية في مهادنتها لإيران بعد الحرب الأفغانية، وقد امتثل تنظيم الدولة نفسه “لأوامر القاعدة بعدم التعرض للروافض في إيران؛ حفاظًا على مصالح القاعدة وخطوط إمدادها” كما صرَّح بذلك العدناني، وأنه لم يلتزم بذلك داخل حدود دولته، فالحدية عندهما إنما تظهر في حالة ما يصادم الأصول، فيمكن التوسل بالبراغماتية فيما يعزز استمرار المشروع دون ما يقيده أو يعرقله، فحين أعلن تنظيم الدولة “الخلافة” جعل كل من يعارضها في طائفة “البغاة” بحيث ينطبق عليهم فقه البغاة الذي يؤمن به كل الجهاديين، في حين تجادل القاعدة في شرعية هذه الخلافة وأن تنظيم الدولة خرج على بيعة الظواهري، وهكذا تحول الخلاف من سياسي إلى عقديٍّ فالخلافة عنَت أنهم “جماعة المسلمين” والبقية خارجون عليها، وهو من متواليات فقه الجهاد العالمي نفسه وليس خروجًا عليه.

 

ولابد من القول: إن تنظيم القاعدة فَقَد هرميته وتحول -مع احتلال العراق- إلى فكرة ومشروع تخضع استراتيجياته وفقهه للتطور بحسب المنتمين إليه وبحسب تطورات ساحات المعارك، وقد لاحظنا ذلك خصوصًا مع الزرقاوي كما يبدو من رسالته لبن لادن في يناير/كانون الثاني 2004(18) التي تحدث فيها عن ضرورة استهداف “طوائف الردة” وعدم الاقتصار على العدو البعيد (الأميركان)، وأدخلَ تطورات في تقنيات الجهاد وأعماله الحربية كالتوسع في العمليات الانتحارية والذبح والتوسع في إطلاق وصف الردة، ثم بايع القاعدة ورأَسَ فرعها في العراق في أكتوبر/تشرين الأول 2004، ما عنى قبول قيادتها بالتطور الجديد أو التسليم به على الأقل.

المسألتان الأبرز في معضلة فهم تنظيم الدولة هي تَوَحشه من جهة، وقدرتُه على السيطرة والتوسع على الأرض من جهة أخرى، ومن المؤكد أن لانضمام العديد من الضباط البعثيين إلى تنظيم الدولة تأثيرًا مهمًّا في هاتين المسألتين، بدءًا من مرحلة أبي عمر البغدادي ثم أبي بكر البغدادي. تعود بدايات التوحش إلى الزرقاوي الذي حذره الظواهري في الرسالة المنسوبة إليه في 2005 من “مشاهد الذبح”؛ لخطورتها في معركة الإعلام التي هي “في سباق على قلوب وعقول أمتنا”، ويرجع تشريع “الغلظة والشدة” إلى شخصيتين رئيسيتين، هما: أبو عبد الله المهاجر (عبد الرحمن العليّ) وأبو بكر ناجي. وقد تأثر الزرقاوي كثيرًا بالمهاجر ودرَس عليه كتابَه “مسائل من فقه الجهاد”، وهو كتاب في “فقه الدماء” وضعه صاحبه “للمستسلمين لشرع الله؛ كاستسلام الميت بين يدي مغسِّله، بل أشدّ”، وفيه يقرر “المهاجر” أن البلد التي يُحكم فيها بالقانون بلدُ كفر وتجب الهجرة منها، وأن الإجماع منعقدٌ على إباحة دم الكافر إباحةً مطلقة؛ ما لم يكن له أمانٌ شرعيٌّ، وأن “مناصرة المشركين ومظاهرتهم على المسلمين كفرٌ أكبر” مطلقًا، وأن الإسلام لا يفرِّق بين مدني وعسكري، وأن “ما في القتل بقطع الرأس من الغلظة والشدة أمرٌ مقصود، بل محبوب لله ورسوله”(19). والمهاجر مصريٌّ تخرّج في الجامعة الإسلامية في إسلام أباد، وشارك في الجهاد الأفغاني ودرَّس في معسكرات المجاهدين في كابل، وتولى التدريس في معسكر الزرقاوي في هيرات، وكان مرشَّحًا لتولي مسؤولية اللجنة العلمية والشرعية في تنظيم القاعدة، اعتُقل في إيران ثم أُفرج عنه وعاد إلى مصر بُعيْد قيام الثورة.

أما أبو بكر ناجي فيعتقد أن الجهاد من أهم أبواب هداية الخلق، وأنه “شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان”، وأن “إراقة دماء أهل الصليب وأعوانهم من المرتدين وجندهم من أوجب الواجبات”، ويقول: “نحن الآن في أوضاع شبيهة بأوضاع حوادث الردة أو بداية الجهاد فنحتاج إلى الإثخان ونحتاج لأعمال مثل ما تم تجاه بني قريظة” (قتْل الرجال وسَبْي الذراري والنساء وأخذ الأموال)، فلابد من “اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب”(20).

أما سيطرة تنظيم الدولة على الأرض، فلا يمكن فهمها إلا في إطار التغيرات في المنطقة منذ الحرب على أفغانستان والعراق وصولاً إلى الثورات الشعبية، فتنظيم الدولة تمدد في الفراغ الذي خلَّفه ضعف الدولة وفي أجواء الاستبداد وبعد احتلال العراق، ثم مع الثورة السورية التي قوبلت بعنف وحشي فتحولت إلى ثورة مسلحة، وقد أشار الجولاني -بوضوح- إلى أن ثورة سوريا “أزالت العوائق” وسهَّلت قبول الفكر الجهادي وحمل السلاح بعد أن “لم تكن الناس تقبل منهجنا”(21). والمرجع المهم في رسم هذه الاستراتيجية هو أبو بكر ناجي الذي أطلق مصطلح “إدارة التوحش” على المرحلة التي تنهار فيها الدول ولا يتم التمكن من السيطرة عليها من قِبَل قوى أخرى، وهنا تتقدم “السلفية الجهادية” بمشروعها لإدارة حاجيات الناس وحفظ الأمن والقضاء بين الناس وتأمين الحدود وغير ذلك.

تأتي هذه الاستراتيجية المقترحة في سياق أوسع؛ إذ يشخِّص “ناجي” المشكلة بدءًا من سقوط الخلافة وإقرار اتفاقية سايكس بيكو ونشوء النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، ومع استتباب أنظمة فرَضت قيمًا مغايرة لقيم المجتمعات خالفت العقيدة التي تحكمها، وضيَّعت المقدَّرات ونشرت المظالم، وأحكم النظام الجاهلي السيطرة على العالم بأنظمة الجنسية والورق النقدي والحدود المسيَّجة. ولذلك فالدولة الإسلامية -بحسبه- ستقوم على أنقاض الأمم المتحدة لتُخرج الأمة من حالة الهوان وتقود البشرية للهداية. والمشروع الوحيد المؤهل لذلك هو مشروع “السلفية الجهادية”؛ لأنه الوحيد الذي وضع مشروعًا شاملاً للسنن الكونية والسنن الشرعية وهو منهج رباني. ويوجه “ناجي” انتقاداته لباقي المشاريع الأربعة، وهي: سلفية الصحوة (سلمان العودة وسفر الحوالي) التي تتطابق مع الإخوان، وتيار الإخوان و”مشروعهم العفن”، وتيار إخوان الترابي الذي راعى السنن الكونية ولكنه لم يراع السنن الشرعية فجعل الدولة علمانية، وتيار الجهاد الشعبي (حماس وجبهة تحرير مورو) المختَرق من قبل منهج الإخوان(22).

ثالثًا: البنية الفكرية للجهاد العالمي والنظام الفقهي

“الحكم بما أنزل الله” هو جوهر البنية الفكرية للجهاد العالمي، وهو في سبيل ذلك يبني تصوراته ومشروعية ممارساته على ما يسميه “الشريعة” وهي -عنده- مرادفة للفقه؛ لا فرق، ولذلك حين يُلقي بعض الكتَّاب باللائمة على الفقه الإسلامي الذي يُنتج مثل هذا الفهم الكارثي إنما يقعون أسرى التصور الجهادي نفسه، فالنظر إلى الإمكانات التي يتيحها الفقه الإسلامي من قبل مستثمريه يتيح أيضًا مشروع الإخوان المسلمين المناقض له تمامًا كما يُتيح غيره من المشاريع، وهو ما يعني أن النص الفقهي لا يمكن له أن يفسر ظهور مثل هذه الظواهر، ولاسيما أنه نص قديم في حين أن هذه الظواهر الجهادية والسياسية حديثة جدًّا.

لا يمكن تجاهل أن الإخوان المسلمين هم من بدؤوا تشكيل المذهبية السياسية للدين حين حاولوا أن يعوضوا غياب الخلافة التي سقطت بمشروع الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة تمهيدًا لاستعادة الخلافة، ثم سعَوا إلى بناء النظام الإسلامي الشامل الذي يَقطع مع الأنظمة السائدة في مختلف المجالات، إلا أن تلك الأفكار سَرَت وانزلقت إلى مشروع الجهاد العالمي؛ ولكن بأدوات وأساليب مناقضة لما رجاه الإخوان، وعبر وسيط إخواني هو سيد قطب الذي طرح أفكار الجاهلية والحاكمية وتكفير المجتمعات؛ نظرًا لغياب المعنى الحقيقي لشهادة التوحيد التي لا تتضمن توحيد الله في التشريع الذي أضافه الجهاديون إلى أنواع التوحيد التي قررها ابن تيمية فأصبحت ثلاثة: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد التشريع، وسيدٌ شكَّل مَعينًا لكل الفكر الجهاديّ بدءًا من عبد الله عزام والظواهري ووصولاً إلى جبهة النصرة وفقهاء تنظيم الدولة(23).

تبدأ منظومة “الحكم بما أنزل الله” الجهادية بمسألة التكفير أولاً، وعنها يتفرع تكفير الحكام الذين يحكمون بالقوانين، وتكفير الراضين بذلك، وتكفير من لم يكفِّر هؤلاء جميعًا، كما أن البلدان التي تُحكم بالقوانين تصبح كلها دار كفر، فيعود الإسلام غريبًا وتعود “حروب الردة” سيرتها الأولى ويجب الجهاد الذي يتحول -معهم- إلى ركن من أركان الإسلام. في المرحلة الثانية من المنظومة يأتي السلوك الواجب على الطليعة الجهادية المؤمنة، وهو الخروج على الحكام الكفار وقتالهم بغضِّ النظر عن القدرة(24)، وفي المرحلة الثالثة يتم النظر إلى كل أحكام هؤلاء الحكام الكفار على أنها ساقطة وغير معتبَرة شرعًا، فلا تعود تنطبق عليهم أحكام “الإمامة” في الفقه الإسلامي، فتسقط كل أحكام الذمة ودار الإسلام والمعاهدات والقوانين وكل المنظومة السياسية المعاصرة، وفي المرحلة الرابعة يأتي إقامة الحكم الإسلام وتطبيق الشريعة ونَصْب الخليفة الشرعي.

هذه المنظومة لم تكن لتستقيم على هذه الصورة دون الطعن في عامة العلماء والمؤسسات ومصادر العلم الإسلامي والعودة المشوهة والانتقائية إلى الكتب، واتخاذ فقهاء مخصوصين من خارج النظام الفقهي، وبما أن المنظومة الفقهية الإسلامية لا تُسعفهم في هذا البناء تجدهم حريصين على الكتابة في فقه الجهاد بصورة مختلفة وبطريقة شديدة الانتقائية، حتى جعل أبو عبد الله المهاجر تقسيم العالم إلى دار إسلام ودار كفر “من المعلوم من الدين بالضرورة”(25)، ومن ثم يكفِّر من يخالفه، في حين نرى عامة الفقهاء يرون أن هذا التقسيم هو مسألة أمْلَتْها ظروف تاريخية قد تَغَيرت.

في مقابل منظومة الجهاديين هذه تقوم المنظومة الفقهية الإسلامية على أن “الحكم بما أنزل الله” فيه تفصيل وليس حكمًا عامًّا، ولذلك قيل لابن عباس: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) قال: “كفره ليس كمن كفر بالله واليوم الآخر”، وعن عطاء بن أبي رباح قال: “كفرٌ دون كفر، وفسقٌ دون فسق، وظلمٌ دون ظلم”، وقال طاووس: “كفرٌ لا يُخرج من الملة”(26)، ومعنى ذلك أن الحكم بغير ما أنزل الله يحتمل أن يكون متمحضًا للكفر بأن يعتقد أن فعله هذا أفضل من حكم الله أو مساوٍ له أو أن يكون جاحدًا لحكم الله، ويحتمل أن يكون الحكمُ غير متمحض كأن يكون باجتهادٍ أو عن جهلٍ أو تحت إكراهٍ أو نحوه. ثم إنه لا ملازمة في الشريعة بين التكفير كشرط للإيمان وبين سلب الكافر حقوقه.

فالفقه الإسلامي يقرُّ بشرعية الحكام إذا وصلوا إلى الحكم بواحد من ثلاث طرق: الاختيار، أو البيعة، أو التغلب (كإضفاء شرعية على أمر وقَع لا يمكن دفعه، لا كتشريع للقيام بالتغلب)، وأن الحاكم لا يُكفَّر إلا إذا صدر عنه كفرٌ بَوَاحٌ لا يحتمل التأويل، وأما ما يصدر عنه من أحكام فإن وافق الشرع وجب الالتزام به، وإن خالف فلا طاعة له ويُنكَر عليه ذلك التشريع المخالف وفق قواعد الأمر والنهي في الفقه الإسلامي.

وأما الجهاد، ففي المذهب الشافعي -الذي يُعتبر الأكثر تشددًا؛ إذ يرى أن عِلَّة الجهاد هي الكفر- أن الجهاد واجب وجوب الوسائل لا المقاصد؛ إذ المقصود بالقتال إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة، أما قَتْلُ الكفار فليس بمقصود، حتى لو أمكنَ الهدايةُ بإقامة الدليل بغير جهاد كان أولى من الجهاد”(27).

وبخصوص تطبيق الشريعة فهي تختلف عن الفقه الإسلامي، فالشريعة هي أحكام الله المنصوصة القطعية الدلالة التي أجمع العلماء على أنها من أحكام الله التي لا تتغير، أما الفقه فهو نتاج بشري وهو تفسير للشريعة وخاضع للجهات الأربع: الزمان والمكان والأحوال والأشخاص. فالأحكام الشرعية إما أن تكون منصوصة بأدلة القرآن والسنة، سواء كانت دلالتها قطعية أو ظاهرة، وإما أن تكون من فهم المجتهدين للوقائع الجزئية عن طريق إدخالها في نصوص القرآن والسنة بالاستدلال، وهذا تختلف فيه أنظار المجتهدين ويسميه الفقهاء “تحقيق المناط”، وقد يُجمع الفقهاء في عصر على حكم مبني على واقعٍ معين ثم يُجمع غيرهم لاحقًا على حكم آخر؛ لتَغَير الواقع الذي بُني عليه الحكم الأول، فنقول: إن تحقيق المناط اختلف، وإنه اختلافُ عصر وزمان لا اختلاف حجة وبرهان.

ولابدَّ من القول: إن بعض المسائل التي ركَّب عليها الجهاديون منظومتهم تستند إلى بعض فتاوى أئمة الدعوة النجدية أيضًا، من ذلك مسألة الحكم بالقوانين الحادثة، فأئمة الدعوة النجدية من محمد بن عبد الوهاب حتى محمد بن إبراهيم مفتي السعودية يكفِّرون من يسنُّ القوانين أو يحكم بها، ولذلك نجد فقهاء الجهاد العالمي يستعينون بتلك الفتاوى، فقد نقل أبو عبد الله المهاجر عن محمد بن إبراهيم تكفير مَن يسنُّ القوانين الوضعية، ووجوب الهجرة من البلد الذي تُسَنُّ فيه القوانين لأنه لم يعد دار إسلام، كما نقل هو وأبو بكر ناجي عن سليمان بن سحمان من أئمة الدعوة، وكان عبد العزيز بن باز أول من أفتى منهم بأن من يَسنُّ القوانين لا يَكفر بإطلاق، فقد يكون سنُّ القانون لضعف أو شهوة أو اجتهاد. ونجد في فتاوى أئمة الدعوة أيضًا الحديث عن النُّفرة من ملل أهل الكفر والدعوة إلى جهادهم و”التطهر بدماء المشركين والكفار”، وأن “الجهاد ركن من أركان الإسلام”، وأن الجهاد لا يحتاج إلى إمام، وأن “الدين لا يقوم إلا بالجهاد”(28)، ونحو ذلك من التكفير والشدة على الحكَّام، ولذلك مُنعت تلك الفتاوى من التداول في المملكة السعودية.

خلاصة

إن ما نراه أجدى في تفسير هذه الظاهرة يجب أن يقوم على تَجَاوز فكرة “تَفَرُّد” التنظيم التي تعزله عن حركة الجهاد العالمي، والتحرر من قَيد كونه “تهمةً” يتم إلصاقها بفكر أو جهة، أو “تهمةً” يتم دفعُها ونفيها عن دين أو أناس بعينهم، وهذا يتجسد في تحليل البِنية الفكرية للتنظيم، وفي تحليل الواقع المعقد الذي ظهرت فيه تلك الأفكار من جهة أخرى. إن فكرة “الغلو والانحراف” تدفع إلى القول: إننا أمام تطور داخل العالم المفاهيمي للجهاد العالمي وانفلات من القيود المفروضة من القيادة المركزية؛ تجاوبًا مع ما تفرضه التطورات على الأرض، والاختلاف حول الوسائل الأجدى لتحقيق المشروع، بالإضافة إلى الصراع على الإمارة نفسها التي هي مركزية في المشاريع الحركية التنظيمية عامة. فلا يمكن لمسلسل الخروج عن “نظام الفقه الإسلامي” الذي بدأه فقهاء الجهاد العالمي أن يقف عند الحدِّ الذي رسموه هم لأنفسهم وأتباعهم.

إن “الحكم بما أنزل الله” هو جوهر البنية الفكرية للجهاد العالمي، ولذلك يبني مشروعية ممارساته على ما يسميه: “الشريعة”، وهي -عنده- مرادفة للفقه؛ ولذلك حين يُلقي البعض باللائمة على الفقه الإسلامي الذي يُنتج مثل هذا الفهم الكارثي إنما يقعون أسرى التصور الجهادي نفسه؛ ذلك أن الإمكانات التي يتيحها الفقه الإسلامي من قبل مستثمريه يتيح أيضًا مشروع الإخوان المسلمين المناقض له تمامًا كما يُتيح غيره من المشاريع، خاصة وأن النص الفقهي نص قديم في حين أن هذه الظواهر حديثة.

إن سيطرة تنظيم الدولة على الأرض، لا يمكن فهمها إلا في إطار التغيرات في المنطقة منذ الحرب على أفغانستان والعراق وصولاً إلى الثورات الشعبية، فتنظيم الدولة تمدد في الفراغ الذي خلَّفه ضعف الدولة وفي أجواء الاستبداد بعد احتلال العراق، وكذلك الحال مع الثورة السورية التي قوبلت بعنف وحشي فتحولت إلى ثورة مسلحة.

هكذا يبدو تنظيم الدولة نتاج سياقات مركبة تداخل فيها النص بالواقع أو العكس، وهو تطور من داخل حركة الجهاد العالمي وليس خارجًا عنها، وهو يَصدُر عن بنية فكرية واحدة وإن تطورت التقنيات والاستراتيجيات الجهادية لتحقيق المشروع الواحد، وتبدو جذوره مركبة بين مصادر متعددة بدءًا من خصومه الإخوان المسلمين مرورًا بسيد قطب وأئمة الدعوة النجدية، وحركية الجهاد العالمي وفقهائه، بالإضافة إلى سياقات سياسية لمنطقة شديدة التعقيد، وفي سياق تَشكُّل الدولة الوطنية التي ورثت الاستعمار، وفي سياق التحدي الغربي والتدخل الأجنبي في بلاد المسلمين في القوانين ونظم الحكم، والسيطرة على الدول، وانتهاك قيم الجماعات وأعرافها وإهانة معتقدات الناس في بعض الأحيان.

________________________________________________

* معتز الخطيب: أستاذ منهجية الأخلاق–مركز التشريع الإسلامي والأخلاق، جامعة حمد بن خليفة

 

الهوامش والمصادر

1- في تسجيل صوتي للظواهري بُثَّ في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2013، وفي إعلان البغدادي عن دمج النصرة بالدولة بُث بتاريخ 9 إبريل/نيسان2013، وفي تسجيل للعدناني بُث في 30 يوليو/تموز 2013، وفي مقابلة الجولاني مع قناة الجزيرة بتاريخ 19-12-2013، وانظر عقيدة ومنهج داعش في موقع ” theshamnews.com”.

2- من تسجيل صوتي بُثَّ في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2013.

3- من تسجيل صوتي لأبي محمد العدناني، بُثَّ في 30 يوليو/تموز 2013.

4- يتكرر هذا المعنى في التصريحات والكتابات المختلفة، انظر مثلاً: متن “عقيدة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين”، (مع شرحه: نور اليقين، لأبي مارية القحطاني)، ([د.م]: دار الجبهة للنشر والتوزيع، [د.ت])، ص27، وتسجيلاً للبغدادي بتاريخ 9 إبريل/نيسان 2013 يقول فيه: “إياكم أن تتخلصوا من ظلم الديكتاتورية لتذهبوا إلى ظلم الديمقراطية”، وتسجيلاً للجولاني بتاريخ 24 فبراير/شباط 2014 يتحدث فيه عن جماعات وقعت في ردة وكفر؛ كحال هيئة الأركان والائتلاف السوري ومن يقوم على مشروع “الجيش الوطني”، وفي مقابلة مع سامي العريدي فقيه جبهة النصرة بتاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول 2013 حصر الحكم في نوعين: رباني وجاهلي، وأن أكثر الفصائل تريد تحكيم شرع الله وإقامة دولة الإسلام، أما الفصائل التي تريد إقامة دولة مدنية علمانية فهي قليلة وندعوهم إلى الرشد والاتعاظ بغيرهم.

5- انظر تصريح العدناني بعنوان: “ما كان هذا منهجنا ولن يكون” بتاريخ 17 إبريل/نيسان2014، وتصريح الظواهري بتاريخ 2 مايو/أيار 2014، ثم تصريح العدناني بعنوان: “عذرًا أمير القاعدة”، بتاريخ 11 مايو/أيار 2014.

6- في تصريح له بتاريخ 31 أغسطس/آب 2013 يوضح العدناني أن “السلمية خلاف نهج الرسول ولا تؤدي إلى حق”، وأنه بإعلان الدولة أصبحت فريضتا الهجرة والجهاد في متناول الجميع.

7- انظر إصرار “داعش” على المضي في مشروع الدولة رغم مطالبة الظواهري بحل دولة العراق والشام والفصل بين الدولة في العراق والنصرة في الشام، في تصريحات البغدادي بتاريخ 15 يونيو/حزيران 2013 التي قال فيها: إن “الدولة باقية”، وتصريحات العدناني بتاريخ 30 يوليو/تموز 2013 الذي قال: “فلنقاتلنَّ لإقامة الدولة الإسلامية كل من يقاتلنا”.

8- عمر بن محمود أبو عمر: أبو قتادة، ثياب الخليفة، ([د.م]، نخبة الفكر، 2014م)، ص7، وقد كتبه في السجن.

9- المرجع نفسه، ص3-5.

10- انظر رسالة أبي محمد المقدسي للزرقاوي بعنوان: “الزرقاوي: مناصرة ومناصحة”، مؤرخة في جُمادى الثاني، 1425هـ، سجن قفقفا. http://www.tawhed.ws/r?i=dtwiam56

11- في حوار معه بعنوان: “أبو قتادة: لم أخرج بصفقة وتنظيم الدولة زائل”، حاوره محمد النجار، الجزيرة نت، بتاريخ 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.

http://www.aljazeera.net/news/arabic/2014/11/12/%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d9%82%d8%aa%d8%a7%d8%af%d8%a9-%d9%84%d9%85-%d8%a3%d8%ae%d8%b1%d8%ac-%d8%a8%d8%b5%d9%81%d9%82%d8%a9-%d9%88%d8%aa%d9%86%d8%b8%d9%8a%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%88%d9%84%d8%a9-%d8%b2%d8%a7%d8%a6%d9%84

12- انظر محمد أبو رمان، هكذا تشكَّلت أيديولوجيا التوحش، صحيفة العربي الجديد، الاثنين، 6 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

http://www.alaraby.co.uk/opinion/c2c162e1-7384-4891-9f2b-8346cb9c0d56

13- انظر: نواف القديمي، كيف تشكَّلت داعش؟، صحيفة العربي الجديد، الأربعاء، 20 أغسطس/آب 2014:

http://www.alaraby.co.uk/opinion/99b08cd2-484b-4e94-850f-c2946ecb648e

وتحدث ياسين الحاج صالح عن “الطفرة الغولية” في مقاله: طفرة في التفكير لفهم طفرة “داعش”، القدس العربي، 29 أكتوبر/تشرين الأول 2014: http://www.alquds.co.uk/?p=242548

14- استمع إلى تسجيل العدناني بتاريخ 31 أغسطس/آب 2013.

https://www.youtube.com/watch?v=BeT4D3PpV6g

15- نشر الرسالة مدير مكتب الأمن القومي الأميركي جون نغروبونتي في أكتوبر/تشرين الأول 2005، ونسب إلى الزرقاوي نفي صحتها، ولكن التفاصيل الواردة فيها والتطورات التي حصلت حتى الآن تدعم صحتها.

16- هذه الاقتباسات من عقيدة تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، مع شرحه نور اليقين، ص25، 28، 31.

17- في حواره مع الجزيرة في برنامج لقاء اليوم، بتاريخ (19 ديسمبر/كانون الأول 2013).

http://www.aljazeera.net/programs/today-interview/2013/12/19/%D8%A3%D8%A8%D9%88-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%88%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7

18- الرسالة نشرتها السلطات الأميركية، واعترف بصحتها تنظيم الزرقاوي ونشرها ضمن رسائله، كما اعترف بصحتها ميسرة الغريب المسؤول الإعلامي لجماعة الزرقاوي، وأبو أنس الشامي.

19- أبو عبد الله المهاجر، مسائل من فقه الجهاد، ([د.ن]، [د.ت])، ص8، 21، 34-38، 271، 409.

20- أبو بكر ناجي، إدارة التوحش: أخطر مرحلة ستمر بها الأمة، ([د.م]: مركز الدراسات والبحوث الإسلامية)، ص31-33.

21- في حواره المشار إليه سابقًا مع الجزيرة.

22- انظر: أبو بكر ناجي، إدارة التوحش، ص3-17، 76.

23- انظر حول سيد قطب وجماعات العنف: معتز الخطيب، الغضب الإسلامي: تفكيك العنف، (دمشق: دار الفكر، 2007)، ويذكر سامي العريدي فقيه جبهة النصرة سيد قطب ضمن المصادر التي يرجعون إليها، وهو من مصادر أبي بكر ناجي في كتابه.

24- يقول أبو مارية القحطاني في شرح عقيدة تنظيم القاعدة: “فإن لم يقع خلع الإمام الكافر إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلعه”. أبو مارية القحطاني، نور اليقين، ص33.

25- أبو عبد الله المهاجر، مسائل من فقه الجهاد، ص16.

26- سفيان الثوري، تفسير الثوري، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1983)، ص101.

27- الخطيب الشربيني، مغني المحتاج في معرفة معاني ألفاظ المنهاج، (بيروت: دار الكتب العلمية، 1994م)، ج6، ص9.

28- انظر: عبد الرحمن بن محمد النجدي، (جمع وتحرير)، الدرر السنية في الأجوبة النجدية، مجموعة رسائل ومسائل علماء نجد الأعلام من عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى عصرنا هذا، ط5، (مصر: [د.ن] 1995م)، ج8، ص 13، 18، 23، 199، 201.

 

الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية/ شفيق شقير

ملخص

شكَّل تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن ذروة تطور التيارات الجهادية التي صقلها “الجهاد” في أفغانستان، واتسعت لطيف واسع من الأفكار الجهادية التي تطورت خلال مراحل امتدت من الثمانينات إلى حين تسلَّم أيمن الظواهري مسؤوليتها، وما أعقب ذلك من انشقاق “لتنظيم الدولة الإسلامية” عنها وإعلانه أبا بكر البغدادي أمير التنظيم خليفة على المسلمين في دولة العراق والشام. يقر تنظيم الدولة بموافقته لتنظيم القاعدة في الأصول والقواعد لكنه يختلف معه في تنزيلها، ويرى أن الظواهري قد انحرف عن منهج القاعدة الجهادي لأنه لا يكفِّر قادة الإخوان المسلمين خاصة بعد أن حكم مرسي في مصر وفق النهج الديمقراطي، ويحمِّلونه مسؤولية انشقاق أبي محمد الجولاني بجبهة النصرة عن تنظيم الدولة الإسلامية. في حين تتهم القاعدة تنظيم الدولة “بالتشدد” وبالجهل في تنزيل أحكام الجهاد على الجماعات والأفراد، وأنهم يبالغون في القتل والتكفير. أما مستقبل التنظيم فهو مرتبط بمصير دولته التي إن استمرت قائمة فستكون “خلافة” متشددة في الداخل مرنة في علاقتها مع الخارج، وإذا سقطت فسيكون التنظيم جماعة جهادية متشددة على يمين القاعدة، ولكن الثابت أن التيارات الجهادية ستدخل في حلقة جديدة من المراجعات خاصة وأن إعلان تنظيم الدولة عن “الخلافة” جاء ليضاهي شرعية تلك الدولة التي كانت ستقوم على أساس “التغيير السلمي” وآليات الديمقراطية.

ينطلق التقرير من فرضية تقول بوحدة الجذور الأيديولوجية لتنظيمي القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية، فكلاهما ينتميان بجذورهما الدينية إلى التيارات “الجهادية” المهاجرة التي تضم طيفًا واسعًا من المجموعات والشخصيات التي ترمز القاعدة إليها وتمثل فكرتها، وما تنظيم الدولة إلا انشقاق أو نتوء من القاعدة من وجه، لكنه حتمًا تطور طبيعي لها من وجه آخر. إلى هذا الحد قد يمكن تلخيص الإطار الأيديولوجي العام لفكر التنظيم لكنه لا يكشف عن خصائصه، لاسيما وأن مساره العملي يُظهر تباينات واضحة مع القاعدة، واستطاع ببعض العناوين الدينية والجهادية التي تميزه أن يتوسع وأن يجذب عشرات آلاف المقاتلين إلى صفه، وهو ما لم تنجح القاعدة به أو لم تعمل به على الأقل.

وللوقوف على الجذور الأيدولوجية التي يمتاز بها التنظيم، يجب العودة إلى الجذور الأولى التي جاءت بالقاعدة أولاً وميزتها عن عشرات التنظيمات والمجموعات الأخرى إبَّان مرحلة ما سُمِّي بالجهاد الأفغاني، ثم الولوج بعد ذلك في “النزاع بين القاعدة وتنظيم الدولة” وتقرير الفوارق الأيديولوجية بينهما، واختبار مدى قدرة هذه الأفكار، أفكار التنظيم، على التطور والبقاء.

ووفق هذا النهج يمكن تقسيم المراحل التي مرَّ بها التيار الجهادي، مع بعض التجاوز والتحفظ، إلى ثلاث مراحل: مرحلة الحشد للجهاد المهاجِر، ثم مرحلة الجهاد العالمي، ثم مرحلة إمارة الظواهري. مع التنويه بأن هذه المراحل قد تتداخل، ومميزاتها قد تتعدد حتى من الناحية الأيديولوجية، ولكن يقوم بناؤها على الغالب وبما يؤدي الغرض من الدراسة، الذي هو تتبع الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة فحسب.

أفغانستان والحشد “لفريضة الجهاد”

يعتبر الشيخ عبد الله عزام داعية “الجهاد الإسلامي الأممي” والمنظِّر الأول “للجهاد المهاجِر” إذا جاز التعبير، وكان يهدف من وراء “حشد المسلمين والعرب” في الثمانينات من القرن الماضي إلى إحياء الجهاد في أفغانستان، بغية تحريرها من الروس لتكون “العمق” الحيوي وقاعدة للجهاد لرفع الظلم عن المسلمين وكذا للانطلاق نحو تحرير فلسطين، ونحو تغيير الأنظمة الأخرى لاسيما العربية منها لتتوافق مع “شرع الله” وتخضع “لحكمه”(1).

جاءت دعوته في سياق متقاطع مع مناهضي التمدد السوفيتي في أفغانستان وكان على رأسه دوليًّا أميركا، وإقليميًّا باكستان والسعودية، ومن هذه الأخيرة جاء الشيخ أسامة بن لادن كجزء من قنوات الدعم الذي قدمته الحركة الوهابية “نصرة للمسلمين الأفغان” -مع الأخذ بالاعتبار النقاش الدائر حول مدى صحة التزامه أو انتمائه للوهابية حينها(2)- وهو وجه مما قد يُفسِّر تحول بعض “الثقافة الوهابية” كأحد المكونات الأساس للفكر الجهادي. أما الوجه الآخر فهو مستوى النقد الذي تعرض له فكر الإخوان المسلمين باعتبار أنه كان الفكر المنجز شبه الوحيد الذي ينافس غيره (تنظيم سياسي وديني)، وأُخذ عليه عدم وضوحه في الاعتقاد، و”تردده في استعمال السلاح” أو “عدم صدقه فيه”، أي: الجهاد في التغيير، خاصة في مصر وسوريا، وعدم الوضوح في الهدف منه، أي: السعي للخلافة مباشرة دون “ترقيع النظام القائم تحت اسم الإصلاح”. وساعد على هذا النقاش أن الحشد الذي اتخذ له مقرات في أفغانستان وباكستان وخاصة الأخيرة جاء من منابت شتى، من أقصى اليمين الإسلامي إلى أكثره اعتدالاً، ووجد حرية في إظهار أفكاره ومعتقداته، وحظي كذلك بالوقت الكافي نسبيًّا لاستكمال تجربته.

فهناك استُعيد النقاش حول تجربة الجماعات الإسلامية التي انخرطت في مواجهات مع السلطة كتجربة جماعتي: الجماعة الإسلامية وحركة الجهاد المصريتين، وما نشأ على أطرافهما أو انشق عنهما من جماعات صغيرة وكذلك تجربة جماعة المسلمين أو ما سُميت بالتكفير والهجرة، وتجربة “الجهاد” في سوريا، وتجربة جماعة مصطفى أبو يعلي في الجزائر، إضافة إلى أفكار أخرى كثيرة. وترافق ذلك كله مع إعادة هيكلة للفكر الوهابي؛ حيث وُضع في سياق سياسي لأول مرة وخارج بيئته في المملكة العربية السعودية، وبوظيفة عسكرية في أفغانستان لم تُعهَد عليه من قبل إلا في ظروف التأسيس للمملكة العربية السعودية. في هذه الأجواء ربما لا توجد فكرة متطرفة أو معتدلة تنتمي “للجهاد” أو لها رأي فيه إلا طُرحت، وكان لها أنصارها وخصومها لكنها لم تتحول إلى إطار تنظيمي معتبر، مع أن بعضها تسبَّب أحيانًا بنزاعات مسلحة بين المجاهدين العرب أنفسهم أو الأفغان أنفسهم، أو بين بعض من الطرفين.

ويمكن استخلاص الكثير من الخصائص التي تميزت بها هذه المرحلة، لكن هناك سمات أساسية بُني عليها كل ما بعدها لاحقًا في ما عُرفت بالتيارات الجهادية العالمية:

الحشد الجهادي: تبقى سمة الحشد مع اختلاف النوايا والمقاصد البعيدة منه هي السمة الأبرز لهذه المرحلة، وكل ما بعدها ترتَّب عليها، وكان يحظى برضى إقليمي ودولي وبدعم رسمي من بعض العرب، ولكن تشكَّل على هامش الجهاد الأفغاني وفي قلبه منتديات جهادية جمعت عربًا وغير عرب، وأخذت قضايا كانت مغمورة تحتل مكانة في “الحس الإسلامي”، تركستان الشرقية في الصين، كشمير في الهند، فطاني في تايلند، مورو في الفلبين… وهكذا، ويمكن القول: إن الحشد وصل ذروته مع تأسيس عبد الله عزام لمكتب الخدمات عام 1984 وانتهى تقريبًا بمقتله عام 1989.

القيادة للفكر الجهادي: ومن دواعي الحشد ومتطلباته ولاستمرار ديمومته كان من الضروري صياغة ما يمكن تسميته “مانفيستو جهادي” يُجمع عليه كل رعاة “الجهاد الأفغاني” بغضِّ النظر عن أهدافه وكيفية ترتيبها من حيث الأولوية، وهو ما كان يحرص عليه عبد الله عزام، والمؤسسون الأوائل للتيار الجهادي، ونتيجة لذلك شاعت فكرة أولوية الإصغاء “للعلماء المجاهدين” في الميدان أو من يؤيدون الجهاد فلا “يُفتي قاعد لمجاهد” -لقطع الطريق على الفتاوى والآراء المعاكسة-، وأن علامة القيادة الصادقة هو التزامها “بالجهاد” وعدم تعطيله. وهذه الأفكار أعطت الفكر الجهادي أظافر وحصانة ضد منتقديه، وحجزت له مكانًا في الحالة الإسلامية.

شيوع مصطلح “الإرجاء” “والجهمية” في وصف الممتنعين عن تكفير الأنظمة التي “لا تحكم بما أنزل الله”، أي: الشريعة: في استعادة لوصف “المرجئة” التاريخي من كتب العقائد وهم أولئك الذين كان من قولهم أن الإيمان معرفة، وأن الإنسان لا يكفر إذا نطق بالشهادتين ولو أتى بما يخالف مقتضاهما.

مرجعية تراث سيد قطب: كان تراث سيد قطب يعتبر الجامع الأساس لكل الأفكار التي طُرحت في تلك الفترة، رغم الفهم المتباين والمتناقض أحيانًا لفكر الرجل، وسبب الإجماع عليه ربما يقال لعدم وجود تجارب سابقة غالبة له خاصة وأن تجربته تدعو للقطع مع “الأنظمة السياسية القائمة” وعلى مستوى كوني، ولكن من المؤكد أن ذلك بسبب الرغبة في الحشد وعدم الاختلاف، لاسيما وأن عبد الله عزام، إخواني الجذور والثقافة، كان له يد طولى في الحشد، وكان بمقابله التيار الوهابي الشريك الثاني له في الجهاد الأفغاني، إضافة إلى فكر الجماعة الإسلامية المصرية الصاعد في الساحة حينها، وكان يجمع الأخيرين النقد المتواصل للفكر الإخواني، فكان سيد قطب المنتمي تنظيميًّا للإخوان المسلمين بتراثه المرن القابل للتأويل، يُرضي الجميع ويؤكد على الغاية التي تجمع، أي: الجهاد، ولو إلى حين.

مرحلة الجهاد العالمي

هذه المرحلة يمكن شطرها إلى قسمين، منذ اغتيال عبد الله عزام إلى حين إعلان تنظيم القاعدة (1989-2001)، والأخرى من سقوط الخلافة في كابول إلى حين اغتيال أسامة بن لادن (2 مايو/أيار 2011).

الشطر الأول: 1989-2001

على الصعيد السياسي انخرطت الدول التي كانت تسهِّل قدوم المجاهدين في سياسة معاكسة، أي: في تسهيل ترحيلهم (خاصة بعد عام 1992)(3)، سواء إلى الجهات التي قَدِموا منها أو إلى دول ترضى باستقبالهم بعد أن كانت سابقًا قد سهَّلت قدومهم إلى أفغانستان -لاسيما وأن السوفيت انسحبوا من أفغانستان عام 1989 وسقط النظام الموالي لهم عام 1992- وعَلَت الأصوات المتذمرة من ثمرات أو تداعيات “الجهاد الأفغاني” في أكثر من دولة؛ ففي هذه الفترة تعولم الجهاد وانتقل إلى عدة مناطق مشتعلة بأطر تنظيمية واسعة، إلى الجزائر حيث بدأت فيها العشرية السوداء عام 1991، وحرب الشيشان خاصة بين عامي 1994-1996، وحرب البوسنة والهرسك ما بين عامي 1992 و1995، وفي هذه الفترة كانت العمليات الأمنية للجماعة الإسلامية في مصر بدءًا من عام 1992 وإلى حين إعلانها مبادرة وقف العنف عام 1997 وما تبعها من مراجعات.

وعلى صعيد القيادة للجهاد، تعزز حضور أسامة بن لادن كوريث فعلي لدور عبد الله عزام، وإن تأخر نسبيًّا في حسم علاقته مع المملكة العربية السعودية التي لم يرجع إليها وأقام فترة في السودان (1992-1996) وهي نفس الفترة التي نشطت فيها الجماعة الإسلامية في مصر لذا تم اتهامه بأن له يدًا في بعض نشاط الجماعة الإسلامية على الأقل وهو ما نفاه السودان مرارًا وأكَّد أن ابن لان جاء مستثمرًا وليس “مجاهدًا”، وتعرض خلالها للملاحقة من الأميركيين وتم سحب الجنسية السعودية منه عام 1994(4)، ليعود إلى أفغانستان مرة أخرى “مجاهدًا” ويُتوِّج جهوده بالتحالف مع أمير دولة طالبان الملا عمر، وهو التحالف الذي أعطى القاعدة الصورة والتوجه الذي اشتُهرت به، والذي ترجمته بإعلانها جبهة لمواجهة “الصليبيين والصهاينة” في صيف عام 1998.

وخلال هذه الحقبة لم تتوقف أفغانستان عن ممارسة دورها كمركز للجهاد أو الحاضنة الجاهزة لاستقبال كل من يعود إليها لائذًا أو لأية حاجة أخرى، لاسيما وأنه كان من السهولة بمكان الدخول إليها من باكستان أو الخروج منها، واستمرت الفصائل الجهادية في احتضان العرب رغم الحروب المتنقلة التي نشبت بينهم بعد سيطرة التحالف الشمالي بقيادة برهان الدين رباني على كابول، حتى إن العرب انقسموا على أنفسهم ومن ذلك الانقسام الشهير ما بين جماعتي قلب الدين حكمتيار ورباني. أما بعد سيطرة طالبان على العاصمة كابول عام 1996 أصبحت هذه الأخيرة لاحقًا عاصمة للجهاد الأممي المهاجر.

وأهم سمات هذه المرحلة التنظيمية من مراحل الحركات الجهادية المهاجرة:

أن تنظيم القاعدة أصبح المنظم للفكر الجهادي رغم كل الخلافات التي شغلت الساحة الجهادية الأفغانية، واستطاع استيعاب وتجاوز المراجعات الفكرية والفقهية التي أقدمت عليها الجماعة الإسلامية المصرية طيلة فترة التسعينات(5) وتعلَّم درسًا من التجربة “الجهادية الفاشلة في الجزائر”(6)، وتكرست كابول في هذه المرحلة مركزًا للتخطيط ولتوجيه العمل الجهادي، بغضِّ النظر عن مدى كفاءتها وفعاليتها في هذا الدور.

أطلقت القاعدة نسختها الجهادية، بحسب اعتقادها، كسبيل وسط بين جماعة الإخوان -بوصفها حركة إصلاحية وليست تغييرية شاملة- ومجموعات إسلامية متعددة كان لها حضورها في البيئة الأفغانية وتحمل أفكارًا “متطرفة” حتى بمعايير القاعدة، وكذلك كحالة تنظيمية وسطية ترفض الصيغة الحزبية المبنية على “العصبية” كما لا تثبت الخلافة العظمى لكل مدَّعٍ لعدم توفر شروطها(7).

لم تستطع القاعدة، التي شكَّلت ذروة التطور التنظيمي والفكري للحركات الجهادية المهاجرة، تجاوز معادلة “القيادة بالفكرة”، حيث إن ترابط الجماعة قد يكون عضويًّا إلى حد بعيد في أفغانستان أو بالقيادة عن بعد في بعض الحالات من خلال إيفاد موفدين وإرسال رسائل إلى ساحات الجهاد في دول أخرى، ولكن بقي نمط القيادة المعوَّل عليه، هو “البيعة” على الجهاد، والقيادة بالفكرة والتوجيه بالكلمة. وربما كان ذلك في سياق اجتناب “العصبية الحزبية”(8) ومحاولة للملمة التيار الجهادي ما استطاعت إليه سبيلاً.

حسمت القاعدة أمرها “تنظيميًّا” بمواجهة العدو البعيد “أميركا والصهاينة”، مع احتفاظها بدفع الصائل، أي: المعتدي عليها، في حالة العدو القريب، أي: الأنظمة، وذلك بناء على مراجعة للمواجهات التي حصلت مع “الأنظمة” في أكثر من بقعة عربية وإسلامية، وأصبحت على قناعة بأن قوة هذه الأنظمة مستمدة من هذين العدوين، فضلاً عن الخشية من أن تتحول المواجهة العسكرية إذا أُعلنت ضد الأنظمة لذاتها إلى مواجهة مع الشعوب المغلوبة على أمرها بسبب الاستبداد والجهل. لكنه لم يقل باستهداف هذين العدوين على أرضهما حصرًا، أي: أرض أميركا وإسرائيل، ما يعني أنه لم يحيِّد أراضي المسلمين والعرب وهذا جعله بمواجهة الأنظمة مرة أخرى بعد استهدافه مصالح أجنبية في المنطقة. ومن المهم التأكيد على أن مواجهة العدو البعيد التي ظهرت في الوجهة التنظيمية للقاعدة وعلى المستوى القيادي لم تتكرس بحدود واضحة على مستوى أعضاء التنظيم وفروعه في البُعد الفكري والفقهي، ولم تتحول إلى منهج علمي يمكن تمييزه على مستوى عموم التنظيم الذي كان الهدف الأقرب إليه ذهنيًّا هو “إقامة الدولة الإسلامية”(9).

ففي هذه الفترة اتخذت النقاشات منحى تفصيليًّا أكبر، لاسيما مع تطور أدوات التواصل واتساع دائرة المنخرطين في الفعل الجهادي وتعدد ما تراكم لديهم من خبرات وتجارب ودراسات، وبقيت مسائل عدة يمكن وصف بعضها “بالأمهات” -والتي لا تزال حاضرة إلى اليوم- ولم تستطع القاعدة ضبط تأصيلها بحدود واضحة وحاسمة بالنسبة لأعضائها أو مؤيديها لاسيما وأن سلطة التقدير فيها نسبية، من أبرزها: كفر النوع وتكفير المعين، وإعذار المخالف، والإمرة والأمير في الواقع المعاصر.

كفر النوع وتكفير المعين: ويختلط فيها الفقهي بالعَقَدي إلى حد بعيد، ملخص ذلك أن كفر الفعل نفسه لا يستلزم بالمطلق تكفير الفاعل إلا بعد استيفاء شروط وانتفاء موانع وله تفصيل في كتب الاعتقاد يمكن العودة إليه في مظانها، وإن كانت القاعدة حسمت أمرها بكفر الأنظمة بالمطلق أو القائمين عليها من حكام إلى حدٍّ بعيد، فإن هناك قضايا أخرى تتطلب سلطة استنسابية للبت بها، ألا وهي الموقف من الأحزاب الإسلامية المخالفة التي اختارت الخيار الديمقراطي للتغيير واستعادة حكم “الإسلام” مثل حركة الإخوان المسلمين مثلاً، وحكم المنتسبين للجيش والشرطة، والمنتمين لتيارات غير إسلامية أو لتيارات توصف بالعلمانية، وما هو حكم بقية فئات الناس التي لن تختار اختيارات القاعدة البتة وهكذا؟ وما هي الموانع والشروط لإيقاع حكم الكفر بهؤلاء وما قد يترتب عليه جواز هدر دماء هؤلاء من عدمه(10)؟

إعذار المخالف: هي قائمة على مسألة تكفير المعين، لأن تكفير المخالف دون إعذاره يشق صفوف المسلمين أو الكيان “الجهادي” نفسه فيتعرض لانشقاقات بموجبه، فمن موانع نسبة الكفر للأفراد والجماعات وجود العذر، وتركز النقاش ووضع حدودًا لهذه الموانع، وهي: الإكراه والعذر بالجهل والتأويل والخطأ، أي: بعدم قصد الكفر نفسه.كما دار النقاش على مستوى ثان حول جواز اعتبار العذر في مسائل الاعتقاد، ولكن ما لم تستطع التيارات الجهادية حسمه بوضوح هو الحد بين الاعتقادي وغير الاعتقادي، ومن يقرر صحة العذر من عدمه، وماهية الضوابط لصاحب هذه الصلاحية كي لا يهدر الدماء لغاية في نفسه لا لأمر دينه، أو يعلن حربًا على جماعة مخالفة(11).

الأمرة والأمير: نشأت هذه المسألة في سياق الحركات الجهادية المهاجرة لتجيب بالضرورة على أمرين توقف عليهما العمل الجهادي -مع الإقرار بوجود أسباب أخرى لها دوافع علمية وتنظيمية- أو بالأحرى لتتجاوز عقبتين:

أولاً: عقبة عدم وجود “حاكم شرعي”: ليأمر بالجهاد ابتداء أو للجهاد تحت “رايته” انتهاء، أي: تحقيق “شرعية الجهاد والراية”، وهذه الحاجة نشأت في الحقيقة منذ المرحلة الأولى لضرورات الحشد وإن بقيت فيها بعض المسائل معلقة لتناقش مرة بعد أخرى(12).

ثانيًا: لتجاوز عقبة تحريم “الحزبية”: فالتيار الجهادي كان يرفض “الحزبية” ربما لأسباب تتعلق باجتهاده الفقهي الخاص، أو تأثرًا بموقف عموم التيار السلفي أو الوهابي أحد رعاة الجهاد الأفغاني حينها والذي اعتبر “التحزب” من العصبية الجاهلية المحرمة؛ فكان الاجتماع التنظيمي لغرض الجهاد وبذاك يصبح “وجود التنظيم” مرتبطًا بالضرورة بالجهاد، كما أن شرعية “وجود الأمير” مرتبطة بالجهاد، لا بل كل الأداء السياسي مرتبط بالجهاد وهو الذي أعطى الحركات الجهادية معناها ومضمونها، ولكن بقيت عشرات المسائل المتصلة بهذه المسألة معلقة، ألا وهي تعدد الساحات وتعدد الأمراء والصلة بينهم.. إلخ.

فهذه المسائل الثلاث مرشحة دائمًا لأن تتناسل اختلافًا بين الجماعات والرموز الجهادية فهمًا أو تقديرًا، وهذه الثلاث تحتمل سلطة تقديرية تختلف من جهة إلى أخرى، والتشدد فيها تصورًا وإعمالاً وسَّع من صلاحية الجهاديين في تكفير الأعيان من سواهم من الأشخاص والجماعات المخالفة لهم، كما ربط شرعية قيام الجماعة وأميرها بإعلان الجهاد حصرًا، أي: بوجود قتال وأمير قتال أو وجود خليفة طبعًا.

الشطر الثاني: بين سقوط كابول واغتيال بن لادن

ما بين سقوط كابول عام 2001 واغتيال أسامة بن لادن (2 مايو/أيار 2011) جاء سقوط بغداد عام 2003 ليوفر ساحة حرب جديدة مع واشنطن تقاطعت مع حرب تحرير لفصائل عراقية وطنية وإسلامية متعددة انتهت بانسحاب أميركي من العراق في نهاية 2011.

وبالعودة لأهم المميزات التي طبعت هذه المرحلة، فقد امتازت بتعدد الساحات -اليمن والخليج والعراق والمغرب الإسلامي- وبالميل نحو عسكرة الصراع أكثر وعدم الاكتفاء بالعمليات الأمنية التقليدية للقاعدة؛ حيث بدأت فروعها تسيطر على أراض وتتحمل مسؤولية أمنها أو تتحرك فيها بحرية كما هو شأن قاعدة بلاد المغرب الإسلامي أو العراق على سبيل المثال. وفي هذه المرحلة فقدت القاعدة كابول بوصفها المركز والمرجع الذي كان يحتضن التفاعل في الخبرات والآراء والاجتهادات والنقاش ليصبح التشظي في ترجيح فكرة على فكرة أو اجتهاد على اجتهاد منوطًا بالجماعة المسيطرة على الأرض رغم انتمائها جميعًا للفكر الجهادي أو للقاعدة ولكن رمزيًّا في الغالب.

ومن التحولات المؤثرة على التفكير الأيديولوجي لبعض فروع القاعدة في هذه المرحلة، اختلاط العدو القريب والبعيد؛ فأميركا أصبحت عدوًّا قريبًا جغرافيًّا باحتلالها للعراق ومتحالفًا، وبوتيرة متصاعدة على فترات من الزمن، مع عدو قريب آخر يتمثل في الأنظمة العربية الخليجية وإيران، وهذا التحالف بين الأعداء تُرجم في العراق بشكل “صحوات” في البيئة السنية، وميليشيات “طائفية” في الساحة الشيعية. ونتيجة لذلك أخذت فكرة أن “محاربة المرتد أوْلى من محاربة الكافر الأصلي تَشِيع في مواجهة الصحوات”، وفكرة كفر “الروافض” وممالأتهم المحتل تشيع في موجهة “الشيعة” و”الحكم الطائفي ببغداد”.

ويمكن الجزم بأن أهم تطور في مسيرة القاعدة في هذه المرحلة هو فتح جبهات جديدة وأساسية للجهاد بعيدة عن القيادة التي كانت تعيش ظروفًا صعبة وبدا كأن تأثيرها أحيانًا ضعيف على الساحات البعيدة عنها، ولمع أثناءها في العراق نجم أبو مصعب الزرقاوي (أحمد الخلايلة) الذي اختط لنفسه سبيلاً مختلفًا عمَّا اعتادت عليه القاعدة سواء في التفكير أو العمل واستوجب ذلك نقدًا متبادلاً بينه وبين أبي محمد المقدسي (عاصم محمد البرقاوي)(13) الذي كان يوصف بأنه شيخه، وقُتل الزرقاوي الذي كان يوصف بأنه من الجيل الثاني من التيار الجهادي، في يونيو/حزيران 2006 لكنه خلَّف إرثًا جهاديًّا خاصًّا ترك بصماته في الحالة الجهادية العراقية، ويبدو أنها اشتدت وتكرست بعد مقتل ابن لادن واستلام الظواهري زمام القيادة في القاعدة. اتسم نهج الزرقاوي بالإسراف في العنف وبدا أقرب إلى النموذج الجزائري الذي رأت فيه قيادة القاعدة نموذجًا شابته انحرافات ما أفقده الشرعية ففشل، لاسيما وأنه كان يستعدي حاضنته الشعبية؛ فالزرقاوي شكَّل نتوءًا في مسيرة القاعدة أكثر منه تطورًا طبيعيًّا:

عزَّز من “سُنَّة” القتل ذبحًا للمخطوفين والأسرى وبثها للإعلام بقصد الترويع، بل ربما قد يكون أول من جعلها طريقة متبعة في التيارات الجهادية.

بالغ في استهداف السنة من الصحوات أو ممن رضي بأن يكون جزءًا من النظام العراقي الجديد بأي شكل من الأشكال، فضلاً عن إذكاء الصراع والنزاع مع الجماعات الأخرى التي تشاركه الحرب ضد الأميركيين وضد النظام العراقي.

تكفير الشيعة بالجملة واستهداف جمهورهم في العراق دون تمييز بين مدني وغير مدني، بسبب تحالفهم مع أميركا ونتيجة لمطاردتهم المقاومة العراقية ضد الأميركيين من المجاهدين العراقيين والمهاجرين.

تعرض للنقد من قيادة القاعدة، بسبب تكفيره عامة الشيعة واستهدافهم عشوائيًّا وبسبب المبالغة في القتل للسنة إضافة إلى الحروب الجانبية التي أشعلها مع الفصائل الجهادية الأخرى بدلاً من التركيز على المحتل.

وقد قيل الكثير عن الزرقاوي وعدم رضاه التام عن التزام القاعدة وما تعرَّض له من نقد من قبلها أو من قبل بعض منظِّريها، ولكن الأكيد أن وجود أسامة بن لادن كان يشكِّل حصانة تحول دون تعرض التنظيم للانشقاق أو التشظي، بسبب قوته الرمزية التي كانت سببًا أساسيًّا في استمرار الحشد ورفد التنظيم بالدماء، ولكن هذا لم يمنع من أن تسير بعض فروع القاعدة ورجالاتها أحيانًا بعيدًا عن توجيهاته أو أن تفسرها بما يتلاءم مع أوضاعها لاسيما وأنه كان بعيدًا عنها، مع التنويه بأن حضور ابن لادن وقدرته على التواصل قد ضعُفت لأسباب أمنية، وباغتياله يبدو أن القاعدة فقدت قدرًا مهمًّا من حصانتها وقوتها على التأثير والتماسك.

إمارة الظواهري والثورات العربية

كثرت التوقعات بأن القاعدة التي ورثها الظواهري لن تكون كتلك السابقة التي أعلنها ابن لادن، سواء من حيث التماسك أو التفكير أو العمل، بسبب الاختلاف الأساسي بين الشخصيتين؛ فابن لادن شاب نسبيًّا ويمتاز بشخصية كاريزمية وسيرة مؤسِّسة “للتيار الجهادي” منذ مراحله الأولى، أي: قيادة وقدوة، وله شبكة علاقات ومصادر واسعة، في حين امتاز الظواهري بالقدرة التنظيرية خاصة على المستوى التنظيمي، لكنه افتقر للكاريزما فلم يستطع بعد أن استلم مقاليد التنظيم أن يسد الثغرة التي نشأت بغياب ابن لادن، من حيث فرض أو ترجيح خيارات تنظيمية أو فكرية وسياسية لمواجهة المرحلة الجديدة(14).

ورث الظواهري نتوءًا فكريًّا في العراق وساحة جهادية ناشئة وقيد التشكُّل في سوريا، وواجه تصاعدًا سريعًا للأحداث في بقية دول الربيع العربي وسواها التي للقاعدة فيها نصيب كبير أو صغير، فضلاً عن حاجة التنظيم للتصويب والضبط لاسيما مع ما تردد من أن أسامة بن لادن كان عازمًا على إجراء مراجعة لما سلف وتصويب مسار القاعدة(15)، وأن اغتياله حال دون ذلك. ولكنه ورث أيضًا تراثًا جهاديًّا ثريًّا، فالقاعدة لم تعد كما كانت سابقًا يقودها طلاب علم أو من يُطلَق عليهم: “شرعيون”، يفتون للمجاهدين بلا تجارب فقهية، بل أصبح لها منظِّروها كأمثال أبي قتادة الفلسطيني (عمر محمود عثمان) وأبي محمد المقدسي وسواهما ممن يلعبون اليوم دورًا في الدفاع عن شرعيتها.

وكانت الثورات العربية هي التحدي الأبرز الذي طُرِح على الظواهري، لأنها كانت أولها وأسرعها تقلبًا فقد قدمت في مرحلة المد نموذجًا للتغيير بالتظاهر السلمي دون الوقوع في أسر الصراع المسلح بالضرورة (باستثناء سوريا نظرًا لظروفها الاستثنائية)، وأعطت المنهج الإخواني بالتغيير السياسي دفعًا قويًّا حتى التحقت به جماعات سلفية وأسقطت محاذيرها المتعلقة بما يجوز في السياسة أو لا يجوز وأسقطت الكثير من دعاوى التكفير المرتبطة بالعملية الانتخابية وتداول السلطة وما إلى ذلك من آليات الحكم الديمقراطي، ووصل التغيير في مصر مبلغه أن استطاع قيادي إخواني أن يصل إلى الرئاسة، الرئيس محمد مرسي، بتحالف إسلامي واسع ضم إخوانيين وسلفيين وسواهم، هذا فضلاً عن هيمنتهم على الحكومة والبرلمان. وهذا قبل أن تأتي مرحلة الانحسار للثورات العربية من خلال الانقلاب في مصر ودخول معظم دول الربيع العربي في براثن الصراع الداخلي والفوضى، ما خلا تونس.

حتمًا تفاجأت القاعدة في مرحلة المد كما سواها بالنجاح المتسارع للثورات في إسقاط الأنظمة، حتى إنها تأخرت في التعليق نسبيًّا على الأحداث الجارية، كما فقدت مؤسسها في الفترة التي كانت تحاول الإجابة على الأسئلة التي طرحها نجاح الثورات كما بدت في بادئ الأمر، وعندما أجابت حاولت أن تنظُمَ “الثورة السلمية” في سياق الآليات التي تلتمسها القاعدة ولا ترفضها باعتبارها إحدى الخطوات نحو التغيير الشامل كما جاء في بيان تعيين الظواهري خلفًا لأسامة بن لادن؛ حيث أعلنت تأييدها من حيث المبدأ للثورات، ومما جاء فيه: “نؤيد ونساند انتفاضة شعوبنا المسلمة المظلومة المقهورة في وجه الطغاة…. ونحرضهم ونحرض باقي الشعوب المسلمة على الانتفاض والاستمرار في الكفاح والبذل… إلى أن يأتي التغيير الحقيقي” بإقامة حكم الشريعة.

بل أضاف بُعدًا آخر يقترب من لغة الثورة الإسلامية في إيران أو اليسار العالمي؛ حيث أكَّد البيان أن “التغيير لن يتحقق إلا بتخلص الأمة من كافة أشكال الاحتلال والهيمنة والسيطرة العسكرية والاقتصادية…”، وأعلن عن تعاطف القاعدة مع “معاناة المظلومين” وأن جهادها “ضد الاستكبار الأميركي مآله رفع الظلم عنهم”. ونجد ما بُثَّ من كلمات للظواهري مشحونًا بالخوف على الثورات من الالتفاف الأميركي عليها لاسيما الثورة المصرية، وأن واشنطن تبحث عن بديل لمبارك بعد أن استهلكته، كما حذَّر من المجلس العسكري ومن الدور الانقلابي الذي يمكن أن يلعبه. وبعد الانقلاب يمكن تلمُّس موقف واضح إلى جانب الرئيس مرسي وإن استعمل لغة دينية متحفظة على “نهج الإخوان” لكنها عكست تعاطفًا لم يُعهَد في كلام القاعدة مع الإخوان(16).

النزاع بين الدولة والقاعدة

إن السبب المباشر الذي أدى لإعلان الفُرقة بين القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية هو موقف الظواهري من الخلاف بين أبي محمد الجولاني وأبي بكر البغدادي (إبراهيم عواد البدري)؛ حيث أقرَّ الجولاني على إمارة جبهة النصرة في الشام، وحصر صلاحية عمل تنظيم الدولة في العراق وكلَّف أبا خالد السوري محمد بهايا -رفيق دربه وابن لادن- بالتوسط والفصل بين الطرفين، فرفض التنظيم ابتداء انتداب أبي خالد وهدده ليُقتلَ هذا الأخير بعملية انتحارية رأت القاعدة أن تنظيم الدولة وراءها ما أشعل حربًا بين الطرفين في سوريا(17) (18)، وانطلقت مذاك الحرب الإعلامية والشرعية بين الطرفين وشاع اتهام القاعدة للتنظيم بأنهم خوارج “وأحفاد ابن ملجم”، في حين اتهم تنظيم الدولة القاعدة بأنهم غيَّروا وأن التنظيم لم يتغير، وأعلن في هذا السياق من الخلاف عن تنصيبه لأبي بكر البغدادي خليفة ومرجعًا لكل المسلمين ولكل التيارات الجهادية، في خطوة لسحب البساط من تحت قدمي القاعدة والظواهري، أي: سحب الشرعية من تنظيم القاعدة، باعتبار أن منصب “الخلافة” هو إمارة عامة وهي لأمير تنظيم الدولة، ويعلو على منصب “أمير القتال” أي: أمير القاعدة الظواهري، ولينقل مركز العمل الجهادي وصناعته ثقافة ورؤية وتطبيقًا، إلى الموصل وحاكمها الجديد.

أما الخلاصة التي يمكن تكثيفها في الخلاف الأيديولوجي الذي نشأ بين الفصيلين، فبالنسبة للقاعدة:

تتهم تنظيم الدولة بالمبالغة في التكفير وعدم أهليته لتنزيل الأحكام الشرعية موضعها، وأن “الشرعيين” الذي يقودونه “حدثاء الأسنان” لا يفقهون تنزيل “كفر النوع” على “العين”، سواء في حق المسلمين من أهل السنة أو من أصحاب المذاهب الأخرى.

تتهمه بأنه يُكفِّر عمليًّا مخالفيه من التنظيمات الجهادية الأخرى بسبب الاختلاف معهم وكأنه هو جماعة المسلمين دون غيرهم، وأنه يستهين بالدماء ويبالغ في قتل كل من خالفه من المسلمين(19) (20).

ترى أن البغدادي أعلن الخلافة من دون تمكين، وأنه اقتصر على بيعة بعض من تنظيمه في العراق وكانت من غير شورى المسلمين، وأن أبا بكر البغدادي مجهول غير معلوم، وغير ذلك مما تحمله كتب الفقه من نواقض أو شروط ينتقص عدم توفرها من خلافة البغدادي، ويرى أن كل بيعة أُعطيت للبغدادي لاسيما من بعض التيارات الجهادية هي باطلة ولا صحة لها(21).

أما بالنسبة للتنظيم فمن أبرزها:

قبول الظواهري عمليًّا بالديمقراطية التي هي كفر بواح، وإقراره للثورات العربية ونهجها “السلمي في التغيير”، وهو نهج الإخوان الذي فرَّت منه القاعدة بل وُجدت لتكون بديلاً له.

وقوف الظواهري إلى جانب “الطاغوت” الرئيس محمد مرسي -بعد دخوله السجن- الذي قبل بالديمقراطية، وعدم تكفيره له، لا بل شكره، أي: الظواهري، مرسي لمَّا أعلن الأخير عن عزمه العمل لاستعادة الشيخ عمر عبد الرحمن من سجون أميركا، والتنظيم يقول بأن منهج القاعدة نفسه يقول “بكفر من يتحاكم للطاغوت”، أي: الديمقراطية في هذا العصر، وأن القاعدة بقيادة الظواهري لا تكفِّر كُبَراء الإخوان وهم “شَرٌّ من العلمانيين” كما وصفهم أبو محمد العدناني (طه صبحي) الناطق باسم التنظيم(22).

تلبُّس القاعدة بمذهب الإرجاء والجهمية، أي: إنها لا تكفِّر من وجب تكفيره من “المسلمين” الذي اقترفوا أعمالاً تخرجهم من الدين، وذلك في معرض الرد على تهمة القاعدة للتنظيم بأنه يكفِّر المسلمين ويقتلهم لأنهم خالفوه في بعض الأمور الاجتهادية أو لأتفه الأسباب.

استعمل التنظيم “وصف” السرورية في معرض ذمِّه للقاعدة، أي: إنها استحالت تشبه تيار محمد سرور زين العابدين الذي جمع بين “العمل السياسي” ومشروعيته وفق المنطق الإخواني إضافة إلى خصالهم في التعامل مع المخالف، ويلتزمون السلفية في الاعتقاد، وهذه “المذمة” بهذا الوصف للقاعدة يُقصد بها اشتغال الأخيرة بالسياسة والسلمية أكثر من الجهاد.

والخلاصة، أن تنظيم الدولة يعتمد نفس مقولات القاعدة وإن كان يختلف معها ببعض الترجيحات التي قد تكون شائعة في القاعدة وبنسب متفاوتة، لكنها لم تحظ بالصدارة أو لم تعتمدها القيادة باعتبارها تحتمل الاختلاف. ولكن الخلاف الأعظم بين الطرفين، إذا استثنينا الخلاف الشخصي والتنظيمي، هو في فهم الأحكام وتنزيلها وهو ما سيترتب عليه اختلاف عظيم في المستقبل، وهو ما اختصره من أطلق على نفسه اسم: أبو القاسم الوحشي الأصبحي، في رسالة له سمَّاها: “التبَينُ حُلَّةُ المُتَيَقن” يرد بها على رسالة لأبي محمد المقدسي قصد بها النكير على المبالغين في التكفير “الإنصاف حلة الأشراف, والأشراف أقل الأصناف”؛ حيث قال: “ونحن لا ننكر التأصيل الذي أصَّله ولكننا ننكر التنزيل الذي نزَّله”.

فتنظيم الدولة استوفى المعاني الأشد في تنزيله للقواعد التي لجأت إليها القاعدة -اعتمدتها حينها لتنسف شرعية التيارات السياسية الإسلامية الأخرى ولتعزز من الأصول الشرعية للتيار الجهادي- وبإعلانه الخلافة يأمل بأن يضفي الشرعية على ما تجاوز به في تنزيله للأحكام وما أنكره شرعيُّو القاعدة ومنظِّروها عليه -باعتبار أنها خيار خليفة وليست رأيًّا فقهيًّا فحسب-. كما سيحيي سننًا ماتت مثل السبي والغنيمة فضلاً عن إقامة الحدود وما إلى ذلك، كما سيجعل من “دولته” موضع هجرة الجهاديين لينصروه في المنهج الذي ارتضاه والحرب التي قررها، أي: إن المنطقة أمام محاولة لإرساء قاعدة جديدة للجهاد أشدّ وأمرّ.

المستقبل الأيديولوجي للتنظيم

إن مستقبل الأيديولوجيا التي يدشنها تنظيم الدولة الإسلامية يتوقف في تجذرها وتمكنها على الحرب الدولية التي تخاض ضده، وهناك احتمالان، الأقرب منهما أن يُحجَّم التنظيم أو يُهزَم فسيكون مستقبله أشبه بما آلت إليه دولة طالبان تنظيميًّا، وسيكون أيديولوجيًّا حركة جهادية منشقة تُصنَّف على يمين القاعدة، وسيدخل بنزاع مع هذه الأخيرة التي لها شقيقات ومنظِّرون في العالم وتحظى بشرعية تاريخية وبخطاب متماسك بالقياس إلى تنظيم الدولة.

ولكن وفق هذا السيناريو ستدخل أيديولوجيا التيارات الجهادية عمومًا ومنها تنظيم الدولة في نفق المراجعات كما سبق وحصل مع التيارات الجهادية في مصر وليبيا وسواهما، لأن تنظيم الدولة وصل بالأفكار التي زرعتها التيارات الجهادية وخاصة القاعدة إلى أعلى مستويات الإشباع، وفي لحظة كانت الشعوب العربية تتجه بخلاف قبلة هذا التيار.

وبتعبير آخر وأكثر تحديدًا بدا تنظيم الدولة وكأنه في حركة معاكسة تمامًا لما جاءت به الثورات العربية التي وصلت بمقياسه إلى قمة “الفكر الإرجائي والجهمي” -الذي يحذر- مع وصول الإخوان المسلمين إلى الحكم. وإذا تجاوزنا سباقه مع القاعدة فكأنه في سباق مع ما جاءت به الثورات، فكان رده على “التغيير السلمي” الذي جاءت به الثورات باعتماد التغيير “بالجهاد”، فأطلق أقصى طاقته في هذا المضمار واستعان بالنسخة الجهادية الأكثر ضرواة وبأقسى صورها، فكان في قمة الدموية وقمة الاستبداد ليقيم دولته ولو على عَجَل، وكأنه يستدرك خطأً كاد يسمح بقيام “نموذج ناجح” ينهي التيار الجهادي ويدخله المحتوم وهو المراجعات.

ولكن لا سبيل له إلى الفكاك من هذا المصير، لا بل قد بدأت هذه المرحلة بالفعل، فهناك حرب كلامية بين القاعدة وتنظيم الدولة إلى جانب الحرب التي يخوضها الجهاديون ضد أعدائهم الحقيقيين وضد بعضهم البعض، حول كل شيء، وحول صحة الخلافة التي أُعلنت والأحكام التي تُنفَّذ والدماء التي تُستباح، ويرمون بعضهم بكل ما جاء في بطون الكتب وما أنتجتها تجربتهم من اتهامات: “مرجئة” “خوارج” “مرتدون”. ولا يمكن استبعاد أن نشهد حركات تجمع بين الإرث الجهادي للقاعدة والإرث السياسي للحركات السياسة المحافظة والإخوان المسلمين، وذلك في مواجهة الظلم والاستبداد والاحتلال، لاسيما وأن الميدان العربي لا يزال مفتوحًا، وهناك تجارب تُصنع ومعارك تخاض.

أما الاحتمال الآخر، وهو الأبعد، أو ما يُسمَّى احتمال البجعة السوداء، أن ينجو التنظيم من هذه الحرب وتستمر دولة الخلافة التي أعلنها ولو على بقعة ما من أراضي المنطقة كجزء من خرائط جديدة أو أن تسمح التوازنات الإقليمية والدولية بها، فإنها ستكون حينها دولة لنموذج سلفي أكثر راديكالية على الصعيد الداخلي لكنها قادرة على التعايش مع النظام الدولي وشروطه وتؤدي بعض أغراضه وقد يكون الدور الطائفي الموازن لإيران خاصة أيديولوجيًّا منها، وعندها ستكون معاول السياسة قد هذبتها بما يكفي لتكون أقل تطرفًا نسبيًّا.

___________________________________

شفيق شقير – باحث متخصص في المشرق العربي والحركات الإسلامية

 

المصادر

اعتمد الكاتب في إعداد هذا التقرير على تجربته الخاصة في تغطية أحداث أفغانستان عن قرب منذ عام 1992 إلى عام 1998، وعلى تغطية حرب العراق بعد سقوط بغداد التي زارها عام 2004، فضلاً عن متابعته للتيارات الجهادية وإنتاجها. كما اعتمد على مجمل إرث القاعدة وتنظيم الدولة المتوفر على الإنترنت المكتوب والصوتي والمرئي، بخاصة قادة القاعدة الثلاث: عبد الله عزام وابن لادن والظواهري، إضافة إلى الناطق باسم تنظيم الدولة أبي محمد العدناني. وكل روابط الإنترنت كانت فاعلة إلى 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2014.

1- يمكن الاطلاع استئناسًا على: عبد الله كمال، سلسلة الرايات السود، صحيفة الشرق الأوسط، مايو/أيار 2002،

http://classic.aawsat.com/details.asp?issueno=8555&article=100961

http://classic.aawsat.com/details.asp?issueno=8556&article=101142

http://classic.aawsat.com/details.asp?issueno=8558&article=101495

http://classic.aawsat.com/details.asp?issueno=8559&article=101638

http://classic.aawsat.com/details.asp?issueno=8560&article=101807

2- انظر حول هذا الرأي: بشير نافع، الإسلاميون، الفصل الثالث عشر، العنف العابر للقارات، مركز الجزيرة للدراسات، طبع الدار العربية للعلوم ناشرون، ص205 وما بعدها.

3- يمكن الاطلاع استئناسًا على: محمد الشافعي وما نقله عن أبي الوليد المصري حامد مصطفى، سلسلة ثرثرة فوق سقف العالم، صحيفة الشرق الأوسط، أكتوبر/تشرين الأول 2006.

http://classic.aawsat.com/files.asp?fileid=25

ويمكن العودة لموقع حامد مصطفى على الرابط أدناه:

http://www.mustafahamed.com/

4-   انظر: حوار منقول للأمير تركي الفيصل الرئيس السابق للاستخبارات العامة في السعودية وما جاء فيه عن أسامة بن لادن، 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2001،

http://classic.aawsat.com/details.asp?article=65453&issueno=8381

5- رؤية تحليلية لمراجعات الجماعات الجهادية، 8 فبراير/شباط 2012، موقع السكينة،

http://www.assakina.com/center/files/12767.html

6- انظر: موقع آفاق، سوري من الأفغان العرب يحكي تفاصيل احتكاكه بالإرهابيين الجزائريين، 13 إبريل/نيسان 2008،

http://www.aafaq.org/news.aspx?id_news=5003

والسوري المراد هو أبو مصعب السوري، وما نشره بعنوان: مختصر شهادتي على الجهاد في الجزائر، ويمكن الاطلاع على النص استئناسًا نقلاً عن أحد المنتديات،

http://benbadis.org/vb/showthread.php?t=12270

7- انظر: محمد الشافعي وما نقله عن أبي الوليد المصري حامد مصطفى، ثرثرة فوق سقف العالم- منظِّر الأفغان العرب: «الخليفة» كفَّر من لم يبايعه وهدَّد عرب باكستان بأنه سوف يسبي نساءهم، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2006،

http://classic.aawsat.com/details.asp?issueno=10193&article=388935

8- انظر كنموذج حول موقف أبرز رموز التيار السلفي من الأحزاب والتحزب موقع السكينة، الْحِزْبِيَةُ هِيَ الْفِتنَةُ فَاعْرِفُوْهَا، 27 مايو/أيار 2011،

http://www.assakina.com/taseel/8056.html

9- انظر التناوب بين العدو القريب والعدو البعيد بهدف الاستمرار، في كتاب مراد بطل الشيشاني، تنظيم القاعدة: الرؤية الجيوسياسية والاستراتيجية والبنية الاجتماعية، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2012، ص25 وما بعدها. وانظر استراتيجية الزرقاوي العسكرية المتدحرجة، بملاحقة الأميركيين من أفغانستان إلى العراق تمهيدًا للوصول إلى فلسطين في “الزرقاوي: الجيل الثاني للقاعدة” لفؤاد حسين، دار الخيال 2005، 44-45.

10- الكتب كثيرة حول هذا المبحث، ولكن للاقتراب أكثر من تفكير القاعدة، يمكن الاطلاع على فيديو مصور لأبي قتادة الفلسطيني، الجواب المفيد لأسئلة التوحيد أبو قتادة الفلسطيني 3/4، تم نشره في 3 ‏ديسمبر/كانون الأول 2012،

http://www.youtube.com/watch?v=YQFKs81s4os

11- انظر على سبيل المثال: أبو محمد المقدسي في رسالته بعنوان: شبهة؛ إعذار طواغيت الحكم بالجهل والإكراه، موقع منبر التوحيد والجهاد، بلا تاريخ،

http://www.tawhed.ws/r?i=rv8duxmp

والمقدسي هو صاحب الكتاب الشهير “مِلَّة إبراهيم ودعوة الأنبياء والمرسلين”، وهو العمدة لدى التيارات الجهادية ومنها تنظيم الدولة نفسه الذي يحاجج المقدسي بكتابه هذا في تبرير تكفيره لبعض الجماعات المخالفة كالإخوان. انظر الكتاب، موقع منبر التوحيد والجهاد، بلا تاريخ،

http://www.tawhed.ws/r?i=iti4u3zp

12- موقف الجهاديين من الإمارة لا يزال يقترب مما أورده سيد إمام في الباب الثالث من كتابه العمدة في إعداد العدة، وجوب الإمارة لوجوب الجهاد ولو خلا الزمن من خليفة.

13- انظر نص مقابلة أبي محمد المقدسي مع قناة الجزيرة، موقع الجزيرة نت، لقاء اليوم، أبو محمد المقدسي: السلفية الجهادية، 10 يوليو/تموز 2005،

http://www.aljazeera.net/programs/today-interview/2005/7/10/%d8%a3%d8%a8%d9%88-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%85%d9%82%d8%af%d8%b3%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%84%d9%81%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ac%d9%87%d8%a7%d8%af%d9%8a%d8%a9

وعلى اليوتيوب على الرابط أدناه:

http://www.youtube.com/watch?v=z3QBKvkLv-o

وانظر نص رد الزرقاوي على المقدسي في مدونة الهجرة إلى التوحيد على الرابط أدناه:

http://ak-ma.blogspot.com/2013/03/blog-post_9.html

14- انظر موقع الجريدة الإلكتروني، ترجم دراسة أميركية لمركز مكافحة الإرهاب في وست بوينت، ونشرها على حلقات ابتداء من 16 يناير/كانون الثاني 2008، والروابط أدناه،

http://www.aljarida.com/news/index/216897/

http://www.aljarida.com/news/index/217241/

http://www.aljarida.com/news/index/217576/

http://www.aljarida.com/news/index/217833/

http://www.aljarida.com/news/index/218104/

15- انظر وثائق أبوت آباد في موقع مكافحة الإرهاب في وست بوينت، 3 مايو/أيار 2014،

LETTERS FROM ABBOTTABAD: BIN LADIN SIDELINED? 3/5/ 2012

Author(s): Don Rassler, Gabriel Koehler-Derrick, Liam Collins, Muhammad al-Obaidi, Nelly Laho

https://www.ctc.usma.edu/posts/letters-from-abbottabad-bin-ladin-sidelined

وانظر ياسر الزعاترة، صورة ابن لادن في وثائق “أبوت آباد”،10 مايو/أيار 2012، الجزيرة نت،

http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2012/5/10/صورة-بن-لادن-في-وثائق-إبت-آباد

16- انظر حول تراجع القاعدة أمام موجة الثورات على سبيل المثال: محمد أبو رمان، أيديولوجيا القاعدة ومحاولة “التكيف” مع الثورات العربية، الأهرام الرقمي نقلاً عن السياسة الدولية، يوليو/تموز 2011،

http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=643521&eid=6738

محمد الشنقيطي، تراث ابن لادن في زمن الثورات، الجزيرة نت، 4 مايو/أيار 2011،

http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2011/5/4/%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AB-%D8%A8%D9%86-%D9%84%D8%A7%D8%AF%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%AA

17- انظر مقتل أبي خالد السوري وسيط القاعدة، صحيفة الحياة، 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2014،

http://www.alhayat.com/Articles/752220/-%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%A9–%D9%82%D9%8F%D8%AA%D9%84-%D8%A8%D8%B1%D8%B5%D8%A7%D8%B5%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%B5%D8%AF%D8%B1%D9%87-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A3%D9%86-%D9%8A%D9%81%D8%AC%D9%91%D8%B1–%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D9%86–%D8%AD%D8%B2%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%86-%D9%86%D8%A7%D8%B3%D9%81%D9%8A%D9%86-%D8%A8%D9%85%D9%82%D8%B1–%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AD%D8%B1%D8%A7%D8%B1-

وللمزيد انظر: وليد غانم، من هو أبو خالد السوري؟، 24 فبراير/شباط 2014، موقع كلنا شركاء،

http://www.all4syria.info/Archive/132991/

18- حول نزاع الطرفين، انظر: محمد أبو رمان، قراءة في أبعاد الخلاف بين الظواهري والبغدادي، 22 مايو/أيار 2014، الجزيرة نت،

http://www.aljazeera.net/knowledgegate/opinions/2014/5/22/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A3%D8%A8%D8%B9%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B8%D9%88%D8%A7%D9%87%D8%B1%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%BA%D8%AF%D8%A7%D8%AF%D9%8A

19- من ذلك على سبيل المثال كتاب أبي مارية القحطاني أحد شرعيي جبهة النصرة “البراهين الفاضحة في جهل الغلاة” ويقصد به تنظيم الدولة.

20- انظر على سبيل المثال: المحاججة بين الطرفين، تسجيل صوتي لأبي محمد العدناني، “عذرًا أمير القاعدة” تم نشره في 11‏ مايو/أيار 2014، ، مؤسسة الفرقان،

http://www.youtube.com/watch?v=6Ri71R9QeFA

وانظر الرد بفيديو للقاعدة بعنوان: الإصدار الملجِم: رد افتراءات العدناني على الشيخ الظواهري، تم نشره في 2 يونيو/حزيران 2014،

http://www.youtube.com/watch?v=70D1Ezko7rw

21- رد تنظيم الدولة بكثافة على الانتقاص أو نقض خلافة البغدادي؛ فمن ذلك على سبيل المثال: القول الصافي في صحة بيعة سليل آل النبوة أبي بكر القرشي الحسيني البغدادي ثم السامرائي، لأبي الزهراء الأثري. وآخر بعنوان: مد الأيادي لبيعة البغدادي لأبي همام الأثري.

22- انظر موقف التنظيم من الربيع العربي والإخوان والسلمية ويختصر الخلاف مع القاعدة على اليوتيوب، كلمة صوتية للشيخ أبي محمد العدناني ثبَّته الله بعنوان: السلمية دين مَنْ؟، تم نشره في 31 يناير‏/كانون الثاني 2013، مؤسسة الفرقان،

http://www.youtube.com/watch?v=9N2yVA8zdfc

ويمكن الاطلاع على النص المفرغ للكلمة على الرابط أدناه:

http://www.muslm.org/vb/showthread.php?518885-%D8%AA%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%BA-%D9%83%D9%84%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D8%A7%D9%87%D8%AF-%D8%A7%D8%A8%D9%88-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%89-%D8%AD%D9%81%D8%B8%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8F-%D9%85%D9%86-%D8%9F

 

البناء الهيكلي لتنظيم “الدولة الإسلامية”/ حسن أبو هنية

ملخص

منذ سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل في يونيو/حزيران 2014، أثيرت جملة من الأسئلة حول الأسباب الكامنة خلف ما حققه من انتصارات عسكرية مذهلة، سواء كانت على جيوش نظامية، أو فصائل معارضة مسلحة.

حاولت هذه الدراسة الاقتراب من أحد مصادر قوة التنظيم المتعلقة بالبناء الهيكلي للتنظيم، والكشف عن قدراته وكفاءته في المجال العسكري، والاقتصادي، والأمني، والإعلامي، وقامت بتتبع تحولات البنية الهيكلية للتنظيم، منذ نشأته المبكرة كشبكة جهادية، ثم تأسيس “جماعة التوحيد والجهاد”، مرورًا بالانتماء للقاعدة، وصولاً إلى الإعلان عن تنظيم دولة العراق الإسلامية، ثم الصيغة الراهنة التي تطورت مع مرحلة إعلان الخلافة.

وبيَّنت الدراسة تطور البناء الهيكلي؛ إذ انتقل التنظيم نحو الصيغة المؤسسية التي تحاكي ما جاء في أدبيات التراث السياسي الإسلامي، مع الإعلان عن إقامة الدولة الإسلامية في العراق، بعد مقتل الزرقاوي، كما أن الطفرة الحقيقية حدثت، مع تولي أبي بكر البغدادي؛ إذ تم تطوير عمل الأجهزة المختلفة وتأطيرها مؤسسيًّا ومنحها مهمات محددة ودقيقة تجمع ما بين طبيعة المؤسسات في الدولة المعاصرة وأدوارها الوظيفية من جهة، وطبيعة التنظيم وظروف عمله، التي تمتاز بدرجة أكبر من التعقيد والغموض من جهة أخرى، وهو ما جعلنا أمام حالة هجينة وخاصة تُزاوج بين صورة الدولة والتنظيمات السرية في الوقت نفسه.

مقدمة

أثارت القدرات، التي أظهرها تنظيم الدولة الإسلامية، منذ سيطرته على مدينة الموصل في يونيو/حزيران 2014، جملة كبيرة من الأسئلة حول الأسباب والعوامل، التي يعتبرها البعض أسرارًا وألغازًا؛ فيما حققه من انتصارات عسكرية خاطفة على خصومه، سواء كانت جيوشًا نظامية، كما هي حال الجيش العراقي الذي انهارت أربع فرق عسكرية لديه أمام مقاتلي التنظيم بسهولة فائقة في عدة مدن ومحافظات عراقية، وكذلك الجيش السوري، الذي انهارت قواته في محافظة الرقة كما حدث مع الفرقة 17، ومطار الطبقة العسكري؛ الأمر الذي تكرر بانهيار قوات البشمركة الكردية أمام تقدم جنود تنظيم الدولة، قبل أن تتدخل القوات الجوية الأميركية في الثامن من أغسطس/آب، فضلاً عن تراجع فصائل مسلحة منافسة في سوريا كالجيش الحر والجبهة الإسلامية وجبهة النصرة وغيرها من القوى الإسلامية المسلحة، رغم ضربات التحالف الدولي ضد التنظيم في سوريا بدءًا من 22 سبتمبر/أيلول الماضي.

لم تقف قدرات التنظيم وكفاءته عند المجال العسكري، فحتى في الجانب الاقتصادي، أصبح يمتلك موارد مالية هائلة، تتجاوز التنظيمات الجهادية والإسلامية الأخرى قاطبة، ما يشي بأن هنالك جهازًا محترفًا هو الذي يدير هذا القطاع المهم والأساسي في نجاح أي عمل تنظيمي أو مؤسسي.

والحال كذلك في المجال الأمني؛ إذ نفَّذ التنظيم عمليات تتطلب مستوى عاليًا من الاحتراف والمعلومات الاستخبارية الدقيقة، كما حدث في الموصل، أو الاغتيالات، التي طالت قيادات في الأطراف المتصارعة معه، أو حتى تأمين حماية قياداته العليا، في الوقت الذي تترصدهم أهم الأجهزة الاستخباراتية العالمية والإقليمية والأقمار الصناعية وأجهزة التنصت المتطورة تمامًا.

ليس ذلك فحسب، بل في المجال الإعلامي، أيضًا، فاق التنظيم ما وصلت إليه فصائل السلفية الجهادية والعديد من الفصائل الإسلامية في القدرة على توظيف شبكة الإنترنت للتجنيد والدعاية والتعبئة والإعلام، وفي إنتاج أفلام على مستوى عال من الجودة التقنية، باللغتين العربية والإنجليزية، ومجلات متطورة، وأصبح إنتاجه الإعلامي مجالاً للدراسة والبحث من قبل المتخصصين في هذا المجال.

تحاول هذه الدراسة الوقوف عند تحولات البنية الهيكلية لتنظيم الدولة الإسلامية، منذ المرحلة المبكرة، عندما كان يُطلق عليها “جماعة التوحيد والجهاد”، مرورًا بالانتماء للقاعدة، وصولاً إلى الإعلان عن تنظيم دولة العراق الإسلامية، بعد مقتل الزرقاوي، ثم الصيغة الراهنة التي تطورت مع مرحلة أبي بكر البغدادي، وإعلان الخلافة.

يتمثل الهدف من دراسة البناء التنظيمي الداخلي، والغوص داخل بنى التنظيم وأجهزته وأقسامه في استكشاف الديناميكيات والمؤسسات، التي تقف وراء هذه القدرات والمهمات، وما تتوافر عليها من كفاءات ووظائف، ما قد يمنحنا زوايا من تفسير هذا المستوى الاحترافي في عمله في مجالات متعددة.

1- بنية جماعة التوحيد والجهاد

غداة احتلال الولايات المتحدة للعراق 2003، عمل الزرقاوي على إعادة بناء شبكته الجهادية، بالاعتماد على نواتها الصلبة التي تشكَّلت في هيرات، فأحاط نفسه بمجموعة من أشد المخلصين له. ومن أبرز الشخصيات التي كانت معه: أبو حمزة المهاجر، وهو مصري تولى إمارة التنظيم بعد مقتل الزرقاوي، وأبو أنس الشامي، وهو أردني كان أول مسؤول شرعي للجماعة، ونضال محمد عربيات، وهو أردني من مدينة السلط يعتبر خبيرًا بالمتفجرات، ومسؤول عن معظم عمليات تفخيخ السيارات التي تبنتها الجماعة، ومصطفى رمضان درويش (أبو محمد اللبناني)، وهو لبناني الجنسية، وأوراس أبي عمر الكردي، وثامر العطروز الريشاوي، وهو ضابط عراقي سابق، وعبد الله الجبوري (أبو عزام) وهو عراقي، وعمر حديد (أبو خطاب) وهو عراقي أيضًا، ومحمد جاسم العيساوي (أبو الحارث)، وهو عراقي كذلك، وأبو ناصر الليبي، وأبو أسامة التونسي، وقد قُتل جميع هؤلاء عام 2003، باستثناء أبي عزام الذي قُتل عام 2005. ومن الأردنيين الذين كانوا موضع ثقة الزرقاوي: موفق عدوان، وجمال العتيبي، وصلاح الدين العتيبي، ومحمد الصفدي، ومعاذ النسور، وشحادة الكيلاني، ومحمد قطيشات، ومنذر شيحة، ومنذر الطموني، وعمر العتيبي(1).

اعتمد الزرقاوي في بناء شبكته وتنظيمه، أيديولوجيًّا وفكريًّا وفقهيًّا، على مرجعية شيخه أبي عبد الله المهاجر(2)؛ فقد كان له الأثر المباشر في بناء عقيدته القتالية ونهجه الفقهي.

شهدت شبكة الزرقاوي تطورًا وازدهارًا لافتًا، من دون استخدام تسمية محددة والالتزام بهيكلية تنظيمية واضحة، وبحسب أبي أنس الشامي: كان الزرقاوي ينتظر أن تقوم جماعة عراقية بالإعلان عن نفسها ومن ثم يعمل معها ومن خلالها، إلا أن الشامي اقترح تشكيل هيكلية للجماعة، باسم “التوحيد والجهاد”، وقد تردد الزرقاوي لفترة بذلك؛ إذ كان يعمل من خلال مجلس شورى لشبكته من المقربين إليه، ثم اقتنع بالإعلان عن الجماعة، فبدأت جميع البيانات والإصدارات المسموعة والمرئية والمقروءة تصدر باسم الجماعة(3).

تم تشكيل هيكلية محددة بقيادة الزرقاوي ومجلس شورى للجماعة، ولم يكن معينًا في هذه الفترة أي نائب للزرقاوي، وتأسست لجانٌ عدة، أهمها: اللجنة العسكرية، والإعلامية، والأمنية، والمالية، والشرعية العلمية، وقد ترأَّس أبو أنس الشامي(4) اللجنة الشرعية وكان أول مسؤول شرعي للجنة، وذلك أواخر شهر سبتمبر/أيلول عام 2003.

2- الهيكل التنظيمي لقاعدة الجهاد في بلاد الرافدين

عقب ثمانية أشهر من الاتصالات بين “التوحيد والجهاد”، وتنظيم القاعدة، خضع التنظيم المركزي أخيرًا لشروط الزرقاوي على مضض، دون أن يتنازل الزرقاوي عن استراتيجيته ونهجه، فأعلن عن بيعته لأسامة بن لادن في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2004، وإلغاء العمل باسم جماعة التوحيد الجهاد، وتأسيس “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”(5).

توسع التنظيم في عهده، وتميزت هيكليته بالمرونة، فلا يوجد ثبات بالمطلق. كان الزرقاوي يمسك جميع خيوط التنظيم بقبضة حديدية، وقد بدأ -لاحقًا- بنقل بعض صلاحياته للمحافظة على هيكلية التنظيم خشية قتله؛ إذ أعلن التنظيم عن اسم نائب أمير التنظيم، أبي عبد الرحمن العراقي، وسلَّم قيادة التنظيم إلى العراقيين، وأصبحت هيكليته أكثر وضوحًا من السابق.

يعتبر منصب نائب الأمير، الذي تولاه أبو عبد الرحمن العراقي، حدثًا جديدًا انبثق من ضرورات الواقع للحفاظ على سلامة التنظيم؛ إذ كان هذا النائب يقوم بكل الأعمال إلى جانب الزرقاوي، ويطَّلع على الأمور المتعلقة بالتنظيم وسير عمله، وقد أوكل إليه الزرقاوي مهمة الاتصال بالعراقيين بشكل مباشر، وحافظ هو على الاتصال مع المقاتلين المتطوعين من خارج العراق، كما يشرف نائب الأمير على احتياجات اللجان المنبثقة عن التنظيم.

أما الجناح العسكري فتولاه أبو أسيد العراقي، وهو المسؤول الأول عن الكتائب والسرايا والمجموعات، العاملة والتنفيذية والمساندة، التابعة للتنظيم، وكذلك تم الإعلان عن تشكيل فيلق عمر في مواجهة فيلق بدر الشيعي. وأصبحت التشكيلات العسكرية تتبع نهجًا محددًا في اختيار الأهداف، يجمع بين المركزية واللامركزية؛ ففي معظم العمليات الصغيرة لا تحتاج المجاميع المنتشرة من سرايا ومجموعات في مختلف المناطق إلى أمر مباشر وهي متروكة لاجتهادات القادة الميدانيين، بالتنسيق مع قادة الكتائب وأمراء المناطق.

وانبثق عن الجناح العسكري كتائب وسرايا ومجموعات، سُمِّيت بأسماء مختلفة، بعضها حمل أسماء الخلفاء الراشدين، مثل كتيبة “أبو بكر الصديق”، وفيلق “عمر”، وكتيبة “ابن الخطاب”، وبعضها اسم بعض قادة القاعدة في جزيرة العرب، مثل: كتيبة “عبد العزيز المقرن”، أو أسماء بارزة في التنظيم، مثل: “أبو أنس الشامي”، و”أبو عزام العراقي” (عبد الله الجوري)، أما الكتائب الأخرى فحملت الاسم نفسه الذي حملته قبل الانضمام إلى تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين في العراق، مثل: كتيبة الرجال. وكانت كتيبة الاستشهاديين تعتبر إحدى أهم الكتائب في تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين.

وهناك عدة كتائب رئيسية وعلاقتها مع القيادة العليا للتنظيم، مثل: كتيبة الأمن والاستطلاع، ومهمتها فحص دقيق للأعضاء الجدد المنتسبين للتنظيم، وجمع المعلومات عن الأشخاص والأماكن والأهداف المنتخبة للعمليات، وطرق قوات الاحتلال، والشركات المساندة لها من ناحية أمنية أو لوجستية، وتوجهات القوات الأميركية، وتكتيكاتها العسكرية، والخطط المستقبلية لها وللحكومة، والعمل على تجنيد العملاء داخل قوات الحرس الوطني والشرطة وشركات المقاولات العاملة، وشركات النقل، وغيرها من الوظائف المهمة الحساسة.

أما الهيئة الشرعية فكانت تقوم بإجراء الدراسات والأبحاث اللازمة للجماعة، والرد على كل الشبهات الشرعية التي يحتاجها التنظيم في نشر معتقداته وأفكاره وممارساته، وأصدرت مؤخرًا مجلة خاصة بالتنظيم، اسمها “ذروة السنام”، ووظيفتها دراسة الأحكام الشرعية المتعلقة بالمسائل والقضايا التي تخدم معتقدات وأفكار التنظيم.

أما القسم الإعلامي فتولى رئاسته أبو ميسرة العراقي، ويقوم بإصدار البيانات والنشرات والأشرطة المرئية والمسموعة، وقد لوحظ تطور كبير على عمل هذا القسم إذ قام بإعداد عدد من الأشرطة تُظهر قدرًا من الاحترافية، ويتولى القسم الجانب الدعائي للتنظيم، ويعتبر مهمًّا في تجنيد واستقطاب أعضاء جدد لصفوف الجماعة.

وتأسست لجنة مالية مهمتها جمع الأموال اللازمة لتمويل الأنشطة المختلفة؛ إذ كانت تعتمد على شبكة من الناشطين المتخصصين في مجال جمع التبرعات من خلال التجار والمساجد. ولا يقتصر جمع الأموال داخل العراق، بل هناك شبكة من الأنصار في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي، فضلاً عن إدارة مصادر التمويل الخاصة بالغنائم، التي يحصل عليها من خلال الاستيلاء على المناطق المحررة، وفرض الضرائب المختلفة.

3- الهيكلية المؤسسية لدولة العراق الإسلامية

عندما قُتل الزرقاوي في يونيو/حزيران 2006، ترك لخلفائه منظمة متماسكة وقوية ونافذة، وأصبح أتباعه أكثر عزمًا على إقامة دولة إسلامية على أساس الهوية السُّنية، فقد تم الإعلان بعد فترة وجيزة عن تشكيل “حلف المطيبين”، وهو ائتلاف يضم الحركات والمنظمات والجماعات المنضوية في إطار “مجلس شورى المجاهدين”، وبعض زعماء العشائر السنية في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2006(6)، وبعد يومين فقط، تم الإعلان عن تأسيس “دولة العراق الإسلامية” في 15 أكتوبر/تشرين الثاني 2006(7).وتضم الدولة من الناحية النظرية عددًا من المحافظات العراقية السنية، وهي: الأنبار وكركوك ونينوى وديالى وصلاح الدين وبابل وواسط.

تولى أبو عمر البغدادي (حامد داود الزاوي) إمارة دولة العراق الإسلامية، وتم الإعلان عن تشكيل حكومة الدولة الأولى(8) عن طريق المتحدث الرسمي محارب الجبوري في المرحلة الأولى، وهي تشير إلى هيمنة المكوِّن العراقي على مفاصل التنظيم، وغياب الجهاديين العرب والأجانب باستثناء المهاجر. وفي 22 سبتمبر/أيلول 2009 أعلن التنظيم عن تشكيلة وزارة ثانية(9).

عندما أُعلن عن مقتل أبي عمر البغدادي في 19 إبريل/نيسان 2010، إلى جانب وزير حربه، أبي حمزة المهاجر، بادر تنظيم دولة العراق الإسلامية سريعًا إلى استبدال كبار قادته؛ فقد أعلن في بيان مجلس شورى المجاهدين(10) بتاريخ 16 مايو/أيار 2010، أن “الكلمة قد اجتمعت على بيعة أبي بكر البغدادي الحسيني القرشي أميرًا للمؤمنين بدولة العراق الإسلامية، وكذا على تولية أبي عبد الله الحسني القرشي وزيرًا أول ونائبًا له”، كما تم تعيين أبي سليمان وزيرًا للحرب خلفًا للمهاجر.

4- البناء التنظيمي للدولة الإسلامية (الخلافة)

يعتبر تنظيم الدولة الإسلامية من أكثر الحركات الجهادية العالمية تطورًا على المستوى الهيكلي التنظيمي والفعالية الإدارية؛ فقد تطورت أبنيته التنظيمية بالاستناد إلى المزاوجة بين الأشكال التنظيمية الإسلامية التقليدية، التي تكونت مع مؤسسة الخلافة، وتنظيرات الفقه السلطاني الذي يؤسس لمفهوم الدولة السلطانية؛ إذ يقوم على مبدأ الغلبة والشوكة والإمارة، إلى جانب الأشكال التنظيمية الحداثية لمفهوم الدولة الذي يستند إلى جهاز عسكري أمني وآخر أيديولوجي بيروقراطي. ومنذ السيطرة على الموصل تضاعف عدد أعضائه ليصل إلى أكثر من 35 ألف مقاتل، من العراقيين والسوريين، ويضم في صفوفه أكثر من 9 آلاف مقاتل عربي ومسلم أجنبي، إلا أن البنية الأساسية لقوات النخبة تصل إلى حدود 15 ألف مقاتل(11).

أولاً: الخليفة: يقوم الهيكل التنظيمي للدولة الإسلامية على أسس فقهية شرعية وضرورات حداثية؛ إذ يتولى “الخليفة” الذي يجمع شروط الولاية كالعلم الشرعي والنسب القرشي وسلامة الحواس، سائر الوظائف الدينية والدنيوية المذكورة في التراث السياسي الإسلامي السني وفقه الأحكام السلطانية، كقائد ديني وسياسي له حق الطاعة بعد اختياره من قبل مجلس الشورى وأهل الحل والعقد(12).

ويتعامل التنظيم في إدارة شؤونه وتدبير حكمه باعتباره دولة إسلامية مكتملة الأركان والشروط، وكان الأمير السابق للتنظيم أبو عمر البغدادي هو من أرسى الهيكلية العامة لـ”الدولة الإسلامية”، وقد عمل الزعيم الحالي “أبو بكر البغدادي”، على تطوير البناء الهيكلي من خلال ترسيخ مبدأ البيعة والطاعة؛ الأمر الذي يضمن مركزية التنظيم وسيطرة الخليفة على كافة مفاصل التنظيم.

وتعتمد البنية التنظيمية لـ”الدولة” على هيكلية هرمية يعتبر “الخليفة” رأسها، ويُشرف إشرافًا مباشرًا على “المجالس”، وهي تسمية استخدمها أبو بكر البغدادي عوضًا عن تسمية الوزارات التي اعتمدها سلفه أبو عمر البغدادي، وتعتبر “المجالس” المفاصل الأساسية لتنظيم الدولة التي تشكِّل “القيادة المركزية”، ويتمتع البغدادي بصلاحيات واسعة في تعيين وعزل رؤساء المجالس بعد أخذ رأي “مجلس الشورى”، الذي تبدو استشارته معلِمة وغير ملزمة؛ فالقرار الأخير والفصل النهائي بعد التداول للبغدادي، إبراهيم عواد إبراهيم البدري السامرائي، وهو عراقي الأصل، وبفضل سلطاته “الدينية” الواسعة يتحكم في سائر القضايا الاستراتيجية؛ فهو صاحب “الأمر والنهي” في معظم القرارات الحاسمة.

عمل أبو بكر البغدادي على الاعتماد على العنصر العراقي في معظم المفاصل الرئيسية للتنظيم، وعلى الأعضاء العرب والأجانب في إدارة الوظائف المساندة؛ كالشورى والإعلام والتجنيد وجمع التبرعات، واحتفظ بصلاحيات شبه مطلقة في إعلان الحرب وتسيير الغزوات، واعتنى بتأسيس المجلس العسكري وألغى منصب وزير الحرب، وتحكم البغدادي بالمفاصل التنظيمية المهمة من أمن واستخبارات الولايات ومتابعة التنظيم، ومجلس الشورى، والمجلس العسكري، والجهاز الإعلامي، والهيئات الشرعية، وبيت المال، ويتمتع البغدادي بسلطة تعيين قيادات وأمراء الولايات في العراق وسوريا.

دخل التنظيم مع حقبة أبي بكر البغدادي في طور تنظيمي عسكري أمني شديد السرية والارتياب؛ إذ أسهم، منذ توليه إمارة التنظيم، في إعادة هيكلته، معتمدًا في الجانب العسكري على ضباط عراقيين سابقين سلفيين، وفي مقدمتهم: حجي بكر وعبدالرحمن البيلاوي، فأصبح الجناح العسكري أكثر احترافًا وأشد تماسكًا على الصعيد الأمني، ومعظم قياداته من العراقيين(13).

وفي الوقت نفسه استثمر البغدادي الجهاديين العرب والأجانب في الأجهزة الشرعية، وخصوصًا أبناء دول الخليج العربي، أمثال: أبي بكر القحطاني (عمر القحطاني)، وأبي همام الأثري، المعروف بتركي البنعلي (تركي بن مبارك بن عبد الله) من البحرين، والسعودي عثمان آل نازح العسيري، وغيرهم(14).

فيما اعتمد البغدادي على “حلقة تلعفر التركمانية” في المواقع الأمنية الأساسية، وفي مقدمتهم أبو علي الأنباري، واعتمد على العرب والأجانب في المؤسسة الإعلامية، وفي مقدمتهم السوري أبو محمد العدناني الناطق باسم الدولة الإسلامية.

ومع توسع التنظيم وإعلان الخلافة عقب السيطرة على الموصل في يونيو/حزيران 2014، بدأ البغدادي يدمج العرب والأجانب بصورة أكبر، إلا أن المكون العراقي لا يزال يتمتع بأرفع المناصب وأخطرها.

ثانيًا: مجلس الشورى: وهو من أهم المؤسسات التابعة للتنظيم، وعلى الرغم من التطورات التي شهدها المجلس منذ إمارة الزرقاوي مرورًا بأبي عمر البغدادي وصولاً إلى الزعيم الحالي أبي بكر البغدادي، إلا أن مؤسسة الشورى كانت حاضرة دومًا.

ويترأس مجلس شورى الدولة حاليًا أبو أركان العامري، ويتسع المجلس ويضيق بحسب الظروف والحاجة، كما يجتمع للنظر في القضايا المستجدة واتخاذ القرارات المهمة ورسم السياسات العامة، ويضم في عضويته عددًا من القيادات التاريخية وخصوصًا الشرعية، ولا يوجد ثبات في عدد أعضائه، وغالبًا ما كان يضم من 9 إلى 11 عضوًا يختارهم البغدادي بتزكية من الأمراء والولاة(15).

ويتمتع المجلس بصلاحية عزل الأمير من الناحية النظرية، كما يتمتع المجلس بالوظائف التقليدية التاريخية المنصوص عليها في التراث السياسي الإسلامي؛ إذ يقدم الرأي والمشورة للبغدادي في قرار الحرب والسلم، إلا أن مشورته مُعلِمة غير ملزمة؛ ذلك أن الشورى تقتصر على الأمور التنظيمية التي لم يرد فيها نص قاطع من القرآن والسنة، فالقاعدة الشرعية تنص على أن لا اجتهاد ولا شورى في موطن النص، إلا إذا كان اجتهادًا في فهم النص وتفسيره، في المسائل التي تمس مصالح التنظيم والدولة وشؤون الناس العامة والخاصة وعلاقتهم مع الآخرين، ومن مهام مجلس الشورى تزكية المرشحين لمناصب الولاة، وأعضاء المجالس المختلفة.

ويتمتع المجلس الشرعي، داخل مجلس الشورى، بأهمية خاصة نظرًا لطبيعة التنظيم الدينية، ويترأسه البغدادي شخصيًّا، ويضم في عضويته ستة أعضاء، ومن مهامه الأساسية مراقبة التزام بقية المجالس بـالضوابط الشرعية، وترشيح خليفة جديد في حال موت الخليفة الحالي أو تعرضه للأسر أو عدم قدرته على إدارة التنظيم والدولة لأسباب طارئة كالمرض والعجز.

ثالثًا: أهل الحل والعقد: وهو مفهوم راسخ في الفقه السياسي الإسلامي، ويضم طائفة واسعة من الأعضاء والمناصرين، من أهل الشأن من الأمراء والعلماء والقادة والساسة ووجوه الناس، ولابد أن تتوافر فيهم مجموعة من الشروط، كالعدالة الجامعة لشروطها، والعلم الذي يُتوَصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة في الإمام، والرأي والحكمة المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف، ويُطلق عليهم أحيانًا “أهل الشورى”، وفي تنظيم الدولة الإسلامية يمثلون طيفًا واسعًا من الأعيان والقادة والأمراء، بالإضافة لمجلس شورى الدولة، وهم من يقومون ببيعة وتنصيب الخليفة، فبحسب أبي محمد العدناني، الناطق باسم الدولة، تم اختيار البغدادي خليفةً للمسلمين بعد أن: “اجتمع مجلس شورى الدولة الإسلامية، وتباحث هذا الأمر، بعد أن باتت الدولة الإسلامية بفضل الله تمتلك كل مقومات الخلافة، والتي يأثم المسلمون بعدم قيامهم بها، وأنه لا يوجد مانع أو عذر شرعي لدى الدولة الإسلامية؛ يرفع عنها الإثم في حال تأخرها أو عدم قيامها بالخلافة؛ فقررت الدولة الإسلامية، ممثلة بأهل الحل والعقد فيها؛ مِن الأعيان والقادة والأمراء ومجلس الشورى: “إعلان قيام الخلافة الإسلامية”، وتنصيب خليفة للمسلمين، ومبايعة الشيخ المجاهد، العالم العامل العابد، الإمام الهُمام المجدد، سليل بيت النبوة، عبد الله: إبراهيم بن عواد بن إبراهيم بن علي بن محمد، البدري القرشي الهاشمي الحسيني”(16).

رابعًا: الهيئة الشرعية: تعتبر أحد أهم مفاصل تنظيم الدولة الإسلامية نظرًا لطبيعته الدينية، وكان أبو علي الأنباري يتولى مسؤولية الملف الأمني والشرعي، ويتولى منصب رئيس الهيئة حاليًا أبو محمد العاني، وقد كان أبو أنس الشامي أول من تولى هذا المنصب في عهد الزرقاوي وتأسيس جماعة “التوحيد والجهاد”، وفي عهد أبي عمر البغدادي تولى المنصب عثمان بن عبد الرحمن التميمي.

تقوم الهيئة بإصدار الكتب والرسائل وصياغة خطابات البغدادي والبيانات والتعليق على الأفلام والأناشيد والمواد الإعلامية الخاصة بالتنظيم، وتنقسم الهيئة الشرعية إلى قسمين رئيسيين، الأول: يتعلق بتنظيم المحاكم الشرعية ومؤسسة القضاء للفصل في الخصومات وفض النزاعات وإقامة الحدود، والقيام بوظيفة الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثاني: يقوم بوظيفة الوعظ والإرشاد والتجنيد والدعوة ومتابعة الإعلام.

ويعتمد التنظيم على العرب والأجانب بشكل كبير في عضوية الهيئة الشرعية، وخصوصًا المكوِّن العربي الخليجي، كما ذكرنا سابقًا.

خامسًا: الهيئة الإعلامية: يتمتع الإعلام بأهمية كبيرة داخل هيكلية تنظيم الدولة الإسلامية، وهو من أكثر التنظيمات الجهادية اهتمامًا بشبكة الإنترنت والمسألة الإعلامية؛ فقد أدرك منذ فترة مبكرة من تأسيسه الأهمية الاستثنائية للوسائط الاتصالية في إيصال رسالته السياسية ونشر أيديولوجيته السلفية الجهادية، فأصبح مفهوم “الجهاد الإلكتروني” أحد الأركان الرئيسية في فترة مبكرة منذ تأسيس جماعة “التوحيد والجهاد”، ثم القاعدة في بلاد الرافدين.

كان أبو ميسرة العراقي يتولى رئاسة القسم الإعلامي، وفي حقبة “دولة العراق الإسلامية” عام 2006 تولى المنصب أبو محمد المشهداني تحت اسم وزير الإعلام، وكان أبو عبد الله محارب عبد اللطيف الجبوري ناطقًا باسم تنظيم الدولة، وفي عام 2009 أصبح أحمد الطائي وزيرًا للإعلام، ويقود المؤسسة الإعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية اليوم هيئة موسعة بقيادة أبي الأثير عمرو العبسي.

شهدت الهيئة الإعلامية لتنظيم الدولة تطورًا كبيرًا بالشكل والمحتوى، وتتمتع بدعم وإسناد كبيرين، وتعتبر مؤسسة “الفرقان” الإعلامية الأقدم والأهم، وقد ظهرت مؤخرًا مؤسسات إعلامية عديدة تتبع التنظيم، مثل: مؤسسة “الاعتصام” ومركز “الحياة”، ومؤسسة أعماق، ومؤسسة البتار، ومؤسسة دابق الإعلامية، ومؤسسة الخلافة، ومؤسسة أجناد للإنتاج الإعلامي، ومؤسسة الغرباء للإعلام، ومؤسسة الإسراء للإنتاج الإعلامي، ومؤسسة الصقيل، ومؤسسة الوفاء، ومؤسسة نسائم للإنتاج الصوتي، ومجموعة من الوكالات التي تتبع الولايات والمناطق التي تسيطر عليها، كوكالة أنباء “البركة” و”الخير” وغيرها.

كما صدر عدد من المجلات بالعربية والإنجليزية أمثال: “دابق” و”الشامخة”، وأنشأت الهيئة إذاعات محلية، مثل: إذاعة “البيان” في مدينة الموصل في العراق، وإذاعة أخرى في مدينة الرقة في سوريا.

ويواصل التنظيم نشاطه الإعلامي من خلال العمل في المدونات، ومن أهمها مدونات باللغتين الروسية والإنجليزية؛ إذ تقوم الهيئة بترجمة الإصدارات الإعلامية إلى لغات أجنبية عديدة، كالإنجليزية والفرنسية، والألمانية، والإسبانية، والأوردو، وغيرها.

يسيطر التنظيم على عدد كبير من المواقع والمنتديات الإلكترونية، التي تحتوي على مكتبة هائلة وواسعة تختص بالأيديولوجيا والخطاب وآليات التجنيد والتمويل والتدريب والتخفي والتكتيكات القتالية وصنع المتفجرات وكل ما يلزم “الجهاديين” في عمليات المواجهة في إطار حرب العصابات وسياسات الاستنزاف.

تؤكد الأشرطة والمواد الدعائية التي تصدرها المؤسسات الإعلامية التابعة للتنظيم كمؤسستي “الفرقان” و”الاعتصام”، على التحول الكبير في بنيته وقدراته الفائقة، وتكتيكاته العنيفة، واستراتيجيته القتالية المرعبة؛ فقد أصدر سلسلة من الأفلام المتقنة، أطلق عليها: “صليل الصوارم”، بدءًا من صليل الصوارم 1 يوليو/تموز 2012، وصليل الصوارم 2 أغسطس/آب 2012، وصليل الصوارم 3 يناير/كانون الثاني 2012، ثم صليل الصوارم 4 مايو/أيار 2014(17).

وبعد سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على الموصل في 10 يونيو/حزيران 2014، قام بنشر سلسلة من الأشرطة الترهيبية تختص بعمليات “قطع الرؤوس”، بدأها بشريط مصور بعنوان “رسالة إلى أميركا”، يقوم فيه عضو ينتمي إلى التنظيم بقطع رأس رهينة أميركي يُدعى جيمس فولي، ثم قام التنظيم بعد أيام قليلة في 2 سبتمبر/أيلول 2014، بنشر شريط آخر يحمل العنوان نفسه يتضمن قطع رأس رهينة أميركي ثانٍ يدعى ستيفن سوتلوف، وكلا الرهينتين صحفيان أميركيَّان، ثم بثَّ التنظيم شريطًا مصورًا آخر بعنون “رسالة إلى حلفاء أميركا” في 14 سبتمبر/أيلول 2014، يقوم فيه أعضاؤه بقطع رأس رهينة بريطاني لدى التنظيم، يدعى ديفيد هينز، وفي 3 أكتوبر/تشرين الأول بثَّ التنظيم شريطًا يقوم فيه بقطع رأس رهينة بريطاني آخر يدعى آلن هينينغ، ويهدد فيه بقطع رأس رهينة أميركي يدعى بيتر كاسيغ.

ومن أهم الإصدارات التي كان لها وقْع كبير على موقع “يوتيوب”: إصدار “كسر الحدود” بتاريخ 29 يونيو/حزيران 2014، و”خطبة البغدادي في الموصل” بتاريخ 5 يوليو/تموز 2014، وسلسلة إصدارات بعنوان: “رسائل من أرض الملاحم”، وهي سلسلة توثق إنجازات وعمليات التنظيم تصدر تباعًا بلغت حتى الآن 50 إصدارًا، وكذلك سلسلة إصدارات بعنوان: “فشَرِّد بهم مَنْ خَلْفَهم”، ويغطي الجزء الأول معركة تحرير اللواء 93 في ولاية الرقة السورية بتاريخ 23 أغسطس/آب 2014، والجزء الثاني يغطي معركة تحرير مطار الطبقة في ولاية الرقة السورية بتاريخ 7 سبتمبر/أيلول 2014. وهنالك إصدار “على منهاج النبوة”، بتاريخ 28 يوليو/تموز 2014.

يعتبر فيلم “لهيب الحرب”، من أضخم الإصدارات والأكثر دقة ورعبًا، ويتضمن تغطية لمعارك عديدة لتنظيم الدولة ورسالة موجهة لدول التحالف المشاركة في الحملة على التنظيم، وقد أصدره الجناح الإعلامي التابع للتنظيم الخاص باللغة الإنجليزية “مركز الحياة”، بتاريخ 17 سبتمبر/أيلول2014(18).

سادسًا: بيت المال: يعد تنظيم الدولة الإسلامية الأغنى في تاريخ الحركات الجهادية، وقد تفوق على تنظيم القاعدة المركزي والفروع الإقليمية للقاعدة، فتمكن منذ عهد الزرقاوي من بناء شبكات تمويل ممتدة، ونوَّع في مصادره التمويلية؛ فقد أنشأ لجنة مالية فعَّالة منذ تأسيس جماعة “التوحيد والجهاد”، تقوم بجمع الأموال اللازمة لتمويل الأنشطة المختلفة، تعتمد على شبكة من الناشطين المتخصصين في مجال جمع التبرعات من خلال التجار والمساجد، وخصوصًا الدول الخليجية الغنية وأوروبا، فضلاً عن عمليات جمع الأموال داخل العراق، ومصادر التمويل الخاصة بالغنائم التي يحصل عليها من خلال الاستيلاء على المناطق المحررة، وفرض الضرائب المختلفة.

ومع تنامي نفوذ التنظيم والإعلان عن تأسيس “دولة العراق الإسلامية” أعلن في تشكيلته الوزارية الأولى عام 2006، عن وزارات عديدة تختص بالموارد النفطية والثروات الطبيعية، وفي عام 2009، سمَّى في تشكيلته الوزارية الثانية يونس الحمداني وزيرًا للمالية.

يشرف البغدادي اليوم على إدارة “بيت المال”، وهي التسمية الإسلامية التاريخية للمؤسسة المالية، ويتولى المسؤولية الرئيسة فيها موفق مصطفى الكرموش.

لقد تضخمت مالية تنظيم “الدولة الإسلامية” منذ سيطرته على الموصل في يونيو/حزيران 2004، وسيطرته على مساحات واسعة في العراق وسوريا، وتقدر بعض الدراسات رأس مال التنظيم بحوالي 2 مليار دولار، وباتت مصادر تمويله متعددة وواسعة، ومن أهم المصادر(19):

التبرعات والهبات: تحدثت تقارير صحفية عديدة عن وجود عدد كبير من الأثرياء والشخصيات الخليجية التي دعمت وموَّلت التنظيم في كل من العراق وسوريا.

أموال الصداقات والتبرعات والزكاة: حيث عملت المنابر والقنوات الإسلامية خلال عامي 2011/2012 على تشجيع المسلمين على توجيه أموال الزكاة والتبرعات والصدقات لتأييد الجهاد والمقاومة في سوريا، وهي الأموال التي وجدت طريقها بصورة مباشرة إلى كل من تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وغيرها.

عوائد تحرير الأجانب المختطفين: فقد دأب التنظيم على اختطاف المواطنين الأجانب، والموظفين الدوليين، والصحفيين الغربيين، ومساومة ذويهم ودولهم على الإفراج عنهم مقابل ملايين الدولارات كفدية.

الاستيلاء على الموارد والسلع من الأماكن التي يسيطر عليها: من مستشفيات، ومراكز تسوق، ومطاعم، ومرافق الكهرباء والمياه في هذه المناطق، وهي المرافق التي توفر لها عوائد تُقدر بالملايين شهريًّا.

عوائد الثروات الطبيعية والمعادن: من النفط والغاز، التي استولى عليها التنظيم في العراق وسوريا؛ إذ يسيطر التنظيم على أكثر من 80 حقلاً نفطيًّا صغيرًا، ويقوم ببيعها محليًّا، أو خارجيًّا عن طريق التجار، وتقدر بنحو 2 مليون شهريًّا، فضلاً عن سيطرته على مناجم الذهب في الموصل.

فرض الضرائب والرسوم: وهي أحد المصادر المهمة التي تُفرَض على التجار والمزارعين والصناعيين، وعلى المواطنين الأثرياء في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، وكذلك فرض الجزية على غير المسلمين، وهناك ضرائب شهرية على الشركات والمؤسسات المحلية تُقدَّر بحوالي 6 ملايين دولار شهريًّا.

الأموال الحكومية: فقد تمكن التنظيم من الاستيلاء على كميات من الأموال التي كانت موجودة في المصارف والمؤسسات الحكومية، بعد سيطرته على الموصل، تُقدَّر بعشرات الملايين من الدولارات.

عائدات الزراعة والغلال والحبوب: حيث يسيطر التنظيم على حقول واسعة في العراق وسوريا؛ إذ يستحوذ على حوالي ثلث إنتاج العراق من القمح.

سابعًا: المجلس العسكري: يعتبر المجلس العسكري الأهم داخل تنظيم الدولة الإسلامية، نظرًا لطبيعة التنظيم العسكرية، ولا يوجد عدد محدد لأعضائه بحسب قوته وتوسعه وقوته وضعفه ومساحة نفوذه وسيطرته، ويتكون تاريخيًّا من 9 أعضاء إلى 13 عضوًا(20)، وقد بدأ استخدام تسمية الجهاز بالمجلس العسكري عقب مقتل نعمان منصور الزيدي، المعروف بأبي سليمان الناصر لدين الله، الذي شغل منصب وزير الحرب في مايو/أيار2011.

ويشغل قائد المجلس العسكري منصب نائب البغدادي، وكان الزرقاوي يحتفظ بالمنصبين، ثم تولى منصب القائد العسكري أبو حمزة المهاجر كوزير للحرب في حقبة دولة العراق الإسلامية وإمارة أبي عمر البغدادي، وفي ولاية الأمير الحالي أبي بكر البغدادي تولى منصب القائد العسكري حجي بكر، وهو سمير عبد محمد الخليفاوي، ثم شغل المنصب بعد مقتله في سوريا في يناير/كانون الثاني 2014 أبو عبد الرحمن البيلاوي، وهو عدنان إسماعيل البيلاوي، الذي قُتل في يونيو/حزيران 2014؛ حيث تولى رئاسة المجلس العسكري الحالي أبو مسلم التركماني، وهو فاضل الحيالي.

ويتكون المجلس العسكري من قادة القواطع، وكل قاطع يتكون من ثلاث كتائب، وكل كتيبة تضم 300-350 مقاتلاً، وتنقسم الكتيبة إلى عدد من السرايا تضم كل سرية 50-60 مقاتلاً.

وينقسم المجلس إلى هيئة أركان وقوات الاقتحام، والاستشهاديين، وقوات الدعم اللوجستي، وقوات القنص، وقوات التفخيخ، ومن قيادات المجلس العسكري أبو أحمد العلواني وليد جاسم، وكذلك عمر الشيشاني، ويقوم المجلس بكافة الوظائف والمهمات العسكرية، كالتخطيط الاستراتيجي، وإدارة المعارك، وتجهيز الغزوات، وعمليات الإشراف والمراقبة والتقويم لعمل الأمراء العسكريين، بالإضافة إلى تولي وإدارة شؤون التسليح والغنائم العسكرية.

ثامنًا: المجلس الأمني: وهو أحد أهم المجالس في تنظيم الدولة الإسلامية وأخطرها؛ إذ يقوم بوظيفة الأمن والاستخبارات(21)، ويتولى رئاسته أبو علي الأنباري، وهو ضابط استخبارات سابق في الجيش العراقي، ولديه مجموعة من النواب والمساعدين، ويتولى المجلس الشؤون الأمنية للتنظيم، وكل ما يتعلق بالأمن الشخصي لـ”الخليفة”، وتأمين أماكن إقامة البغدادي ومواعيده وتنقلاته، ومتابعة القرارات التي يقرها البغدادي ومدى جدية الولاة في تنفيذها، ويقوم بمراقبة عمل الأمراء الأمنيين في الولايات والقواطع والمدن، كما يشرف على تنفيذ أحكام القضاء وإقامة الحدود، واختراق التنظيمات المعادية، وحماية التنظيم من الاختراق، كما يقوم بالإشراف على الوحدات الخاصة كوحدة الاستشهاديين والانغماسيين بالتنسيق مع المجلس العسكري.

ويشرف المجلس على صيانة التنظيم من الاختراق، ولديه مفارز في كل ولاية تقوم بنقل البريد وتنسيق التواصل بين مفاصل التنظيم في جميع قواطع الولاية، كما أن لديه مفارز خاصة للاغتيالات السياسية النوعية والخطف وجمع الأموال.

تاسعًا: التقسيم الإداري: يقسِّم تنظيم الدولة مناطق نفوذه إلى وحداتٍ إدارية يطلق عليها اسم “ولايات”، وهي التسمية الإسلامية التاريخية للجغرافيا السكانية، ويتولى مسؤولية “الولايات” مجموعة من الأمراء، وهي التسمية المتداولة في التراث السياسي الإسلامي التاريخي.

يبلغ عدد الولايات التي تقع ضمن دائرة سيطرة التنظيم أو نفوذه 16 ولاية، نصفها في العراق، وهي: ولاية ديالى، وولاية الجنوب، وولاية صلاح الدين، وولاية الأنبار، وولاية كركوك، وولاية نينوى، وولاية شمال بغداد، وولاية بغداد، ونصفها الآخر في سوريا، وهي: ولاية حمص، وولاية حلب، وولاية الخير (دير الزور)، وولاية البركة (الحسكة)، وولاية البادية، وولاية الرقة، وولاية حماة، وولاية دمشق(22).

وتُقسَّم “الولايات” إلى “قواطع”، وتضم المدن، وفق تسمياتها المُعتمدة قبل سيطرة التنظيم عليها؛ فولاية حلب على سبيل المثال تنقسم إلى “قاطعين”، هما: “قاطع منبج” وتتبع له مدن منبج وجرابلس ومسكنة، و”قاطع الباب” وتتبع له مدينتا الباب ودير حافر، ويمثل السلطة العليا في كل “ولاية” مسؤول معين من قبل تنظيم الدولة يحمل لقب “والي”، ويعاونه مجموعة من المسؤولين يحملون صفة “أمير”، أمثال: “الأمير العسكري”، و”الأمير الشرعي”، الذي يرأس “الهيئة الشرعية”، والأمير الأمني”، فيما يُعتبر “أمير القاطع” السلطة الأعلى في كل “قاطع”، ويعاونه كذلك مجموعة من الأمراء في المجال “العسكري والشرعي والأمني”؛ الأمر الذي يسري ويُتبع في المدن كافة، ويُشرف “الولاة” ومعاونوهم من “الأمراء” على “أمراء القواطع” ومعاونيهم، ويُشرف هؤلاء بدورهم على “أمراء المدن” ومعاونيهم.

5- القيادات الحالية البارزة

على صعيد الأسماء البارزة في التنظيم، في إطار الهيكل العام، نجد عددًا من القيادات، في مقدمتهم: قائد التنظيم بصفة الخليفة، أبو بكر البغدادي، إبراهيم عواد إبراهيم البدري السامرائي، ونائب أمير الدولة الإسلامية، منسق شؤون ولايات إمارة العراق، فاضل أحمد عبد الله الحيالي، المعروف باسم “أبو معتز”، و”أبو مسلم التركماني العفري”، الذي يتواجد في ولاية نينوى، وهو رئيس المجلس العسكري العام، ثم والي الأنبار، وعضو المجلس العسكري للتنظيم، عدنان لطيف حميد السويداوي، المعروف بــ”أبي مهند السويداوي”، أو “أبي عبد السلام”.

ثم يأتي والي ولاية الجنوب والفرات الأوسط، أحمد محسن خلف الجحيشي، المعروف بــ”أبي فاطمة”، ثم مسؤول المالية العام موفق مصطفى محمد الكرموش، وكنيته “أبو صلاح”، والمنسق العام لبريد الولايات محمد حميد الدليمي، وكنيته “أبو هاجر العسافي”، ثم المنسق العام لشؤون الكفالات ومتابعة شؤون الأرامل وعوائل الشهداء والأسرى عوف عبد الرحمن العفري، وكنيته “أبو سجى”.

ومن الشخصيات التنظيمية؛ منسق البريد الخاص، ومسؤول المخازن فارس رياض النعيمي، وكنيته “أبو شيماء”، وكذلك مسؤول العبوات والتفخيخ، خيري عبد محمود الطائي، وكنيته “أبو كفاح”، ومسؤول الإدارة العام شوكت حازم كلاش الفرحات، وكنيته “أبو عبد القادر”.

وهناك مسؤول المضيَّفات الخاصة بالمهاجرين العرب، وناقل الاستشهاديين عبد الله أحمد المشهداني، وكنيته “أبو قاسم”، والمسؤول عن متابعة الأسرى في السجون، بشار إسماعيل الحمداني، وكنيته “أبو محمد”، ثم المسؤول الأمني العام عبد الواحد خضير أحمد، وكنيته “أبو لؤي”، و”أبو علي”.

ومن هذه الشخصيات؛ والي ولاية كركوك، نعمة عبد نايف الجبوري، وكنيته “أبو فاطمة”، ووالي ولاية الحدود، رضوان طالب حسين إسماعيل الحمدوني، وكنيته “أبو جرناس”، ووالي ولاية صلاح الدين، وسام عبد زيد الزبيدي، وكنيته “أبو نبيل”، ووالي ولاية بغداد، أحمد عبد القادر الجزاع، وكنيته “أبو ميسرة”، و”أبو عبد الحميد (23).

الخاتمة

من الواضح أن هنالك مسارًا بيانيًّا تصاعديًّا في البنية الهيكلية الداخلية لتنظيم الدولة الإسلامية؛ فقد بدأ بصورة بسيطة عنقودية شبيهة بالجماعات الإسلامية الجهادية المحلية، خلال الأشهر الأولى، ثم بدأ يتطور مع تأسيس جماعة التوحيد والجهاد، بإضافة مؤسسات وهيئات متخصصة، ووصل إلى مرحلة أكثر تطورًا مع انضمامه إلى القاعدة المركزية بعد أن أصبح اسمه “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”.

انتقل التنظيم نحو الصيغة المؤسسية التي تحاكي ما جاء في كتب التراث الإسلامي، مع الإعلان عن إقامة الدولة الإسلامية في بلاد الرافدين، بعد مقتل الزرقاوي، عبر الإعلان عن تشكيل وزارات وتعيين ولاة على المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، في محاولة للانتقال من صيغة التنظيم إلى بنية الدولة، إلا أن الطفرة الحقيقية حدثت، لاحقًا، مع تولي أبي بكر البغدادي؛ إذ تم تطوير عمل الأجهزة المختلفة وتأطيرها مؤسسيًّا ومنحها مهمات محددة ودقيقة تجمع ما بين طبيعة المؤسسات في الدولة المعاصرة وأدوارها الوظيفية من جهة، وطبيعة التنظيم وظروف عمله، التي تمتاز بدرجة أكبر من التعقيد والغموض، وهو ما جعلنا أمام حالة هجينة وخاصة تُزاوِج بين صورة الدولة والتنظيمات السرية في الوقت نفسه.

لم يحدث التطور على الصعيد المؤسسي والوظيفي فقط، بل تزاوج مع إعادة هيكلة القيادة، وتصعيد القيادات المحترفة المحلية، على أكثر من صعيد، بخاصة عسكريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا، فنجد أسماء رئيسة لعبت دورًا حيويًّا في الوصول إلى هذا المستوى من الاحتراف، مثل: حجي بكر وأبي عبد الرحمن البيلاوي وأبي علي الأنباري وأبي أيمن العراقي.

تميز التنظيم بقدرة لافتة على توزيع المهمات وتقسيم الأدوار بين العنصر المحلي والقادمين من الخارج “المهاجرين العرب والمسلمين”، فبالرغم من هذه “الازدواجية التنظيمية”، وبالرغم من سيطرة العراقيين في الآونة الأخيرة على المفاصل الرئيسة في قيادة التنظيم، إلا أنه استطاع أن يدمج العنصر الخارجي، ويحدد له أدوارًا ومهمات، ويضعه في إطار يجمع الطرفين، يزاوج بين الطابع المحلي (العراقي) و(الإقليمي)، وحتى (العالمي)؛ ألا وهو مظلة “الخلافة الإسلامية”، وربما ذلك يفسر لنا أحد أهم الأسباب التي تقف وراء إعلان الخلافة، أي: الحفاظ على التماسك الداخلي للتنظيم وقدرته على استيعاب هذا التنوع الكبير في الداخل، بين العراقيين والسوريين والعرب والآسيويين وحتى الأوروبيين، طالما أن هنالك منصبًا دينيًّا يؤطِّر الجميع، ويذكِّر بـ”الخلافة العباسية” التي قامت في بغداد، ولعل ذلك، أيضًا، يفسر ارتداء البغدادي في خطبة الجمعة المصورة اللباس الأسود، وهو اللون الذي ارتبط بالخلافة العباسية تاريخيًّا.

ارتفعت أعداد الذين ينتمون إلى التنظيم بصورة مضاعفة، بعد السيطرة على الموصل وإعلان الخلافة، وهو أمر طبيعي، ويرتبط بعامل القوة والهيمنة والنفوذ، فمن المعروف أن التنظيم عندما يسيطر على أية محافظة أو ناحية يطلب من الأهالي مبايعة الخليفة، ويقوم بحملة تجنيد ودعاية مكثفة، ولديه الكثير من الأجهزة التعليمية والإعلامية والدعوية والقضائية، ما يجعل نسبة كبيرة من أهالي تلك المناطق يدخلون في التنظيم، إما خوفًا من عقوبات شديدة لمن يرفض ذلك، أو التحاقًا بالطرف القوي المسيطر.

بالرغم مما أظهره التنظيم من عمل مؤسسي وتنظيمي معقد ومتطور، ومن كفاءة كبيرة في التجنيد والدعاية، وفي العمل الاحترافي، وحماية التماسك الداخلي؛ إلا أن ذلك لا يعني -بالضرورة- أنه لا يواجه تحديات حقيقية، فلا يزال التوسع الكبير في عمله ومهماته والمناطق التي يسيطر عليها يحمل في ثناياه مخاطر حقيقية على قدرة التنظيم على التماسك والتوسع في حال تعرض لضربات عسكرية وأمنية كبيرة، أو في حال نجحت الضغوط الأميركية في حصاره اقتصاديًّا وجغرافيًّا واستنزافه وتبديد جاذبية القوة التي حصل عليها بصورة كبيرة خلال الفترة الأخيرة.

____________________________________

حسن أبو هنية: باحث متخصص في شؤون الجماعات الجهادية

 

المصادر والهوامش

1- انظر: محمد أبو رمان، وحسن أبو هنية، السلفية الجهادية في الأردن بعد مقتل الزرقاوي، مقاربة الهوية-أزمة القيادة-ضبابية الرؤية، مؤسسة فريدريش أيبرت، عمان، الطبعة الأولى، 2009، ص12-29.

2- أبو عبد الله المهاجر: هو الشيخ عبد الرحمن العلي، مصري الجنسية، يتمتع باحترام وتقدير من كافة الجهاديين في العالم، تلقَّى علومه الإسلامية في باكستان، وكانت تربطه علاقة وثيقة بالزرقاوي، تخرج في الجامعة الإسلامية في إسلام أباد، ورابط في أفغانستان حيث أنشأ مركزًا علميًّا دعويًّا في معسكر خلدن، ودرَّس في مركز تعليم اللغة العربية في قندهار، ثم في معسكرات المجاهدين في كابول، وتولى التدريس في معسكر الزرقاوي في هيرات، وكان مرشحًا لتولي مسؤولية اللجنة العلمية والشرعية في تنظيم القاعدة، وبحسب المسؤول الإعلامي للقاعدة في العراق ميسرة الغريب، فإن المهاجر كان معتقلاً في السجون الإيرانية، وقد أُفرِج عن المهاجر وعاد إلى مصر بعد أشهر من قيام الثورة، وله عدد من الكتب، منها: “مسائل من فقه الجهاد”، ويُعرف لدى الجهاديين بــ”فقه الدماء”، و”أعلام السنة المنشورة في معالم الطائفة المنصورة”، ويعتبر مفتي جماعة الزرقاوي، انظر: بيان حقيقة علاقة البغدادي بأميرنا الزرقاوي، على الرابط: http://www.sunnti.com/vb/showthread.php?t=15452

3- أبو أنس الشامي، يوميات مجاهد، منتدى شبكة الصافنات الإسلامية، www.al-saf.net

4- أبو أنس الشامي، هو عمر يوسف جمعة وهو أردني من أصل فلسطيني من مواليد 1969، استقر في الأردن بعد حرب الخليج الثانية، وذهب إلى البوسنة للمشاركة في الجهاد كمعلم، وعمل في الأردن إمامًا لأحد المساجد، وكان مديرًا لمركز الإمام البخاري التابع لجمعية الكتاب والسُّنَّة، والتحق بالزرقاوي منتصف عام 2003. استطاع أبو أنس الشامي أن يُقنع الزرقاوي بالإعلان عن تأسيس جماعة باسم “التوحيد والجهاد”، وهو ما تم فعلاً أواخر شهر سبتمبر/أيلول عام 2003، وتم تشكيل هيكلية صارمة بقيادة الزرقاوي ومجلس شورى، وتشكَّلت عدة لجان: عسكرية، وإعلامية، وأمنية، ومالية، وشرعية. وقد ترأس أبو أنس الشامي اللجنة الشرعية للجماعة، وقد قُتل بتاريخ 16 سبتمبر/أيلول 2004 أثناء محاولة اقتحام سجن “أبو غريب”.

5- بيان بيعة جماعة التوحيد والجهاد لتنظيم قاعدة الجهاد، منبر التوحيد والجهاد، على الرابط: http://www.tawhed.ws/r?i=dwww5009

6-انظر الإعلان عن حلف المطيبين؛ إذ ظهر بضعة ملثمين قيل إنهم من قادة العشائر ومجلس الشورى يتعاهدون فيه على تحكيم الشريعة والانتصار للجهاد والمجاهدين في العراق، على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=60mgEeNc7Z8

7- انظر: بيان تأسيس دولة العراق الإسلامية، على الرابط: https://nokbah.com/~w3/?p=536

8- انظر: التشكيلة الوزارية الأولى لدولة العراق الإسلامية، 19 إبريل/نيسان 2007، الكتاب الجامع لكلمات قادة دولة العراق الإسلامية، الطبعة الأولى، 2010.

9- انظر: إعلان التشكيلة الوزارية الثانية لدولة العراق الإسلامية، في 21 أيلول/سبتمبر 2009، على الرابط: https://nokbah.com/~w3/?p=552

10- انظر: بيان مجلس شورى دولة العراق الإسلامية، على الرابط: http://www.muslm.org/vb/archive/index.php/t-388724.html

11- هذه الأرقام والكثير من الأرقام المتعلقة بالتنظيم، هي معلومات حصل عليها الباحث من مصادر خاصة

12- يستند التنظيم في بناء هيكله التنظيمي على الكتب الإسلامية التاريخية المتعلقة بالدولة والحكم والخلافة، وخصوصًا الكتب المعروفة بالأحكام السلطانية؛ فمنذ الإعلان عن قيام الدولة قام المسؤول الشرعي للتنظيم عثمان بن عبد الرحمن التميمي، بإصدار كتاب “إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام”، وهو يستخدم المراجع الإسلامية التقليدية المتعلقة بوجوب قيام الدولة والخلافة.

13-انظر: هيثم مناع، خلافة داعش من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم، المعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان، الجزء الأول، على الرابط: http://sihr.net/wp-content/uploads/2014/07/DAEESH-first-part1.pdf

14- انظر: صهيب عنجريني، “الدولة الإسلامية”: من “البغدادي المؤسِّس” إلى “البغـدادي الخليفة”، صحيفة الأخبار، على الرابط: http://www.al-akhbar.com/node/210299

15-انظر: هشام الهاشمي، هيكلية تنظيم داعش: أخطر 18 إرهابيًّا يهددون استقرار العراق، صحيفة المدى، على الرابط: http://almadapaper.net/ar/printnews.aspx?NewsID=466428

16-أبو محمد العدناني، كلمة صوتية بعنوان “هذا وعد الله”، مؤسسة الفرقان للإنتاج الإعلامي، على الرابط: http://www.youtube.com/watch?v=b1qkBXKvs_A

17- انظر: سلسلة صليل الصوارم بأجزائها الأربعة، على الرابط: http://ansarkhelafa.weebly.com/15871604158716041577-1589160416101604-1575160415891608157515851605.html

18- انظر: كافة إصدارات تنظيم الدولة الإسلامية، على الرابط: http://dawla-is.appspot.com/

19-انظر: أحمد محمد أبو زيد، من التبرعات إلى النفط: كيف تحول “داعش” إلى أغنى تنظيم إرهابي في العالم؟، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، على الرابط: http://www.rcssmideast.org/Article/2668/%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A3%D8%BA%D9%86%D9%89-%D8%AA%D9%86%D8%B8%D9%8A%D9%85-%D8%A5%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-#.VFguPfmUckY

20-انظر: هشام الهاشمي، هيكلية تنظيم داعش، مرجع سابق.

21- انظر: هيثم مناع، خلافة داعش من هجرات الوهم إلى بحيرات الدم، مرجع سابق.

22- انظر: صهيب عنجريني، “الدولة الإسلامية”: من “البغدادي المؤسِّس” إلى “البغـدادي الخليفة”، مرجع سابق.

23-انظر: خليفة “داعش” وأعضاء حكومته، صحيفة التلغراف، العربية نت، على الرابط: http://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/iraq/2014/07/10/%D8%AE%D9%84%D9%8A%D9%81%D8%A9-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D9%88%D8%A3%D8%B9%D8%B6%D8%A7%D8%A1-%D8%AD%D9%83%D9%88%D9%85%D8%AA%D9%87.html

 

عن “داعش” ومجتمعاتها: اللعب خارج السوسيولوجيا/ حازم الأمين

تبحث هذه الورقة الخلفيات الاجتماعية للجهاديين الذين يلتحقون بصفوف داعش. وترى هذه الورقة أن “داعش” بهذا الخليط غير المتجانس الذي أسماه: “دولة”، تبدو تجربة مستحيلة واستثنائية، وجديدة كل الجدة على العلوم الإنسانية. ولهذا، فقد طرحت التجربة هذه تحديًا فريدًا على وسائل القياس والتقصي التي دأبت أنواع المعرفة على اعتمادها في اشتغالها على هذا النوع من الجماعات؛ فالبعد المشهدي مثلاً، وهو بُعد جوهري في أداء التنظيم وفي نشاطه وطبيعته، هو عامل لا يمكن استبعاده في السعي إلى تفسير تنظيم الدولة “داعش” ولفهم أشكال اشتغاله. وهو بعد متصل إلى حد كبير بمروحة الانهيارات الاجتماعية التي رفدت “التنظيم” وشكَّلت بِنيته.

وتخلص الورقة التي تتضمن شهادات جمعها الكاتب من عائلات وشبَّان التحقوا بـ”داعش” إلى أن السعي لتفسير الالتحاق بـ”داعش” يجب عدم قصره على الوقائع الصلبة والمنسجمة، وهو أيضًا شيء من اللعب خارج السياسة وخارج السوسيولوجيا.

وإذا كانت “القاعدة” تنظيمًا عنقوديًّا، فإن “داعش” تنظيم أفقي، يقتطع مناطق ويُخضع قبائل وعشائر ويضم في تشكيلاته فروعًا لأحزاب وكتائب انشقت بأكملها.

مقدمة

لن يتمكن متعقب تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، في البؤر الاجتماعية والسياسية التي أنجبتها ورفدتها، من الإمساك بخيط هذه “الدولة” المتوهمة؛ ذاك أن “داعش” اتسعت لانهيارات لا يمكن أن تضبطها فكرة واحدة، وهي انهيارات شديدة التفاوت وعديمة التشابه ومختلفة المصادر. في الأردن تغذت “داعش” من الشقاق الاجتماعي المديد الناجم عن فصام الهوية الوطنية وعن ضعفها. وفي لبنان كان للصدع الشيعي-السني وظيفة حاسمة في تفشي المزاج الـ”داعشي” في البيئة السنية. وفي العراق، منشأ التنظيم ولبنة هويته ونواته، تقاطعت عوامل المذهبية مع مزاج عشائري محبط وغاضب، عند الرغبة البعثية الانتقامية. أمَّا التوجه غربًا بدءًا بالمغرب العربي ووصولاً إلى أوروبا، فلنا هناك مع “داعش” قصص مختلفة تمامًا. فتونس مثلاً، وهي أكثر الدول غير المحاذية لجغرافيا “الخلافة” المستجدة رفدًا لـ”داعش” بالجند وبدعاة صغار العمر، خلَّف انهيار نظام زين العابدين بن علي ركامًا اجتماعيًّا ونفسيًّا لم يتسع الوقت لدولة “الثورة” أن تستوعبه، فكانت “دولة الخلافة” بديلاً ووجهة لهجرة “جهادية” مريرة. وفي أوروبا حمل “المجاهدون” معهم من هناك ملامح مختلفة هذه المرة، فهم خليط من شبان وشابات لا تقتصر مصادرهم على مجتمعات الدياسبورا المسلمة في المدن الأوروبية؛ إذ إن من بينهم عشرات من أصول مسيحية، وهم بمعظمهم من غير فقراء القارة العجوز.

الدولة والخليط غير المتجانس

اقترحت “داعش” على هذا الخليط غير المتجانس “دولة”، ولعلها تجربة مستحيلة واستثنائية، وجديدة كل الجدة على العلوم الانسانية. ولهذا ربما طرحت التجربة هذه تحديًا فريدًا على وسائل القياس والتقصي التي دأبت أنواع المعرفة على اعتمادها في اشتغالها على هذا النوع من الجماعات؛ فالبعد المشهدي مثلاً، وهو بُعد جوهري في أداء التنظيم وفي نشاطه وطبيعته، هو عامل لا يمكن استبعاده في السعي إلى تفسير تنظيم الدولة “داعش” ولفهم أشكال اشتغاله. وهو بُعد متصل إلى حد كبير بمروحة الانهيارات التي رفدت “التنظيم” وشكَّلت بنيته. جاء الـ”داعشي” الأوروبي محملاً بخبرات كبيرة على صعيد إنتاج الصورة، فوجد في الصحراوي ابن عشيرة الأنبار كثيف الشعر وأسوده، وجهًا يُخاطب وعيًا سينمائيًّا هوليووديًّا، فيما تولى المهندس التونسي إعداد عناصر الصورة ورفدها بكورس من الأردنيين واللبنانيين، وأُجبر صحافي غربي مختطَف على إعداد تقرير عن المشهد استعمل فيه كل مهاراته في الأداء التليفزيوني(1).

ما كان يمكن لـ”داعش” أن تكون لولا كل هذه العناصر، وهي بهذا المعنى مشهد أكثر منها حقيقة. هي خروج عن “الحقيقة” وابتعاد هائل عما نعتقده واقعًا سوسيولوجيًّا وسياسيًّا. مشهد مُمثَّلٌ، لكنه مشهد قوي نجح فيه المخرج في تجسيدٍ شديدِ التجريدية في تصوير كل هذه الانهيارات الكونية.

فكرة إنشاء سوق للنخاسة في مدينة الموصل تُباع فيه نساء أيزيديات، على رغم مأساويتها، لا يمكن لفروع المعرفة الحديثة أن تُفسرها لوحدها، بل يجب أن تتدخل هنا علوم أخرى، كالطب والصحة وتكنولوجيا المعلومات والجغرافيا والوراثة. كما أن “داعش” كشفت “داعشية” سلبية مقيمة في وجدان خصومها، أولئك الذين راحوا يُطلقون خيالهم لمشاهد مُخترعة لكنها تنتمي إلى منظومة “الفيكشن الداعشي” نفسه(2)؛ فمن “جهاد النكاح” إلى فتاوى إلباس البقرة حمَّالة أثداء، نشأ حول ظاهرة “داعش” ما لا يُحصى من الصور المتخيلة المنتَجة من خيال جماعي يبدو أنه كان بأمَسِّ الحاجة لأن يُخرج ما في خياله من صور جامحة، فكانت “داعش” فرصة لهذيان جماعي مارسته مجتمعاتنا، وتخففنا عبره مما كان يُثقل نفوسنا من أشكال كبت متنوع.

“داعش” موازية

ثمة “داعش” موازية يمكن البحث عنها على ضفاف المساحة التي أعلنتها “الخلافة” دولتها. ويُمكن الاستعاضة فيها عن “داعش” الحقيقية، تلك التي يصعب على الباحث الوصول إليها. ونعني هنا بـ”داعش” الموازية، تلك البؤر التي رفدت التنظيم بمقاتليه ممن هاجروا من عائلاتهم ومجتمعاتهم ودولهم، تاركين أهالي وعائلاتٍ ومنازل وأحياء. نعم ثمة “داعش” هناك، وهي “داعش” تكره “داعش” الحقيقية، وتُكن لها مشاعر انتقامية بعد أن اختطفت منها أبناءها. وهي “داعش” ضحية، لا “داعش” الجلاد والذباح وسابي النساء الأيزيديات. وليكون المرء أكثر عدلاً عليه أن يبتعد بضحايا التنظيم عن شُبهة مسؤوليتهم عنه، لأنهم ليسوا البطن الولَّادة التي أنجبت هذا الوحش الذي يغزو الصحراء، ذاك أن من أنجبه كان بطنًا جماعيًّا.

قد تكون أم خالد، والدة الانتحاري اللبناني الذي نفَّذ عمليته في بغداد في أواسط عام 2014، وكان لم يبلغ العشرين من عمره بعد، نموذجًا لهؤلاء الضحايا الذين يمكن عبرهم الاقتراب من بعض بسيكولوجيا التنظيم(3)؛ فالسيدة اللبنانية الطرابلسية التي أخذت على عاتقها فضح أمر مجنِّدي ابنها، الفتى الذي لم يكن قد مضت أشهر قليلة على التزامه الديني قبل أن يُنفذ العملية الانتحارية، تعيش على حافة مرض عضال (فشل كلوي) يُلزمها التوجه إلى المستشفى مرتين في الأسبوع. صوت خفيض ومُهدد بالانقطاع هو ما تستعين به لتقول إنها ستفضح أمر مجنِّدي ابنها.

تقول الرواية الكبرى: إن خالد، الانتحاري الفتى، الذي جنَّده تنظيم الدولة “داعش” في مدينة طرابلس اللبنانية، كان يقيم في منطقة الفتنة الشيعية-السنية الملتهبة في المدينة، وإنه كحال آلاف الفتية أُصيب بالغضب والإحباط بفعل “اضطهاد حزب الله” أبناء الطائفة في لبنان وفي سوريا. وتقول الرواية أيضًا: إن الأحزمة الفقيرة لمدينة طرابلس مناطق منتجة للمتطرفين، وتورد الرواية وقائع صحيحة ودالَّة عن مستويات التعليم والدخل، وحول مساجد تتولى التجنيد وجهات تموله، وطرق عبور إلى سوريا وإلى العراق.

وكل هذا يبقى صحيحًا وضروريًّا، لكنَّ صوت أم خالد الخفيض يحمل نبرة الرواية الصغرى، تلك التي تجعل من قصة خالد قصة شخصًا وليس قصة منطقة. و”داعش” المتذرِّرة، هي أيضًا أشخاص قبل أن تكون جماعات. نعم، يمكن استشعار الرواية الصغرى من الصوت الخفيض لأم خالد. ثمة هزيمة خلف هذا الصوت، وفي نبرته وفي الملامح الحزينة لوجه المرأة. شيء ما يُلحُّ عليك فيه، ويجعلك تشعر بأن قصة خالد هنا في هذا الصوت الذي لا يقول الكثير، في المرض الممسك بوجه المرأة، والذي يتخلل الوقائع القليلة التي ترويها عن إبنها وعن نفسها. والمرض ليس هنا فشلاً كلويًّا، ذاك أن وظيفة المرض البيولوجي في حالة أم خالد لا تتعدى تظهير هزيمة أكثر عمقًا وجوهرية(4).

لا يمكنك مقاومة إحساسٍ بأن ما جرى لخالد متصل بمأساة خلف صوت أمه، وخلف مرضها. سهولة تجنيده مردها إلى ذلك، والوقائع قليلة الانسجام أيضًا. المشايخ الذين تتحدث عن أنهم كانوا خلف تجنيده، وهم بلا أسماء ولا وجوه، وصورة الأب البعيد في حديثها عن ابنها؛ الأب المتقاعد والساعي إلى عمل بعد التقاعد، والشقيق الأكبر الذي تجهد الأم لصموده في الجامعة قبل أن تُنهكه الحاجة للعمل.

ما جرى لخالد هو تمامًا خلف الصوت المنهك للأم الثكلى. هناك تقيِّم التراجيديا، وهناك كمن القدر لهذا الشاب. ما جرى له، وقائعيًّا يشبه إلى حد كبير ما جرى لغيره من الفتية. وفي غمرة الوقائع التي توردها الأم، والتي تبقى غير كافية لبناء تراجيدي، عليك أن تُميز تفاصيل صغيرة هي ما يجب رصده؛ فحين تتحدث أم خالد عن مشايخ راحوا يحرضون الفتية في حي التربيعة في طرابلس القديمة على “الجهاد”، تُشير عرضًا إلى رجل طيب في الحي لجأ إليه خالد للعمل في دكانه، وهذا الرجل ساعد العائلة، واستعان به خالد في تصريف حاجاته واستمع إلى نصائحه، وهذا الرجل ثبت لاحقًا أنه جنَّد الشاب وأرسله إلى “داعش” في العراق. وبينما تنفي الوالدة عن جار العائلة هذه التهمة وتلصقها بمشايخ بعيدين، اعتُقل الرجل واعترف بعلاقته بجماعات خلف الحدود(5).

ليس في هذه الوقائع جديد إذا ما راقبها المرء من مسافة قارئ وقائع. الاقتراب من صوت الأم هو ما يجعل الفارق ذا قيمة. تظهيره لهشاشة القوام الاجتماعي وللخوف الذي هو أقرب إلى الشقاء، وكشفه لحالٍ من التشتت الصادر عن وهن أصلي يتعدى الفشل الكلوي، يُشعرك بأن “داعش” هي هذه الصرخة الخارجة من هذا الفصام. فكيف يمكن لمنتهى العاطفة ومنتهى الحساسية هذا أن يُنجب انتحاريًا يقتل مدنيين لا يعرفهم؟

الوجدان تراكبي ومشكَّل على نحو أطواق من الأزمات والانهيارات. لا وسيلة قياس له سوى بالاقتراب غير العاقل من صوت الأم اقترابًا لا يُصغي لغير الصوت، يستبعد الكلمات ولا يقيم وزنًا للمعاني التي خلفها. الوقائع متشابهة، وعشرات الفتية الطرابلسيين غادروا قبل خالد وبعده(6)؛ أرسلتهم ضائقة المذهبية اللبنانية التي أشبعناها تفكيرًا وتأويلاً فأفسدتهم وأفسدوها.

الآن علينا أن نبدأ بالحكاية من مكان آخر؛ من “الميكرو حكاية”، من صوت الأم ومن وجهها المُطفأ. علينا أن نقترب بلا شفقة من هذا الوجه، فهناك ارتكبت “داعش” جريمتها الأولى.

تحمل أم خالد صور ابنها؛ شاب لا توحي صورته بأية علاقة له بتنظيم الدولة “داعش”. في واحدة من هذه الصور يظهر الشاب معانقًا أمه في سوق المدينة، وفي صورة أخرى كان وحيدًا، وظهر على هيئة شباب الأحياء عندما يهمون بالخروج من أحيائهم متقيفين متأنقين. تريد الأم أن تقول: إن صورتي خالد لا تمتَّان بعلاقة لفعلته، فهو فيهما لا يشبه الانتحاري الذي صاره(7). وهو فعلاً لا يُشبهه ولم يَكنْهُ. فخالد الانتحاري كان خرج على حين غِرَّة من منزله قبل نحو شهر من تنفيذه العملية ولم يعد، صار شخصًا آخر، ولم يعد منزل أم خالد منزله؛ صار “أبو طلحة”، ولم يعد خالدًا.

مصفاة الفشل

لا نضيف شيئًا إذا ما أدرجنا خالدًا ضمن معادلة الشقاء الطرابلسي اللبناني، فهذا الفعل، أي: إدراج “المجاهدين” في الدائرة المغلقة التي أنشأناها حول ظاهرتهمن يجعل ما تحمله “داعش” من جديد بمثابة مصفاة هائلة لأنواع متفاوتة من الفشل، ولا يمكن رصد وجوهها إلا من خلال الحكايات الصغرى؛ فهي ليست تنظيمًا عضويًّا على ما هي “القاعدة” مثلاً، بل على العكس هي تمامًا تفتت العضوي داخل المجتمعات وتذرِّره في أنساق غير منضبطة، وهي حصيلة “نهاية المجتمعات” ومقدمة لها.

لطالما ألحَّت وجوه تعقَّبتُها في عملي كصحفي بأن التراجيديا تُوِّجت بـ”داعش” ولم تبدأ فيها. ولطالما أيضًا ألحت عليَّ وقائع لم أجد لها مكانًا في تقميشنا للرواية الكبرى. فطرة الاستماع إلى صوت غير سياسي ولسان لا ينطق بغير حكايات قد تبدو على هامش ما أتقصَّاه.

أن يقول لك “سلفي جهادي” مثلاً إنه كان يعمل في محطة بنزين في مدينة الزرقاء الأردنية الفلسطينية(8)؛ فما كان يعنيك من قوله هو أن ذلك يؤشِّر إلى مستوى تعليم ودخل قد يكون لهما دور في خياراته العامة. الأمر مختلف الآن، تلك المشاهد المهملة من حياته صار لها دور الآن. “سلفي جهادي” يُمسك خرطوم البنزين في محطة وقود لم يعد تفصيلاً يمكن إهماله، ورائحة البنزين ربما كانت لها علاقة بصياغة مزاجه؛ فـ”داعش” استحضرت في صعودها ما أهملنا تفسيره، وما اعتقدنا أنه لا يصلح لتأليف فكرة أو مشهد أو استنتاج.

على هذا النحو رُحْتُ أرقب وجه مصطفى، الشاب الأردني من أصل فلسطيني، والمقيم في مدينة الزرقاء والذي يبلغ من العمر 24 عامًا أمضى منها ثلاثة أشهر مقاتلاً في سوريا في إحدى كتائب “جبهة النصرة” في ريف درعا. عاد مصطفى من سوريا قبل نحو سنة، وهو اليوم يعتقد أن “داعش” هي النموذج الذي يسعى إلى الالتحاق به، لا النصرة(9).

ما أنا بصدده الآن هو إعادة الاعتبار إلى كل ما أهملتُه من سيرة مصطفى حين التقيته؛ ففي حينها كنت أسعى إلى كتابة سيرته في مؤشراتها العامة؛ أردني من أصل فلسطيني يقيم في الزرقاء، كانت عائلته نزحت من الكويت بعد الغزو العراقي في عام 1990، ثم إن رد “داعشيته” إلى زرقاويته صار بمتناول الجميع، ذاك أن افتتاح ابن مدينة الزرقاء أبو مصعب الزرقاوي زمن “الذبح” في “السلفية الجهادية” أمر نافل لا يضيف في تفسير ما جرى تفسيره.

علينا الاقتراب أكثر من مصطفى، الاستماع إلى غير أصوات الشيوخ في وجدانه؛ فهو كان قال في حينها إن أمه كانت أول من شجعه على “الجهاد”؛ أمه مُطلقة أبيه الغاضبة على مشيخته “الهادئة”. وإذ يرفض مصطفى الاستفاضة في الكلام عن أبيه، فهو إمام المسجد موظف الحكومة والمُذعن لوزير الأوقاف، يطوف وجهه بالغبطة حين يشير إلى أن أمه كانت تصرخ مُكبِّرة كلما نفذ أبو مصعب الزرقاوي عملية في العراق(10).

ليست أمه من دفعه لـ”الجهاد” ذاك أنها خافت عليه عندما غادر إلى سوريا، لكن صوتها محتفلة بالزرقاوي كان قد استقر في وعيه، ثم إن الاضطراب العائلي الذي يشيح عنه مصطفى خلال حديثه تولى أيضًا تأسيس شيء ما بالشاب. الصمت والثقة المفرطة بالنفس وراءهما أم غاضبة وابن ساعٍ لمخاطبة هذا الغضب. قد لا تكفي مقابلة واحدة لتفسير مصطفى، لكنها تكفي للاعتقاد بأن وراء هذا الصمت ما لم يُقَل بعد. صحيح أن لـ”داعشية” الشاب طعم أردني واضح ويمكن ردها إلى شقاق في “السلفية الجهادية” أصاب مجتمع الأخيرة في المملكة؛ حيث انحاز الزرقاويون إلى “داعش” والمقدسيون (نسبة إلى الداعية أبو محمد المقدسي) إلى “جبهة النصرة”، إلا أن ذلك لا يكفي للتسليم بالأسباب(11).

لكن “داعشية” الأردني ليست امتدادًا لـ”قاعديته”، ذاك أن الأخيرة استقرت في وعي أصحابها في المملكة بعد سنوات من الاضطراب. فبين زيارتين يفصل بينهما أكثر من عشر سنوات للناشط في “السلفية الجهادية” لقمان ريالات في مدينة السلط وهو اليوم مؤيد لـ”النصرة”(12)، يمكن للزائر أن يلاحظ أن كهولة أصابت سلفيته فأقعدتها. في مطلع العقد الفائت وصل الشاب إلى الموعد شبه متخفٍ بسبب شعوره بأنه ملاحق، ولم يكن الحديث معه سهلاً. كان زرقاويًا ومقيمًا حدودًا صارمة للحديث. وفي عام 2014 كانت الزيارة إلى المدرسة التي يديرها في السلط؛ شيخ سلفي محاط بمدرسين ومدرسات، وتزوره والدات التلاميذ والتلميذات من دون أن يشيح بوجهه عن عيونهن. علمًا بأن والد لقمان كان ناشطًا في جماعة الإخوان المسلمين الأردنيين وفي الزيارة الأولى كان لقمان يعيب عليه ذلك، بينما كان الوالد في الزيارة الثانية جالسًا إلى جانب ابنه فيما الأخير يشير إليه برضا كاملٍ عن أبوته(13).

لا أثر لـ”السلفية” على قيافة مصطفى؛ ثمة أثر لـ”جهادية” لا تشترط اللحية الطويلة والثوب القصير. عليك أن تُصغي مجددًا لصوت أمه يحضه على “الجهاد”، الصوت الصادر من بعيد؛ من نزوح أول من الضفة الغربية ومن نزوح ثانٍ من الكويت، وعليك أن لا تسقط في التعميم؛ ذاك أن النزوح فعل جماعي لم يُفضِ إلى نتيجة واحدة، و”داعش” هي امتداد لمسار شخصي أيضًا، يرفض مصطفى الاقتراب منه لكنه جلِيٌّ على وجهه.

لا، ليست “سلفية جهادية” تلك التي يُمكن أن نرد إليها “داعشية” مصطفى، ثم إن الزرقاوية ليست أكثر من أثر بعيد، فصاحبها (أبو مصعب الزرقاوي) قُتل قبل نحو ثماني سنوات، وفي حينها كان مصطفى فتى لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره. وبهذا المعنى فإن “داعشيته” هي هو، وهي مساره الخاص واضطرابه الخاص، ومرة أخرى تبدو “داعش” مصفاة اضطرابات هائلة السعة.

لكن ليس الاضطراب العائلي والشخصي والنفسي وحده ما يمكن الاقتراب منه لنقيم فارقًا في التفسير؛ فاضطراب الوعي الشخصي بالشأن العام أيضًا يبدو عاملاً سبق أن أُهمل. أي بمعنى أن ثمة أفرادًا يشتركون فقط في اضطراب علاقتهم بقيم مستدخلة، وتبدو ردود أفعالهم شديدة التفاوت حيالها، هم صادرون عن الصدع النفسي ذاته، لكن استجاباتهم مختلفة حياله. وهنا جاءت “داعش” كاقتراح على أفراد وليس على جماعات؛ فالتونسيون الذين يُقاتلون مع “داعش” والذين ربما بلغت أعدادهم أكثر من خمسة آلاف بحسب جمعيات أهلية، ليسوا جزءًا من الرواية التونسية الجماعية، إنما هم خروج عنها. حتى الحركة الإسلامية التقليدية في تونس، أي: حركة النهضة، لا تمُتُّ بصلة سوسيولوجية لمن “هاجر” للقتال مع “داعش” من التونسيين. “المجاهدون” التونسيون أقرب إلى انشقاق عن المجتمع وعن إجماعاته، حتى الإسلامية الحركية منها. وإضافة إلى ذلك، هم لا يمتُّون بصلة متينة إلى تلك المؤشرات التي طالما رصدها الباحثون في الجماعات “الجهادية”. هم من غير الفقراء المعدَمين وليسوا مهمَّشين، والأكثر مدعاة للاستغراب هو أنهم في أصولهم أقرب إلى البيئات التونسية غير الإسلامية.

وهنا تبدو الحاجة إلى الابتعاد عن التفسيرات العامة للظاهرة أكثر إلحاحًا، ويبدو أن لا مناص من الاقتراب المجهري، والبحث بما تهمله الروايات الكبرى مجددًا.

رشيد شاب تونسي غير إسلامي على الإطلاق(14). هو مضيف طيران على الخطوط الجوية التونسية؛ شاب رياضي ووسيم، ترك على وجهه أثرًا خفيفًا للحية شاب حديث، لكن شقيق رشيد، أحمد، الذي يصغره بسنتين توجه للقتال في سوريا مع “النصرة” ثم انتقل لاحقًا إلى “داعش”. نحن هنا حيال انشقاق عن العائلة بالمعنى الحرفي للكلمة، فخالد الـ”داعشي” خرج من عائلة زيتونية الإيمان (مدرسة الزيتونة، وهي المدرسة الدينية التقليدية التونسية، وهي أقرب إلى مدرسة الأزهر في القاهرة)، وخرج من بين أشقاء وشقيقات غير ممارسين لأي طقس ديني ولا أثر للحجاب في العائلة سوى حجاب الأم غير المحكم.

أنت الآن تتجول في سيارة رشيد، شقيق أحمد الذي يكبره بسنتين. تستمع لحكايات رشيد عن شقيقه، لكن ماذا لو استمعت لحكايات رشيد عن نفسه؟ ماذا لو افترضت أن صدعًا واحدًا يشترك فيه الشقيقان نجَمَ عنه مصيران مختلفان؟ قد لا يبدو على رشيد أي أثر لضائقة أو لصدع، لكن الاقتراب أكثر من الشاب ربما يُفضي إلى شيء قد يُساعد على بناء شخصية متخيلة لشقيقه. هذه لعبة مسلية لصحفي يلهث وراء ما هو أكثر جدية وتماسكًا.

أنت الآن تُدرك أن “المجاهدين” التونسيين في “داعش” هم من مجتمع النظام السابق، أي إنهم جزء من البنية الاجتماعية والاقتصادية التي نشأت حول الوظائف المختلفة والتي أسسها النظام. معظمهم من مدن الساحل التونسي حيث حزب التجمع (حزب زين العابدين بن علي) يتمتع بنفوذ وقواعد ومناصرين، وهم فقراء هذا النظام غير المعدمين.

يمكن لرشيد أن يقودنا إلى المزيد، لكنه مزيد عن شقيقه، فـ”داعش” هي حصيلة سيرٍ غير منسجمة وليست سيرة واحدة. وسيرة الـ”داعشي” هي أيضًا سيرة موازية لسيرة أي واحد منَّا. قد لا تكون سيرتنا، لكنها السيرة الموازية من دون شك(15).

لرشيد بنية جسمانية متينة لكنها توحي بأنها انهيارية، فالشاب يتحدث بجسمه كله، لكن وسامته المُشْتَغَلة والمبنية، لا توازيها رشاقة في الملامح ولا خفة في الأداء الجسماني. ورشيد الذي يشعر بأن فِعْلة شقيقه ارتدَّت على العائلة كلها، راح يصف جارهم الداعية السلفي الذي استأجر الطابق السفلي من منزلهم، وخلال إقامته مع زوجته جنَّد الشقيق وكاد يُجنِّد الشقيقة، بأوصاف شديدة التوتر لكنها لم تخرج عن التهذيب.

هنا تبدأ الحكاية تفقد انسجامها؛ هنا “داعش”، أي: في انعدام الانسجام. الداعية الذي أفقد العائلة ابنها أحمد، والذي أقام في المنزل وربطته علاقات وطيدة بأفرادها جميعًا باستثناء رشيد، كان سلفيًّا مكتملاً حين استأجر من العائلة منزلها. جاء في أعقاب سقوط النظام تمامًا، وحوَّل المنزل إلى خلية عمل “جهادي”. وغادر مع أحمد وأربعة من شباب الحي الكائن في أحد ضواحي العاصمة التونسية إلى سوريا.

أن تزور العائلة في منزلها، فلن تشعر بأثر لهذا الرجل الذي أقام أكثر من سنتين في المنزل. الشابات غير محجبات، والوالد موظف سابق وشيخ زيتوني غير ملتحٍ كان قد طرده السلفيون من مسجد الحي بعد أن انهالوا عليه بالضرب وسيطروا على المسجد. كل هذه الوقائع تمت في أثناء سكن الداعية السلفي الغريب في منزل العائلة(16).

لن تتمكن من جمع عناصر الرواية، فعدم انسجامها يُشعرك بأن خيطًا رئيسًا يمسك بها ما زال مفقودًا. عليك هنا أن تدقِّق أكثر، فعدم الانسجام العضلي للشاب هو امتداد لعدم انسجام أعَمَّ. ليس من سرٍّ تخفيه العائلة عنك، وإذا كان الأمر كذلك، فإن كشفه لن يفيد بأكثر من ضم حكاية العائلة لآلاف الحكايات التي صرت تعرفها في تونس وعن “الخروج إلى الجهاد” في سوريا.

إقامة الرجل لسنتين في منزل العائلة مع زوجة منتقبة وضيوف سريين، واضطراب رشيد أثناء الحديث عنه من دون خروجه عن أدب الكلام قد يكون أهم مما تخفيه العائلة عن هذا الداعية. قبولها ببقائه في منزلها على رغم اعتداء فتيته على صاحب المنزل.

ورشيد متقصٍّ حكاية شقيقه مع “الجهاد” فتح القصة على أبواب جديدة؛ أفصح بوجهه المشدود عن اعتقادات تؤشِّر إلى اضطراب كبير في منظومة قناعاته. قال إنه يعتقد أن الولايات المتحدة الأميركية هي وراء عملية 11 سبتمبر/أيلول، وعلى إثرها غزت المنطقة. صحيح أن كثيرين يعتقدون ذلك، لكننا في حالة رشيد أمام أكثر من اعتقاد، أمام فعل ورغبة بالفعل؛ فهو يبحث -بحسب ما قال منذ سنوات عديدة- عن ذلك الصحفي المصري الذي يملك الحقيقة. سافر للقائه في مصر ولم يُوفق، وهو لا يجيب على كل أرقام الهواتف التي حصل عليها رشيد(17).

لا يفارقك شعور أثناء تجوالك مع رشيد في السيارة مستمعًا إليه بأنك أمام ظلٍّ لشقيقه الذي غادر لـ”الجهاد” في سوريا. شيء ما تعجز عن تفسيره، ولكن يحضُّك كلام الشاب على البحث عنه. وعليك هنا أيضًا أن تبدأ بحياكة سيناريوهات متخيلة تعينك على ما أنت فيه من حيرة ومن قناعة غير منطقية.

نعم، باغتَنَا تنظيم “الدولة الإسلامية”. جاءنا من المناطق التي كنَّا نهمل النظر إليها، لم يضع شروطًا كثيرة على الوافدين إليه. قال لهم: فقط احملوا معكم ما فشلت دولكم ومجتمعاتكم وعائلاتكم به وتعالوا. شيخ السلفية العلمية في لبنان حسن الشهال، الذي طالما قال إن العنف ليس وسيلة “دعوته” غادر ابن شقيقه وتلميذه وشريكه في “معهد الهداية” للتعليم الديني في طرابلس شاكر الشهال، والبالغ من العمر 25 عامًا إلى الرقة حيث يعمل الآن قاضيًا في إحدى محاكم “داعش” هناك. أجاب الشيخ حين سُئل عن سبب “هجرة” ابن شقيقه، وهو الذي لطالما كان تلميذ عمه ومرافقه، فقال: إن الشاب فشل في خطوبة شابة، فأصابه الإحباط وغادر.

وتبدو هذه السهولة امتدادًا لسهولة تحول الدعوة السلفية من مستواها “العلمي” والدعوي إلى مستواها العنفي، ذاك أن الشهال العَمَّ، وهو أبرز وجه سلفي لبناني، لا يرى أن الوقوف بوجه إعلان “الخلافة” أمرًا بديهيًّا حتى لو كان أبو بكر البغدادي مُعلنها؛ فالخلافة على ما يقول الشهال: “حُلْمٌ يراود أي مسلم”.

وبين فشل الخطوبة وإفصاح العم عن صعوبة مقاومة “إغراء الخلافة”، يشعر متقصي الأسباب التي دفعت شاكر لمغادرة طرابلس إلى الرقة للإفتاء هناك، بأن ما فعله الشاب ليس مرده إلى “الدعوة” التي ألحت عليه، إنما إلى تلك المساحة السهلة التي تتحرك فيها هذه الدعوة. شيء من اللعب ومن الفشل الرشيق والمباشر.

الشاب الفرنسي من أصل مغربي، أيضًا ذاك الذي تحدث إلى وكالة الصحافة الفرنسية عن شقيقته التي لم تبلغ السابعة عشرة من عمرها وغادرت من فرنسا إلى حلب لتلتحق بـ”داعش” قال شيئًا قد يكون مشابهًا؛ قال إن شقيقته لا تجيد العربية ولا تعيش في منزل فيه أثر للممارسة الدينية. الأثر الوحيد الذي رصدته العائلة هو ثياب صلاة تم العثور عليها في غرفة الفتاة بعد مغادرتها. كما أشار الشاب إلى أنه تحدث مع شقيقته المقيمة في حلب عبر الهاتف وقالت له إن حياتها هناك تشبه الحياة في “ديزني لاند” الذي لطالما حلمت أن تعيش فيه(18).

خلاصة

إن ثياب صلاة في غرفة مراهقة فرنسية تحلم بـ”ديزني لاند”، لا تقدم تفسيرًا لما جرى مع الفتاة، مثلما أن فسخ خطوبة شاكر الشهال ليس تفسيرًا لمغادرته إلى الرقة. وهذه وغيرها من القصص التي قدمناها مؤشرات غير حسية وغير صلبة. إن السعي لتفسير الالتحاق بـ”داعش” يجب عدم قصره على الوقائع الصلبة والمنسجمة. وهو أيضًا شيء من اللعب خارج السياسة وخارج السوسيولوجيا.

وإذا كانت “القاعدة” تنظيمًا عنقوديًّا، فإن “داعش” تنظيم أفقي، يقتطع مناطق ويُخضع قبائل وعشائر ويضم في تشكيلاته فروعًا لأحزاب وكتائب انشقت بأكملها. هذه السعة تتيح أيضًا مرونة في الشقاء وتدفع اللعب إلى أقصاه. فإلى جانب “سلفيته الجهادية” هناك أثر قوي لبعثية “داعش” ولعشائريته، وتتجاور فيها محلية مغرقة في رجعيتها وعالمية لا حدود لحداثتها.

يُلخص شاكر وهيب، نجم التنظيم وفتاه الأبرز، تلك الخفة الدموية(19)؛ فوسيم “داعش” هذا ونجم “يوتيوبها” يُبدل ملابسه تبعًا للمهمة التي يُنفذها، وهو إذ يُخاطب السلفيين في حفه شاربيه وإطلاقه لحية سوداء، يتعمد أيضًا مخاطبة آخرين عبر تبديله القبعات، ويُحرك جسمه متقدمًا في مشيه ملامسًا مشي نجوم البوب الغربيين. والتنظيم يبدو محتفلاً بنجمه، مبرزًا إياه في الكثير من الأفلام التي يُنتجها، وساعيًا للقول: ها أنا ذا لست شيئًا مما تعرفونه عن أقراني في “السلفية الجهادية”. أنا القاتل الذي يُشبهكم.

__________________________________________

حازم الأمين: صحفي لبناني متخصص في تغطية الجماعات الجهادية.

 

المصادر والهوامش

1- Mariano Castillo and Brian Todd, Who is the English speaker in ISIS video ‘Flames of War’? September 19, 2014:

http://edition.cnn.com/2014/09/19/world/meast/isis-flames-of-war-video/

– Markham Nolan , vocativ.com, 09/19/14,ISIS Releases Hour-Long, Movie-Style Recruitment Feature Film:

http://www.vocativ.com/world/isis-2/isis-release-hour-long-movie-style-recruitment-feature-film/

2- حازم الأمين، «جهاد النكاح» بين زيارتين: ليس خرافة مشرقية، الحياة اللندنية، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2014:

http://alhayat.com/Opinion/Hazem-AlAmin/5428075/%C2%AB%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%83%D8%A7%D8%AD%C2%BB-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%AA%D9%8A%D9%86–%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D8%AE%D8%B1%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%82%D9%8A%D8%A9

3- مقابلة للباحث مع والدة خالد، الانتحاري اللبناني، مدينة طرابلس في شمال لبنان بتاريخ 10 سبتمبر/أيلول 2014.

4- من مقابلة الباحث مع والدة خالد.

5- من مقابلة الباحث مع والدة خالد، مقابلة للباحث مع حسن الشهال، طرابلس 10 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

6- حازم الأمين، طرابلس مجددًا في فم «الخلافة»… وفتية بأسماء جديدة يبايعون وينتحرون، الحياة اللندنية، 14 سبتمبر/أيلول 2014:

http://staging.alhayat.com/Articles/4588700/%D8%B7%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D9%84%D8%B3-%D9%85%D8%AC%D8%AF%D8%AF%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%85–%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A9—–%D9%88%D9%81%D8%AA%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A3%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D9%8A%D8%B9%D9%88%D9%86-%D9%88%D9%8A%D9%86%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%88%D9%86

7 – حازم الأمين، طرابلس مجددًا في فم «الخلافة»… وفتية بأسماء جديدة يبايعون وينتحرون، الحياة اللندنية، 14 سبتمبر/أيلول 2014:

http://staging.alhayat.com/Articles/4588700/%D8%B7%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D9%84%D8%B3-%D9%85%D8%AC%D8%AF%D8%AF%D8%A7%D9%8B-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%85–%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D8%A9—–%D9%88%D9%81%D8%AA%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A3%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D9%8A%D8%B9%D9%88%D9%86-%D9%88%D9%8A%D9%86%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%88%D9%86

8- مقابلة للباحث مع مصطفى (الشاب الأردني من الزرقاء)، عمان، الأردن، 4 يوليو/تموز 2014.

9- مقابلة للباحث مع مصطفى (الشاب الأردني من الزرقاء)، عمان، الأردن، 4 يوليو/تموز 2014.

10- مقابلة للباحث مع مصطفى (الشاب الأردني من الزرقاء)، عمان، الأردن، 4 يوليو/تموز 2014.

11- مقابلة للباحث مع مصطفى (الشاب الأردني من الزرقاء)، عمان، الأردن، 4 يوليو/تموز 2014.

12- مقابلة للباحث مع لقمان ريالات، السلط، الأردن، 3 يوليو/تموز 2014.

13- مقابلة للباحث مع مصطفى (الشاب الأردني من الزرقاء)، عمان، الأردن، 4 يوليو/تموز 2014.

14- من مقابلة للباحث مع راشد التونسي، تونس، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

15- من مقابلة للباحث مع راشد التونسي، تونس، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

16- من مقابلة للباحث مع راشد التونسي، تونس، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

17- من مقابلة للباحث مع راشد التونسي، تونس، 25 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

18- حازم الأمين، رحلة «الجهاد» السهلة إلى سوريا، الحياة اللندنية، 12 أكتوبر/تشرين الأول 2014:

http://alhayat.com/Opinion/Hazem-AlAmin/5005048/%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%87%D8%A7%D8%AF%C2%BB-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%87%D9%84%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9—-%D8%B1%D8%A8%D9%85%D8%A7-%D9%87%D8%B0%D9%87-%D9%87%D9%8A\

19- مشرق عباس، شاكر وهيب… فتى «داعش» الرومانسي… بقبعة غيفارا وذكرى الزرقاوي، الحياة، 30 يوليو/تموز 2014:

http://alhayat.com/Articles/3867776/%D8%B4%D8%A7%D9%83%D8%B1-%D9%88%D9%87%D9%8A%D8%A8—-%D9%81%D8%AA%D9%89–%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4–%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%B3%D9%8A—-%D8%A8%D9%82%D8%A8%D8%B9%D8%A9-%D8%BA%D9%8A%D9%81%D8%A7%D8%B1%D8%A7-%D9%88%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D8%B1%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%8A!

 

 

مفارقات (داعش): الآمال السياسية التي خابت/ طارق عثمان

ملخص

يرى الباحث في هذه الورقة أنه يمكن النظر إلى تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) بوصفه كتلة من المفارقات، التي تتجلى في مستويات عدة. هذه المفارقات هي تعبير بليغ عن خيبات سياسية معممة؛ تجلَّت مفارقة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) الأولى في سياق ظهوره في قلب الربيع العربي، والتي اعتبرت انطلاقته توقيعًا على شهادة وفاة أيديولوجيا القاعدة. إن هذه المفارقة الأولى هي تعبير عن خيبة الأمل فيما بشرت به هذه الانطلاقة. تقدم (داعش) نفسها كجماعة إسلامية تسعى لإحياء مبادئ الإسلام الحقيقية، عبر تحقيق نظام الخلافة الإسلامية، في حين أنها، لو حُقِّق أمرُها، تتمثل جوهر الدولة الحديثة التي تسعى لمحوها، هذه هي مفارقة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش): إنها دولة ضد الدولة. وهي مفارقة تعبِّر بوضوح عن فشل الدولة القُطرية العربية. لقد مثَّل بزوغ تنظيم (داعش) كفاعل من غير الدول إرباكًا معمَّمًا لسياسات الدول الخارجية: دول الإقليم أو الولايات المتحدة الأميركية. لقد اضطرت الولايات المتحدة للانخراط في المنطقة مرة أخرى، على الضد من استراتيجية أوباما القاضية بالابتعاد ما أمكن عن التدخل العسكري في الشرق الأوسط، بينما ترفض تركيا الانضمام إلى حلف عسكري ضد (داعش) وليس ضد نظام الأسد، ودول الخليج بالمثل تتلكأ في دعم العمليات ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) نظرًا لكونها لا تخدم هدفها المتمثل في الإطاحة بالأسد. بالنسبة لإيران فهي تستغل نفوذها في العراق وسوريا فيما يشبه ابتزازًا سياسيًّا لواشنطن. مثَّل بزوغ (داعش) انتكاسة للثورة السورية خاصة، وتعبير عن خيبة كبيرة في الربيع العربي ككل.

مقدمة

كان اندلاع الثورات العربية(1) بداية من تونس في نهايات العام 2010، حدثًا يحض على التفاؤل بلا شك. تفاؤل قد سوَّغ للجميع أن ينعته باحتفاء بـ”الربيع العربي”(2). ولكن بعد مرور ما يربو على ثلاث سنوات بعد هذا التاريخ، لم يعد أحد قادرًا على الاحتفاظ بتفاؤله، الجميع مدفوع برغبة صامتة في تقديم رثاء مناسب ضمن عملية تأبين واسعة لما كان ربيعًا عربيًّا يومًا ما؛ فلقد سارت الأحداث في اتجاهٍ ما كان يؤمَّل لها أن تسير فيه؛ فباستثناء تونس التي تكافح لإبقاء ثورتها على المسار الصحيح(3)، فإن أحوال باقي الثورات ليست على ما يرام؛ ففي مصر انتصرت الثورة المضادة بفضل الانقلاب العسكري الذي أطاح في يوليو/تموز 2013 بأول رئيس منتخب في تاريخ مصر الحديث برمته، ومن ثمة صارت ثورة 25 يناير/كانون الثاني مجرد ذكرى سعيدة من الماضي(4). أما ليبيا فقد غرقت من بعد مقتل القذافي في تطاحن سياسي وعسكري مرير، لا تلوح في الأفق أية بشائر على قرب نهايته(5). وفي اليمن لا تقل الأمور تعقيدًا؛ لقد سقطت العاصمة صنعاء في أيدي الحوثيين بسهولة مذهلة(6)، والقاعدة -تبعًا لذلك- في حالة ازدهار(7)، ومن حين لآخر ينشط الحراك الجنوبي داعيًا للانفصال. لقد ضاعت الثورة اليمنية وسط هذه الأجواء المعتمة. أما الثورة السورية، فقد اندثرت تمامًا تحت غبار حالة حرب متعددة الجبهات. تلك الحرب التي بزغ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)(8) من قلبها، كقوة سياسية وعسكرية فظيعة ومثيرة للارتباك.

تسعى هذه الورقة لتقديم تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) كمفارقة، تتجلى طبيعتها المفارقة في مستويات عدة؛ في سياق ظهورها، وفي كنهها السياسي، وفي أثرها على سياسات الدول الخارجية والعلاقات بين-الدولية. وسأجادل عن كون هذه المفارقات يمكن النظر إليها كحالة من حالات خيبة الأمل السياسية المعممة.

(داعش): بجعة الربيع العربي السوداء

بحسب نسيم طالب(9)، يمكن النظر إلى حدثٍ ما بوصفه بجعة سوداء، حال توافَرَ على الشروط الثلاثة التالية: غير متوقع، وتأثير تبعاته بالغ الشدة، وبعدما يحدث يمكننا فهمه وتفسيره(10). هل يمكننا اعتبار بزوغ (داعش) في سياق الربيع العربي بجعة سوداء؟ كان ثمة إجماع على أن الربيع العربي (والذي يمكن اعتباره بجعة سوداء هو الآخر) قد مثَّل ضربة قاصمة لأيديولوجيا القاعدة؛ فبحسب هذه الأيديولوجيا يعتبر قتال الولايات المتحدة وحلفائها (العدو البعيد) أو الأنظمة العربية المستبدة (العدو القريب) هو السبيل الوحيد لتحقيق استقلالية العالم الإسلامي؛ فجاءت الثورات العربية لتبرهن على خطأ هذه القناعة؛ إذ بدا أن الشعوب العربية قد استطاعت أن تسقط الأنظمة المستبدة عبر وسائل الاحتجاج السلمي. بل استطاعات حركات الإسلام السياسي أن تصل للسلطة أو على الأقل أن تكون جزءًا منها، عبر وسائل ديمقراطية. لقد سبَّب الربيع العربي إذن إحراجًا بالغًا للقاعدة، فانزوت وخَبَا نجمها ولم تُعِرِ الشعوب الثائرة خطابات قادتها الذين يحاولون اللحاق بالحدث أي اهتمام. إن الجميع قد تصور أن الربيع العربي هو بداية النهاية للقاعدة، ولكن ماذا جرى في المقابل؟ من قلب الثورة السورية بزغ (داعش) بوصفه النسخة الأكثر تطرفًا لنموذج القاعدة، إنه لحدث خارج نطاق التوقعات إذن، وقد ترتب عليه تبعات جيوسياسية وإنسانية ضخمة. كذلك من المستطاع الآن بعدما أصبح تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) واقعًا عينيًّا أن نفسر ونحلل أسباب ظهوره ومختلف التداعيات التي ترتبت على هذا الظهور. إنه إذن بمثابة بجعة سوداء، بالنسبة لسياق الربيع العربي.

يمكن تأويل مفارقة بزوغ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) هذه كخيبة أمل للربيع العربي؛ فقد كان الرهان الأساسي لهذا الربيع هو الخلاص من سلطة مستبدة، عبر وسائل مدنية وسلمية تمامًا، ولكن هل أنجز بالفعل مهمته؟ تشترك كل حالات الربيع العربي في كونها لم تنجز مهمتها بصورة تامة(11)، بينما تختلف فيما بينها في درجة هذا الفشل وفي أسبابه. فهل بوسعنا أن نعتبر بزوغ (داعش) هو الصورة الأكثر واقعية لهذا الفشل؟ إن خيبة الأمل هذه قد أعادت البريق للفكرة التي تنهض عليها القاعدة: لا سبيل لإحداث تغيير جذري إلا بالقتال، وأتاح لأتباعها الفرصة لأن يقولوا بفخر: لقد أكدنا لكم مرارًا أنكم لن تجنوا من وراء الديمقراطية شيئًا يُذكر.

إن القاعدة لم تؤمن قطّ بالربيع العربي، فقط هي بدأت تفعل ذلك عندما فشل، عندما تحول في سوريا لحالة حرب معمَّمة، عندها فقط بدأت ترى فيه ربيعًا حقيقيًّا. إن لحظة تحول الثورة السورية لحرب، هي لحظة فشل الربيع العربي، وهي لحظة بزوغ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). هذه هي إذن مفارقة ظهور (داعش) في سياق الربيع العربي، والتي تمثل تعبيرًا فجًّا عن خيبة الأمل فيه.

(داعش): دولة ضد الدولة

يبدو جليًّا أن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) يناصب الدولة القومية الحديثة العداء، إنه يسعى وفق تصور إمبراطوري للإسلام إلى إزالة الدولة القُطرية التي تشكَّلت عقب الحقبة الاستعمارية، لتحل دولة الخلافة الإسلامية محلها. ولكن ما هو كُنه تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)؟ هل ننظر إليه كحركة ثورية أخيرة في وجه الإمبريالية الغربية، أم حركة اجتماعية إسلامية أصولية؟ لعل المقاربة الأنسب لفهم (داعش) هي أن ننظر إليها كدولة حديثة؛ إن (داعش) تتوافر بصورة مدهشة على البنية التي تنهض عليها الدولة الحديثة، أي الدولة بوصفها “ليفياثان” أو “إله فانِ” بتعبير هوبز(12)، يخضع له الجميع، ويحتكر الحق في استخدام العنف بصورة مطلقة. تلك هي المفارقة إذن؛ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) الذي يقدم نفسه كضد للدولة الحديثة، هو في جوهره دولة حديثة. بل هو يتمثل في واقع الأمر الدولة الحديثة في أبشع صورها: الدولة التوتاليتارية/الكليانية؛ ففي تحليلها للظاهرة التوتاليتارية، ترى حنا أرندت أن معمار النظام التوتاليتاري يتكون من الآتي: كاريزم، أيديولوجيا تاريخية، آلة قمع، وجهاز بروباجاندا(13)، لقد خصت أرندت في نصها الكلاسيكي هذا ثلاثة نماذج توتاليتارية بالدراسة: الفاشية والنازية والستالينية.

والحال، أننا لو تدبرنا في كنه تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وممارساته، سنجد أنه يتوافر على مكونات هذا المعمار؛ فتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) يتبنى أيديولوجيا تحمل تصورًا ما لمسار التاريخ، يعمل هو على تحقيقه. إنها أيديولوجيا الخلافة، الخلافة الإسلامية بما أنها هي المآل الذي ينبغي أن يؤول التاريخ إليه، عليه إذن أن يتخذ كل الخطوات اللازمة لتسريع تحقق هذه الغاية فعليًّا في هذا العالم. يبدو جليًّا استعجال (داعش) الوصول لغاية التاريخ هذه في إعلانه المبكر عن قيام الخلافة الإسلامية بعد سيطرته على أجزاء من العراق وأجزاء من سوريا ثم إن (داعش) لديه كاريزما تتمثل في الخليفة، بوصفه وريثًا للنبوة منوطًا به حفظ الدين وسياسة الدنيا به، له بيعة واجبة في رقبة كل مؤمن. أما عن جهاز القمع، فتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) حوَّل كل من ينتسب إليه لآلة قتل، تحت غطاء مفهوم الجهاد. ومن جهة البروباجاندا، فلا مراء في أن (داعش) يمتلك جهازًا دعائيًّا قويًّا، يروِّج من خلاله لنفسه، جهازًا قد استغل بنشاط كل منتجات الحداثة (التي هي ضدها)، من وسائل التواصل الاجتماعي، إلى التصوير السينمائي(14). إذن (داعش) هو فاشيست حقيقي، ولكنه ينهض هذه المرة على أيديولوجيا دينية، مما يجعله أكثر خطرًا في واقع الأمر؛ فالأيديولوجيا الدينية تهب من يعتنقها قدرًا من الاطمئنان الميتافيزيقي الذي يُكسبه بدوره جرأة على تنفيذ ما يعتنقه، فهو ينفذ إرادة الله هذه المرة وليس إرادة بشرية. وهذه هي مفارقة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)؛ بينما هي تعلن عن عداء نشط للدولة الحديثة، إذ بها تتمثل جوهر هذه الدولة في أشد صوره عنفًا وقسوة.

ولكن عن أية خيبة أمل تعبِّر هذه المفارقة؟ إنها تعبير عن هشاشة الدولة العربية المتضخمة بتعبير نزيه الأيوبي(15)، إنها دولة هشة وإن بدت في صورة لفياثان هوبز المخيف. لنفهم ذلك ربما كان علينا أن نعود لمفهوم السياسي عند كارل شميت(16)؛ فجوهر السياسة عند شميت هو القدرة على تدشين لحظة الاستثناء، أي: لحظة الحرب، والسياسي الحق هو من يملك القرار في لحظة الاستثناء هذه. وعليه، فتاريخ السياسة بحسب شميت هو تاريخ الحرب، وما السلم إلا فترات بينية تتخلل حالة الحرب، ليست مقصودة في حد ذاتها وإنما هي خادمة للحرب بطريقة أو بأخرى(17).

إذن الدولة (أو السياسي) التي لا تملك قرار الحرب هي دولة “مبتسرة” سياسيًّا، وفاقدة لقدر كبير من شرعيتها ككيان سياسي. والحال، أن الدولة القُطرية العربية التي خلَّفها الاستعمار، هي دولة لا ينطبق عليها تصور السياسي لدى شميت؛ إنها في واقع الأمر لا تملك القدرة على تدشين لحظة الحرب الخاص بها. إن الدولة العربية لا تستطيع أن تقدم لنا تمييزًا واضحًا بين الصديق والعدو، التمييز الذي يراه شميت ركيزة أساسية للسياسي. من هو عدو الدولة العربية والتي يمكن أن تدشن لحظة الحرب من أجله؟ لا أحد. في ظل غياب عدو خارجي للدولة توجه عنفها تلقائيًّا نحو الداخل. لقد صارت علاقة الدولة بالمجتمع ذات طابع حربي بدرجة أو بأخرى. لقد جاءت القاعدة لتسد هذا الفراغ الذي خلَّفته الدولة العاجزة عن الحرب، إنها أعادت رسم خريطة سياسات العداوة بكل وضوح، إن كل نشاط القاعدة في واقع الأمر ليس سوى تدشين دائم للحظة الحرب. لقد وفرت بتعبير طريف لياسين الحاج صالح “سوقًا سوداء” للحرب(18)، بعدما عجزت الدولة العربية أن توفره بصورة مشروعة. القيام بواجب الحرب هذا (الفريضة الغائبة وفق المعجم الجهادي) يفسر -جزئيًّا- الجاذبية التي تحظى بها القاعدة لدى أشياعها

ما أضافه تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في هذا السياق، أنه وسَّع من نطاق عمل سياسات العداوة، بحيث صار من يخضع له هو وحده الصديق بينما من سواه هو العدو. توسل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في تمييزه الصارم هذا بين الصديق والعدو بتقنيات ميتافيزيقية كتقنية التكفير التي وظَّفها بعنف لإخراج من يخالفه من إطار الإسلام ومن ثم استحلال دمه وماله باسم الإرادة الإلهية، والتي هي إرادة هوبزية لو حُقِّق أمرها. هذه هي إذن مفارقة كنه تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) كدولة ضد الدولة، والتي هي بمثابة تعبير عن خيبة أمل الدولة العربية في تحقيق جوهرها السياسي.

التحدي: (داعش) وإرباك السياسات الخارجية

بحسب أدبيات علم السياسة، ينتمي تنظيم “الدولة الإسلامية” لما يُسمى بالفاعلين من غير الدول Non-state actors(NSAs)، وهي كيانات تنازع الدولة في احتكارها للفعل السياسي. وتتوافر على السمات التالية: كيان منظم يمتلك هيكلية قيادية، يتمتع باستقلالية عن الدولة التي ينتمي لها جغرافيًّا، يعبِّر عن أو يمثل جماعة معينة إثنية أو طائفية أو أيديولوجية، يمتلك أهدافًا سياسية بعينها، ويمتلك من القوة ما يمكِّنه من تحقيق هذه الأهداف، ومن ثم يستطيع أن يؤثر على سياسة الدولة. هذا ويتم تقسيم الفاعلين من غير الدول وفق معيارين: نطاق العمل: محلي أو دولي، والتسليح: مسلَّح أم غير مسلَّح(19).

(داعش) وفق هذه المقاربة هو فاعل من غير الدول مسلَّح ودولي(20)؛ فهو يمتلك هيكلية قيادية واضحة (خليفة وولاة)، ويتسم باستقلال تام عن الدولتين اللتين ينتمي لهما جغرافيًّا (العراق وسوريا)، ويمثل جماعة أيديولوجية بعينها (طيف من الجهاديين)، ويضع نصب عينيه هدفًا سياسيًّا واضحًا (التوسع في بسط الهيمنة وصولاً للخلافة). ويمتلك قدرًا من الإمكانات العسكرية والاقتصادية جعله أغنى وأقوى فاعل من غير الدول على الإطلاق. ما هو التحدي الذي يمثله تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) كفاعل من غير الدول إذن لسياسات الدول الخارجية، على المستوى الدولي والإقليمي؟ وكيف يتبدى هذا التحدي في صورة مفارقة ومعبِّرة عن خيبة أمل سياسية؟

1- واشنطن: لعنة الشرق الأوسط

معلوم أن وصول أوباما للبيت الأبيض في 2008 كان إيذانًا بتغيرات جذرية على طبيعة الاستراتيجية الأميركية التي كانت معتمدة أثناء ولايتي بوش الابن 2000-2008، والتي كانت تقضي بترسيخ دور الولايات المتحدة كقطب أوحد للعالم. وفي سبيل ذلك اعتمد بوش مبدأ الحرب الاستباقية أو الوقائية، فأجاز من ثمة لواشنطن أن ترسل جنودها إلى حيث شاءت. كان حصاد هذه الاستراتيجية مرًّا في أفغانستان والعراق. ثم جاء أوباما ليؤكد على أن الولايات المتحدة ليست وحدها سيدة العالم، وإنما ثمة تعددية قطبية، تتيح لباقي الدول مشاركة الولايات المتحدة في تدبير شأن النظام الدولي. لقد أصبحت السياسة الخارجية الأميركية إذن أكثر تواضعًا وأقل عسكرة. لقد جاء أوباما إذن لترميم ما دمره بوش وبطانته من المحافظين الجدد، فهو سيسعى إلى تجنب الدخول في أي حرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وسيسعى للابتعاد وسعه عن منطقة الشرق الأوسط المزعجة، مقابل إعطاء منطقة الباسيفيك قدرًا أكبر من الأهمية. وبناءً عليه سوف يعتمد سياسة “القيادة من الخلف” لتدبير أموره في الشرق الأوسط. وبالفعل كانت هذه السياسة هي المتبعة في تعامله مع أحداث الربيع العربي (التي فاجأت الولايات المتحدة كما فاجأت الجميع)، والتي تجلَّت بوضوح تام في موقف إدارة أوباما الحذر من الثورة الثورية(21).

ولكن بعد ثلاث سنوات من “القيادة من الخلف” ما الذي جنته واشنطن في سوريا؟ إنه تنظيم “الدولة الإسلامية”؛ فالحال، أن كثيرًا من الانتقادات التي توجَّه في الداخل والخارج لسياسة واشنطن تجاه الثورة السورية، تجادل بأن إحجام واشنطن عن التدخل بجدية لإسقاط الأسد، هو الذي مهد السبل لتحويل سوريا مع الوقت إلى قبلة للجهاديين من أرجاء العالم، ومن ثم بزوغ تنظيم “الدولة الإسلامية” في نهاية المطاف. هذا البزوغ الذي اضطر واشنطن لأن تعود مرة ثانية للشرق الأوسط، تحت غطاء تحالف واسع لمحاربة (داعش)، هذه العودة التي كافح أوباما كي لا يتورط فيها أبدًا.

هذه هي المفارقة إذن: إحجام واشنطن عن دعم الثورة السورية بجدية، تجنبًا لتكرار سيناريو العراق، ورغبة في الابتعاد عن الشرق الأوسط، قد تَسبَّب (ولو جزئيًّا) في بزوغ تنظيم “الدولة الإسلامية”، ومن ثم هي مضطرة الآن للعودة بطريقة أو بأخرى إليه(22). إن هذه المفارقة تعبِّر عن خيبة أمل واشنطن في النأي بنفسها عن الشرق الأوسط. يبدو الأمر وكأن الشرق الأوسط بمنزلة “لعنة” تطارد الولايات المتحدة، بحيث لا تستطيع الفكاك منه.

2- تركيا: التحدي الكردي

عندما راحت واشنطن تجمع حلفاءها لخوض الحرب ضد (داعش)، أبدت تركيا قدرًا ملحوظًا من التمنع عن المشاركة في عمليات التحالف. والحال، أن أنقرة حليف لا يمكن الاستغناء عنه في هذا السياق؛ نظرًا لإمكاناته العسكرية، ولمكانته الجيوسياسية التي تيسر استهداف تنظيم “الدولة الإسلامية” في كل من سوريا والعراق، لذلك لم تكلَّ الدبلوماسية الأميركية عن الإلحاح على تركيا كي تنخرط بصورة جدية في التحالف(23). بالقطع أنقرة ليست حليفًا لـ(داعش)، ومن ثم تأبى أن تقاتله، وهو بالنهاية يمثل تهديدًا أيديولوجيًّا وعسكريًّا لتركيا. فما الذي يمنع تركيا من القيام بعمليات عسكرية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية”؟

واقع الأمر، أنه وبالرغم من كون أنقرة ترى في تنظيم “الدولة الإسلامية” خطرًا عليها، إلا أنها لا ترى أية جدوى حقيقية من الانخراط في حرب ضده في كل من سوريا والعراق. ما تريده أنقرة أن يكون قتال (داعش) ضمن استراتيجية شاملة يكون هدفها الأول هو إسقاط نظام الأسد. إن أنقرة ترى أن التحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة قد أسقط تمامًا من أجندته هدف الإطاحة بالأسد، ويريد أن يزج بها في أتون حرب ضد (داعش)، طويلة الأمد ومشكوك في جدواها بدرجة كبيرة.

يزيد الأمور تعقيدًا بالنسبة لأنقرة، أن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) يحاصر ما يقرب من 100 جندي تركي في منطقة تقع وراء الحدود السورية تسمى ضريح سليمان شاه، والتي تحتضن قبر عثمان شاه مؤسس الدولة العثمانية(24)، كما أنه كان تحتجز عددًا آخر من الدبلوماسيين الأتراك في الموصل قبل ذلك، لكن استطاعت أنقرة أن تحررهم بطرق تفاوضية. إذن تركيا لا تريد أن تتورط في قتال مباشر مع تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، مخافة ردود فعله.

اتضح هذا الاحجام التركي جليًّا، خلال أزمة مدينة كوباني (عين العرب)، تلك المدينة الحدودية والتي يحاصرها (داعش) ويُبدي عزمًا لا يلين على السيطرة عليها، ولم يفتَّ في عضده كل الغارات الجوية التي شنَّها التحالف عليه حتى الآن. والحال، أن هذا الإحجام لا يُفسَّر وفقط ضمن استراتيجية أنقرة العامة القاضية بعدم الانخراط في حرب ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وحدها، وإنما لكون هذه المدينة واقعة تحت سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي، ذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا والذي تقاتله تركيا كمنظمة إرهابية طوال ثلاثة عقود قد خلَتْ، إن تركيا تريد أن يكون تدخلها للدفاع عن المدينة وفق استراتيجيات التفاوض بينها وبين حزب العمال التي تشكِّل واحدة من أهم قضايا السياسة التركية الداخلية(25).

ها هي إذن تركيا التي رغبت كثيرًا في أن تتدخل الولايات المتحدة مبكرًا في الشأن السوري بقدر أعمق، وأن يكون ثمة تحالف إقليمي-دولي تلعب هي فيه دورًا كبيرًا، بغرض الإطاحة بالأسد، تتلكأ في الانضمام لتحالف قائم يشبه تمامًا ذلك الذي ترغب فيه، ولكنه للمفارقة يستهدف تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وليس الأسد.

موقف تركيا من تنظيم (داعش) إذن أشبه بعداء مكتوم، أو حرب باردة، لا ترغب تركيا في نزع فتيلها. والحال، أن هذا الموقف يعبِّر عن خيبة أمل السياسات التركية تجاه سوريا، فحتى الآن لا ترى أنقرة أي سبيل يمكن أن يحقق هدفها الذي اعتمدته منذ اندلاع الثورة السورية، وهو الإطاحة بالأسد؛ ومن ثم هي لا تريد أن تنخرط في حرب ضد (داعش) لن تخدم أبدًا هذا الهدف.

3- دول الخليج: مع (داعش) أم ضدها؟

يمكن مقاربة السياسات الخليجية تجاه تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) من خلال النظر في طبيعة موقفها من الثورة السورية؛ لقد كان هَمُّ دول الخليج، هو إسقاط نظام الأسد، وفي هذا السياق قامت بدعم فصائل المعارضة السورية المختلفة، ثم بزغ تنظيم “الدولة الإسلامية” ليقلب الموازين؛ فانخرط في قتال مع باقي الفصائل المعارضة، وحقق انتصارات كبيرة عليها، ومن ثم ذهب الدعم الذي قدمته لها دول الخليج بغرض الإطاحة بالأسد سُدى، فبدلاً من مقاتلة الأسد انشغلت بالدفاع عن نفسها ضد تنظيم (داعش).

عند هذه النقطة انزعجت واشنطن؛ إذ رأت أن سوريا قد تحولت لساحة مجاهدين كبيرة، يسيطر عليها تنظيم “الدولة الإسلامية”، وراحت تُحمِّل دول الخليج بدرجة أو بأخرى وزر ازدهار الجهاديين في سوريا(26). بعد ذلك جمعت واشنطن حلفاءها لتنفيذ عمليات ضد (داعش) في كل من العراق وسوريا وكان على دول الخليج أن تلتحق بهذا التحالف، ولكن هل تريد دول الخليج فعلاً القضاء على (داعش)؟ واقع الأمر، أن موقفها يقترب بشدة (من حيث الهدف وإن اختلفت المنطلقات) من الموقف التركي؛ نعم يمثل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) خطرًا أيديولوجيًّا وعسكريًّا على دول الخليج، ولكن هذا الخطر يظل محتملاً على المدى المتوسط أو البعيد، ما دام تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) محصورًا في العراق وسوريا، بينما ثمة هدف آخر أكثر أهمية وهو الإطاحة بالأسد، ذاك الهدف الذي لا يعطيه التحالف أي اعتبار. وعليه، فإننا لا نجد الرياض أو الدوحة متحمستين لعمليات التحالف بالقدر الكافي(27).

موقف دول الخليج هنا هو نفسه موقف تركيا، كلاهما سعى حثيثًا منذ بداية الثورة السورية لإنشاء تحالف إقليمي-دولي بغرض الإطاحة بالأسد، ولكن بلا جدوى. وها هو التحالف قد تشكَّل بالفعل وهما يُعرضان عنه الآن؛ لأنه اتخذ لنفسه هدفًا مغايرًا تمامًا لهدفهما الرئيس المتمثل في الإطاحة بالأسد.

إن هذا الوضع يعبِّر عن خيبة أمل السياسات الخليجية في سوريا؛ إن دول الخليج لم تستطع أن تطيح بالأسد، ولم تستطع من ثمة أن تُضعف من نفوذ طهران في المنطقة بل العكس يكاد يكون قد تحقق؛ فلا يلوح في الأفق أن نظام الأسد سينهار قريبًا، وها هي إيران تزداد نفوذًا فوق نفوذها.

4- إيران: حينما يصير العدو مفيدًا!

على المستوى الأيديولوجي يمثِّل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) بلا شك عدوًّا لإيران(28)، ولكن كيف هي الحال على المستوى السياسي؟ لنقل بداية: إن هدف إيران الرئيسي في سوريا هو الحفاظ على نظام بشار الأسد بكل ما أوتيت من قوة، لمنع سقوط دمشق في يد نظام إسلامي أو نظام موال للرياض. وكذلك يتمثل هدفها في العراق في الإبقاء على نظام يحافظ على نفوذها الذي حققته بعد الغزو الأميركي في 2003. فما هو الأثر الذي خلَّفه تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) على أهداف طهران هذه قبل وبعد تدخل واشنطن وحلفائها؟

فيما يخص العراق، فقد شكَّل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) فعلاً خطرًا على مصالح طهران فيها؛ حيث سيطر التنظيم على مساحات كبيرة من العراق (الموصل، الأنبار) مما دفع طهران للتخلي عن رجلها نوري المالكي، ومن ثم دعمها لحيدر العبادي كبديل أكثر توافقية، في سياق حل سياسي للأزمة، ثم هي اضطرت في سياق الحل العسكري، لإرسال قادة عسكريين إيرانيين إلى العراق لمساعدة قوات الجيش العراقي والبشمركة الكردية في قتال تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). كما قامت أيضًا بالزج بالميليشيات التابعة لها في العراق (أو التي استقدمتها من سوريا) لمقاتلة (داعش)(29). لكن في المحصلة، لا يمكننا القول بأن خسائر طهران في العراق فادحة؛ فالعبادي لا يزال شيعيًّا وعلاقته بطهران ليست على درجة ملحوظة من السوء بحيث يسوغ لنا القول بأن طهران قد فقدت نفوذها على الحكومة العراقية؛ فواقع الأمر أن هذه الحكومة الجديدة والتي يُرجى منها أن تقلِّل من حدة التهميش السني، لا تزال مفاصلها في يد الفصائل الشيعية(30).

كيف هو تأثير بزوغ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) على أهداف طهران في سوريا؟ أولاً: تمدد (داعش) ونفوذه في سوريا أقل منه في العراق؛ فتنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) ليس وحده في سوريا؛ إذ ثمة مروحة واسعة من الجهاديين (جبهة النصرة وأحرار الشام) أو قوات المعارضة المنشقة عن الجيش السوري، كلهم منخرطون في قتال الأسد. ثم ثانيًا: واقع الأمر أن (داعش) من بين كل هؤلاء لا يمثل الخطر الأهم على الأسد، إنه مشغول بتثبيت أقدامه أولاً في الأراضي التي لا يسيطر عليها الأسد أصلاً، ومن ثم انخرط في حرب مريرة مع رفاقه من المجاهدين، على حساب مقاتلة الأسد. إن تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) وللمفارقة لم يشكِّل حتى الآن الخطر الأساسي على الأسد، وبالتالي لم يشكِّل بالتبع الخطر الأساسي على مصالح إيران في سوريا. هذا هو واقع الأمر قبل بدء عمليات التحالف الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) في العراق وفي سوريا، فكيف هي الحال بعد بدء هذه العمليات؟

الحال، أن إيران بالطبع ليست سعيدة ببزوغ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، فهي في النهاية تقع في دائرة خصومه الحقيقيين، ومن ثم فإن عمليات التحالف ضده تصب في مجرى المصالح الإيرانية في العراق وسوريا. ولكن كيف لنا أن نفسر والحالة هذه سخط إيران الظاهري على التحالف(31)؟ واقع الأمر أن طهران تدرك مدى نفوذها في كل من العراق وسوريا، وهو نفوذ يمكن توظيفه جيدًا في محاربة (داعش)، وهي تدرك أيضًا أن واشنطن مدركة لهذا النفوذ ولأهميته؛ ومن ثم فإن طهران تود أن تستثمر نفوذها هذا في سبيل تغيير دفة علاقتها بواشنطن. إن طهران طمعت في أن يتم ضمها بصورة ولو شبه رسمية للتحالف الذي تتزعمه واشنطن ضد (داعش)؛ مما سيعني الاعتراف بها كقوة إقليمية. وفي مقابل وضع نفوذها هذا تحت يد التحالف تريد طهران أن تنال بعض الامتيازات في المفاوضات النووية الشاقة بينها وبين مجموعة 5+1. والحال، أن واشنطن تُبدي قدرًا كبيرًا من الارتباك أمام هذا العرض الضمني من طهران؛ فهناك أحاديث عن رسالة سياسية من أوباما للمرشد الأعلى تتحدث عن تنسيق إيراني-أميركي لمحاربة (داعش)(32). ولكن بالتوازي معها هناك تأكيدات مستمرة على رفض واشنطن القاطع لعرض كهذا(33)، وغياب أي تنسيق بين واشنطن وطهران في سياق الحرب مع تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)(34). إن واشنطن بين مطرقة وسندان إذن؛ هي تعلم ما يمكن أن تقدمه طهران من عون في معركتها (المتأزمة) ضد (داعش)، ولكنها ليست مستعدة أبدًا للاعتراف بها كقوة إقليمية، ولا تقديم تنازلات حقيقية في مسألة الملف النووي الإيراني.

على أية حال، فإن محصلة بزوغ (داعش) في العراق وسوريا، وتدخل الولايات المتحدة وحلفائها لقتاله، يبدو أنها تمثل بدرجة أو بأخرى مكسبًا سياسيًّا لإيران؛ إذ لم يتأثر نفوذها في العراق سلبًا وإنما على العكس قد ازدادت نفوذًا فوق نفوذها، بإرسال عسكريين إيرانيين ودعم ميليشيات شيعية للدفاع عن بغداد وعن كردستان العراق ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). إيران تلعب دور المنقذ إذن في العراق. أما في سوريا فغارات التحالف تصب وبطريقة مذهلة في مصلحة إيران، حيث إن هذه الغارات تسهم بطريقة مباشرة في تقوية نظام الأسد.

وتلك هي المفارقة؛ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) العدو الأيديولوجي لإيران مفيد لها بدرجة أو بأخرى. وإن كانت هذه المفارقة تعبِّر عن خيبة أمل ما، فإنها لا تعبر عن خيبة أمل السياسات الإيرانية في المنطقة وإنما على الضد، هي تمثل خيبة أمل سياسات الولايات المتحدة (وحلفائها الخلجيين). يبدو الأمر أن سياسات واشنطن ومنذ غزوها للعراق في 2003، تسهم في خدمة مصالح طهران بطريقة مفارقة بالرغم من حرصها الدؤوب على فعل العكس.

خاتمة

هذه هي إذن جملة مفارقات (داعش) المتعلقة بسياق ظهورها في زمن الربيع العربي، وبطبيعة كنهها السياسي، وبإرباكها لسياسات الدول الإقليمية والولايات المتحدة. لقد مثَّل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) كفاعل من غير الدول تحديًا حقيقيًّا للدولتين اللتين ينشط في إطارهما الجغرافي، العراق وسوريا؛ ففي العراق تسبب في الإطاحة بحكومة المالكي ومجيء حكومة جديدة. وسوَّغ التدخل الخارجي في العراق مرة ثانية. وفي سوريا أثَّر سلبًا على مسار الثورة السورية؛ إذ دعم موقف الأسد الذي لم يكِلَّ عن ترويج روايته الخاصة عن الثورة السورية بوصفها تخريبًا يتزعمه متطرفون ظلاميون ومأجورون.

كذلك هو قد أربك طبيعة السياسات الخارجية لباقي الدول الفاعلة في الإقليم؛ فها هي الولايات المتحدة تجد نفسها في نهاية المطاف ترسِّخ بعملياتها العسكرية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) أقدام الأسد في سوريا. ومن ثم تزيد من نفوذ إيران في المنطقة بطريقة أو بأخرى، وقد تجد نفسها مضطرة لعقد صفقات سياسية مع الملالي في طهران، وكأن واقع الحال إذن أن واشنطن تقف مع طهران والأسد في نفس الخندق.

كما أن علاقة واشنطن بأنقرة معرَّضة للتوتر بسبب تباطؤ الأخيرة في الانضمام للتحالف ضد (داعش) بصورة جذرية؛ حيث إن أنقرة لا ترى في عملياته ضد (داعش) وحده دونما استراتيجية شاملة تتضمن الإطاحة بالأسد، جدوى حقيقية.

مفارقات تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) هذه تعبير عن خيبات أمل معمَّمة؛ دول الخليج بعد ثلاثة أعوام من الاستثمار في المعارضة السورية، جاء (داعش) ليقضي على آمالها دفعة واحدة، وتركيا لا ترى أي ضوء في آخر النفق يبشرها بقرب رحيل الأسد، والولايات المتحدة انجرَّت لتدخل عسكري في المنطقة مرة ثانية وهي التي كانت عازمة على عدم التورط فيه أبدًا.

والحال، أن خيبة الأمل الأشد وطأة والتي عبَّر عنها بزوغ (داعش)، هي خيبة الأمل في الربيع العربي، كحركة تحررية كان يُرجى منها أن تغير وجه المنطقة العربية إلى الأبد.

__________________________________

طارق عثمان: باحث متخصص في قضايا الفكر الإسلامي

 

المصادر والهوامش

1- لا تثريب علينا في استخدام مصطلح ثورة لتوصيف هذه الأحداث، بغضِّ النظر عن السجال الأكاديمي الدائر حول أهليته بوصف الثورة؛ إذ يجادل البعض بأن التوصيف الأدق لها هو انتفاضة أو هَبَّة، نظرًا لكونها لم تنجز التغيير الجذري للنظام السوسيو-سياسي القائم، والذي هو شرط استحقاق وصف الثورة بحسبهم. ولكن واقع الأمر أن كل هذه المصطلحات: ثورة، صحوة، انتفاضة، هبَّة، تُستخدم بضرب من التجوز والتساهل كمترادفات في توصيف هذا الحدث. وعن مفهوم الثورة راجع: حنا أرندت، في الثورة، ت: عطا الله عبد الوهاب، المنظمة العربية للترجمة. 2008.

2- مصطلح الربيع العربي مستعار في الأصل من السياق الأوروبي، حيث أطلق على موجة الثورات التي اجتاحت أوروبا في 1848-1849 مصطلح الربيع الأوروبي. وأول استخدام لمصطلح الربيع العربي كان في لبنان عام 2005، بعد مقتل رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان، استبشارًا بحقبة لبنانية جديدة أكثر استقلالاً. وقد استُخدم أيضًا من قِبل صحفيين أميركيين كتعبير عن التفاؤل الذي صاحب رغبات الإدارة الأميركية حينئذ في دمقرطة منطقة الشرق الأوسط، كحل لأزماتها. وكان أول من استخدمه لتوصيف الثورات العربية هو مارك لينش في مقال له بمجلة “فورين بوليسي” بعنوان: أوباما والربيع العربي في ديسمبر/كانون الأول 2010. ثم شاع استخدام المصطلح من بعدها.

3- عن خصوصية الحالة التونسية، راجع: الاستثناء التونسي: نجاح التوافق وعوائقه، مجموعة الأزمات الدولية، يونيو/حزيران 2014.

4- عن الانقلاب العسكري في مصر، راجع: السير في دوائر: خطورة المرحلة الانتقالية الثانية في مصر، مجموعة الأزمات الدولية، أغسطس/آب 2013.

5- لتحليل معمق لحالة ليبيا السياسية والعسكرية فيما بعد القذافي، راجع: ليبيا بعد القذافي: الدروس والآثار المستقبلية، كريستوفر شيفيز وجيفري مارتيني، مؤسسة راند 2014. وأيضًا: في أعقاب الحرب: الصراع على ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي، جيسون باك وبارك بارفي، معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، فبراير/شباط 2012.

6- عن مكاسب الحوثيين السياسية الراهنة، راجع: الحوثيون: من صعدة إلى صنعاء، مجموعة الأزمات الدولية، يونيو/حزيران 2014.

7- استيلاء الحوثيين على العاصمة صنعاء، دونما مقاومة تُذكر، وفَّر للقاعدة فرصة حقيقية لتبزغ مرة ثانية بوصفها المدافع الوحيد عن القبائل في وجه التمدد الحوثي. لقد وفَّر ذلك للقاعدة حاضنة قبَلية ممتازة، وأكسبها مشروعية وجودية بدرجة كبيرة؛ فالقتال على أشده اليوم بين أنصار الله (الحوثيين) وأنصار الشريعة (القاعدة) وبينهما قد ضاع اليمن الذي لم يعد أبدًا سعيدًا.

8- تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) (الدولة الإسلامية في العراق والشام) تم الإعلان عن تأسيسه بسوريا في إبريل/نيسان 2013، ولكن في يونيو/حزيران 2014 أعلن عن قيام الخلافة ومبايعة أميره أبي بكر البغدادي خليفة للمسلمين، ومن ثم تحول اسمه إلى الدولة الإسلامية، ولكننا نؤْثِر استخدام اسم (داعش) لاشتهاره، وتجنبًا للبْس الذي يثيره اسم الدولة الإسلامية.

9- نسيم نيقولا نجيب طالب (1960-… )، أكاديمي أميركي من أصل لبناني، يدرس علوم الإدارة وهندسة المخاطر ونظريات الفوضى والعشوائية واللاتوقع. هو صاحب نظرية البجعة السوداء.

10- نسيم طالب، البجعة السوداء، ت: حليم نصر، بيروت: الدار العربية للعلوم، 2009، ص10.

11- لا يسعنا أن ننكر أن حال الثورة التونسية هنا أفضل من غيرها. ولكن لا يسعنا أن ننكر أيضًا استمرار حضور النظام القديم في المشهد التونسي الثوري (خاصة بعد الانتخابات الأخيرة 2014 التي حصل فيها حزب نداء تونس على أعلى عدد من المقاعد البرلمانية). أفضلية تونس ترجع في المقام الأول لمقارنتها بسوء الأحوال في غيرها من بلدان الربيع العربي، لا إلى معايير ثورية جذرية.

12- راجع: توماس هوبز، اليفياثان، ت: ديانا حرب وبشرى صعب، أبو ظبي: كلمة للنشر ودار الفارابي، 2011.

13- راجع: حنا أرندت، أسس التوتاليتارية، ت: أنطوان أبو زيد، لندن: دار الساقي، 1993.

14- بثَّ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) مؤخرًا فيلمًا ترويجيًّا عالي الجودة يحمل اسم لهيب الحرب.

15- بروفيسور نزيه نصيف الأيوبي في عمله الكلاسيكي: تضخيم الدولة العربية: السياسة والمجتمع في الشرق الأوسط، المنظمة العربية للترجمة 2011.

16- Carl Schmitt, the concept of the political, 1927

17- قوبلت أفكار شميت بالنقد؛ إذ تم الربط بينها وبين النازية التي انضم إليها شميت.

18- ياسين الحاج صالح، القاعدة: إمبراطوريتنا البديلة، 9 مايو/أيار 2014، موقع الجمهورية، على الرابط:

http://therepublicgs.net/27974

19- راجع: William Wallace, Daphne Josselin (editors), non-state actors in world politics, Palgrave Macmillan, 2012

20- هي فاعل من غير الدول ولكنها كما أسلفنا تتوافر على جوهر الدولة الحديثة بما هي كذلك.

21- راجع: تطورات الموقف الأميركي من الثورة السورية، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فبراير/شباط 2013.

22- راجع: أسامة أبو أرشيد، هل تنساق الولايات المتحدة إلى حرب جديدة في الشرق الأوسط؟ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أكتوبر/تشرين الأول 2014.

23- راجع: عماد يوسف قدورة، تركيا ومسألة التدخل العسكري بين الضغوط والقيود، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أكتوبر/تشرين الأول 2014

24- كانت هذه المنطقة جزءًا من الدولة العثمانية، وبعد سقوط الخلافة أصرَّ أتاتورك على أن تظل تحت سيطرة تركيا.

25- أقصى ما فعلته أنقرة لكوباني حتى الآن (نوفمبر/تشرين الثاني 2014) أنها سمحت (تحت ضغط واشنطن) لبعض قوات البشمركة الكردية القادمة من كردستان العراق وبعض قوات الجيش السوري الحر وبعض العتاد العسكري بالمرور عبر حدودها إلى البلدة ليدافعوا عنها ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).

26- من أبرز التصريحات في هذا السياق، تصريح جون كيري في جامعة هارفارد عن دعم تركيا ودول الخليج للجهاديين في سوريا وأثر ذلك في بزوغ تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش).

27- ربما كانت الإمارات العربية أكثر تحمسًا في هذا السياق، ولعل ذلك يرجع لأسباب أيديولوجية محضة أكثر منها أسبابًا متعلقة بأجندة سياسية خارجية محددة.

28- أولوية مقاتلة الشيعة عند تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) تمثل فرقًا مهمًّا بينها وبين تنظيم القاعدة الذي يعطي الأولوية لمقاتلة الغرب.

29- عن الميليشيات الشيعية التابعة لإيران في العراق، راجع:

Phillip Smyth, all the ayatollah’s men, foreign policy, 18 September,2014

على الرابط:

http://www.foreignpolicy.com/articles/2014/09/18/all_the_ayatollahs_men_shiite_militias_iran_iraq_islamic_state

30- عن هذه الحكومة راجع: البرلمان العراقي يقر الحكومة الجديدة برئاسة حيدر العبادي، رويتز، 8 سبتمبر/أيلول 2014، على الرابط:

http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN0H322B20140908

31- إيران: التحالف المناهض للدولة الإسلامية يكتنفه غموض شديد، رويترز، 11 سبتمبر/أيلول 2014، على الرابط:

http://ara.reuters.com/article/topNews/idARAKBN0H60XJ20140911

32- انظر: Obama wrote secret letter to Iran’s Khamenei about fighting Islamic state, The Wall Street Journal

على الرابط:

http://online.wsj.com/articles/obama-wrote-secret-letter-to-irans-khamenei-about-fighting-islamic-state-1415295291

33- واشنطن ترفض عرضًا إيرانيًّا لربط محاربة (داعش) بتنازلات نووية، الشرق الأوسط اللندنية، 23 سبتمبر/أيلول 2014، على الرابط:

http://classic.aawsat.com/details.asp?section=4&article=788163&issueno=13083#.VGXwKvmUe3Q

34- واشنطن: لم نقم بأي تنسيق عسكري مع إيران للتصدي لـ(داعش)، الحياة اللندنية، 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، على الرابط:

http://www.alhayat.com/Articles/5557304/%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86–%D9%84%D9%85-%D9%86%D9%82%D9%85-%D8%A8%D8%A3%D9%8A-%D8%AA%D9%86%D8%B3%D9%8A%D9%82-%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D9%8A-%D9%85%D8%B9-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D9%84%D9%84%D8%AA%D8%B5%D8%AF%D9%8A-%D9%84%D9%80-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-

 

 

التأثيرات المحتملة لتنظيم الدولة على المجال الأوراسي: الأبعاد والتداعيات الإقليمية/ تامر بدوي

الملخص

تسلِّط هذه الورقة الضوء على احتمالات تأثير “تنظيم الدولة” الإسلامية في العراق والشام (داعش) على المنطقة الأوراسية وخاصة القوقاز وآسيا الوسطى، وما هي المناطق التي قد تصبح هدفاً لعمليات التنظيم وكذلك الظروف التي قد يتم فيها تنفيذ مثل هذه العمليات.

على المستوى النظري, يعالج الباحث المخاطر التي تواجه منطقتي القوقاز وآسيا الوسطى من خلال رؤية تربط بينهما على صعيد نوعية التهديدات الأمنية بحكم التقارب الجغرافي بين المنطقتين. تم هنا اختيار “مجمع الأمن الإقليمي” كمفهوم نظري في حقل الدراسات الأمنية للتدليل على هذه الرؤية باستشراف العوامل التي ستدفع إلى المزيد من التشابك الأمني بين المنطقتين.

أصبحت العناصر المسلحة القادمة من دول القوقاز وآسيا الوسطى تلعب دورًا محوريًّا في سوريا والعراق بصعود مكانتها، والمراكز القيادية التي أصبحت تتقلدها داخل التنظيمات المسلحة وخاصة تنظيم “الدولة الإسلامية”. ولذلك, أصبحت هناك تساؤلات حول الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه العناصر بعد انتهاء الصراع أو انسحابها من الساحات القتالية والعودة إلى بلادها. تعتبر بلدان القوقاز وآسيا الوسطى بمواردها الغنية من أهم الدول التي يمر منها خطوط غاز ونفط إلى الصين, وروسيا, وتركيا, وأوروبا؛ ولذلك هناك مخاوف من استهداف هذه المصالح الحيوية.

أخيرًا, يتناول الباحث السياقات التي يمكن أن تستغلها دول إقليمية (خاصة إيران وروسيا) لتوظيف مخاطر صعود “تنظيم الدولة” في تعزيز أدوارها وعلاقاتها السياسية والأمنية في المجال الأوراسي.

المقدمة

يُعتقد أن تمدد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، سيكون له تأثيرات عابرة للإقليم تتجاوز حواف الشرق الأوسط لتمتد إلى إقليمي القوقاز وآسيا الوسطى. منذ تسعينات القرن الماضي بدأت الحركات الراديكالية تنمو في بلدان الإقليمين نتيجة لعدد من العوامل الاجتماعية والسياسية المركَّبة، التي أسهم بنصيب معتبر منها قمع الحكومات للمجتمعات المسلمة ما بعد السوفيتية، والذي أنتج اغترابًا لدى شرائح ليست قليلة من السكان مع تنامي ظاهرة العولمة. أصبح تأثير الصعود الراديكالي ليس بعيدًا عن المجتمعات ما بعد السوفيتية بفضل إعادة تشكل علاقات المجموعات الجهادية، وبناء العلاقة مع تنظيم القاعدة و”الدولة الإسلامية”، وهو ما سيكون له انعكاس على طبيعة حضور وعمل هذه التنظيمات مستقبلاً.

إن السؤال الذي تستهدف هذه الورقة الإجابة عليه يتعلق بإمكانية تأثير تنظيم الدولة الإسلامية على إقليم القوقاز الذي يمتد من الحدود الشمالية لإيران حتى الحدود الجنوبية لروسيا وإقليم آسيا الوسطى المتاخم للقوقاز، والممتد من السواحل الشرقية لبحر قزوين حتى الحدود الشمالية الغربية للصين. كما تبحث مدى استفادة دول إقليمية وقارِّية، كإيران وروسيا من مثل ذلك التأثير المحتمل والقلق العام من الصعود الراديكالي بتعزيز علاقتها السياسية والأمنية بدول الإقليمين. لذلك، قد يوفر تأثير الدولة الإسلامية فعليًّا، أو تضخيم خطرها إعلاميًّا، فرصًا لأطراف إقليمية ترغب في توسيع نطاق نفوذها.

1- الأمن الإقليمي في الفضاء ما بعد السوفيتي

يعرِّف باري بوزان مجمع الأمن الإقليمي (Regional Security Complex) كالآتي: “مجموعة من الدول التي ترتبط مخاوفها الأمنية الرئيسية ببعضها البعض بصورة لا تجعل من إدراك تهديدات أمنها القومي بصورة منفصلة عن الأخرى أمرًا ممكنًا”. كذلك هناك تعريف آخر مشابه لذات المفهوم: “مجموعة من الوحدات التي تصبح عمليات الأمننة (Securitization) ومسارات نزع/تفكيك الأمننة (De-Securitization) الخاصة بها متداخلة بحيث لا يمكن تحليل مشكلاتها الأمنية بصورة منفردة”(1). وتتكون مجامع الأمن الإقليمية من سلسلة من أنماط التنافس, والتوازنات، وسلسلة من التحالفات والعداءات بين القوى الفاعلة داخل الإقليم.

يتساءل باري بوزان وولاي وايايفر صاحبا مفهوم مجمع الأمن الإقليمي (RSC) في كتاب “أقاليم وقوى: بنية الأمن الدولي” (Regions and Powers: The Structure of International Security) الصادر في عام 2003: هل يجب التعامل مع آسيا الوسطى والقوقاز كإقليم واحد؟ يرى المؤلفان أن المنطقتين تشتركان في عائلة اللغات التركية واللغة الروسية بالإضافة إلى ميراث سوفيتي ممتد ولكنهما مع ذلك منفصلتان نسبيًّا. بينما يوحدهم بحر قزوين فيما يخص الموارد الهيدروكربونية والصيد, لا تتسم علاقاتهم بـ”الأمننة” الكافية. ووفقًا لبوزان, بعد تقسيم مناطق البحر وحل النزاع القائم سيكون هناك القليل ما يربط بين المنطقتين. بناء على ذلك، يرى بوزان أنهما يشكِّلان مجامع جزئية(Sub-complexes) متمايزة عن بعضها(2).

يمكن إعادة مراجعة رؤية بوزان وولاي من خلال ملاحظة أربعة عوامل تجعل منطقتي آسيا الوسطى والقوقاز في الوقت الحالي أكثر ارتباطًا مما مضى، وهو ما سيكون له تأثير كبير فيما يتعلق بحضور تنظيم “الدولة الإسلامية” في هذه المنطقة:

الانسحاب الأميركي من أفغانستان: مع انسحاب واشنطن وقوات التحالف وتقليل تواجدهم تدريجيًّا في أفغانستان، تصبح دول آسيا الوسطى والقوقاز أكثر قلقًا من الفراغ الأمني المترتب والذي قد يتيح للقوى الراديكالية مساحة أكبر للحركة خاصة أن مجموعات راديكالية في باكستان قد أعلنت مبايعتها لتنظيم الدولة.

تحولات في شبكات الجهاد العالمي: تشهد العلاقات بين القوى مرحلة تحولات في علاقات القوى الجهادية ببعضها من خلال صعود تنظيم “الدولة الإسلامية” ومنافسته تنظيم القاعدة بتنازع ولاءات التنظيمات والفصائل, وهو ما سينعكس بدوره على المنطقتين.

الممرات التجارية وخطوط الطاقة: صحيح أن الأهمية “الطاقوية” لمنطقة بحر قزوين تراجعت نسبيًّا مع صعود تكنولوجيا استخراج النفط والغاز الأحفوريين ولكن تظل المنطقة مهمة بالنسبة للاتحاد الأوروبي في خطط أمن الطاقة، مع تعرض الأمن “الطاقوي” للدول الشرقية والوسطى من الاتحاد لتهديدات روسية. والأهم, أن مبادرات طرق الحرير المختلفة باتت تدفع بالمنطقتين نحو الاندماج الإقليمي (Regional Integration) تدريجيًّا. ومع تقارب المنطقتين جيو-اقتصاديًا ستتسع مجالات التنافس والاعتماد الأمني.

انعكاسات الأزمة الأوكرانية: مع تصاعد التوترات بين روسيا والغرب في أوكرانيا تصبح هناك احتمالات لتوسيع ساحة الصراع ونقله إلى جبهات أخرى وخاصة منطقتي بحر قزوين وجنوب القوقاز. في القمة الأخيرة للدول المطلة على بحر قزوين قادت كل من روسيا وإيران إعلانًا يقضي بعدم دخول قوات أجنبية إلى البحر (أي فعليًّا قوات حلف الناتو)؛ وهو الأمر الذي يشير إلى تصاعد أمننة البحر والمناطق المحيطة على خلفية توتر العلاقات بين روسيا والغرب.

2- الحالة الإسلاموية في الفضاء ما بعد السوفيتي

من الضروري عند تناول الدور السياسي للحركات الإسلاموية التي تنتمي إلى المجتمعات المسلمة ما بعد السوفيتية، محاولة تصنيف الحركات دون السقوط في إشكال التعميم الذي يقع فيه تيار عريض من الخطابات الأمنية الراصدة للحالة الإسلاموية في هذه المنطقة، والذي يترتب عليه سلسلة من الاستراتيجيات غير الدقيقة على مستوى صنع القرار. من الشائع في الخطاب الأمني الراصد لهذه الحركات في الإقليمين الدمج بين “الأسلمة” ((Islamicization و”التطرف” (Radicalization) والدمج بين “الإسلام السياسي” (Political Islam) وما يسمى بـ”الإسلام المتطرف” (Radical Islam). ويلاحَظ أن تيارًا عريضًا من الخطابات الأمنية يبدو فاقدًا للتمييز بين التنظيمات التي تركز في عملها على النشاط الدعوى وتلك التي تركز على السياسي(3).

صحيح أن المجتمعات المسلمة في الإقليمين بعد انهيار الاتحاد السوفيتي شهدت اتجاهًا إلى الإسلام كإطار هوياتي وشهدت المزيد من الإقبال بشكل عام على أداء الشعائر الإسلامية, ولم يغب المكوِّن الإسلامي عن هذه المجتمعات حتى تحت سلطة الاتحاد السوفيتي ذاته مع فرضه ضوابط صارمة على دور الدين في المجال العام. وبحسب دراسات, بالرغم من أن حرية التعبير وممارسة الشعائر شهدت قمعًا من قبل الاتحاد السوفيتي في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي, سعت موسكو إلى تحييد الدين بدلاً من قمعه أو القضاء عليه تمامًا في الخمسينات عبر مأسسته بل وأتاحت السلطات نشاط بعض الجماعات الدعوية بحذر لاحقًا حتي شهد الوضع تحسنًا نسبيًّا في نهاية الثمانينات التي نشطت فيها روابط وجماعات دعوية بصورة أكبر(4).

نهدف هنا إلى ضرورة التمييز بين الاتجاهات الإسلاموية المختلفة بشكل خاص في القوقاز وآسيا الوسطى لأن توسع دور العناصر المسلحة القادمة من بلدان الإقليمين إلى الشرق الأوسط بات يولِّد نزوعًا أكثر إلى إطلاق تعميمات وعمليات سوء تمثيل في الخطابات الأمنية والإعلامية.

3- المكون القوقازي في الصراع شرق الأوسطي

تم توجيه الانتباه أكثر إلى خطر العناصر القوقازية المسلحة (والشيشانية بشكل خاص) -على الرغم من مشاركتها المبكرة في الصراع السوري- عندما نشر مقاتلون تابعون لتنظيم الدولة في العام الجاري مقطع فيديو مسجلاً يتوعد بضم الشيشان إلى الخلافة وتحرير منطقة القوقاز. جاء ذلك المقطع بعد استيلاء عناصر التنظيم على طائرة حربية روسية في سوريا. أثار مقطع الفيديو مخاوف من تنفيذ عمليات من قبل عناصر تنظيم الدولة في شمال القوقاز والعمق الروسي.

ومن بين صفوف الجهاديين الأجانب على الساحة السورية والعراقية, هناك تقديرات تشير إلى مشاركة تتراوح بين ألف إلى ما يزيد عن ثلاثة آلاف عنصر قوقازي في الفصائل والجماعات المقاتلة في سوريا والعراق (سواء التابعة لتنظيم الدولة أو جبهة النصرة). ينقسم الوجود القوقازي المسلح بين مقاتلين قادمين من الشيشان, وجورجيا, وداغستان, وأذربيجان. كذلك ينقسمون بين قادم من البلدان الأصلية وقادم من بلدان المهجر (أوروبا, جورجيا, تركيا). بحسب مراقبين, أتى الكثير من المقاتلين الشيشانيين المقيمين في أوروبا إلى الشرق الأوسط في 2012-2013، وسافر الكثير من الدارسين الشيشان للعلوم الشرعية من بلدان الشرق الأوسط لسوريا. كذلك سافر الكثير منهم في 2014 من غروزني إلى تركيا مباشرة، ويستخدم العديد منهم البوسنة وكوسوفو كمعابر للانتقال(5).

تتميز المجموعات الشيشانية بقدرة عالية على التنظيم الذاتي وهو ما يضيف المزيد من الخبرات إلى الجهاديين العرب المقاتلين إلى جانب تنظيم الدولة. كذلك تتميز العناصر الشيشانية بمهارات اكتسبتها خلال التسعينات في مجالات الحرب النفسية, والخداع البصري, والحرب الإلكترونية(6). بذلك يصبح العنصر الشيشاني عنصرًا مهمًّا في تنظيم “الدولة الإسلامية” على الرغم من قلته العددية مقارنة بالمكونات الإثنية الأخرى في التنظيم (المقصود هنا خبرة العنصر الشيشاني في ساحات القتال وليس انتماءه إلى الشيشان في حد ذاته).

التنظيمات الشيشانية

هناك أربعة تنظيمات رئيسية تنشط في سوريا والعراق تنقسم بين تنظيمات مستقلة وأخرى تنظيمات تتبع تنظيم الدولة وجبهة النصرة:

جيش المهاجرين والأنصار (JMA): يعد هذا التنظيم من أبرز المجموعات المقاتلة في سوريا والمنضمة لتنظيم الدولة الإسلامية. نشأ التنظيم من مجموعة كتيبة المهاجرين التي ظهرت في سبتمبر/أيلول 2012 في حلب والتي كان يقودها أبو عمر الشيشاني (تارخان باتيراشفيلي). بعد اندماج المجموعة مع مجموعات شيشانية أخرى تحت اسم جيش المهاجرين والأنصار في مارس/آذار 2013 أصبح أبو عمر الشيشاني قائدًا للتنظيم. وبين أواخر عام 2013 وبدايات 2014 انضم أبو عمر الشيشاني إلى تنظيم الدولة(7). عُيِّن الشيشاني في سوريا قائدًا للمنطقة الشمالية في التنظيم ثم القائد العام لقوات التنظيم. وقالت مصادر كردية أنها قتلت الشيشاني في معارك قرب سد الموصل شمال غربي الموصل في السابع من آب/ أغسطس من هذا العام.

المجموعة الأولى المنشقة عن جيش المهاجرين والأنصار: أثار انضمام أبي عمر الشيشاني إلى تنظيم الدولة انشقاقًا في صفوف جيش المهاجرين والأنصار. واعتراضًا على بيعة أبي عمر, انفصل صلاح الدين الشيشاني في نوفمبر/تشرين الثاني 2013 عن أبي عمر الشيشاني بمجموعته تحت نفس اسم الجيش ولكن يضاف إليه “إمارة القوقاز الإسلامية”. يعود سبب انفصال صلاح الدين الشيشاني إلى ما رآه من تناقض بين بيعته لأبي بكر البغدادي وبيعته لـ”دوكو عمروف” قائد إمارة القوقاز الإسلامية. بدأت المجموعة المنشقة في التنسيق العسكري مع جبهة النصرة ولكن دون الدخول في معارك ضد تنظيم الدولة. وهناك تقارير متداولة تشير إلى حدوث انشقاق في صفوف الجيش لصالح مجموعة أبي عمر الشيشاني المنضمة لتنظيم الدولة(8).

المجموعة الثانية المنشقة عن جيش المهاجرين والأنصار: يقود الجماعة الثانية المنشقة سيف الدين الشيشاني الذي انضم إلى جبهة النصرة في أواخر عام 2013. جاء سيف الدين إلى سوريا في أواخر عام 2012 أو بدايات 2013، وانضم إلى مجموعة المهاجرين التي كان يقودها أبو عمر حتى أصبح الرجل الثاني في المجموعة. انشق سيف الدين عن أبي عمر بين شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب 2013. بايع سيف الدين جبهة النصرة في نوفمبر/تشرين الثاني من 2013(9).

تنظيم جند الشام: يعد تنظيم جند الشام من التنظيمات القليلة التي استطاعت الحفاظ على استقلالها بالرغم من تنسيقها مع جبهة النصرة وتنظيم “الدولة الإسلامية”. ويقود التنظيم أبو وليد (المعروف بمسلم الشيشاني أو مسلم مارجوشفيلي) الذي عمل مع القائد السعودي ثامر السويلم (المعروف بخطاب) في الحرب الشيشانية الثانية. يعتبر هذا التنظيم من التنظيمات الشيشانية القوية التي تدير عملياتها في شمال سوريا(10).

العنصر الأذري

بالنسبة للجهاديين الأذريين فيشاركون بشكل ملحوظ في القتال إلى جانب تنظيم الدولة وإن لم يبلغ عددهم الآلاف على غرار الشيشانيين ليبقوا في حدود المئات (هناك مراقبون يشيرون إلى أن عددهم يصل إلى ثلاثمائة مقاتل أو أكثر). وكما فعل مع الشيشان, لم يستثنِ تنظيم “الدولة الإسلامية” أذربيجان من خطابه؛ فقد صرَّح عبد الوحيد خضير, المسؤول الأمني العام, بأن التنظيم سيصل إلى أذربيجان في المستقبل القريب وسيعاقب الحكومات الشيوعية في باكو, وتبليسي, وموسكو. كما أشار إلى أن حقول نفط باكو ستكون تحت سلطة تنظيم الدولة(11).

فضلاً عن العنصر الشيشاني والأذري, هناك تقارير تشير إلى مشاركة مقاتلين تتار من منطقتي الفولجا والقرم في الصراع السوري.

على الرغم من التواجد القوقازي في تنظيم الدولة, هناك عدد كبير من العناصر الجهادية القوقازية في الصف الموالي للنصرة وتنظيم القاعدة بشكل عام. يُشار إلى أن تنظيم الدولة بات يجذب المزيد من القوقازيين مؤخرًا على حساب النصرة. تبقى احتمالات المصالحة بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة (وتنظيم القاعدة ضمنيًّا) قائمة والتي يمكن حينئذ أن يبرز خطرها مع عودة العناصر القوقازية للتلاحم مجددًا في مجموعات موحدة أو فصائل متحالفة تنسق بينها بفاعلية أكثر.

4- حضور تنظيمات من آسيا الوسطى في الصراع الدائر

مثل نظرائهم القوقازيين (خاصة الشيشانيين), يتمتع المقاتلون القادمون من آسيا الوسطى إلى سوريا وخاصة الأوزبك بخبرات عملياتية من خلال اندماجهم في شبكات الجهاد العالمية، من خلال حضورهم في مواقع قتالية عديدة (أفغانستان وباكستان) فضلاً عن تنفيذهم العديد من العمليات على المستوى المحلي والإقليمي سابقًا. هناك تقارير تشير إلى عمليات تدريب للعديد من المقاتلين الأوزبك تجري حاليًا على الحدود الأفغانية-الباكستانية تمهيدًا لإرسالهم إلى سوريا والعراق(12).

يعد تنظيم “الحركة الإسلامية في أوزبكستان” أحد أبرز تلك التنظيمات وسط الآسيوية المشاركة في ساحة الصراع بالشام والعراق التي أعلنت مؤخرًا عن دعمها لتنظيم “الدولة الإسلامية”. بدأت الحركة الإسلامية في أوزبكستان كجماعة دعوية في وادي فرغانة ولكن بعد استقلال طشقند وصعود حدة قمع الحركات الدينية أصبح للحركة أجندة سياسية. استطاعت الحركة تعزيز بنائها التنظيمي بعد الانتقال إلى طاجيكستان أثناء فترة الحرب الأهلية التي امتدت من عام 1992 إلى عام 1997 لتنتقل بعد انتهاء الحرب الأهلية إلى أفغانستان في عام 1998. خلال فترة بقائها في طاجيكستان كانت الحركة تستهدف إسقاط النظام الأوزبكي وإقامة دولة إسلامية ولكن بعد انتقالها إلى أفغانستان تراجع هدف إسقاط الدولة لصالح أجندة جهاد عالمية. بعد الغزو الأميركي لأفغانستان انتقلت الحركة إلى وزيرستان لتتوثق علاقاتها بطالبان باكستان(13).

هناك أيضًا كتيبة الإمام البخاري الأوزبكية التابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” التي برز حضورها على الساحة السورية. يشير مراقبون إلى أن الكثير من الأوزبك المشاركين في الصراع الدائر أتوا من المهجر وخاصة روسيا, وقرغيزستان, وتركيا, والسعودية(14).

5- كيف يمكن أن يؤثر العائدون على الأمن الإقليمي؟

على أثر القلق من انتشار واختراق أفراد التنظيم لروسيا, شنَّت أجهزة الأمن الروسية حملة اعتقالات واسعة (وُصفت بأنها عنصرية وتعسفية) كان أبرزها في يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول الذي اعتقلت فيه 7000 فرد تقريبًا في موسكو وأغلقت في اليوم التالي 32 موقعًا إلكترونيًّا روسيًّا يروِّج لتنظيم الدولة(15). شرعت أذربيجان في حملة اعتقالات لأنصار وأعضاء التنظيم في الداخل أسفرت عن القبض على 26 أذريًّا في شهر سبتمبر/أيلول من العام الجاري. كذلك شددت دولاً في وسط آسيا مثل قرغيزستان وأوزبكستان من قبضتها الأمنية. ولكن بقدر ما تسعى سياسات مكافحة الإرهاب في هذه الدول إلى اقتلاع الخطر الراديكالي, تصبح هذه السياسات التي تتحول لممارسات تعسفية, سببًا في إعادة إنتاج الراديكالية في هذه المجتمعات مع الاتجاه إلى التضييق أكثر على الممارسات الدينية والتضييق على دور الدين في المجال العام.

من المرجَّح أن المقاتلين مع تنظيم “الدولة الإسلامية” سيكون لهم تأثير (وإن لم يكن خطرًا وشيكًا) على بلدانهم (بلدانهم الأصلية أو المهجر) عند العودة إليها سواء عبر الاشتراك في دعم تنظيمات راديكالية أو تأسيس تنظيمات جديدة أو حتى تجنيد مقاتلين جدد للتوجه إلى الشرق الأوسط. وهناك مخاوف من تعرض منشآت وممرات حيوية في القوقاز, وآسيا الوسطى, وروسيا لهجمات من قبل تنظيم “الدولة الإسلامية”. كذلك تظل النظم الحاكمة قلقة من محاولات محتملة لقلب نظام الحكم أو اغتيالات على نطاق واسع. وهناك احتمالية لتحقق تلك التهديدات على الأرض إلا أن هناك عائقيْن بالنسبة لعناصر تنظيم “الدولة الإسلامية”:

الأول: زيادة التنسيق الأمني بين دول الجوار وتأمين الحدود خاصة في شمال القوقاز (الشيشان وداغستان)؛ وهو ما يجعل اختراق الحدود والمعابر الحدودية صعبًا نسبيًّا.

الثاني: العلاقة الإشكالية بين المجموعات والفصائل التي توالي تنظيم القاعدة وتلك التي أصبحت توالي تنظيم “الدولة الإسلامية”. أصبحت الولاءات مشتتة بين مجموعتين وهو ما سيترك أثرًا على طبيعية التنسيق بين المجموعات في هذه البلدان.

هناك سيناريو محتمل قد تجد فيه المجموعات التابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” المناخ الملائم لتنفيذ عمليات في آسيا الوسطى, والقوقاز, والعمق الروسي, ألا وهو التدخل الروسي المباشر أو الضمني عبر دعم انقلابات أو حركات انفصالية. وفقًا لهذا السيناريو سيتمكن تنظيم الدولة من استغلال الفراغ الأمني لتنفيذ هجمات على نطاق واسع ضد أهداف حيوية (منشآت حكومية, دبلوماسية, مجمعات أمنية-عسكرية, والأهم أنابيب الطاقة). وهناك دولتان من الوارد أن يتحقق فيهما سيناريو مماثل في المستقبل على خلفية التدخل الروسي في شرق أوكرانيا:

كازاخستان

هناك مخاوف في الوقت الحالي من دعم روسي محتمل لمشروع انفصالي في كازاخستان تقوده الأقلية الإثنية الروسية في شمال البلاد على غرار أوكرانيا. في عام 1992, اقترح نائب رئيس الوزراء الروسي ميخائيل بولتورينين على الرئيس الروسي آنذاك بوريس يلتسن إقامة منطقة روسية مستقلة في شمال شرق كازاخستان تحت اسم “جمهورية إيرتش” لتجمع الروس الذين أرسلتهم موسكو إلى كازاخستان بعد عام 1917. لم يجد المقترح قبولاً لدي الرئيس الروسي آنذاك، ولكن بانتقال عدد كبير من الروس إلى روسيا بدأ التساؤل مؤخرًا عن الوضع الحقوقي للروس في أستانا(16). يعتمد مثل هذا السيناريو على الخط الذي ستسير عليه أستانا في التعاطي مع خطط روسيا الأوراسية ومستقبل توازنات موسكو-بكين-واشنطن، ولكن ليس من المرجح أن يتحقق هذا السيناريو على المدى القريب أو المتوسط وإن ظلت هناك احتمالات قائمة.

جورجيا

على عكس كازاخستان, تبدو جورجيا التي تم اجتياحها من قبل موسكو في عام 2008 أقرب إلى تدخل روسي مباشر أو غير مباشر. شهدت العلاقات بين موسكو وتبليسي في الفترة الأخيرة توترًا حيث أنهت روسيا مؤخرًا من جانبها اتفاقية التجارة الحرة على خلفية استمرار جورجيا في طموحاتها الأورو-آسيوية. هناك تقارير متداولة عن خطط روسيَّة لتقسيم جورجيا إلى قسمين وهناك ما يشير إلى رغبة روسيا في ابتلاع أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. مثل كازاخستان, تعتمد خطط روسيا تجاه جورجيا على المسار الذي ستستمر فيه تبليسي بعد الأزمة الأوكرانية وتوازنات موسكو-واشنطن على الساحة الإقليمية الدولية.

تعد أنابيب الغاز والنفط -كما سبق وأن ذكرنا- هي الأكثر عرضة لهجمات من قبل تنظيم الدولة الإسلامية في القوقاز وآسيا الوسطى. إصابة هذه الخطوط سيؤثر بدرجة ما على الأمن الطاقوي للمستوردين. بصورة رئيسية هناك ثلاثة لاعبين قد يتأثرون بهجمات مماثلة: الصين, وروسيا, وتركيا. يمكن حصر أهم خطوط الأنابيب كالآتي:

خطوط نفط وغاز (BTE) و(BTC): يسير خط غاز جنوب القوقاز من باكو مرورًا بتبليسي حتي أرضروم التركية وبالتوازي معه يسير خط نفط ينتهي في ميناء جيهان التركي. يلعب خط الغاز دورًا معتبرًا في الوفاء بجزء كبير من الطلب التركي على الغاز الطبيعي، وهو أول خط غاز أذري يتفادى روسيا. وكذلك خط نفط (BTC) صاحب الأهمية المماثلة في نقل النفط الأذري إلى الأسواق العالمية عبر مسار يتفادى روسيا. تكمن نقاط ضعف الخطين في مرورهما على ثلاث دول (ليس خطًّا مباشرًا) مما يجعلهما عرضة أكثر لعمليات تخريب. في أذربيجان تنشط جماعات راديكالية من المحتمل أن تشنَّ هجمات على الخطوط، وفي جورجيا قد تصبح الخطوط عرضة لهجمات في حال نشوب حرب أهلية بدعم من روسيا(17).

خط غاز آسيا الوسطى-الصين: يعد هذا الخط -الذي يتكون من ثلاثة أنابيب- من أهم الخطوط التي تغذي غرب الصين بالغاز الطبيعي. يبدأ الخط من تركمانستان مرورًا بأوزبكستان وكازاخستان حتى غرب الصين. للخط أيضًا ذات نقطة الضعف وهو عبوره من خلال مساحات جغرافية واسعة تجعله عرضة أكثر لهجمات تخريبية.

خط نفط باكو-نوفوروسيسك ((Baku–Novorossiysk: يبدأ هذا الخط من العاصمة الأذربيجانية باكو ويمر بداغستان والعاصمة الشيشانية غروزني حتى ميناء نوفوروسيسك الروسي المُطل على البحر الأسود. ينقل الخط أيضًا النفط الكازاخستاني والتركماني من بحر قزوين عبر ميناء محج قلعة الداغستاني الذي تُنقل له شحنات النفط عبر ناقلات بحرية. قد تصبح شبكات الخطوط هذه عرضة لهجمات من مجموعات قوقازية تابعة لتنظيم الدولة.

6- كيف تستغل قوى إقليمية خطر صعود تنظيم الدولة؟

على المستوى الإقليمي في المحيط الأوراسي, هناك دول إقليمية ترى في صعود خطر تنظيم “الدولة الإسلامية” في الشرق الأوسط واحتمالات انعكاسه على القوقاز وآسيا الوسطى فرصة لتعزيز علاقاتها السياسية والأمنية في إطار مشروعاتها الاستراتيجية. تبرز في هذا السياق دولتان بشكل خاص، هما: إيران و روسيا.

إيران

بعد اتفاق جنيف النووي بين إيران والقوى الغربية في العام الماضي وجولات المفاوضات التي تلتها بدأت طهران تتطلع إلى لعب دور أكبر في محيطها الأوراسي من خلال منظمة شنغهاي للتعاون (SCO)؛ حيث شهد الخطاب الإيراني فيها تحولاً من عهد الرئيس أحمدي نجاد إلى عهد الرئيس حسن روحاني وبدأت طهران تقدم فيه نفسها كشريك وفاعل أمني في الإقليم وكممر اقتصادي لا يمكن تجاوزه.

مع صعود خطر تنظيم الدولة في المجال الأوراسي واتساع اختلافات أنقرة مع حلفائها من الناتو, ساعدت هذه التطورات طهران في تقديم نفسها كشريك إقليمي بدلاً من تركيا التي تتمتع بعلاقات ممتدة مع دول آسيا الوسطى والقوقاز بفضل الرابطة القومية. في مقابل ما كان يتم تصويره إعلاميًّا من عدم رغبة تركيا في التدخل لإنقاذ أكراد عين العرب من زحف تنظيم الدولة, تصوِّر إيران نفسها كشريك للمجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب في سوريا والعراق إلى دول آسيا الوسطى والقوقاز. إذًا كمنافس لأنقرة, تحاول إيران توظيف الوضع الإقليمي في الشرق الأوسط لصالحها بمنافسة تركيا في جوارها الشرقي.

منذ بداية التقارب الإيراني-الغربي تحاول طهران تحسين علاقاتها بباكو وزيادة التنسيق الأمني معها. في هذا السياق, تحاول موسكو مؤخرًا مغازلة باكو لدمجها في مشروعاتها الاقتصادية الأوراسية. بذلك قد يكون هناك اتجاه لجذب أذربيجان إلى محور إيراني-روسي بعيدًا عن تركيا في ظل ضغوط أميركية وأوروبية على باكو فيما يخص ملف حقوق الإنسان.

على غرار أذربيجان, شهدت العلاقات بين إيران وتركمانستان مؤخرًا تطورًا كبيرًا حيث التقى وزيرا دفاع البلدين في 16 سبتمبر/أيلول من العام الجاري, وتكتسب أهميتها لكون آخر لقاء بين وزيري دفاع البلدين جرى في عام 1991. كذلك, شهدت العلاقات بين إيران وطاجيكستان, وكازاخستان، وأوزبكستان تطورًا كبيرًا في الفترة الأخيرة. بذلك سيسهم خطر صعود الدولة الإسلامية في تعزيز موقع إيران في المجال الأوراسي كشريك أمني.

روسيا

هناك عدد من العوامل الإقليمية والدولية التي تجعل موسكو ترغب في إعادة التشابك مع محيطها الأوراسي، وهذه العوامل هي: 1- مكافحة النفوذ الأمني والعسكري للغرب في آسيا الوسطى والقوقاز وخاصة بعد الأزمة الأوكرانية. 2- تفعيل حضورها في ظل صعود الدور الصيني في الفضاء ما بعد السوفيتي ولكن باستراتيجيات تختلف مع تلك المستخدمة مع القوى الغربية.

في إطار مشروع الرئيس بوتين لتشكيل ما يُسمَّى بـ”العالم الروسي” (Russkiy mir) تحاول موسكو جذب الدول ما بعد السوفيتية إلى مدارها عبر مجموعة من المؤسسات الأمنية والاقتصادية كمنظمة شنغهاي للتعاون (SCO), ومنظمة اتفاقية الأمن الجمعي (CSTO), والاتحاد الجمركي الأوراسي (ECU), وأقدمهم اتحاد الدول المستقلة (CIS).

مع صعود خطر تنظيم الدولة يحاول الكرملين استغلال مخاوف الدول ما بعد السوفيتية الضعيفة تجاه الصعود الراديكالي لدفعها تجاه تفعيل تعاونها في إطار المبادرات الأمنية المشتركة لتوسع من خلالها انتشار قوتها على الأرض لحماية الحدود والمنشآت الحيوية (خاصة خطوط النفط والغاز). في المقابل لدى دول الإقليمين مخاوف من تكرار السيناريوهات الجورجية والأوكرانية بحيث ينتهي الحال بابتلاع أجزاء من هذه الدول من قِبل روسيا.

كما سبق وذكرنا, يبدو أن هناك “محورًا” في طريقه للتشكل في جنوب القوقاز بين روسيا وإيران من خلال توافق على المستوى الجيو-اقتصادي، وكذلك على المستوى الأمني والاستراتيجي في مكافحة نفوذ الناتو في منطقة بحر قزوين.

7- النتيجة

لا تقتصر مسألة امتداد الخطر الراديكالي لـ(داعش) إلى القوقاز وآسيا الوسطى على الأخطار الأمنية ولكنها تمتد إلى ما يمكن أن تسهم فيه من توسع أو انكماش لدول إقليمية في جوارها الجغرافي.

كذلك سيسهم صعود خطر تنظيم الدولة الإسلامية في التضييق أكثر على الممارسة الدينية في المجال العام؛ وهو ما يعني أن أدوات علاج واستئصال الإرهاب التقليدية قد تعيد إنتاجه في مجتمعات هذه الدول ما لم يتم صياغة استراتيجية شاملة تتضمن إصلاحات سياسية نحو الدمقرطة والمزيد من الحريات وإصلاحات اقتصادية وتنموية تؤدي إلى المزيد من الشفافية والعدالة الاجتماعية. على المستوى الإقليمي والدولي تحتاج دول آسيا الوسطى والقوقاز إلى المزيد من التعاون الأمني والاستخباري لمراقبة تحركات عناصر تنظيم الدولة الإسلامية على نطاق أوسع.

______________________________

تامر بدوي: باحث متخصص في شؤون آسيا الوسطى والعلاقات الدولية

 

المصادر والهوامش

1- Barry Buzan and Ole Waever, Regions and Powers: The Structure of International Security, (Cambridge University Press, 2003), p. 44

2- Buzan and Waever, “Regions and Powers”, p.419

3- John Heathershaw and David W. Montgomery, “The Myth of Post-Soviet Muslim Radicalization in the Central Asian Republics”, (Chatham House, November 2014), p.6 .. إضغط هنا.

4- Heathershaw and Montgomery, p.4

5- Mairbek Vatchagaev, Recruits From Chechnya and Central Asia Bolster Ranks of Islamic State, Jamestown Foundation, September 4, 2014

http://www.jamestown.org/programs/nc/single/?tx_ttnews%5Btt_news%5D=42786&tx_ttnews%5BbackPid%5D=759&no_cache=1

6- Theodore Karasik, The Chechen factor in the Islamic State: The immediate threat to the Russian Federation, Azeri Daily, September 21, 2014

http://azeridaily.com/analytics/1091

7- Guido Steinberg, A Chechen al-Qaeda?, (SWP, June 2014), p.4

http://www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2014C31_sbg.pdf

 

8- Steinberg, p.4

 

9- Steinberg, p.5

 

10- Steinberg, p.5

 

11- Theodore Karasik, The impact of ISIL on Azerbaijan, Azeri Daily, November 1, 2014

http://azeridaily.com/analytics/2066

 

12-   “حركة أوزبكستان الإسلامية” تنضمُّ إلى داعش, العربي الجديد, 10 أكتوبر/تشرين الأول 2014

http://www.alaraby.co.uk/politics/bf286e98-ac70-45c2-af75-d359d3e53d06

13- Bayram Balci, From Fergana Valley to Syria—the Transformation of Central Asian Radical Islam, Eurasia Outlook (Carnegie Moscow Center), July 25, 2014

http://carnegie.ru/eurasiaoutlook/?fa=56252

14- Ibid

15- Mairbek Vatchagaev, Moscow Suddenly Shows Concern About the Growing Influence in Russia of Islamic State, Jamestown Foundation, October 21, 2014

http://www.jamestown.org/single/?tx_ttnews%5Btt_news%5D=43028&no_cache=1#.VGasYvmUe6I

16- Paul Goble, How Moscow Is Playing the Russian Autonomy Card in Kazakhstan, Jamestown Foundation, October 21, 2014

http://www.jamestown.org/regions/centralasia/single/?tx_ttnews%5Btt_news%5D=42976&tx_ttnews%5BbackPid%5D=53&cHash=032a65d881b31975ea01d278b06c5004#.VGZAUvmUe6I

17-   للمزيد من المعلومات عن دور الطاقة في جنوب القوقاز يمكن العودة لتقريرٍ للباحث تامر بدوي, التوتر الإيراني-الأذري: الطاقة تعيد رسم الخارطة الجيوسياسية, مركز الجزيرة للدراسات, 19 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، على الرابط:

http://studies.aljazeera.net/reports/2013/11/201311196273252194.htm

 

 

اليوم التالي: مستقبل الحرب على تنظيم “الدولة الإسلامية”/ محمد أبو رمان

ملخص

تناقش هذه الدراسة العوامل والمتغيرات المؤثرة في ترسيم مستقبل تنظيم “الدولة الإسلامية” ومصيره، في ظل الحرب الراهنة عليه، والتي تديرها الولايات المتحدة الأميركية عبر تحالف دولي وإقليمي.

تنطلق هذه الدراسة من فرضيتين أساسيتين؛ تتمثل الأولى في أن النجاح الفعلي، طويل المدى، للحرب الراهنة، لن يتحقق إلا بشرط رئيسي يتمثل بفك التشابك بين تنظيم “الدولة الإسلامية” والمجتمع السني، والثانية ترتبط بما تمر به المنطقة بأسرها، من مرحلة انتقالية تشهد انهيارًا للدولة القُطرية وحالة من الفوضى وعدم الاستقرار، مما يعطي فرصة لصعود الميليشيات العسكرية ذات الطابع الطائفي أو الديني أو العرقي.

تخلص الدراسة إلى أن القضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية” عسكريًّا لن يخلق حالة من الاستقرار الإقليمي، ولن ينقذ الدولة القُطرية العربية؛ إذ تؤشر المعطيات الواقعية إلى أننا أمام مرحلة انهيار للتوازنات القديمة من دون خلق آفاق سلمية بديلة؛ ما يجعل من سيناريو العنف والتفتيت السياسي والجغرافي هو السيناريو المتوقع في المدى المنظور، طالما أن البديل الديمقراطي الوطني التوافقي ليس ناجزًا بعد، في كثير من الدول والمجتمعات العربية.

مقدمة

في اليوم التالي لسقوط مدينة الموصل بيد تنظيم “الدولة الإسلامية” وتمدده السريع؛ بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتغيير مقاربتهم تجاه الأوضاع في كل من سوريا والعراق. لم تعد واشنطن تنظر إلى ذلك التنظيم بوصفه تنظيمًا محليًّا عراقيًّا يعاني من أزمة بنيوية تتمثل بعدم قابلية المجتمع السني للتعايش مع أيديولوجيته الدينية المتشددة، ويواجه صحوات عشائرية سنية، كما كانت عليه الحال في العام 2008، فقد أصبح، الآن، لاعبًا إقليميًّا عابرًا للحدود يسيطر على مساحة واسعة من الأراضي ويهدم الحدود لوصل المناطق التي يسيطر عليها بين سوريا والعراق، ويمتلك ترسانة عسكرية ضخمة، جاء أغلبها عبر ما حصل عليه من معاركه مع الجيشين العراقي والسوري، ولديه كفاءة قتالية عالية وخبرة عسكرية وجهاز يدير المعارك على مستوى محترف، ويمتلك مصادر للثروة من حقول النفط التي يسيطر عليها ويتقن التعامل مع “السوق السوداء” للهروب من العقوبات الشديدة، فضلاً عن توظيفه للصراع الإقليمي وتضارب مصالح الدول في المنطقة والعالم، ويحظى بغطاء مجتمعي ناجم عن تفشي الطائفية وحالة الفوضى والفراغ السياسي الكبير في المنظومة الرسمية العربية.

تحركت الولايات المتحدة الأميركية وحشدت معها دولاً غربية وعربية عبر تحالف عسكري هدفه الرئيس تقليم أظافر تنظيم الدولة الإسلامية، وإيقاف تقدمه، وصولاً إلى القضاء عليه. وبعد أعوام من إنكار المشكلة الجوهرية التي أدت إلى صعود هذا التنظيم؛ بدأ الحديث يأخذ طابعًا أكثر عمقًا في إدراكها؛ إذ اعترفت الإدارة الأميركية بوجود أزمة سنِّية في المنطقة أدت إلى صعود هذا التنظيم، فوصلت عبر تفاهمات إقليمية (مع دول المنطقة بخاصة كل من إيران والسعودية) إلى “صفقة” التخلص من رئيس الوزراء العراقي السابق، نوري المالكي، بدعوى أن سياساته أدت إلى تعزيز الروح الطائفية في العراق، وأضعفت من شرعية مؤسسات النظام السياسي الجديد هناك، لكن هذا الحل كان أقرب إلى تسطيح الأزمة واختزالها والتغاضي عن الدور الإيراني الذي لا يزال فاعلاً في بناء شبكة كبيرة لتجذير نفوذه ليس في العراق وحده، بل في المنطقة العربية، مرورًا بسوريا ودعم نظام الرئيس بشار الأسد، ودفع حزب الله والميليشيات الشيعية إلى أتون الصراع الأهلي هناك لإنقاذ النظام من الغرق(1).

تحاول هذه الدراسة الوقوف عند أسباب صعود “تنظيم الدولة” في المجتمعات السنية، وتناقش العوامل والمتغيرات المؤثرة في ترسيم مستقبل تنظيم الدولة الإسلامية ومصيره، في ظل الحرب الراهنة عليه، التي تديرها الولايات المتحدة الأميركية عبر تحالف دولي وإقليمي.

تجاهل الشروط المؤسسة

تكمن المفارقة في أن التحالف قرر ضرب التنظيم في العراق وسوريا معًا، مع تجاهل مواجهة الشروط المؤسسة له ولصعوده، والتي تتمثل في سياسات النظام السوري وقمعه للاحتجاجات السلمية واستمراره خلال ثلاثة أعوام في استخدام الأسلحة المختلفة لضرب المعارضة؛ ما أدى أولاً إلى عسكرة الانتفاضة السلمية، وثانيًا: إلى بروز القاعدة ثم انشطارها بين تنظيم الدولة الإسلامية والنصرة هناك، وأخيرًا، إلى تعزيز نفوذ هذا التنظيم الذي أتقن فن اللعبة الطائفية ووظفها بدوره في مواجهة الطرف الآخر، معتمدًا على خطاب هويَّاتي صلب وسافر، في تجنيد الشريحة السنِّية الكبيرة، التي كانت تشعر بحالة من اليأس والإحباط الشديد من أي أفق سياسي سلمي للتغيير، ومن تخاذل المجتمع الدولي عن وضع حد للمأساة التي عايشتها، فأدت إلى هجرة الملايين وقتل مئات الآلاف، وتعرضت لجملة من المجازر والكوارث التي حلَّت بها.

مع صعود النزعات الطائفية المتبادلة، وجنوح القوى السياسية الشيعية نحو طهران، بوصفها مركز الثقل الإقليمي لها، وضعف الوسط السياسي الرسمي السنِّي عمومًا، وشعور المجتمعات السنية في ثلاثة مجتمعات رئيسة: العراق وسوريا ولبنان، بحالة من الفراغ السياسي وتهديد عميق لهوياتها ومصالحها؛ لم يعد صعود هذا التنظيم أمرًا يستعصي على الفهم والإدراك والتحليل، فهو إن لم يكن، بالضرورة، خيارًا ثقافيًّا حضاريًّا طبيعيًّا، فإنه ضمن الظروف الاستثنائية وحالة الفوضى والصراع الداخلي بات لدى فئات من المجتمع السني أداة للدفاع عن النفس، سواء قبلوا بها أو رفضوها حيث لم يجدوا مسارًا بديلاً لمقاومة فعالة لها(2).

لذلك؛ تبقى الأزمة السنِّية هي نقطة الضعف الجوهرية في استراتيجية إدارة الرئيس أوباما في مواجهة التنظيم، مع عدم استعداد السنَّة للرهان على حلول جزئية قاصرة، قد تؤدي إلى مزيد من الضعف والفشل في حال تم إضعاف هذا التنظيم، الذي لا يعبِّر عن خيارات سنِّية طبيعية اختيارية، بقدر ما يعكس الشعور بالقلق والرعب من الظروف الراهنة.

ولإدراك الإدارة الأميركية أن الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية عملية معقدة؛ إذ إن الأبعاد العسكرية فيها متشابكة مع السياسية، فإنها وضعت تصورًا بعيد المدى، يربط التقدم العسكري بشرط جوهري، يتمثل بفك التشابك بين تنظيم الدولة والحاضنة السنية في كل من العراق وسوريا، وتعتمد في ترجمة نتائج القصف الجوي لمكاسب عسكرية بالإضافة للقوات الكردية والجيش العراقي على السنَّة العراقيين والسوريين، الذين تريد الولايات المتحدة وحلفاؤها تدريبهم لمواجهة القاعدة، لذلك جرى التفكير في إنشاء “الحرس الوطني” في العراق، لتدريب السنَّة من أبناء العشائر وإدماجهم فيه، وكذلك الأمر تدريب الجيش الحر في سوريا(3).

أسئلة متعددة

يقودنا ما سبق إلى السؤال الجوهري في الحديث عن المرحلة القادمة ومستقبل المنطقة العربية، ويتمثل في سيناريوهات اليوم التالي للحرب الراهنة على تنظيم الدولة الإسلامية؟

ينبثق عن هذا السؤال أسئلة متعددة؛ من قبيل ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتمكن مع حلفائها من القضاء عسكريًّا على هذا التنظيم وإنهاء دولته التي أعلن عنها ممتدة بين الأراضي السورية والعراقية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما هي مآلات الأوضاع في العراق وسوريا في حال لم تحل المشكلة السياسية السنية في سوريا، وفشلت جهود احتواء السنة العراقيين؟ وهل إنهاء “داعش” سيؤدي إلى عودة الاستقرار الإقليمي؟

قبل الولوج إلى محاولة الإجابة عن التساؤل الرئيس السابق وما ينجم عنه من أسئلة متعددة، فمن الضروري أن نذكِّر بأربع ملاحظات رئيسة حول التنظيم وطبيعته والشروط المنتجة له:

يرتبط صعود تنظيم الدولة الإسلامية بوصفه فاعلاً إقليميًّا، عابرًا للدول والمجتمعات، بعاملين رئيسين: الأول: يتمثل بالنزعة الطائفية في المنطقة الناجمة عن النفوذ الإقليمي الإيراني، والفراغ السياسي السنِّي، وانفجار الصراعات الداخلية على أسس طائفية ودينية وعِرقية في كل من العراق وسوريا، والثاني: ينبثق من سياسات الأنظمة السلطوية وقمع الاحتجاجات السلمية وحالة الانسداد السياسي، والانقلاب على مخرجات الربيع العربي أي إنه مركَّب على أزمة سياسية عربية.

يمكن النظر إلى تنظيم الدولة باعتباره نموذجًا من نماذج متعددة عابرة للمجتمعات، تتمثل بالجماعات الدينية والطائفية التي أصبحت فاعلاً رئيسًا في ظل حالة الفوضى السياسية والأمنية، فالجماعات الشيعية العراقية وحزب الله والقوى الكردية والحركات السلفية الجهادية وفروع القاعدة والحوثيين تتوافر على الشروط السياسية والمجتمعية نفسها التي أدت إلى صعود ذلك التنظيم.

يتأسس هذا الدور السياسي والأمني والعسكري لهذه التنظيمات والجماعات على فشل الدولة الوطنية العربية في الإدماج السياسي وحماية قيم المواطنة والقانون وسيادة حالة من الفوضى الأمنية والفراغ السياسي.

إن صعود هذا التنظيم، محليًّا وإقليميًّا، ليس طارئًا وهزيمته تتجاوز الجانب العسكري والأمني، إلى مواجهة الشروط الموضوعية السياسية التي تقف وراءه ووراء التنظيمات والنماذج الشبيهة.

من هذه الملاحظات يمكن استنطاق نتيجتين مهمتين، هما:

الأولى: أن النجاح الفعلي، طويل المدى، للحرب الراهنة، لن يتحقق إلا بشرط رئيس وهو فكُّ الاشتباك بين تنظيم الدولة الإسلامية والمجتمع السني، ومدى قناعة المجتمع السني بالانقلاب مرة أخرى على التنظيم، كما حدث في العام 2007 مع تجربة الصحوات.

والثانية: أن المنطقة بأسرها تمر بمرحلة انتقالية تشهد انهيارًا للدولة القُطرية ومنظومتها السياسية، وهي حالة تتجاوز العراق وسوريا إلى أغلب دول المنطقة؛ إذ نجد حالة الفوضى وعدم الاستقرار تسود اليمن وليبيا ولبنان وصحراء سيناء في مصر، في مقابل حالة صعود للميليشيات العسكرية ذات الطابع الطائفي أو الديني أو العرقي.

في ضوء هذه الملاحظات، وبالعودة إلى سؤال اليوم التالي للحرب الراهنة على تنظيم الدولة الإسلامية، يمكننا الحديث عن المؤشرات التالية:

على صعيد التحالف الدولي والإقليمي: يعاني التحالف من غموض السيناريوهات والمراحل التالية، ويقع في معضلات جوهرية؛ أهمها:

أولاً: تدرك الإدارة الأميركية أن القضاء على التنظيم أو إضعافه من دون دحرجة الأهداف لتصل إلى النظام السوري، لن يحل المشكلة، ولن يقلب موقف المجتمع السني ليكون مشاركًا فاعلاً في القضاء على التنظيم، فطالما أن الرئيس أوباما لم ينطق بكلمة السر، وتتمثل بمد الأهداف لتصل إلى قوات النظام السوري أو إجباره على قبول التنحي، فإن المجتمع السني السوري لا يرى ضوءًا في نهاية النفق، وستبقى شروط صعود هذا التنظيم قوية، وهي مقاربة تؤكد عليها تركيا كشرط للانخراط الكامل في مواجهة التنظيم وتؤيدها فرنسا. في المقابل، فإن إعلان الإدارة الأميركية أن الحرب تستهدف نظام بشار الأسد، سيجرها إلى صراع مزدوج، مع النفوذ الإيراني وتنظيم الدولة في الوقت نفسه، وربما يؤدي إلى انقلاب الأصدقاء في الحكومة العراقية، عمليًّا، عليها.

ثانيًا: في الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة على إضعاف تنظيم الدولة وضربه، فإنها تتحالف مع الحكومة العراقية، التي تدعم الميليشيات العراقية، التي تتبنى نهجًا طائفيًّا مقابلاً لهذا التنظيم، وترتكب انتهاكات شبيهة به، وهي التي تتحالف -أيضًا- مع نظام بشار الأسد وحزب الله في سوريا في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية. فمثل هذا التعاون المباشر، أو غير المباشر، في تحقيق هدف مشترك بين الإدارة الأميركية وهذه الفصائل لن يساعد على طمأنة المجتمع السني ومنحه شعورًا بإمكانية الخروج من الوضع الراهن، الذي يشعر فيه بتهديد وجودي على هويته في هذه المجتمعات(4).

ثالثًا: كيف يمكن أن تقنع الإدارة الأميركية المجتمع السني، في ظل تباطؤ وتأخر الحل السياسي، بأن هذه الحرب هي لصالحه ولا تخدم خصومه، بينما يجد هذا المجتمع -على النقيض من ذلك- أن المستفيد الأول من الضربات التي توجه لهذا التنظيم هما النظامان العراقي والسوري، وفي حال نجح كل منهما في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، فما الضامن للسنَّة بألا ينقلبا عليهم، كما حدث سابقًا، بعد النجاح في إضعاف التنظيم عبر الصحوات السنية التي تجري إعادة استنساخها باسم “الحرس الوطني”، ويكون قد خسر طرفًا قويًّا استطاع إعادة بناء موازين القوى، بالرغم من عدم قبول المجتمع السني بالضرورة له ولأجندته الدينية والسياسية.

رابعًا: لا تزال هنالك شكوك كبيرة في صلابة التحالف الدولي الإقليمي ضد تنظيم “الدولة”؛ فبالرغم من أن هنالك عشرات الدول التي تشارك في الضربات الجوية، إلا أن هنالك -في المقابل- تباينًا في رؤية هذه الدول لمصالحها، بخاصة في المنطقة، فتركيا لم تقبل بالتدخل البري لإنقاذ مدينة كوباني الكردية، ولم تسمح خلال الفترة الأولى من الحرب الجوية باستخدام قواعدها، لأنها تطالب بمقاربة لا تهدف فقط إلى التخلص من تنظيم الدولة، بل كذلك من الرئيس السوري الأسد. والدول العربية، بخاصة السعودية تشعر بقلق من النفوذ الإيراني ومن علاقة النظام العراقي الجديد بطهران، وتأخذ موقفًا متشددًا من نظام الأسد، وبالرغم من أنها تنظر إلى تنظيم الدولة بوصفه مصدر تهديد رئيسيًّا لأمنها الوطني والاستقرار الإقليمي، إلا أنها تنظر إلى طهران، كذلك، كمصدر تهديد حقيقي لها، ما يخلق شقوقًا في التحالف الدولي في حال استمرت الحرب لمدة طويلة، كما تصرح الإدارة الأميركية(5).

خامسًا: بالرغم من أهمية الضربات الجوية وتأثيرها على المدى البعيد، إلا أنها لن تكون حاسمة تمامًا من دون القوات البرية في القضاء على التنظيم، ومعضلة التحالف تكمن في أن الحديث عن تدريب السنَّة في العراق وسوريا لمواجهة تنظيم الدولة لا يزال يواجه صعوبات وتعقيدات سياسية وفنية؛ فالحرس الوطني العراقي المزمع تأسيسه وتطويره يحتاج لأعوام كي يكون قادرًا على المواجهة، والجيش السوري الحر لا يزال ضعيفًا وغير قادر على الاستفادة من إضعاف التنظيم وحصاره عسكريًّا وجغرافيًّا، وليس واضحًا بعد كيف ستتدحرج الحرب وتتطور أهدافها ومساراتها في حال لم تنجح الجهود السياسية في التخفيف من وطأة الأزمة السُّنِّية في كلا البلدين(6).

سادسًا: في خلفية المشهد الدولي والإقليمي هنالك تراجع كبير في الرغبة الأميركية في التورط في أية حروب وصراعات أخرى في المنطقة، وهو وعد أوباما للرأي العام الأميركي، يعزز هذه الرغبة تنامي قناعة جديدة في أوساط سياسية وفكرية أميركية بأن المنطقة العربية بأسرها في طور التفكك وانهيار المنظومة السياسية الجغرافية، التي تشكَّلت بعد الحرب العالمية الأولى، وفشل الدولة الوطنية العربية، ما يجعل من محاولات الحفاظ على الوضع القائم أمرًا مستعصيًا، وربما هذا ما عبَّر عنه الرئيس الأميركي أوباما نفسه، في لقاء مع الصحفي الأميركي، توماس فريدمان، عندما قال: “ما نراه في الشرق الأوسط وأجزاء من شمال إفريقيا هو أمر يعود إلى نظام من الحرب العالمية الأولى بدأ يتفكك”(7).

مثل تلك المعطيات تخلق شكوكًا في مدى استمرارية التحالف الراهن واستدامته وقدرته على التعامل مع شروط التفكك والفوضى الراهنة، ومما يعزز هذه الشكوك ويدعمها تلك القراءات الاستراتيجية التي تتحدث عن تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط على سُلَّم المصالح الحيوية الأميركية، بخاصة مع اكتشاف النفط بكميات كبيرة في الولايات المتحدة نفسها(8).

تنظيم الدولة الإسلامية: تمكَّن التنظيم من تحجيم آثار الضربة العسكرية الأولى، والتخفيف من حجم الأضرار التي تسببت بها الضربات الجوية إلى الآن، لكنه يواجه مشكلة حقيقية في المرحلة المقبلة، فبالرغم من الصلابة التي أبداها مقاتلوه في محافظة الأنبار ومدينة كوباني، إلا أنه عجز عن تحقيق انتصارات خاطفة سهلة، كتلك التي وقعت في البداية، مع سيطرته على مدينة الموصل وتكريت وجزء كبير من الأراضي السنية، فهو اليوم محاصر من الجهات المختلفة، ويقاتل على جبهات عديدة؛ ما قد يستنزفه على المدى البعيد، ويحد من قدراته المالية واللوجستية والتعبوية، في حال استمر التحالف الدولي والإقليمي بهذا الزخم من دعم الأطراف الأخرى.

وبالرغم، من أن التنظيم حافظ على صلابة تماسكه، والتزام أعضائه مع القيادة، إلا أن التوسع الكبير للتنظيم في الآونة الأخيرة قد يكون له نتائج معاكسة تمامًا على الحالة الداخلية، فوفقًا للتقارير الغربية فإن أعدادًا كبيرة انضمت إليه في العراق وسوريا، بعد الانتصارات العسكرية وإعلان الخلافة؛ ما يخلق حالة من التفاوت في التزام الأعضاء في الداخل، ويؤدي إلى مساحات هشة واسعة، وفي حال تعرض لهزائم وخسائر عسكرية كبيرة، وتراجع نفوذه في المرحلة القادمة، فإن احتمال فقدانه لأعداد كبيرة من الأعضاء والعشائر الذين بايعوا، لأسباب واقعية، لا أيديولوجية، سيكون كبيرًا ومؤثرًا، وهو ما حصل في مرحلة الصحوات في العام 2007؛ إذ تراجع نفوذ التنظيم وانكمش وانسحب جزء كبير من الأتباع.

تبقى نقطة ضعف التنظيم، وربما مقتله الحقيقي، في علاقته بالمجتمع السُّني، فإذا حدث وانقلبت شريحة واسعة عليه، لأسباب سياسية أو لعدم قبول ما يفرضه من تصورات دينية ونظام حياة على المجتمع، فإن شرط الصعود سيتحول إلى سبب للتراجع والانكماش.

ولأن التنظيم يدرك تمامًا أهمية “الحاضنة السنية”، وحجم الضربة القاصمة التي تلقاها على يد الصحوات السنية سابقًا، فقد حرص على تطهير المناطق الجغرافية التي يسيطر عليها، عبر فرض نفوذه وإلغاء القوى الأخرى، ومطالبتها بالانضواء تحت رايته وبيعته، وجعل من صراعه مع الفصائل السنية المنافسة أولوية في استراتيجيته القتالية (انعكس ذلك في المراجعة التي أجراها، والتي وضع فيها قاعدة “تسع رصاصات في رؤوس المرتدين وواحدة في رؤوس الصليبيين). إلا أن هذه المقاربة نفسها تحمل بذور الفشل والانهيار، لأنها تقوم على عامل الخوف والقوة، لا القناعة والتوافق، وهي تجعل من علاقته بالمجتمع السُّنِّي مؤقتة، اضطرارية، ليست مبنية على خيار استراتيجي وثقافي عميق.

سوسيولوجيا العنف: تنظيم الدولة بوصفه “نموذجًا”: يقع الباحثون والسياسيون في خطأ فادح عندما يقرؤون صعود تنظيم الدولة الإسلامية إقليميًّا بمعزل عن السياق السياسي العام في المنطقة، فعنف التنظيم وسلوكه الحاد ليس نشازًا، بل هو جزء من “العنف البنيوي” الراهن، الذي يجتاح العديد من الدول والمجتمعات العربية(9).

من الضروري أن تتم قراءة هذا الفاعل السياسي الجديد في إطار العنف السلطوي، سواء كان ذا طابع طائفي، مثل العراق وسوريا، أو استبدادي، كما هي الحال في مصر والجزائر والدول العربية الأخرى، وفي إطار الأزمات البنيوية التي تعاني منها الدول العربية، وتخلق مشاعر شعبية جامحة في التهميش والإقصاء وغياب الأفق السلمي والظروف الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة(10).

ومن الضروري، كذلك، النظر إلى صعود تنظيم الدولة في سياق الفوضى الطاحنة في ليبيا، والفراغ السياسي ونمو الجماعات المرتبطة بالسلفية الجهادية هناك، وفي صحراء سيناء، وفي اليمن مع سيطرة الحوثيين على صنعاء، ومع الأزمة البحرينية والأزمات الداخلية العربية، فهنالك اليوم حالة جديدة متنامية من تفكيك المجتمعات وانهيار السلطة الأخلاقية للدولة، والعودة إلى الأشكال الأولية من التعبير عن الهوية(11).

مثل هذه المناخات تخلق جاذبية لنموذج الدولة الإسلامية وقابلية لاستنساخه وتطبيقه في العديد من المجتمعات، طالما أن المسارات البديلة مغلقة إلى الآن، فليست خطورة هذا التنظيم أنه اجتاز الحدود وأقام كيانًا عابرًا لها، ومتوحشًا في سلوكه مع الخصوم، بل إنه أصبح نموذجًا للوعي الشقي السلبي ولحالة المجتمعات العربية والمسلمة.

أصبح هذا التنظيم “نموذجًا”، وقد وجدنا كيف سعت جماعات أخرى في ليبيا واليمن ومصر إلى استنساخه، فطالما أن الأزمة السياسية السنية لم تُحل، والأزمة السلطوية العربية قائمة، فإن هذا التيار والتيارات الأخرى، سواء كانت شيعية أو عِرقية أو غيرها ستجد فرصةً للنمو والصعود والتكيف مع الضغوط والظروف المختلفة، وإذا تراجعت في مكان ستتنشر في مكان آخر(12).

في الحرب الأفغانية (2002) استطاعت الولايات المتحدة الأميركية مع حلفائها القضاء على حكم حركة طالبان الأفغانية، وتدمير مركز القاعدة وتشتيت قيادته، لكن المشكلة عادت للظهور سريعًا بعد أعوامٍ قليلة، واليوم تعترف أوساط أميركية متعددة بأن العملية السياسية لم تستطع أن تخلق حالة من الاستقرار لذلك البلد، وأن القاعدة، بنسخها المتعددة، وآخرها تنظيم الدولة الإسلامية (الذي انشق عنها) أصبحت أكثر انتشارًا وحضورًا وقوة، بالرغم من كل الجهود الأمنية والعسكرية والاقتصادية لضربها وحصارها.

خاتمة

خاتمة القول وجملته: إن القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية عسكريًّا لن يخلق حالة من الاستقرار الإقليمي ولن ينقذ الدولة القُطرية العربية؛ إذ تؤشر المعطيات الواقعية إلى أننا أمام مرحلة انهيار للتوازنات القديمة من دون خلق آفاق سلمية بديلة، وهي التي كان يمكن أن توفرها الثورات الديمقراطية العربية، لكن الطريق أمامها أصبحت متعرجة ومعقدة؛ ما يجعل من سيناريو الفوضى والعنف والتفتيت السياسي والجغرافي على أسس بدائية هو السيناريو المتوقع في المدى المنظور، طالما أن البديل الديمقراطي الوطني التوافقي ليس ناجزًا بعد في كثير من الدول والمجتمعات العربية؛ وذلك يعني أننا ندور في حلقة مفرغة من الصراعات والأزمات الداخلية والإقليمية الطاحنة(13).

____________________________________________

محمد أبو رمان: باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية متخصص في شؤون الجماعات الإسلامية.

 

المصادر والهوامش

1- قارن ذلك بـ: يوزورجمهر شرف الدين، لماذا تخلت إيران عن المالكي في النهاية، موقع بي بي سي العربي، 13 أغسطس/آب 2014، على الرابط التالي: http://www.bbc.co.uk/arabic/middleeast/2014/08/140813_iran_let_maliki_go، انظر كذلك: تقرير “أوباما ينتقد المالكي ويرسل 300 خبير عسكري للعراق، صحيفة العربي الجديد، 19 يونيو/حزيران 2014.

2- ذلك لا يعني، بأية حال من الأحوال، قبولاً سنيًّا بهذا التنظيم وخطابه وسلوكه، ومن الواضح أن المعارك التي تحدث في سوريا والعراق بين الفصائل الوطنية والإسلامية الأخرى ضد نفوذه بمثابة دليل على وجود مقاومة وممانعة داخلية، وشعور بخطورته، سياسيًّا وثقافيًّا، على مصائر المجتمع السنِّي ومصالحه، لكن الأحداث والتطورات تبرهن على أن المسار الراهن يخدمه أكثر مما يخدم خصومه من المجتمع السني الذي يقع بين فكي الكماشة؛ القلق على الهوية السنية من التهديد الطائفي السياسي من جهة، ونمو هذا التيار وما يحمله من أخطار على ثقافة المجتمع السلمي ونمط حياته ومصالحه من جهة ثانية.

3- David Ignatius, Obama faces growing pressure to escalate in Iraq and Syria, Washington Post- 14 October.

4- قارن ذلك بـ: روبرت بابر، حتى لو قتلنا أبا بكر البغدادي من يطفيء نار الغضب السُّني في الشرق الأوسط؟ موقع سي إن إن العربي، 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، على الرابط التالي: http://arabic.cnn.com/middleeast/2014/11/02/commentary-baer-isis-assassination

5- انظر: هبة القدسي، واشنطن ترفض الشروط التركية لإقامة منطقة حظر طيران أو مناطق عازلة، صحيفة الشرق الأوسط، 7 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

6- انظر: مصطفى العبيدي، تباين مواقف القوى السياسية العراقية بشأن إنشاء الحرس الوطني لمواجهة الإرهاب، صحيفة القدس العربي، 17 سبتمبر/أيلول 2014.

7- انظر: توماس فريدمان، أوباما: شيعة العراق أهدروا الفرصة، صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، 12 أغسطس/آب 2014.

8- يمكن ملاحظة العديد من التقارير الأميركية والغربية التي تذهب نحو هذه القراءة لمستقبل المنطقة؛ Robert Kaplan, The End of The Middle East, Real Clear World, 30 October 2014، يمكن قراءته على الرابط التالي: إضغط هنا.

وكذلك الأمر: , Middle East Meltdown, Foreign Policy, October 30/2014 Aaron David Miller

انظر كذلك تقريرًا آخر في الدلالات نفسها: Why post-colonial Arab states are breaking down, Economist, 1 October 2014، يمكن قراءته على الرابط التالي: http://www.economist.com/news/middle-east-and-africa/21623771-why-post-colonial-arab-states-are-breaking-down-rule-gunman

9- Aaron David Miller, Middle East Meltdown, Foreign Policy, October 30/2014

10- Chuck Freilich, The Middle East Heads towards a Meltdown, The National Interest, 26 June 2014,

http://nationalinterest.org/feature/the-middle-east-heads-towards-meltdown-10753?page=2

 

11- Glenn Greenwald, How Many Muslim Countries has the American Bombed or Occupied since 1980, The Interception, 6-11-2014.

https://firstlook.org/theintercept/2014/11/06/many-countries-islamic-world-u-s-bombed-occupied-since-1980/

12- انظر، على سبيل المثال: أنصار بيت المقدس تنضم إلى داعش وتبايع البغدادي، الحياة اللندنية، 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2014، وكذلك: داعش في درنة الليبية: محكمة شرعية واستمالة ضباط، السفير البيروتية، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2014.

13- Murtaza Hussain, The Middle East Un Holly Alliance, The Intercept, 4-11-2014

https://firstlook.org/theintercept/2014/11/04/middle-easts-counterrevolutionary-alliance/

عودة للصفحة الرئيسية للملف

الى الأعلى

المصدر: مركز الجزيرة للدراسات

 

 

خلاصات ونتائج ملف “تنظيم “الدولة الإسلامية”: النشأة، التأثير، المستقبل

خلاصات ونتائج

لم ينل تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي بات يسيطر على المشهد السياسي والعسكري في سوريا والعراق، ويحمل تهديدًا واضحًا لدول أخرى، إلى اليوم مقاربة بحثية شاملة ومركبة، يمكنها أن تقرأ بشكل جيد أسباب الظهور، ومستقبل هذه الظاهرة. ومن المؤكد أن تناولاً سريعًا لهذه الظاهرة، في ورقة أو ورقتين، لن يكون كافيًا لتفحُّص، ومراجعة المعلومات المتوفرة بشأنه، فضلاُ عن تقديم تفسير عميق للظاهرة.

هدف هذا الملف الذي جاء بمشاركة باحثين، من ذوي السمعة والاختصاص، إلى:

معرفة خلفيات وأسباب صعود هذه الظاهرة.

معرفة التأثيرات التي تركتها الظاهرة على صعيد المجتمعات، والدول والعلاقات الدولية.

تقديم قراءة معمقة تمحِّص الصحيح والسقيم بشأن التنظيم.

محاولة بناء رؤية استراتيجية لمواجهة الفكر الذي يغذِّي هذه الظاهرة.

تقديم نظرة استشرافية لمستقبل هذا التنظيم.

توفير معلومات ذات مصداقية عالية، وتحليلات معمقة عن تنظيم “الدولة الإسلامية”.

ومن خلال مجمل الدراسات التي يتضمنها الملف يمكننا تسجيل الخلاصات والنتائج التالية:

خضع تنظيم “الدولة الإسلامية” لمقاربات مختلفة سعت إلى تفسيره، ويمكن حَصْرها في أربع:

السياق: والسياق هنا يشتمل على أبعاد متعددة، فمن الناحية الاجتماعية ثمة الانفجار الديمغرافي والبطالة ومستوى التعليم وغيرها، ومن الناحية السياسية هناك الاستبداد السياسي، وفشل الدولة الوطنية في التنمية والمواطنة وإدارة العلاقة بين الهويات المختلفة، ومن الناحية التاريخية هناك المجازر والحروب الأهلية. لكن المقاربة السياقية تقصِّر في شرح العملية المعقدة التي تتولد فيها الظاهرة.

المقاربة الثانية تحيل إلى النصوص الدينية أو الفقهية حتى لَيغدو النص -بذاته- مولِّدًا للظاهرة، ولكنها لا تفسر لنا لماذا هي ظاهرة حديثة رغم أن النصوص قديمة، ولماذا لم تُنتِج النصوص مثل هذه الظواهر من قبلُ.

أما المقاربة الثالثة فهي المقاربة الاجتماعية والنفسية، والتي تركز على الفاعلين وتكوينهم الاجتماعي وبيئاتهم وتجاربهم وبنائهم النفسي، ولكن هذه المقاربة تكاد تُخفق في شرح تعقيدات الفعل والانفعال، بمعنى: هل هؤلاء الأشخاص هم نتاج البيئة أم مؤثرون فيها ومسهمون في صياغتها وصناعة ظروفها، أو هما معًا؟

أما المقاربة الرابعة فتحاول أن تخرج خارج المألوف عبر القول: إن “داعش” طَفْرة في تاريخ جماعات الجهاد العالمي، ومن ثم فالقوالب التفسيرية وأدواتها المألوفة تعجز عن استيعابها. مشكلةُ هذه النظرة -رغم أنها لا تقدم مقاربة حقيقية- هي إيمانها بتفرد الظاهرة تَفَردًا لا يجد تفسيره إلا في مبلغ وحشيتها وفي تركيبتها التي تبدو مُلغَّزة ومُفاجئة.

يقترح هذا الملف مقاربة تفسيرية تقوم على أمرين، هما: تجاوز فكرة “تَفَرُّد” التنظيم التي تعزله عن حركة الجهاد العالمي، والتحرر من قَيد كونه “تهمةً” يتم إلصاقها بفكر أو جهة، وهذا يتجسد في تحليل البِنية الفكرية للتنظيم (جذورها وتطوراتها وأصولها وفروعها) من جهة، وفي تحليل الواقع المعقد الذي ظهرت فيه تلك الأفكار من جهة أخرى. ويُجري الباحث هذه المقاربة بالعودة إلى النصوص الأصلية لفقهاء الجهاد العالمي، ورصد سير وتطور الأحداث على وقع العلاقات التنظيمية، مع الأخذ بعين الاعتبار السياق الدولي من جهة وسياق المشاريع الإسلامية الحركية الأخرى من جهة أخرى.

إن فكرة “الغلو والانحراف” في نهج (داعش) تدفع إلى القول: إننا أمام تطور داخل العالم المفاهيمي للجهاد العالمي وانفلات من القيود المفروضة من القيادة المركزية؛ تجاوبًا مع ما تفرضه التطورات على الأرض، والاختلاف حول الوسائل الأجدى لتحقيق المشروع، بالإضافة إلى الصراع على الإمارة نفسها التي هي مركزية في المشاريع الحركية التنظيمية عامة.

لا يمكن لمسلسل الخروج عن “نظام الفقه الإسلامي” الذي بدأه فقهاء الجهاد العالمي أن يقف عند الحدِّ الذي رسموه هم لأنفسهم وأتباعهم.

إن سيطرة تنظيم الدولة على الأرض، لا يمكن فهمها إلا في إطار التغيرات في المنطقة منذ الحرب على أفغانستان والعراق وصولاً إلى الثورات الشعبية، فتنظيم الدولة تمدَّد في الفراغ الذي خلَّفه ضعف الدولة وفي أجواء الاستبداد بعد احتلال العراق، وكذلك الحال مع الثورة السورية التي قوبلت بعنف وحشي فتحولت إلى ثورة مسلحة.

إن الاختلاف بين تنظيم الدولة والقاعدة يظهر في التقديرات والحسابات السياسية خصوصًا مع حنكة وخبرة القاعدة وصِدَامية تنظيم “الدولة الإسلامية”.

إن تنظيم “الدولة الإسلامية” نتاج سياقات مركَّبة تداخل فيها النص بالواقع أو العكس، وهو تطور من داخل حركة الجهاد العالمي وليس خارجًا عنها.

إن الخلاف الأيديولوجي الذي نشأ بين القاعدة وتنظيم “الدولة الإسلامية” يمكن بيانه في التالي:

بالنسبة للقاعدة:

تتهم تنظيم الدولة بالمبالغة في التكفير وعدم أهليته لتنزيل الأحكام الشرعية موضعها، وأن “الشرعيين” الذي يقودونه “حدثاء الأسنان” لا يفقهون تنزيل “كفر النوع” على “العين”، سواء في حق المسلمين من أهل السنة أو من أصحاب المذاهب الأخرى.

تتهمه بأنه يكفِّر عمليًّا مخالفيه من التنظيمات الجهادية الأخرى بسبب الاختلاف معهم ويستهين بالدماء ويبالغ في قتل كل من خالفه من المسلمين.

ترى أن البغدادي أعلن الخلافة من دون تمكين، وكل بيعة أُعطيت للبغدادي لاسيما من بعض التيارات الجهادية هي باطلة ولا صحة لها.

أما بالنسبة لتنظيم “الدولة الإسلامية”:

قبول الظواهري عمليًّا بالديمقراطية التي هي كفر بواح، وإقراره للثورات العربية ونهجها “السلمي في التغيير”، وهو نهج الإخوان.

وقوف الظواهري إلى جانب “الطاغوت” الرئيس محمد مرسي -بعد دخوله السجن- الذي قبل بالديمقراطية، وعدم تكفيره له، لا بل شكره، أي: الظواهري، مرسي لما أعلن الأخير عن عزمه العمل لاستعادة الشيخ عمر عبد الرحمن من سجون أميركا، كما أن القاعدة بقيادة الظواهري لا تكفِّر كُبَراء الإخوان وهم “شَرٌّ من العلمانيين”.

تلبُّس القاعدة بمذهب الإرجاء والجهمية، أي: إنها لا تكفِّر من وجب تكفيره من “المسلمين” الذي اقترفوا أعمالا تخرجهم من الدين.

يعتمد تنظيم “الدولة الإسلامية” نفس مقولات تنظيم القاعدة وإن كان يختلف معها ببعض الترجيحات التي قد تكون شائعة في القاعدة وبنسب متفاوتة، لكنها لم تحظ بالصدارة أو لم تعتمدها القيادة باعتبار أنها تحتمل الاختلاف. لكن الخلاف الأعظم بين الطرفين، هو في فهم الأحكام وتنزيلها وهو ما سيترتب عليه اختلاف عظيم في المستقبل.

يرتبط مستقبل الأيديولوجيا التي يدشنها تنظيم “الدولة الإسلامية” تتوقف في تجذرها وتمكنها على الحرب الدولية التي تخاض ضده، وهناك احتمالان، الأقرب منهما أن يُحجَّم التنظيم أو يُهزَم فسيكون مستقبله أشبه بما آلت إليه دولة طالبان تنظيميًّا، وسيكون أيديولوجيًّا حركة جهادية منشقة تُصنَّف على يمين تنظيم القاعدة.

ستدخل أيديولوجيا التيارات الجهادية عمومًا، ومنها تنظيم الدولة في نفق المراجعات كما سبق وحصل مع التيارات الجهادية في مصر وليبيا وسواهما، لأن تنظيم الدولة وصل بالأفكار التي زرعتها التيارات الجهادية وخاصة القاعدة إلى أعلى مستويات الإشباع، وفي لحظة كانت الشعوب العربية تتجه بخلاف قبلة هذا التيار.

هناك مسار بياني تصاعدي في البنية الهيكلية الداخلية لتنظيم الدولة الإسلامية، فقد بدأ بصورة بسيطة عنقودية شبيهة بالجماعات الإسلامية الجهادية المحلية، خلال الأشهر الأولى، ثم بدأ يتطوَّر مع تأسيس جماعة التوحيد والجهاد، بإضافة مؤسسات وهيئات متخصصة، ووصل إلى مرحلة أكثر تطورًا مع انضمامه إلى القاعدة المركزية بعد أن أصبح اسمه “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”.

انتقل التنظيم نحو الصيغة المؤسسية التي تحاكي ما جاء في كتب التراث الإسلامي، مع الإعلان عن إقامة الدولة الإسلامية في بلاد الرافدين، بعد مقتل الزرقاوي، عبر الإعلان عن تشكيل وزارات وتعيين ولاة على المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، في محاولة للانتقال من صيغة التنظيم إلى بنية الدولة.

حدثت الطفرة الحقيقية، لاحقًا، مع تولِّي أبي بكر البغدادي؛ إذ تمَّ تطوير عمل الأجهزة المختلفة وتأطيرها مؤسسيًّا ومنحها مهمات محددة ودقيقة تجمع ما بين طبيعة المؤسسات في الدولة المعاصرة وأدوارها الوظيفية من جهة، وطبيعة التنظيم وظروف عمله، التي تمتاز بدرجة أكبر من التعقيد والغموض من جهة أخرى، وهو ما جعلنا أمام حالة هجينة وخاصة تُزاوِج بين صورة الدولة والتنظيمات السرية في الوقت نفسه.

تزاوج التطور على الصعيد المؤسسي والوظيفي مع إعادة هيكلة القيادة، وتصعيد القيادات المحترفة المحلية، على أكثر من صعيد، بخاصة عسكريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا.

تميُّز التنظيم بقدرة لافتة على توزيع المهمات وتقسيم الأدوار بين العنصر المحلي والقادمين من الخارج “المهاجرين العرب والمسلمين”.

ارتفعت أعداد الذين ينتمون إلى التنظيم بصورة مضاعفة، بعد السيطرة على الموصل وإعلان الخلافة، وهو أمر طبيعي، ويرتبط بعامل القوة والهيمنة والنفوذ.

بالرغم مما أظهره التنظيم من عمل مؤسسي وتنظيمي معقد ومتطور، وكفاءة كبيرة في التجنيد والدعاية، وحماية التماسك الداخلي؛ إلا أن ذلك لا يعني أنه لا يواجه تحديات حقيقية، فلا يزال التوسع الكبير في عمله والمناطق التي يسيطر عليها يحمل في ثناياه مخاطر حقيقية على قدرة التنظيم على التماسك والتوسع في حال تعرَّض لضربات عسكرية وأمنية كبيرة.

إن البعد المشهدي، بُعد جوهري في أداء التنظيم وفي نشاطه وفي طبيعته، هو عامل لا يمكن استبعاده في السعي إلى تفسير تنظيم الدولة “داعش” ولفهم أشكال اشتغاله، وهو بُعد متصل إلى حد كبير بمروحة الانهيارات الاجتماعية التي رفدت “التنظيم” وشكَّلت بنيته.

إن السعي لتفسير الالتحاق بـ”داعش” يجب عدم قصره على الوقائع الصلبة والمنسجمة، وهو أيضًا شيء من اللعب خارج السياسة وخارج السوسيولوجيا.

إذا كانت “القاعدة” تنظيمًا عنقوديًّا، فإن “داعش” تنظيم أفقي، يقتطع مناطق ويُخضع قبائل وعشائر ويضم في تشكيلاته فروعًا لأحزاب وكتائب انشقت بأكملها. هذه السعة تتيح أيضًا مرونة وتدفع اللعب إلى أقصاه. فإلى جانب “سلفيته الجهادية” هناك أثر قوي لبعثية “داعش” ولعشائريته، وتتجاور فيها محلية مغرقة في رجعيتها وعالمية لا حدود لحداثتها.

في الأردن تغذت “داعش” من الشقاق الاجتماعي الناجم عن فصام الهوية الوطنية وعن ضعفها، وفي لبنان كان للصدع الشيعي-السني وظيفة حاسمة في تفشي المزاج الـ”داعشي” في البيئة السنية، وفي العراق، تقاطعت عوامل المذهبية مع مزاج عشائري محبَط وغاضب، عند الرغبة البعثية الانتقامية. أما في المغرب العربي ووصولاً إلى أوروبا، تختلف الأسباب، فتونس مثلاً، وهي أكثر الدول رفدًا لـ”داعش” بالجند وبدعاة صغار العمر، خلَّف انهيار نظام زين العابدين بن علي ركامًا اجتماعيًّا ونفسيًّا لم يتسع الوقت لدولة “الثورة” أن تستوعبه؛ فكانت “دولة الخلافة” بديلاً ووجهة لهجرة “جهادية” مريرة. وفي أوروبا كان “المجاهدون” خليطًا من شبان وشابات لا تقتصر مصادرهم على مجتمعات الدياسبورا المسلمة في المدن الأوروبية؛ إذ إن من بينهم عشرات من أصول مسيحية، وهم بمعظمهم من غير فقراء القارة العجوز.

يُشكِّل (داعش) مجموعة مفارقات تتعلق بسياق ظهوره في زمن الربيع العربي، وبطبيعة كنهه السياسي، وبإرباكه لسياسات الدول الإقليمية والولايات المتحدة.

مثَّل تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) كفاعل من غير الدول تحديًا حقيقيًّا للدولتين اللتين ينشط في إطارهما الجغرافي، العراق وسوريا؛ ففي العراق تسبَّب في الإطاحة بحكومة المالكي ومجيء حكومة جديدة، وسوَّغ التدخل الخارجي في العراق مرة ثانية.

في سوريا أثَّر سلْبًا على مسار الثورة السورية؛ إذ دعم موقف الأسد الذي لم يكِلَّ عن ترويج روايته الخاصة عن الثورة السورية بوصفها تخريبًا يتزعمه متطرفون ظلاميون ومأجورون.

أربك هذا التنظيم طبيعة السياسات الخارجية لباقي الدول الفاعلة في الإقليم؛ فقد وجدت الولايات المتحدة نفسها في نهاية المطاف ترسِّخ بعملياتها العسكرية ضد (داعش) أقدام الأسد مزيدًا في سوريا؛ ومن ثَمَّ تزيد من نفوذ إيران في المنطقة بطريقة أو بأخرى.

قد تجد واشنطن نفسها مضطرة لعقد صفقات سياسية مع طهران، وكأن واقع الحال أن واشنطن تقف مع طهران والأسد في نفس الخندق.

تبدو علاقة واشنطن بأنقرة معرضة للتوتر بسبب تباطؤ الأخيرة في الانضمام للتحالف ضد (داعش) بصورة جذرية؛ حيث إن أنقرة لا ترى في عملياته ضد (داعش) وحده، دونما استراتيجية شاملة تتضمن الإطاحة بالأسد، جدوى حقيقية.

إن خيبة الأمل الأشد وطأة والتي عبَّر عنها بزوغ (داعش)، هي خيبة الأمل في الربيع العربي، كحركة تحررية كان يُرجى منها أن تغير وجه المنطقة العربية إلى الأبد.

يرتبط صعود تنظيم الدولة الإسلامية بوصفه فاعلاً إقليميًّا، عابرًا للدول والمجتمعات، بعاملين رئيسين، الأول: يتمثل بالنزعة الطائفية في المنطقة الناجمة عن النفوذ الإقليمي الإيراني، والفراغ السياسي السني، وانفجار الصراعات الداخلية على أسس طائفية ودينية وعِرقية في كل من العراق وسوريا، والثاني: ينبثق من سياسات الأنظمة السلطوية وقمع الاحتجاجات السلمية وحالة الانسداد السياسي، والانقلاب على مخرجات الربيع العربي، أي: إنه مركَّبٌ على أزمة سياسية عربية.

يمكن النظر إلى تنظيم الدولة بمنزلة نموذج من نماذج متعددة عابرة للمجتمعات، تتمثل بالجماعات الدينية والطائفية التي أصبحت فاعلاً رئيسًا في ظل حالة الفوضى السياسية والأمنية؛ فالجماعات الشيعية العراقية وحزب الله والقوى الكردية والحركات السلفية الجهادية وفروع القاعدة والحوثيون تتوافر على الشروط السياسية والمجتمعية نفسها التي أدت إلى صعود ذلك التنظيم.

يتأسس هذا الدور السياسي والأمني والعسكري لهذه التنظيمات والجماعات على فشل الدولة الوطنية العربية في الإدماج السياسي وحماية قيم المواطنة والقانون وسيادة حالة من الفوضى الأمنية والفراغ السياسي.

لا تقتصر مسألة امتداد الخطر الراديكالي لـ(داعش) إلى القوقاز وآسيا الوسطى على الأخطار الأمنية ولكنها تمتد إلى ما يمكن أن تسهم فيه من توسع أو انكماش لدول إقليمية في جوارها الجغرافي.

إن تمدد تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، سيكون له تأثيرات عابرة للإقليم تتجاوز حواف الشرق الأوسط لتمتد إلى إقليمي القوقاز وآسيا الوسطى.

هناك سيناريو محتمل قد تجد فيه المجموعات التابعة لتنظيم “الدولة الإسلامية” المناخ الملائم لتنفيذ عمليات في آسيا الوسطى, والقوقاز, والعمق الروسي, ألا وهو التدخل الروسي المباشر أو الضمني عبر دعم انقلابات أو حركات انفصالية في بعض دول المنطقة؛ حيث سيتمكن تنظيم “الدولة الإسلامية” من استغلال الفراغ الأمني لتنفيذ هجمات على نطاق واسع ضد أهداف حيوية (منشآت حكومية, دبلوماسية, مجمعات أمنية-عسكرية, والأهم أنابيب الطاقة).

مع صعود خطر تنظيم “الدولة الإسلامية” في المجال الأوراسي واتساع خلافات أنقرة مع حلفائها من الناتو, ساعدت هذه التطورات طهران في تقديم نفسها كشريك إقليمي بدلاً من تركيا، التي تتمتع بعلاقات ممتدة مع دول آسيا الوسطى والقوقاز بفضل الرابطة القومية.

مع صعود خطر تنظيم الدولة تحاول روسيا استغلال مخاوف الدول ما بعد السوفيتية الضعيفة تجاه الصعود الراديكالي لدفعها تجاه تفعيل تعاونها في إطار المبادرات الأمنية المشتركة لتوسع موسكو من خلالها انتشار قوتها على الأرض لحماية الحدود والمنشآت الحيوية (خاصة خطوط النفط و الغاز).

إن صعود هذا التنظيم، محليًّا وإقليميًّا، ليس طارئًا وهزيمته تتجاوز الجانب العسكري والأمني، إلى مواجهة الشروط الموضوعية السياسية التي تقف وراءه ووراء التنظيمات والنماذج الشبيهة.

من الضروري أن تتم قراءة هذا الفاعل السياسي الجديد في إطار العنف السلطوي، سواء كان ذا طابع طائفي، مثل: العراق وسوريا، أو استبدادي، كما هي الحال في مصر والجزائر والدول العربية الأخرى، وفي إطار الأزمات البنيوية التي تعاني منها الدول العربية، وتخلق مشاعر شعبية جامحة للتهميش والإقصاء وغياب الأفق السلمي والظروف الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة.

من الضروري، النظر إلى صعود تنظيم الدولة في سياق الفوضى الطاحنة في ليبيا، والفراغ السياسي ونمو الجماعات المرتبطة بالسلفية الجهادية هناك، وفي صحراء سيناء، وفي اليمن مع سيطرة الحوثيين على صنعاء، ومع الأزمة البحرينية والأزمات الداخلية العربية، فهنالك اليوم حالة جديدة متنامية من تفكيك المجتمعات وانهيار السلطة الأخلاقية للدولة، والعودة إلى الأشكال الأولية من التعبير عن الهوية.

مثل هذه المناخات تخلق جاذبية لنموذج الدولة الإسلامية وقابلية لاستنساخه وتطبيقه في العديد من المجتمعات، طالما أن المسارات البديلة مغلقة إلى الآن، فليست خطورة هذا التنظيم أنه اجتاز الحدود وأقام كيانًا عابرًا لها، ومتوحشًا في سلوكه مع الخصوم، بل إنه أصبح نموذجًا للوعي الشقي السلبي ولحالة المجتمعات العربية والمسلمة.

أصبح هذا التنظيم “نموذجًا”، وقد وجدنا كيف سعت جماعات أخرى في ليبيا واليمن ومصر إلى استنساخه، فطالما أن الأزمة السياسية السُّنِّية لم تُحل، والأزمة السلطوية العربية قائمة، فإن هذا التيار والتيارات الأخرى، سواء كانت شيعية أو عِرقية أو غيرها ستجد فرصةً للنمو والصعود والتكيف مع الضغوط والظروف المختلفة، وإذا تراجعت في مكان ستتنشر في مكان آخر.

إن النجاح الفعلي، طويل المدى، للحرب الراهنة، لن يتحقَّق إلا بشرط رئيس وهو فكُّ الاشتباك بين تنظيم الدولة الإسلامية والمجتمع السنِّي، ومدى قناعة المجتمع السني بالانقلاب مرة أخرى على التنظيم، كما حدث في العام 2007 مع تجربة الصحوات.

تمر المنطقة بأسرها بمرحلة انتقالية تشهد انهيارًا للدولة القُطرية ومنظومتها السياسية، وهي حالة تتجاوز العراق وسوريا إلى أغلب دول المنطقة؛ إذ نجد حالة الفوضى وعدم الاستقرار تسود في اليمن وليبيا ولبنان وصحراء سيناء في مصر، في مقابل حالة صعود للميليشيات العسكرية ذات الطابع الطائفي أو الديني أو العِرقي.

إن القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية عسكريًّا لن يخلق حالة من الاستقرار الإقليمي ولن ينقذ الدولة القُطرية العربية؛ إذ تؤشِّر المعطيات الواقعية إلى أننا أمام مرحلة انهيار للتوازنات القديمة من دون خلق آفاق سلمية بديلة، وهي التي كان يمكن أن توفرها الثورات الديمقراطية العربية.

يبدو سيناريو الفوضى والعنف والتفتيت السياسي والجغرافي على أسس بدائية هو السيناريو المتوقع في المدى المنظور، طالما أن البديل الديمقراطي الوطني التوافقي ليس ناجزًا بعدُ في كثير من الدول والمجتمعات العربية؛ وذلك يعني الدوران في حلقة من الصراعات والأزمات الداخلية والإقليمية الطاحنة.

 

لقراءة الملف كاملا بصيغة PDF إضغط هنا

http://studies.aljazeera.net/ResourceGallery/media/Documents/2014/11/23/2014112312114773734Daiesh-file.pdf

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى