صفحات الثقافةعلي جازو

تَبْغُ الفَجْر


علي جازو

ذاكرتي ضعيفة، منفعلة وقصيرة. تتداخل حواسي، سرعان ما تمضي إلى قاع كئيب. قال إنه يشك في تفسّخٍ أخلاقي، إضافة إلى حرمان عاطفي، كما إنني، حسب رأي الطبيب انتقلتْ نبرةُ صوته من حال الشفقة إلى نفاد الصبر- رجلٌ بجسد ضعيف، عدا خنوعي لرغبات متناقضة. قلة كلامي المترافق مع فترات شرودي تزيد من ضجري، أما نسياني أحداثاً قريبة، فتحمل عنفاً لا واعياً سيؤدي تراكمُهُ إلى الوقوع تحت تسلط أفكار خبيثة، ومن المحتمل بدرجة أقل أن ألجأ، بلا مبالاة، إلى عمل طائش أتفادى به مرارة الفشل، أما جفاف لساني فشراهة التدخين هي السبب. ضحكتُ حينها. حفرت دمعة فراغاً يابساً داخل عيني. إلى علبة التبغ، مددْتُ يداً ترتجف. ورق مصقول الحواف طويل أبيض، من الأسفل خطان أزرقان مائلان يشفان – تحت لمعة غطاء النايلون الرقيق- كما لو أنهما يرمزان إلى قِصَر ورشاقة موجتين متوازيتين. سحبتُ سيجارة واحدة. دخاننا المتعفن أجنبي مهرب أو مستورد انتهت صلاحية استعماله. قضيتُ على آخر سجائري، ودخنتُ من تبغ صديقي. إعجابي لم ينقطع يوما واحدا عن أشكال علب الدخان وألوانها. عندما ضغطت قليلا بإصبعَي إبهامي وسبابتي على وسط ممتلئ مشدود، أحسستُ بطراوة التبغ. يداي رخوتان كبيرتان. عندما أنظر في يد واحدة أحسبها بومة بيضاء ذبيحة. شهيٌّ شمُّ التبغ قبل حرقه. ماذا أملك سوى التبغ؟ سوى هذا النور الطري يتوهج داخل رئتي كما لو أنه ملاذي الدافئ الوحيد؟ كنت مسحورا بقراءة كتب قديمة صعبة. الآن، ميلي إلى العبث وتبديد جهدي في أمور بلا طائل، تحكَّما مني، وللحياة العاطلة وقفَا أياماً بليدة غادية رائحة بلا أثر. لئلا أعكر منامه، خرجتُ بسيجارتي إلى الشرفة. يا للرطوبة في هذا الوقت المبكر. كم أنا محظوظ بهكذا وقت منسي، لا يصلح لعمل شيء ولا التفكير بشيء ولا الرغبة في شيء. يا لوفرة الملل والحيرة! حقا، كم أنا مضجر نفسي، ومعذّبُها! أغلقتِ العطالة بابَها على كل أمل. التفتُّ إلى وجه النائم. رموش طويلة، نصف وجهه غارق في مخدة صفراء منتفخة. يضاعف الفجر من عبء الوقت الساكن. الحمرة المذهبة المتقدة ثقيلة تشي بنحيب غاضب من خفة وجه النهار الآتي. ماذا لو دخل غرباء معروفون الغرفة الآن؟ ماذا لو جاءنا نبأ عسكري طريف الحماسة من مهربين قساة! كي لا أتجمد مكاني، أهدر نظري كيفما كان، عسى تحظى عيناي، صدفة، بما يبهج أو يطمْئن. حديد الشرفة نديّ. مررتُ بيدٍ، كأنها ليست يدي، على جفنيَّ؛ أفركهما ضاغطاً زاوية انطباقهما الثخينة. خفضت باطن كفي اليسرى على وريقات حبق أخذ أصيصُه البني ركناً من بلاط الشرفة الأملس، نظرت طويلا في عين طائر. ريش أصفر ناعم منكمش. أهو حسون حقا؟ القهوة السريعة. القهوة مع الدخان أطيب. أبدو كمن يهرع عن طيش لعالم الدعايات، و لربما إذا ما تناولتُ القهوة تلك، في صحبة راقصة، ألمسُ يدَيْ صاحبي كما لو أنها عين فتاتي – فتاة الإعلان الرشيقة البرونزية – التي بلغت ابتسامتها ثلاثة أضعاف وجهها. فضلتُ لا أشعلُ مصباح المطبخ. الأفضل أن أنتظر. أعود بنظري إلى بتلات الحبق. مطاط سروالي مبروم ثخين يؤلم خصري. إنها السمنة، السمنة المفرطة؟ لو واظبت على التدخين من صنف وينستون أحمر كلاسيك لما تجمع الشحم حولي. الوينستون يفقدني الشهية، إنه صنف جدير برجل يحترم التبغ. القوانين كالعادات سيئة، لا شك، الواقع أسوأ من قوانين لم ننل منها غير سبل احتيال وضيعة. حسناً، ليكن الحرمان. كيف للطبيب التأكد أن انفعالاتي قصيرة، وهل قصرها دليل عدم قيمتها؟ وكيف هي يا ترى حالات تفسخي الأخلاقية؟ أليس من تصنيف آخر غير الأخلاق حتى نفصل التفسخ عن النقاء؟! معدن الشرفة يفقد نداءَ برودة خفيض. كلُّ تشارك بغيض. يحسب الشريك أن له فضلا عليك إذ يمنحك حصة من حصص لحم المتعة الحزين. في لحظات راحة نادرة أتساءل : أية سلطة يمكنها منعي، أي شخص يمكنه كفي عن التدخين. يا لابتهاجي بحرية مسرفة عاطلة. لا أشك في محبة صاحبي. غير أن طول مقامي لديه يخجلني. عودتي لدار العائلة عودة إلى الجحيم. الريف حيث عشتُ، حجرٌ كبير بلا زحزحة، بلدتي الشبيهة بقرية متورمة ليست سوى حافة سطح ماء مسموم. لم أبذل مالاً أتحمل به جزءا ولو يسيرا من المصروف. التناسل كريه. الجيوش تتناسل، كذلك الحروب. كانت السيارة مسرعة وخطها مستقيما. أبدأ بالتدخين في اللحظة التي يمكنني فيها بصعوبة رؤية هيئة امرأة تقود السيارة الصفراء. سرعان ما أطفئ السيجارة بحديد الشرفة. لامني خالي منذ شهر، صرخ في وجهي: ستعيش مثل كلب، تماما مثل كلب، إذا لم تتزوج. ستهرم بسرعة، ولن تجد أحداً قربك. كان ينبغي تأدية خدمة الجيش قبل أحد عشر عاما، غير أن مرضي وخشية أهلي التي لا تعرف نهاية، وسوء دراستي وكثرة إهمالي، وتزوير تاريخ ميلادي بنقصه سنتين كاملتين، وضعف تدبيري، كلها أخرت من واجبي دفْعَ ضريبة الجيش القسرية. سبع وثلاثون سنة. لم أقل لخالي إني أخاف الزواج، أخاف إنجاب أطفال لا أطيق الآن مظاهر مضيهم إلى المدارس حيث معلمات لاهيات يصرفن كل الوقت على لغوٍ يعضّ قلبي. لقد خدمتُ علم بلادي، ولا أريد لأي كان أن يخدم مثلما خدمتُ. كانت أكبر كذبة؛ خدمتي تلك الشنيعة الجبانة. كنا أشبه بخدم تعساء مكروبين، بل أقرب إلى مجرمين سيئي الحظ، وينبغي فرض غرامات على سوء تصرفهم. بعد قليل ينهض صديقي. أنهيت خدمة العلم منذ أربعة أشهر، وبإمكاني البدء بعملي المعتاد. أضحك من نفسي إذ أقول لها: عملي المعتاد. الشرفة تطل على مجرى نتن كان فرعا من نهر بردى. حمامتان مغبرتان صغيرتان تبعدان خفيفتين عن سلك مكسور. إننا جزء مسحوق من جيل لا يثق بالسماء ولا يجرؤ على نسيانها، كما أننا نهزأ بالعلوم الحديثة والأوطان الراكدة، رغم دراساتنا الجامعية ومجلاتنا العلمية. لكنني أتساءل، ربما عن حمقٍ صائب: لمَ تبدو حياة العلوم الحديثة هذه قاسية مسرعة متعذرة التحقق خارج الكتب والمجلات. كأنها تريد كيَّ عظام من لا يعلم. أخيراً، ذاب لسان الفجر، وتدفأ حديدُ الشرفة وسطع خلفي لونُ ظلٍّ أسود. يدي اليسرى مقبوضة من سيجارة، تفحَّمَ فمُها المفتوح مثل جرح أسود في عين بيضاء، كما لو أن الفجر زادها طراوة ولم ينل منها جفاف ضوء النهار. فجأة تلمعُ خطرةٌ هائمة مرتجلة كأنما قدمت بلا رغبة وبلا وجه: حان الوقت لأهرب دون عودة. ينبغي قتل الندم قبل التفكير بأي فعل. لا ملاذ. ينقصني الإيمان، أهتف هذه المرة، ينقصني إيمانٌ كاليأس. لم أنتبه إلى أنني بلغت من الصراخ حداً أضرم فزعاً مفاجئاً في وجه صديقي. سقطت المخدة، وكادت علبة الدخان أن تُسحَق تحت قدميه الخائفتين المرتبكتين: “أرجوك لا تعد للبكاء. كل نهار تبكي. أرجوك، هذه المرة فقط. ها .. الدواء، خذ الدواء رجاءً”. توسَّلَ ودَنَا كما لو أنه أثناء اقترابه أرادَ أن يلمس قلبي بيديه: “حسناً، بعد الظهر نذهب إلى الطبيب؟ اهدأ الآن. ما رأيك بقهوة”. لم أتحرك. كان ذلك كافياً ليتحرك اللعابُ داخل فمي، وتنتقل نظرتي، خاطفة، إلى علبة التبغ الناظرة في لساني وأسناني.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى