صفحات الثقافة

تَعَقُّبُ محمود درويش

 

مازن معروف

نبذة

سلك محمود درويش (1942- 2008) في البداية بين خطين سياسيين رسما إيديولوجيا قصيدته بوضوح: المسألة الفلسطينية، وكانت وقوداً خاصاً لقطاره الشعري، والفكر اليساري، وكان ظاهرياً كجسم غلّف قلب ذلك القطار. كان ذلك في الستينات. لكن درويش سرعان ما أطلق لغة شعرية من نافذة مختلفة، أكثر اتساعاً من أي ظرف إيديولوجي. وأتت محاولته للانزياح عن “نظام” قصيدة التفعيلة الخطابية سياسياً آنذاك والمنبرية بطبيعة الحال، عبر ديوانه “أحبك أو لا أحبك’ (1972) من خلال النص التجريبي “مزامير”. درويش أفلح آنذاك في قراءة الشعر خارج المعطى السياسي الجاهز. لم يرد للقصيدة أن تنصاع لإغراء الفكر النضالي والانفعال والصراع، برغم رواج هذه الخيارات في تلك المرحلة (بين حربي 1967 و1973). وكان هذا الأمر أولى قفزاته للعدول عن نظام قصيدة غنائية رومانطيقية نوستالجية ظهر بها في كتابيه “أوراق الزيتون” (1964) و”عاشق من فلسطين” (1967). استتبع محمود درويش اشتغاله على اللغة، ووضع انعطافات في منهج القصيدة مع “مديح الظل العالي” (1983)، ومن ثم “أحد عشر كوكباً” (1992) الذي كان أول المداخل للغة مختلفة ستمثل الحقبة الأخيرة من حياته الشعرية وتمتد من “لماذا تركت الحصان وحيداً” (1995) حتى “لا تعتذر عما فعلت” (2008). حقبة سيفتح درويش الباب فيها على التأمل والمساءلات النقدية سياسياً وانسانياً ممرراً إياها في مصفاة القضية الفلسطينية. فنأيه عن أي منصب رسمي في منظمة التحرير الفلسطينية سيطلق يده خارج مظلة الأجندة السياسية للمنظمة. وستستقر فلسطينه، بموقعها الجغرافي الاستراتيجي، في التاريخ والحكاية والاسطورة، كإشكالية قائمة أبعد من أي اعتبارات قومية.

قدمية الصراع وحساسيته ومستجداته، لن تحل جميعها دون ابتكار الشاعر لمجازيات شعرية “يومية” ومعاصرة، محاذية لاستحضاره لرموز “كلاسيكية” و”أسطورية” في المقابل. لكن تطوير الشكل الشعري، وتكثيفه بالرموز والتشكيلات اللغوية والمجازية، من جهة، وتعديل نقطة بدء القصيدة لتصبح “الحالة الفلسطينية” بتفاصيلها (بدل القضية الفلسطينية) من جهة أخرى، لم تؤدي إلى دفع درويش بعيداً عن جمهوره. على العكس، فصورته لا تخرج أحياناً عن إطارها الشعبي كـ”شاعر القضية الفلسطينية”. وكثيراً ما يُقرأ شعره من الباب السياسي المحض، ويُخضع أسلوبه لمحاكمة أوتوماتيكية مسبقة من باب واجب الشاعر النضالي. ولهذا، تضيع فرصة تفحُّص تطور الهوية في شعره من منظور الشاعر الشخصي وليس من بوابة القضية الفلسطينية. فهو حاول على الدوام شبك خيوط معجمه الفلسطيني مع الكوني والانساني. ومع التزامه فلسطين، انشق عن التفخيم الخطابي والمنبري والمباشر لينزح نحو الشعر ككينونة لغوية لا تشترط بعداً سوسيولوجياً أو ظرفاً سياسياً. كما عدَّل في قصيدته تدريجياً، وبحكم تعمُّق فهمه للحالة الفلسطينية، كي لا يعود يخاطب جماعة أو قبيلة أو شعباً، وكانت حياته ملحقة بمنظمة التحرير الفلسطينية، مما سحب عليه أكثر من انتقال وطرد وحب لمدن عديدة أخلص لها، كبيروت وتونس وباريس وعمان ورام الله.

وجد درويش نفسه متورطاً منذ بداياته بقضية فلسطين، بحسب المعنى السياسي والنضالي والواجب الطوبوغرافي، على حساب تورطه في الشعر، بحسب المعنى الجمالي أو التكتيكي. وحاول على قدر وعيه الشعري آنذاك، أن يكون شاعراً رومنطيقياً، على غرار مؤثره، الشاعر السوري نزار قباني (1923- 1998). نشر أول مجموعة شعرية بعنوان “عصافير بلا أجنحة” (1960)، وقد عكست قصائدها تقليداً شعرياً غنائياً لكنه تنكر لها لاحقاً. ليذيع صيته بعد ذلك مع ظهور كتابه “أوراق الزيتون” الذي يعتبر رسمياً اليوم أول مجموعة شعرية له.

في هذه القراءة، سنحاول دراسة تطور موضوعة الهوية خلال المرحلة الأولى (أو كما نعتبرها كذلك) من مسيرته الشعرية والتي، من وجهة نظرنا، تمتد بين عامي 1964 و1983، أي من ديوانه الأول وحتى صدور كتابه “مديح الظل العالي” (قصيدة تسجيلية) مع خروج المنظمة – بالأصح طردها – ومعها درويش، من بيروت عام 1982 تحت ضغط الاحتلال الاسرائيلي للمدينة، لتنتهي مرحلة النضال العسكري وليتجه الفلسطينيون بعدها نحو الخيار السياسي.

دواوينه الأولى

في “أوراق الزيتون” (1964) قدّم دوريش قصائد بلغة خاصة، تجاوزت مهمة التبشير بالمقاومة الفلسطينية. صحيح أن تلك القصائد في مجملها، تضمنت شكلاً مباشراً في الكلام الشعري وأحد أنماط الخطابيات السياسية الشعرية والإيديولوجية العاكسة ليسارية عميقة، كإبن لحزب “راكاح” الشيوعي الإسرائيلي، لكن درويش كان قد طرح في تلك المجموعة، جزءاً كبيراً من ريش الشاعر الذي يكتب شعراً مقاوماً فقط. شكّل الإغتراب، السمة العامة التي غلفت قصائد درويش في “أوراق الزيتون” (1964). وهذا الاغتراب، لولا معرفة القارئ بهوية محمود درويش كفلسطيني، لم يحمل سمات كبيرة أو مباشرة على إن له مصدراً سياسياً أو فلسطينياً طاغياً، إلا في قصيدة “سجِّل أنا عربي”. فهو اتخذ قالباً إنسانياً عاماً، وأُقرِنَ بألم العاشق أو الغريب، كما تجسَّد في أَوجه مختلفة، ناورت كلها للوصول إلى المحطة النهائية: الفلسطيني المدفوع إلى الخارج، إن لم يكن المطرود. فهو اغتراب في الهوية وانفعال داخل مأزق الانتماء، كما هو اغتراب عاطفي، فَقْد للحبيبة، وفيه استحضار بطبيعة الحال لمناخ هذا الحب وبيئته، أي المكان وظروف تشكل الذاكرة: تفاصيل اللحظة. لهذا، فإن درويش عكس ذاتاً ثائرة، غنائية، غاضبة، متلهفة، كل هذا في لغة تبوح وتستعرض حال الإنسان البائسة، بدون أن تبالغ في صنع جماليات شعرية فائقة. فالأولوية للألم، للقضية، لا للشعر، أي أن الكينونة الأولى هي الذات، وليس الفن الكتابي. درويش لم يكتب إلا وفقا للتفعيلة، والقافية، والغنائية الموسيقية والإيقاع الظاهر، وهي عناصر لم تكن لتفيد القصيدة في شيء لولا قدرة الشاعر الشاب آنذاك على تطويع اللغة الشعرية بعبارات سهلة ومن دون الغوص في إبهامات جافة. وضع القارئ أمام علاقة شائكة: فالحبيبة من جهة، والأرض من جهة أخرى، وهما قطبان كلاسيكيان، طغيا على قصائد العديد من الشعراء العرب الذين سبقوا درويش. كانت الأولوية بتظهير الأولى، فيما اقتصرت الثانية على قيمة بوصفها ناتجاً نهائياً ضخماً وثقيلاً، لا بد وأن يلقي ظلاً ما على الحبيبة، ليشيحها او يذوبها كرمز من رمزياته. “أوراق الزيتون” قدَّمت محمود درويش كشاعر رومانسي، لكن بألم مضاعف. فهو مكسور بين الحب والبلاد، الحضور والاغتراب، الذاكرة والحاضر، والنسيان والتمدد في مكان متخيل. لكن نبرته رغم هذه الأثقال، ظلت غنائية، فيما لم تستحوذ نصوص المجموعة على صياغات حد الإذهال أو المفاجأة. العلامات المبكرة لشعريته تجلت في قدرته على تطويع اللغة في التفعيلة والتعبير بوضوح شديد أحياناً كثيرة، كما كيانيته كشاعر بعيداً عن القصيدة نفسها، بحيث أن احتكامه لقافية لا يعني انصياعه التام لها، كقاعدة نهائية، إذ يختتم الكثير من قصائده على نحو مفاجئ وراديكالي يخرج عن تناغم الأبيات السابقة موسيقياً، بل يبدو، إذا ما عُزِلَ عن جسد القصيدة، وكأنه جملة عابرة لا تعني أكثر من وصف قصصي “ما زال في موقدكم حطب/ وقهوة.. وحزمة من اللهب”.

كانت قصيدته تتمدد نحو النفس المجهَّزة أصلاً بعذاب اللجوء، لتكشف عن عذابات في العاطفة، والقلق الوجودي، وعطف الأنا على الأممية، ومبالغة في استعراض الألم، كضربة كف على وجه الماء. فبسيكولوجيا الشاعر في “أوراق الزيتون”، هي بسيكولوجيا غير عملاقة، ولا رئيسة، ولا هي تمثل المحور الأول للقصيدة، وإنما تأتي في سياق عملاني كأضحية، أو تأملي، أو تفصيلي للفقد العام، أو الخسارة الكبرى. كان واضحاً أن محمود درويش في قصائده الأولى، استدار نحو غربته أولاً كفرد مسحوق وعنيد، لكنه أيضا فرع للهوية الفلسطينية، ومستوعب يستطيع فيه رسم القصيدة الرومانطيقية، اليسارية الاتجاه عامة. قصيدة تخترق الخسارة وتنفذ إلى الموت كمصير سوداوي وشبه محتوم، لكن لا بد منه. لذلك، يكون التحدث عن الموت كوسيلة للتحرر، وإفداء الأرض، العائلة، الحبيبة، القلب، الوطن. وفي ديوانه الأول، سيجمع العديد من النصوص الشعرية التي يغض الطرف عن الأنا، بوصفها السؤال الأول، ليتمدد هذا الأمر نحو مساءلة الحبيبة، بوصفها الكائن المخاطب، وبالتالي العلة التي تبرر كل شعرية العاشق المعذَّب، الذي تطل كتفه على أرضه البعيدة المسلوبة. وهو ألزم امرأته بهوية محددة، هوية اشترطها الشاعر كما اشترط الظرف الذي يُضيئها هو فيه، ليمددها أو يقلصها بحسب توتر النص “رأيتكِ أمس في الميناء/ مسافرةً بلا أهل.. بلا زاد/ ركضت إليك كالأيتام/ أسأل حكمة الأجداد:/ لماذا تسحب البيّارة الخضراء/ إلى سجن، إلى منفى، إلى ميناء/ وتبقى رغم رحلتها/ ورغم روائح الأملاح والأشواق/ تبقى دائماً خضراء؟” (“عاشق من فلسطين”). فجمالها مثلاً، ارتبط بتغرب الشاعر ووحدته، أما إعلاء صورتها فجاء كتشديد على إعمال المفارقة بين حاله كشاعر عاشق، ومعناها كامرأة تتحرك في الوطن ويتحرك الوطن في صورتها هذه. غير أنه أبقى عليها صورة منفردة في العالم، مصغراً التفاصيل، ومضخماً ظرفها الإجتماعي الذي احدثته النكبة. قدم درويش قصيدة مقاومة في المحصلة، أريد لها أن تحمل دلالات على أسى مضبوط، وأن ترد صوت الشاعر إليه بعد أن يجوب في الوطن والحبيبة وإشكالية المكان. ولعل المفتاح الرومانسي الذي لجأ إليه درويش، جعل صوته يأتي ممزوجاً بنبرة الطبيعة، برموزها، وبما تستطيع هذه الطبيعة أن تحمله من ملحمية مخفّفة كما في قصيدته “صوت وسوط” والتي يبدأها بـ “لو كان لي برج/ حبست البرق في جيبي/ وأطفأت السحاب” لينهيها بانفعال غنائي أوضح “لكنّ صوتي صاح يوماً/ لا أهاب/ فلتجلدوه إذا استطعتم/ واركضوا خلف الصدى/ ما دام يهتف: لا أهاب!”. ومن هنا، نشير إلى تكرار مفردات في شعره كـ: الدم، البرتقال، الريح، القيثارة، النار، لاجئ، المطر، العاصفة، الزيتون، الضوء، النبع، الغريب، الأزهار، القمر، الرغيف، الصليب، القمح، السنابل، الذئب، الغابة، العيون السود.. إلخ، مشدداً في الغالب على صورة مُغنّ يجوب الشوارع معذباً وباحثاً وناثراً حبه.

هذه المعالجات الرومانطيقية للوطن اتكأ فيها درويش على استحداث مسافة نفسية أو سياسية، بينه وبين فلسطين. مسافة، كانت ضرورية له من الناحية الشعرية كي يعزل أولا الجوانب غير اللازمة التي تحيط بكل من النقطتين الأساسيتين: الفرد – الوطن. ثم كي يحوِّل هذه المسافة إلى خيط تنجدل حوله كل المعطيات الفيزيائية، للمكان والزمان، التي تخدم مهمة واحدة: تصوير حنينه لفلسطين بأعلى كثافة عاطفية ممكنة. كان بديهياً أن تقوم علاقته بالوطن على أساس التضخيم. أي أن ينفخ الشاعر صورة فلسطين، كبلاد غير مُنالة، تزامناً مع نفثه النار في جرحه كلاجئ فلسطيني، مبيناً للعالم، كل القروح المتوارية تحت الجلد وكل الاهتراءات الصوتية التي تنسل من الابتسامة. كانت علاقة درويش بالوطن علاقة التباس، مقامة على أسس عاطفية، ساذجة إلى حد ما، وانفعالية وثورية ووجودية، وحتى عدمية. إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يشيَّد منصته الشعرية على أرضية سياسية لزجة، تتكوَّن تربتها من خليط إشكاليات الأنا والمواطنة والهوية والانتماء والجذور. فهناك محمود درويش الفلسطيني، ومحمود درويش المواطن المنتمي إلى أقلية عربية في دولة عبرية مستحدثة، ومحمود درويش حامل وثيقة ورقية (الهوية الاسرائيلية) يشترطها واقع أن هناك احتلال وأن ثمة دولة سلبت شعباً أرضه، وهناك أخيراً محمود درويش الفرد، المحكوم بحسب الطبيعة الإنسانية للبشر، بمخالطة أصدقاء وزملاء إسرائيليين سواء في المدرسة أو الشارع أو حتى حزب راكاح الشيوعي الاسرائيلي الذي انضم إليه باكراً، من دون أن يتنازل عن حقه السياسي بالدفاع عن فلسطين من داخل أروقة المجتمع الإسرائيلي نفسها. خلاصة هذه التشعبات أن درويش أخذ يبحث، في شعره، عن وطنه فلسطين داخل فلسطين المعدلة جينياً بسبب قيام دولة اسرائيل كنظام عسكري واجتماعي وعقائدي وديني.

 إلا أن هذه الانسلاخات عن الهوية الفلسطينية، كانت دوماً الدليل إلى نوستالجية درويش وبكائياته حول الوطن، في أول مجموعتين شعريتين له. وهي تشظيات لم ينتج عنها قبل قصيدة “جندي يحلم بالزنابق البيضاء” (ديوان “آخر الليل” 1967) ما هو خارج التزام المواطن البديهي ببلاده. فالوطنية ظلت مسألة مادية، مسألة التزام، يفرضها بعد تربوي، ويعززها واقع نهائي بوجود محتل، وهو واقع لشدة قسوته، يكون بعيداً عن أي نقد فلسفي أو تاريخي أو اجتماعي. لذلك، اقتصرت صورة الإنسان في كتابيه الأولين، على صورة الفلسطيني، صاحب البلاد، والأصل. وقد استبعد دوريش كل ملمح محتمل لإنسانية العدو، إذ كان عليه أن يمتثل لواقع أرض محتلة يتعاطف معها إنسانياً ويسارياً، تعاطف يمر بتعاطفه مع ذاته كمحمود درويش اللاجئ. لذلك، احتكرت الضحية المشهد، ولم يعط الفرصة لأي صوت بأن يختلط مع صوتها. فكان على صوتها أن يجيء موسَّعاً، ممدداً في الطبيعة والفضاء والموت والحب والغضب. ذلك قبل أن يقدم درويش صورة مغايرة للعدو، وتحديداً منفِّذ هذا العداء، أي الجندي الإسرائيلي. فـ”جندي يحلم بالزنابق البيضاء” والتي يتحاور فيها الشاعر مع جندي سئم الحرب، تبدأ بسؤال حول معنى الوطن “يحلُمُ بالزنابق البيضاءْ/ بغصن زيتونِ/ بصدرها المورق في المساء/ يحلمُ، قال لي، بطائر/ بزهر ليمون/ ولم يفلسف حلمه.. لم يفهم الأشياء/ إلا كما يحسّها.. يشمّها/ يفهم، قال لي، إنّ الوطنْ/ أن أحتسي قهوة أمي/ أن أعود في المساء/ سألته: والأرض؟/ قال: لا أعرفها/ ولا أحس أنها جلدي ونبضي”. هنا، ينزع درويش، أو يؤجل بالحد الأدنى، صورة الفلسطيني الثائر والعاشق الحزين، الذي ندخل إلى قصيدة عبره، فلا نلمح أثراً لذلك الخراب الذي شدد عليه درويش في بداياته سواء كان خراباً بسيكولوجياً أو بدنياً للاجئ، أو خراباً مجازياً متمثل بفوضى الإنتماء والارتباك اللذين يعانيهما سكان الأرض المحتلة. في هذه القصيدة، يتحول الصوت من كونه صوت الأنا إلى صوت الآخر. ويصبح الكائن المُحتل هو المرجعية، وإن ببعد عاطفي، لتبيان العلاقة الشاذة، أو غير السليمة، مع الأرض. درويش أنحى جانباً المكوِّن الثوري لقصيدته، ليعتمد على قراءة غير عالية النبرة للواقع الفلسطيني، ومن عيني جندي اسرائيلي هذه المرة. انتقال حاد من صيغة الإنسان – الضحية إلى صيغة الإنسان – الجندي، لم يكن مستنسباً إلى خصوصية فلسطين، بل آثر درويش أن يمدد معنى الوطن في شروط إنسانية مجردة من جغرافيا المكان ودلالته المعنوية ورمزيته الخاصة الدينية. يؤدي ذلك إلى تشابك الملامح المكونة لمفهوم الضحية مع بعضها البعض. فالجندي، كالضحية، يحلم، يريد زنابق بيضاء، ولا حاجة لضعفاء يقتلهم. ولعل الشاعر قلص فكرة الوطن إلى حدود الفهم الفردي غير الإيديولوجي “ولم يفلسف حلمه لم يفهم الأشياء إلا كما يحسها”. الانسان هنا مينيمالي، غير خارق، خطابه يولد من التعب ويندرج في البساطة. إنه إنسان مرتد على وظيفته، أي على الظروف المؤسسة لحالة الصراع الفلسطيني – الاسرائيلي، وعلى الوحشية، وهو في حاجة لركن يلجأ إليه، واللجوء هنا ليس سياسياً بل عاطفي. أما الأم، فتتواضع صورتها وتؤنسن، إذ هي ليست الوطن مجازاً، بل الرحم الذي خرج منه هذا الجندي إلى العالم. لتنتفي بذلك الأواصر التي تشد الكائن إلى المكان. ويتلاشى ذلك الالتزام البديهي والأفقي بالوطن. فالوطن لا يعدو أكثر من وجهة نظر. وطن مفرغ من المعنى، محاط بالعبثية، ولا يتجاوز في معناه السؤال الوجودي المؤسس لمفهوم العلاقة بين الفرد والهوية، وماهية الانتماء. يحيد درويش في هذه القصيدة عن مفهوم الجغرافيا، ويتحول الأداة العسكرية إلى ما يشبه محراثاً يفلح به بسيكولوجيا الجندي وذاته القلقة ويعرّضها للهواء. إلا أن إرجاع مجمود درويش الأرض إلى إطار الإشكالية، لم يكن ليبلغ مراده دون إرجاعه “عدوه” إلى مظهره الإنساني الأول، إلى مكوناته العاطفية والإنسانية، وإلى التباسات العلاقة مع الضحية، حيث يفرغ فعل القتل الفيزيولوجي من أي غاية ليصبح شبيها بالعدم. عدم ناتج عن صراع ديناميكي، يستعاض به عن ذلك العدم الذي تنتجه فكرة الموت.

وإذا كانت هذه القصيدة تشكل أول خطوة في المسافة التي سيقطعها درويش مبتعدا عن شعر البدايات المنبري واليساري الهوى، فإن قصيدة “قاع المدينة” (العصافير تموت في الجليل – 1969) ستحمل أولى سمات التجريب لدى ابن البروة، وإن في الشكل على الأقل. فقد أدخل الشاعر توزيعاً صوتياً في القصيدة، فتح له باباً لتوسيع سينوغرافيا رمزية الموت والنضال والثورة. بذلك تخلص درويش من التزام بالصوت الأحادي في القصيدة، أو بالعمود الفقري الواحد. وسيهيئ له هذا الأمر ابتكار اسلوب شعري يجمع بين متتاليات حسية وبصرية من جهة، وأخرى رمزية، رباطاً بينهما بفعل وحدات لغوية أو مفردات، تعمل كمفاتيح سرية أو كأقفال “تتفجرين الآن برقوقاً/ وأنفجر اعترافاً جارحاً بالحبّ: لولا الموت/ كنت حجارة سوداء/ كنت يدا محنّطة نحيلة/ لا لون للجدران:/ لولا قطرة الدم/ لا ملامح للدروب المستطيلة/ (والعائدون من الجنازة عانقوني/ كسّروا ضلعين/ وانصرفوا/ ومن عاداتهم أن يسأموا/ لكنهم كانوا يريدون البقاء /خرجت من جلدي/ وقابلت الطفولة)”. كانت هذه أولى العلامات الدالة على قدرة درويش اللغوية من جهة، وامكاناته في ابتكار جماليات في دائرة التراجيديا نفسها. وإن لم نجرؤ على القول بأن درويش بلغ حالة متحررة بالكامل من سلطة التراجيديا وإيقاعها الرتيب، فبإمكاننا القول بأنه، على الأقل، وسع محورهذه التراجيديا شيئاً فشيئاً، ذلك أن درويش يتحرك وسط الموضوعات الثابتة نفسها (الحب، الموت، رمزية الجلجلة والصلب، الدم، الأغاني) وقصيدة “قاع المدينة” ستكون في مجملها نموذجاً مصغراً جداً وخجولاً ربما، عما سيكتبه الشاعر عام 1983، ونعني قصيدة “مديح الظل العالي”.

ولعل الموت هو القطبة السرية في قصيدة درويش. وهي المحور الذي ظل دوماً يستفزه، لا بوصفه مفهوماً ميتافيزيقياً، بل كحالة تضمه إلى المأساة الإنسانية العامة. ربما لتجاور الشاعر مع نسخ عديدة من الموت خلال حياته، سواء كان موتاً بأسباب نضالية او سياسية أو حتى حيادية. فدرويش يفتتح كتابه “العصافير تموت في الجليل” بقصيدة “لوحة على جدار”، بحيث يتوزع المشهد خارج كادر الجغرافيا، مبتعداً عن خصوصية الحالة الفلسطينية، فلا يسميها، ولا يبثها في القصيدة. الشعر هنا يكون عليه تجاوز المشهد المادي، التصويري، كما النضالي. إنه محاولة لتأمل الموت، كهوية نهائية. لذلك، يحضر المشهد مشذَّباً، مستقلاً عن الأسباب السياسية التي تدفع إلى كتابة قصيدة. مقابل تمسك درويش بالرمزية أو الإبقاء عليها قدر الإمكان، كما فيه احتفاء ساخر بالموت والهزيمة. ما يشد صوت الشاعر إلى أقرانه البشر، لا يعود الحياة، بل الموت. تماثل الجسد مع الجسد، خارج إطار الهوية، حال دخوله السكون النهائي “ونقول الآن أشياء كثيرة/ عن غروب الشمس في الأرض الصغيرة/ وعلى الحائط تبكي هيروشيما/ ليلة تمضي، ولا نأخذ من عالمنا/ غير شكل الموت/ في عز الظهيرة”. وهو إذ يكرر الجمل الثلاث الاخيرة في قصيدته، يبقي درويش على غنائية مقصودة، وهو عامل يضاف لتعزيز قوة جماليات أخرى تتمثل في التزامه التفعيلة والقافية والإيقاع. وهي عناصر قام عليها جسم القصيدة الحديثة (التفعيلة) وكان درويش لا يزال متمسكاً بها، كقانون. ضمنه، يعتمد تدوير المجاز والعودة من جديد إلى صورة الموت، كيقين، ما يمد القصيدة بمناخ هذياني نوعاً ما. وكأن الشاعر أراد إحالة الموت إلى نقطة البدء، لا النهاية. إنه نفخ للصوت الفلسطيني في المساحة الإنسانية “أي جسم لا يكون الآن صوتاً/ أي حزن/ لا يضم الكرة الأرضية الآن/ إلى صدر المغني؟!”.

أما في قصيدة “مطر ناعم في خريف بعيد” فيرتبط الموت بأسلوب الحياة نفسها، أو نمطها المفروض على الفرد. ويلاحظ القارئ تحولاً في معالجات الموضوعات ذاتها (الموت، الوطن). فالشاعر يرفض في هذه القصيدة الموت ذا النمط الواحد، الذي يتقاسمه الجميع كمصير محتوم أسبابه محددة ومفهومة. لكن ذلك يترافق مع ارتداده عن أي التزام بالوطن كمحصلة كبيرة ومطلقة. إنه إعلان درويشي مزدوج ضد التعب.  فما بين حالة الوطن والموت قنوات يتردد فيها الصوت الفردي الفلسطيني إلى أجل غير مسمى “لا تقولي أنا غيمة في المطار/ فأنا لا أريد/ من بلادي التي سقطت من زجاج القطار/ غير منديل أمي/ وأسباب موت جديد”. انعطف درويش في هذه القصيدة بصورة الوطن. لم يعد الوطن الفلسطيني الذي ينبغي النضال من أجله، بل بات الوطن – الشيء. إنه أي غرض قد يستفز الجانب الانساني من الفرد. كان الشعر الفلسطيني بحاجة طارئة إلى إخراج الوطن من كونه مكتب وظيفة، إلى كونه عاملاً معنوياً يستفز جماليات الفرد المخلوع من أرضه. لذلك، لم يعد هذا الوطن مطالباً بتحقيق ذاته ككيان سياسي أو اجتماعي أو حتى تراجيدي، بل بتقمص صورة الأشياء الحميمة (الشاعر يريد “أسباب موت جديد”). درويش يحتفظ بجملة غنائية، لكنها نفسية، تراوح بين المناخ السوريالي الكبير ورمزية التفاصيل.

في عام 1970، سيكون ديوانه “حبيبتي تنهض من نومها” متضمناً قصيدة ستشير إلى وصوله قريباً إلى النثر، ممزقاً البروتوكول الشكل الشعري الذي انتهجه سابقاً. “كتابة على ضوء البندقية” ستشتمل على سياق سردي، قصصي نوعاً ما، بحلة نثرية، مع احتفاظ درويش ببناء تفعيلي مبطن فيها، وموسيقى خافتة وإيقاع صوتي ساكن. في هذا النص، سيحال موضوع الهوية إلى الأنثى الإسرائيلية. وسيسجِّل درويش إشكالية القومية اليهودية وتعقيدات التفاعل الإنساني مع الجار الفلسطيني. هذه المرة، لن يقتصر الامر على موضوع الهوية ككيان تعريفي اجتماعي للكائن، بل سيختار درويش المفهوم القومي، في مقابل التزامات الصراع الحربي والسياسي وحتى العقائدي مع الفلسطيني. ترتسم هوية الأخير ضمن كادر من ممنوعات. ويتم في القصيدة محاصرة وجوده، بتجريد فتاة يهودية من أي حق بإقامة علاقة حب معه. إلا أن درويش، سيظهر هذه الإشكالية في أسلوب ملحمي، مظهراً سيطرة لافتة على اللغة العادية، ومتجهاً لحماية قصيدته من أي انزلاق ممكن في الخطابية الواقعية. لذلك، فإن القصيدة التي تحكي قصة امرأة (شومليت) تنتظر حبيبها الجندي في البار، ستتضمن استعارات عميقة تبيِّن مأزق اليهودي، بين التزامه الوطني الاسرائيلي من جهة، وتراجعه إلى إنسانيته المرتبكة وألقه العاطفي الهش من جهة أخرى. في مقابل ذلك، سيتم تأجيل صورة الفلسطيني، ولن تكون هويته موضوعاً أساساً للمعالجة، بل تفصيلاً يأتي في سياق تعقيدات تحيط به ومحرمات تفرضها المؤسسة الدينية والسلطة العسكرية في آن. يقول درويش في إحدى مقاطع القصيدة، متحدثاً عن شومليت “فجأة عادت بها الذكرى/ إلى لذّتها الأولى، إلى دنيا غريبة/ صدقّت ما قال محمود لها قبل سنين/ كان محمود صديقاً طيب القلب / خجولاً كان، لا يطلب منها/ غير أن تفهم أنّ اللاجئين/ أمة تشعر بالبرد،/ وبالشوق إلى أرض سليبة/ وحبيباً صار فيما بعد/…./ كل قومياتنا قشرة موز/ فكرتْ يوماً على ساعده/ وأتى سيمون يحميها من الحب القديم/ ومن الكفر بقوميتها”. تجرأ الشاعر على معلجة الحالة الفلسطينية من زاوية كان التطرق لها أمراً غير مسموح إلى حد بعيد. وفي هذا النص، يدخل قارئه في دهاليز أسئلة لا تولد إلا من رحم الحياة اليومية المتقاسمة بين الاسرائيليين والفلسطينيين أو ما يسمى “عرب 1948”. فالشاعر يتنازل عن كبريائه العالي كفلسطيني ثائر في قبضته الحق، ويرسم نفسه بدلاً عن ذلك ككائن يومي هش، مضيئاً على أبعاد دقيقة للصراع مع العدو بالزي العسكري، لا المدني اليهودي. أسئلة تركها برسم الحرب، والحب، والواجب والدفاع ومفهوم الوطن واللاجئين، والصداقة والعشق والحاجات العاطفية للإنسان الفلسطيني في مقابل كفاحه الوطني.

في الكتاب نفسه، نقرأ في قصيدة “الجسر” عن ابنة وأبيها وجندي قديم يرفضون البقاء لاجئين تحت علم وكالة الغوث، ويقررون العودة إلى ديارهم تسللاً عبر جسر. يرفع درويش الخطابة إلى مرتبة الملحمة مستعيناً بأدوات لغوية، تبطئ المشهد في حدود قصوى، وبالتالي تتيح الفرصة للقارئ كي يتأمل التناقضات بين عاطفة العائدين ومعوقات واقع الأرض. يرد في القصيدة حوار بين الابنة والأب “قال الشيخ منتعشاً: وكم من منزل في الأرض/ يألفه الفتى/ قالت: ولكن المنازل يا أبي أطلال!/ فأجاب: تبنيها يدان”. وهو ما يذكر بقصيدة درويش “أبد الصبار” في كتابه “لماذا تركت الحصان وحيداً” (1995)، إذ يرد حوار مماثل موضوعه العودة وتفصيله البيت، بين إبن ووالده “لماذا تركت الحصان وحيداً/ لكي يؤنس البيت، يا ولدي/ فالبيوت تموت إذا غاب سكانها”. من جهة أخرى، فإن درويش، الذي يكون إلى الآن أحاط بمسألة الهوية من جوانب عديدة، بات مسلحا ضد وجوب الإلتصاق بظلها الفلسطيني، ما سيمهد له الإنطلاق في مرحلة لاحقة، وإن متأخرة زمنياً (بدءا من عام 1995)،  في موضوعات أنثروبولوجية، واركيولوجيات شعرية للإشتغال على معنى الإنتماء، لا موقعه، لاجئاً إلى قدمية الأرض وأسطورة الصراع والارتباط بالتاريخ والحضارات القديمة التي مرت في فلسطين، بما يتجاوز اللحظة وما تشترطه. فالفلسطيني قد لا يملك صك ملكية مطلق وأبدي لكامل فلسطين، وكذلك اليهودي. إلا أن الأنا الفردية في شعر درويش ستظل مذوَّبة تقريباً في الصوت الجماعي، وهو الصوت الذي سيتسع ليتشظى مراراً في الطبيعة والروح الانسانية والسياسة والبطولة والإدانة. سينتج بذلك درويش لغة تتلاءم مع راهنية اللحظة آنذاك، بالنظر إلى الظروف الاجتماعية والحقوقية التي تغلف شعباً مهجراً بأكمله، والتي تعيد المشهد إلى صفر التحليل. مع ذلك، فإن النفاذ إلى هذا الصوت الجماعي، سيتم في بعض الأحيان فقط بالاعتماد على زاوية الفرد الفلسطيني كما في قصيدة “سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا” (ديوان “أحبك أو لا أحبك” 1972). سيطرق درويش مجدداً على نوافذ الهوية، وبصورة طارئة، باللجوء إلى سيرة حياة سرحان سرحان، الشاب المقدسي الذي اغتال روبرت كينيدي عام 1968 الذي عرف بعنصريته تجاه العرب وبانحيازه العلني للإسرائيليين واصفا إياهم بأنهم مقياس للإنسانية. يحكى أن سرحان صرح قائلاً بعدها “فعلت هذا من أجل بلدي”.

الهوية مرة أخرى، هي المحفز الطارئ، والموضوعة الشعرية الأشد إلحاحاً. وجودها على صفحة الإشكالية العربية الاسرائيلية، سيطوي داخله الفرد الفلسطيني، ليصبح كل موقف يعلنه هذا الفرد أو كل موقف يتخذه صغيراً أو مصغراً أمامها، حتى وإن كان فعلاً يودي بصاحبه إلى زنزانة المؤبد. هي بالتالي القاموس الأضخم الذي لن يفكك فيه التاريخ وشأن الأرض والإنتماء وحسب، وإنما كذلك كل اللواحق العنفية الناتجة عن هذا الوضع. فيها ستفكك كل ردات الفعل الفلسطينية، بوصفها (أي الهوية) الشأن الأكثر قدسية، والغرض غير الممسوس، وغير المسموح بنقضه وإنما بتلمس ملامحه. رغم هذه المنزلة المهيبة للهوية، فإن درويش سيستعين لقراءتها بأبعاد فعل الاغتيال الذي اتهم فيه سرحان. وهو اغتيال سيناتور أمريكي (لا إسرائيلي) تم في الولايات المتحدة (أي خارج حدود خارطة فلسطين التاريخية/ خارج السياج الشرق أوسطي). هذا الواقع سيرد درويش إلى المسافة، جغرافياً هذه المرة، للعمل على تحميضها في القصيدة “ورائحة البن جغرافيا”. لذلك، لن تظهر الهوية ككتلة مضخمة وبارزة مرة واحدة، بقدر ما سيتم جمع ملامح “القاتل الذي قتل قاتله” (هكذا يصفه درويش)، ونثرها في فضاء القضية/ الهوية المنفلشة، ليُدين وبرمزية عالية هذه المرة، قتلاً سياسياً للفلسطينيين. ستشكل الثنائية المستجدة “الفرد- الهوية” الهاجس الأكبر ونقطة بدء جديدة لدرويش، إما لتعريف مفهوم هذه الثنائية، شعرياً وجمالياً وسياسياً، أو للإقرار بإشكالياتها وضبابيتها. تطوِّق هذه الهوية شروط هذه الثنائية التي سيحاول مكوناها الإنفصال أو الإنصهار، بحسب الإيقاع الذي يتبدل شعريا، والأصوات المتداخلة مرارا (الشاعر، الجماعة الفلسطينية، سرحان الحاضر، سرحان الغائب). درويش سيوجد بذلك مناخاً هذيانيا في عمومه، غنياً بنثارات الوطن، أو ما نتج عنه. نثارات تنطلق بحدة في أكثر من اتجاه، كل منها يفحص ببعد خاص، المسافة واللحظة والمصير.

سرحان، الذي يشكل المحور الأول في القصيدة، ستجرد ملامحه من إشاراتها البيولوجية، فهو ليس الجهاز الآدمي، بل الغياب. والقصيدة لا تواجهه مباشرة، بل تقف أمام الأجزاء التي بقيت منه بعد تحويله إلى كائن مجازي، طيف غير خارق بقدر ما هو مرتبك. ففي “سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا” سيقدم درويش صورة جديدة عن المقاوم الفلسطيني. ذلك أن سرحان ليس ضحية بالمطلق، ولا هو قاتل بالمطلق. ستتذبذب صورته بين هذين النمطين. هو الفلسطيني المتملص من كل الأسباب والإيديولوجيات القومية والالتزامات المقدسة بفلسطين والمتورط في الوطن فقط. والوطن بالنسبة لسرحان، قيمة يقينية، ثابتة، غير أنه غير مرئي. بعيد ومتراجع أحيانا لكي يصبح وطنا نفسيا. ودرويش سيحرك قصيدته في ثالوث “سرحان – الهوية – الوطن”، قبل وبعد لحظة اغتيال كينيدي، نافذا إلى الشعب الفلسطيني كنسخة إنسانية واحدة ومجردة يتداعى أمامها الكون، كما يتداعى الصوت الفلسطيني الجهور “وسرحان متّهم بالسكوت، وسرحان قاتل/ وما كان حبّا/ يدان تقولان شيئا، وتنطفئان/ قيود تلد/ سجون تلد/ مناف تلد/ ونلتف باسمك./ ما كان حبّا/ يدان تقولان شيئا.. وتنطفئان/ ونعرف، كنا شعوبا وصرنا حجارة/ ونعرف كنت بلادا وصرت دخان/ ونعرف أشياء أكثر/ نعرف، لكنّ كل القيود القديمة تصير أساور ورد/ تصير بكارة/ في المنافي الجديدة”.

في هذه القصيدة، سيوازن محمود درويش فنياً بين مكونات شعرية عدة بالإبقاء على مستوى عال من الرمزية الواقعية في شعره “وكان يقيس السماء بأغلاله”، خالطاً ذلك بشذرات طفيفة من سيرة حياة سرحان “وسرحان يضحك في مطبخ الباخرة/ يعانق سائحة، والطريق بعيد عن القدس والناصرة” محددا معنى الشاب الذي اغتال السيناتور بـ: اتجاه الوطن. الإنسانية لا تحمل تعريفا معينا هنا، وهي ورطة القصيدة، وغاية درويش ليست بتأطيرها بل بتكسيرها وإفراغها من المعايير الأخلاقية أو الإلتزامات التربوية. إنها مفهوم نسبي، لا يرسو في مربّع، تتدخل فيه الظروف، ويقاس بحسب الزاوية التي تنظر منها شريحة اجتماعية إليه. وفي إدانة سرحان إدانة لمحيط عربي وغربي غير سوي مع القضية الفلسطينية. هي ليست محاولة شعرية للدفاع عن سرحان، بقدر ما هي إعلان صورته ذلك أن إدانته تعني إدانة لصوت الجماعة المتكثف فيه “وفوق سواعدنا/ فارس لا يسلم (وشم عميق )/ وفوق أصابعنا كرمة لا تهاجر (وشم عميق)”. الأنا مرة أخرى، هي أنا الجماعة، وكل مسرح يرسمه فرد يكون متسعا للكل.

وإذا كان سرحان ألزم درويش بإزالة جزء من بورتريه المناضل الفلسطيني لرميه في فضاء السؤال حول الوطن، فلا شك أن الشاعر ألقى القبض على نموذج متطور للفدائي الفلسطيني، وبالتالي لتعقيدات الصراع وتشعباته والعنف السياسي الذي أنتجه بعد هزيمة العرب 1967 (اغتيال بوب كينيدي تم عام 1968 والقصيدة نشرت عام 1972).

لكن قصيدة “مزامير” (يفتتح بها ديوانه “أحبك أو لا أحبك”) حملت علامات مغايرة في النمط الدرويشي على الأقل. فها هو يفاجئ القارئ وللمرة الاولى بإعلان نثريته، قالبا الطاولة على أصول تقنيته الشعرية، نائياً عن سلطة التفعيلة والقافية، ومشدداً على إبراز السرد والجملة غير المغلفة بالموزاييك. يكرر درويش موقعة الوطن في هذه القصيدة، والحبيبة، والذات، في عناصر رمزية وملحمية حاضرة في قصائده السابقة (الزيتون، الريح، الدم، الزوبعة، البلابل.. إلخ.). وكأن كل نص شعري هو اختبار آخر منكس الرأس، للّغة، مقابل فلسطين. كذلك يكرر بحثه عن سبب الموت “أيّها الوطن المتكرر في الأغاني و المذابح/ دلّني على مصدر الموت/ أهو الخنجر.. أم الأكذوبة؟”. عمود القصيدة الفقري يتكون من شريطين مجدولَين، لكل منهما مناخه وإشكالاته: عاطفي متمثل ببوحه عشق الأنثى (بمحفزاته المعنوية تجاه فلسطين) وعقلاني متمثل بالقلق الوجودي الناتج عن شعور دائم بالخسارة. كل منهما يحضر مستقلاً عن الآخر، بصيغة مقطع طويل. وفيما يختار درويش للأول لغة شعرية تفعيلية ذات إيقاع زمني بطيء (وهو ما يقدم لنا شاعراً متأملاً متمهلاً يقرأ العالم بعاطفة رزينة)، يُعتقُ الاخرى في لغة حرة كلياً، نثرية سردية ثاقبة، تصب مباشرة في قلب الفكرة وتنبشها بدون اللجوء إلى مكياج الرمزية المبهمة “أيّها الوطن المتكرر في المذابح و الأغاني/ لماذا أهرّبك من مطار إلى مطار/ كالأفيون../ والحبر الأبيض/ وجهاز الإرسال؟!/ أريد أن أرسم شكلك./ أيّها المبعثر في الملفات والمفاجآت”. هذا التنويع بين أسلوبين في القصيدة الواحدة، والذي يشهده شعر درويش للمرة الأولى، سيتكفل بصنع جماليات التركيب البنيوي، وسيمدها بنكهة خاصة، تعطي الفرصة للقارئ لالتقاط انفاسه.

ديوان “محاولة رقم 7” (1975) تضمن قصائد كان بينها “تلك صورتها وهذا انتحار العاشق”، “طوبي لشئ لم يصل!” و”طريق دمشق”. وهي، إذا صحت التسمية، ثلاثية حملت البشائر التقنية لـ”مديح الظل العالي”(1983)، تلك القصيدة التسجيلية الضخمة التي سيقفل بها درويش مرحلة شعرية والتي تشكل فاصلة في مسيرته من حيث خصوصيتها البنيوية. من القصائد الثلاث نقرأ “أحاصركم: قاتلاً أو قتيلْ/ وأسألكم شاهداً أو شهيدْ:/ متى تفرجون عن النهر حتى أعود إلى الماء أزرقَ/ أخضر/ أحمر” و”أنا ساعة الصفر دقّتْ/ وشقَّتْ / خلايا الفراغ على سطح هذا الحصان الكبير الكبير/ الحصان المحاصر بين المياه/ وبين المياه/ أعِدُّ لهم ما استطعتُ” (طريق دمشق)، و”الطائرات تمرُّ في عرسي/ فاختزلَ الفضاءَ، وأشتهي العذراءَ/ إنَّ الطائرات تمرُّ في يومي وفي حُلمي تمرّ الطائرات/ فأشتهي ما يُشْتَهى/../ لا لون لي/ لا شكل لي/ لا أمس لي/ إن الشظايا حاصرتني/ فاتّسعتُ إلى الأمام/ وصرتُ أعلى من مدينتنا./ أنا الشجر الوحيد”.(تلك صورتها وهذا انتحار العاشق)، و”حملوا مقابرهم/ وساروا في مهمتهم/ وسرنا في جنازتهم/ وكان العالم العربيُّ أضيق من توابيت الرجوع/ أنراك يا وطني/ لأن عيونهم رسمْتكَ رؤيا… لا قضيَّة!” (طوبى لشيء لم يصل). نستطيع من خلال هذه المختارات أن نستشف الأفق المتوتر الذي يضع فيه درويش جملته. وهو يستعين بالواقع المأزوم عسكرياً وسياسياً مظهراً براعة تخييلية في استثمار المشهد البصري ورفعه إلى مستوى خرافي، كحياة يختلط فيها ترتيب الاشياء ولا يعود لأية قوانين فيزيائية (القوانين التي تربط عناصر المشهد البصري ببعضها البعض) أي مسوغ خارج “المنطق الشعري”.

يلاحظ ان درويش تراجع عن الرمزية قليلاً، لصالح واقعية نيئة كان لا بد من الانغماس فيها. فالشعر، يصير ضرباً من الهرطقة والتخاذل أمام المأساة. تغيرت الأولوية الجمالية إذن عند درويش، ووضعت التطورات السياسية على الأرض (لبنان تحديداً) في كفه الأخرى نبرة واقعية قاسية، وتهكمية إلى حد كبير، مقابل ما احتفظ به في اليد الأخرى من شظايا صورة الفلسطيني، كمقاوم ثابت خارج سلطة الزمان والتاريخ والتجاذبات. بدأ درويش البحث عن صورة الأنا الفلسطينية هذه المرة، كمسرح مباشر لصوت القضية، وكعينين تريان العالم العدمي بغضب. لذلك كان لا بد من توحيد القيمتين الإنسانية والوطنية في إحدى مرحل شعره. فكان تضخيم الأنا، عبر تلاحمها بالمكان – فلسطين، أو على الأقل برمز المكان (أي المخيم الفلسطيني) وهو ما سيسجله في قصيدة “أحمد الزعتر” (ديوان “أعراس”- 1977).

في عام 1976، حوصر مخيم “تل الزعتر” (شمالي شرق بيروت) من قبل ميليشيات الكتائب اللبنانية تعاونها بعض الاحزاب اليمينية، مدعومة من قوى عربية إقليمية. قتل الآلاف، وشردوا من مآويهم الركيكة. هُدِمَ المخيم وأبيد بالكامل، وتوزع ما بقي من الفلسطينيين الأحياء على المخيمات الأخرى. كانت المأساة الأولى من نوعها التي تطال الفلسطيني في بلاد عربية. مأساة مزدوجة، انفجرت في وجه الجماعة الفلسطينية – اللاجئين (ومن خلفها الفرد) والمكان المؤقت – المخيم. نسخة ملحمية وحزينة عن الواقع المرير أصلاً أدرجت في روزنامة الفلسطيني. تلاشي الحياة في هذا المخيم، وكل علاماته، دفعت درويش للانتباه إلى عدم فصل “أنا” اللاجئ، عن المكان هذه المرة. فعنوان قصيدته يحمل قطبين هما “أحمد” ويشكل الأنا في حدود المقاتل/ اللاجئ/ العاشق/ وسائل النضال ومسوغاته/ الذكرى/ البيان/ المتجه نحو الوطن و”الزعتر”  ويرمز للمكان المؤقت/ الأسوار/ العزلة/ المخيم الممتد نحو مدن عربية أخرى. “وأنا البلاد وقد أتَتْ/ وتقمّصتني/ وأنا الذهاب المستمرّ إلى البلاد/ وجدتُ نفسي ملء نفسي”. لم تعد الهوية هنا مسألة شعرية للسؤال، ولا إيديولوجية، ولا حتى رمزية، بقدر ما أصبحت يقيناً مكتملاً، هوية مشدودة إلى الألم لا الإشكالية “”. وهو ما شكل انعطافة جديدة في خط درويش الشعري. فالواقع فرض نفسه ورد بشكل طارئ الفرد الفلسطيني إلى درويش لينثره مباشرة في الوطن. كان في القصيدة محاولة من درويش لموازنة الإحباط على الأرض، باستيلاد أسباب أخرى لحماية الطيف الفلسطيني وإعلائه فوق حيثيات هذا الواقع نفسه. هكذا يدخل درويش ويخرج من وإلى النتيجة القاسية والممغنطة، سواء مرغماً أم مطيعاً. “لا وقت للمنفى و أغنيتي/ سنذهب في الحصار/ حتى نهايات العواصم”. غير أن الأنا التي اكتشفها بصيغة جديدة، ستشكل جوهرته الشعرية، فيعيد صقلها مراراً لتأخذ شكلاً متملصاً من أي إطار اسطوري بحت في “مديح الظل العالي”.

ستشتمل هذه القصيدة على تحولات في الصوت وإبراز صيغ وحالات إنسانية لمعالجة علاقة اللاجئ بمنفى طُرِدَ منه (بيروت) وتشريح للبسيكولوجيا الفلسطينية (بين النقد الذاتي والتمسك بثوابت النضال)، حتى ستبدو القصائد الثلاث التي أشرنا إليها في “محاولة رقم 7” وقصيدة “أحمد العربي” (1977) كتمارين لإرساء لغة “مديح الظل العالي”، التي تكشف دماغاً شعرياً قادراً في أصعب الظروف وأقساها (مراحل الحرب اللبنانية بين عامي 1975 و1982) على استثمار الواقع فنياً. فالحلقة الأخيرة من سلسلة العمل الفدائي في بيروت والتي تمثلت بحصار الجيش الاسرائيلي لفلول منظمة التحرير في بيروت عام 1982، لمدة 88 يوماً، واضطرار مقاتلي المنظمة للمغادرة بعدها، وضعت الشاعر في مواجهة معنى المكان الموقت (معنى بيروت الجارة القريبة لفلسطين وأول مدينة عربية يجتاحها الجيش الاسرائيلي، بعد احتلال القدس عام 1967)، مقابل صورة اللاجئ الدائم النزف والمطرود باستمرار والخارق، والمعجون بالتعب والخسارة وبذل الدم واللحاق بالوطن عبر كل البوابات.

في هذه القصيدة، سيبتعد محمود درويش عن الرمزية البلاغية مسافة كافية تتيح له تفحص الواقع الذي أصبح الآن أمام هذه الرمزية بعد ان كان قابعاً وراءها في القصائد السابقة. فخزان وقوده الشعري سيستمد من قوة هذا الواقع الجاهز بكل تعقيداته، سياسياً وإنسانياً. ذلك أن حصار بيروت كان من أقسى الحروب القصيرة الأمد وأشدها كثافة، وأمام هول الحرب المستعرة، كان معنى المنفى يتجدد كل يوم، كسؤال مُلِحّ، المستقبل المجهول كذلك، والألم الذي يتطور في عمقه ليتسع الزمن الحاضر والسابق. كان المعطى البصري الجاهز أبلغ من أن يُستعاض عنه بتشكيلات رمزية فضفاضة مبهمة قد تشتت المعنى وتفتح الباب على تأويلات عدة.

كان هذا تحولاً نسبياً في قصيدة درويش. فقد آثر الشاعر تخفيف النص في بعض مواضعه من الرمزية الثقيلة وتجريد هذه الرمزية من سلطتها وسلخ طبقات المعنى عنها.  لهذا، يعود مبرراً انزلاق درويش في بعض المقاطع من قصيدته إلى لغة خطابية سردية مباشرة استفزازية وعاطفية، تعرّي الواقع بنفضه كما هو، بنسخة بصرية لا مجازية “يبذل الرؤساء جهداً عند أمريكا لتُفْرِجَ عن مياه الشرب/ كيف سنغسل الموتى؟”، أو “كَمْ سَنَة/ وأنا أَصدِقُ أُن لي أُمماً ستتبعني/ وأنكِ تكذبين على الطبيعة و المسدَّس/ كَمْ سَنَة”.

وانشداده إلى عصب الواقع كرجل يسند ظهره إلى لوح تخرج منه مسامير صغيرة، دفعه إلى بناء القصيدة كخريطة شعرية لتجربة الفلسطينيين في بيروت (بين عامي 1970 و1982)، والسياسات التي تلاعبت بالثورة الفلسطينية أو مهدت لتحويل مسارها، دون أن يلتزم خطاً كرونولوجياً “هذه الصحراءُ تكبر حولنا/ صحراءُ من كل الجهاتْ/ صحراءُ تأتينا لتلتهم القصيدةَ والحساما”. فالفدائي في أعلى درجات الواقع لا يعود خارقاً، بل كائناً قابل لارتكاب الخطأ واشتهاء ما يريد “لم تسمعيني جَيِّداً لم تردعيني جيداً لم تحرميني من فواكهكِ/../ حريتي فوضاي/ إني أَعترفْ/ وسأعترفْ/ بجميع أَخطائي، وما اقترفَ الفؤادُ من الحنين”. غير أن التورط شعرياً في تظهير اللحظة بكل عوراتها، سيقابله انسحاب حاد إلى موروثات تاريخية واجتماعية ودينية تفسر هذا الواقع من جهة، وتثبت، ولو شعرياً، بأن الفلسطيني الحجر الأكثر طزاجة في الطريق المعبد بالنضال. وكأن درويش أراد قياس العصر الخاص بأدوات الكل. وقياس العلاقة ببيروت في إطار محدد “وحدي أدافع عن جدارٍ ليس لي/ وحدي أدافع عن هواء ليس لي/ وحدي على سطح المدينة واقفٌ/ أيوب ماتَ وماتتِ العنقاءُ، وانصرفَ الصَّحابَة وحدي/../ كم كنتَ وحدكَ تنتمي لقصيدتي، وتمدُّ زندكْ/ كي تُحوِّلها سَلالِمَ، أو بلاداً، أو خواتمْ”. غير أن ذلك كله، لم ينأى به عن أسس صورة الفدائي، في ثوابت عقلانية تجلت إما بالتشديد على مقاومة العدو، ضمن واحدة من أجمل صوره الشعرية “حاصِرْ حصَارَكَ.. لا مفرُّ/ سقطتْ ذراعك فالتقطها/ واضرب عَدُوَّك.. لا مفرُّ/ وسقطتُ قربك، فالتقطني/ واضرب عدوكَ بي.. فأنت الآن حُرُّ”، أو عاطفية كمخاطبته للجيل الفلسطيني الثالث “نامي قليلاً، يا ابنتي، نامي قليلا/ الطائراتُ تضُّني. وتعضُّ ما في القلب من عَسَلٍ/ فنامي في طريق النحل/ نامي قبل أن أصحو قتيلا”.

الدلالات الرمزية دينياً والتي تمسَّك بها، ضمت أورشليم وأشعيا (نبي في الديانة المسيحية. أطلق سنة 734 نبوءة عن العذراء وعمانوئيل ومولده. وهاجم الوثنية والكفر. وقد روي أنه قضى في القدس، بعد أن شطر جسمه إلى شطرين). يقول درويش “أُنادي أشعيا : أخرج من الكتب القديمة مثلما خرجوا، أَزقَّةُ أورشليم تُعَلِّقُ اللحم الفلسطينيَّ فوق مطالع العهد القديم”. كما أورد عبارات من مثل “الله أكبر”، و”إقرأ باسم الفدائي الذي خلقا” (المحرّفة عن آية قرآنية تقول “إقرأ باسم ربك الذي خلق”)، وأمكنة من مثل يثرب (كمرجعية معنوية للعرب والاسلام) وهيروشيما وصبرا وشاتيلا “صبرا هوية عصرنا إلى الأبد”. وهي دلالات استرشد بها لتوثيق خصوصية الهوية الفلسطينية بجذر ثقافي ديني عام. وبالتالي زرعها في معنى أعلى، مرتبط أساساً بالخلود، كتعويض عن الخسارة السياسية على أرض الواقع، كما ولإدانة المحيط المعني بصقل الوجع الفلسطيني حتى ذلك الوقت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى