صفحات سوريةعلي جازو

ثراء الهوية المزدوجة لأكراد سوريا


علي جازو

يعاني أكراد سوريا قلق هويّة مزدوجة، فهم أقلية قومية مستضعفة، مضغوطة جغرافياً واقتصادياً، كما لو أنها «أجنبية ومنبوذة»، مقابل أغلبية عربية «أصيلة وطاغية«. لكن أكراد سوريا سوريون، بحكم التاريخ المشترك، وفي هذا الانتماء المركب، الوطني السوري والقومي الكردي، سمات ثراء إنساني وثقافي كبيرين.

نظام الهيمنة البعثية ركّز على إنكار أي وجود قومي آخر، ما ترك فجوة عسيرة، مُلئت تمييزاً واضطهاداً، بين البعد القومي «النقي» للدولة السورية وبعدها الوطني «الهجين». لم يعكس البعث ميولَ السوريين، قدر ما أجبرهم على تقبل «أخطائه» والسكوت عنها. من السياسيين الكرد من يعترض على عبارة: أكراد سوريا، إذ توحي بالشتات والتمزق، مفضلين عليها تعبير: «غربي كردستان» كامتداد طبيعي لوطن يجمع شمل الأكراد المتفرق. ووجه الاعتراض عدم الأخذ برأي الكرد ومنعهم من حق تقرير المصير، نتيجة اتفاقات تركية فرنسية ما بعد عثمانية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي، أفرزت من ضمن ما أفرزت حدود سوريا الراهنة. ويرى باحثون أن هذه الإزداوجية مصدر ثراء اجتماعي وخصوبة ثقافية، فيما يحرض البعض، مستغلين الهُوّة القومية، ضرْبَ الأكراد بالعرب، وفي هذه الحال تخسر الجزيرة السورية رصيدها الأخلاقي وتعايشها السلمي. لعامل اللغة شأن كبير في تراكم هذا القلق، وكثير من مشاكل عدم الاندماج يأتي من صعوبة التعامل اللغوي والثقافي، والاحساس بالغربة جرّاء ذلك.

ما يعانيه الأكراد من جهة القومية- اللغة يحسه سوريون كثر من جهة الطائفة – الدين. الدولة المدنية، محل طموح الثورة السورية، تفكك هكذا انتماءات مغلقة ما قبل دولتيّة. وليس بخاف على المهتمين بالشأن السوري أن مأساة الأكراد مضاعفة في ظل ستة عقود من استبداد البعث.

كثّف اغتيال المعارض الكردي السوري مشعل التمو، الذي كان مثالاً لامعاً عن التلاؤم بين الحسّ القومي والانتماء الوطني، من تبعات هذه المسألة، ولفت نظر عموم السوريين إلى خطورة الشأن الكردي. فالقضية الكردية السورية لا تخص أكراد سوريا فحسب، وهذا يضاعف من مسؤولية المجلس الوطني السوري، ومسؤولية أي سلطة حاكمة. رفْعُ الأكراد علمَ كردستان في مظاهراتهم وعلى شرفات سفارات سورية يبعث على الريبة، فالعلم يشير إلى كردستان، وفي هذا انتماءٌ يتجاوز حدود الدولة، ويشي برغبة خفية في حلم «كردستان الكبرى»، والحقيقة أن رفعه لا يتحمل هكذ تأويل، فهو ذو قيمة معنوية ويحقق نوعاً من الإشباع لعاطفة قومية مكبوتة؛ فصراحة إعلان الهوية الكردية السورية، بعد كتمها الطويل، لا يتم على حساب الانتماء إلى الوطن السوري. وما يلفت الانتباه، في القيمة الأخلاقية للانتفاضة السورية السلمية، وشمولها قرى درعا حتى قامشلو وريفها، تجاوزُها الوعيَ القوميّ والدينيّ. فالذين تضامنوا مع درعا وحمص وحماه ودير الزور وغيرها من مدن وبلدات سوريا، لم يخرجوا من بيوتهم لأنهم أكراد، بل خاطروا بحياتهم لأن أخوة لهم سوريين قُتلوا دون حق، وفي هذا سموّ بالحس القومي الكردي نحو وطنية سورية أوسع وأرحب. عندما يمحو أطفال دمشقيون اسم مدرسة «الفقهاء الصالحين» بحيّ الميدان ويضعوا اسم الشهيد مشعل التمو مكانه، فهم يضعون ابن «الأقلية» في مكانٍ هو قلب «الأغلبية»، وفي هاتين العلامتين تأكيد على تعمق وتجذر الحس الوطني العابر للقومية والأديان في المجتمع السوري الجديد. وحالٌ كهذا يسوغ اعتبار الثورة السورية فوق قومية وفوق دينية. هذا هو الجوهر الخفيّ والأعمّ للمجتمع السوري الجديد. وحركة الأحزاب الوطنية الكردية في سوريا، غداة أول مؤتمر وطني كردي سوري (عقد أواخر تشرين الأول الماضي، وتشكل بموجبه المجلس الوطني الكردي الذي يقوم بدور فاعل وحيوي على المستويين الوطني والقومي)، تناشد حلاً ديمقراطياً سلمياً على اساس اعتبار الكرد القومية الثانية وتضمين ذلك في الدستور. وما يميز الحركة السياسية الكردية السورية عن أكراد العراق وإيران وتركيا، بعدُها السلميّ وتخوفها الشديد من أي تفتت اجتماعي، مما يضفي في المحصلة الكثير من الاعتدال ورجحان التوزان في مطاليبها السياسية.

واهمٌ، أو مغرِض، من يريد إبعاد الأكراد عن سوريا كوطن؛ فابناء قامشلو وعامودا وركن الدين أخوة لأبناء درعا وحمص ودير الزور، وحاملُ هذه الأخوة حسُّ المواطنة والحاجة الكيانية إلى الشعور بالتضامن الذي يقوي من الثقة والطمأنينة بين السوريين على اختلاف انتماءاتهم، ويحوّل تعددهم المضطرب إلى وحدة راسخة، بدل أن ينحدر إلى متاهة تنزف طاقاتهم وتبدد كيانهم وتشوه وعيهم الأخلاقي الرصيد الأهم لتفادي سوريا مخاطر انقسامات أهلية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى