سلام الكواكبيصفحات الرأي

ثقافة العمل السياسي بين الوجبات السريعة والطعام الصحي


سلام الكواكبي

ساهمت وسائل الاعلام الحديثة في تطور الممارسة السياسية بشكل كبير، ولكن ليس بشكل ايجابي بالضرورة. وهي تكون مكمّلة في حالة تقدم الوعي ونضوج العقلية السياسية والنقدية. ولكنها كمطاعم الوجبات السريعة، تُشعر بشبع مصطنع وغير صحي.

في خضم الحملة الانتخابية الجارية في فرنسا تمهيداً لاختيار رئيس الجمهورية، تشتد وطأة العملية الإعلامية لكل مرشح، والتي تستخدم من خلالها كل وسائل التشويش والتفنيد المشروعة والمعترف بها قانونياً. ولا ينأى أي مرشح بنفسه عن استغلال أخطاء أو هفوات غريمه السياسي لكي يثبت عجزه أو فقدانه الحجة. وبالطبع، تتعزّز ثقافة “الجمل الصغيرة” التي تلتقطها وسائل الإعلام الحديثة وتصنع منها متلازمات تستعاد بشكل يومي على الأقل، بحيث تصبح هي الأساس في بناء وعي المواطن الناخب، قبل البرنامج الانتخابي والبرنامج السياسي.

وهذه الظاهرة التي تتطور مع وسائل الإعلام الحديثة وتعتمد على التقاط صور فوتوغرافية للحديث السياسي المتلفز، تدعم حجة هذا الطرف أو ذاك، أو تضعف الموقف السياسي لأحدهم. وتعتبر هذه الطريقة حمّالة أوجه، فهي من جهة تدخل في صلب العملية الديموقراطية من حيث إتاحة الفرصة أمام المواطن ليرى ويسمع ما يتفوه به سياسيوه ومرشحوه من جمل غير مدروسة أو ناجمة عن عصبية لحظية أو وقعت في سياق تم اجتزاؤه وتشويهه. من جهة أخرى، تحصر هذه الممارسة الجديدة العملية الانتقائية في جدران التعبيرات المجتزئة والتصريحات اللاذعة والغمز واللمز دون البرامج الفكرية المفترض أن تكون مؤسسة للوعي الجمعي، أو على الأقل، وفي أسوأ الحالات وأقلها طموحاً، دون البرامج الانتخابية القائمة على نقاط اقتصادية واجتماعية محددة ليس من الضروري أن يتم الالتزام بها لاحقاً ولكنها تؤسس لخطة طريق انتخابية جاذبة.

لقد ساهمت وسائل الإعلام الحديثة في تطور الممارسة السياسية بشكل كبير، ولكن ليس بشكل إيجابي بالضرورة. هي مكمّلة في حالة تقدم الوعي ونضوج العقلية السياسية والنقدية. ولكنها، كمطاعم الوجبات السريعة، تُشعر بشبع مصطنع وغير صحي. وكثرة الاعتماد عليها ومراودتها يمكن أن تؤدي إلى السمنة المرضية. وكما في الغذاء، في السياسة، انتشرت هذه الثقافة في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن اللجوء إليها في الديموقراطية الأميركية هو الأكثر تكرارا وترسخّا منه في الديموقراطيات الأوروبية، إلا أن هذه “الثقافة” الجديدة، هي في طور التمدد على مساحات الوعي السياسي والثقافي والاقتصادي الأوروبي بشكل كبير ويكاد يكون خطيرا.

وقليل جدا ممن سيدلون بأصواتهم في الانتخابات المقبلة سيعتمدون في اختيارهم على ما قاموا بقراءته من برامج وأدبيات سياسية. بل هم غالباً، سيستندون في التصويت على ما سمعوه وما شاهدوه. وهذا يدخل بشكل عام في مجال انحسار القراءة المساعدة على التراكمية الذهنية وتعزيز المقدرات التحليلية، وبالتالي تأسيس قواعد الاختيار، في مقابل تطور العوامل الحسيّة الفطرية كالسمع والنظر، والتي ترسل إشارات عصبية “فطرية” هي أيضاً، دون المرور غالباً في منظومة التحليل، أو أنها تمر بها مرور الكرام. وبالطبع، يمكن الحكم على هذا التحليل بأنه تبسيط غير محبذ بالمطلق، ولكن من الضروري أن يُشار إليه لأنه في طور التطور والتمأسس ليشكّل ظاهرة جديرة بالاهتمام وبالحذر.

في هذا الجو “المتلفز” و”الأنترنيتي”، تجتهد المحطات والمواقع في اختيار ما لذ وطاب من المقاطع “المريبة” أو “الفاضحة” أو المؤثرة، ليقوم المشاهد أو المتابع بتكوين موقفه. وتستفيد مجمل الأحزاب المتنافسة من هذه الوسائل المتطورة، لتمسك على منافسيها زلات ألسنتهم أو انفجار غضبهم أو لقاءاتهم غير المصرّح عنها أو استعادة جمل متناقضة في سياق سياسي متصل.

ويجتهد المستهدفون في إيجاد المبررات أو محاولة الرد عبر الأسلوب ذاته ورفع نسبة التشهير في إطار القانون دائماً. وتضيع فرصة مهمة جدا تتمثل في الاستفادة من الفترة الانتخابية لتعزيز معارف العامة في إطار شرح أو عرض أو استعراض البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمرشحين. وإن قامت المحاولة من قبل النخبة في اتجاه التعرف بوضوح أكثر وبعمق أكبر على البرامج، يمكن تحقيق ذلك ولكن من خلال السعي والبحث، والذي هو ليس بمتناول الجميع. في المقابل، يمكن المتفائلين القول إن الوعي السياسي، بعد قرون من الممارسة والتشذيب، وصل إلى مرحلة متقدمة في هذه الدول صار من الضروري أن يجري تطوير وسائل نشره أو تنويع أساليب تعزيزه. وبالتالي، فإن الناخب ليس بذاك “العبيط” سياسياً بحيث يمكن أن تؤثر به جملة لاذعة أو مقطع فيديو ما. وفي المقابل، وعلى الرغم من إمكانية الاقتناع بهذا المستوى من الوعي، فالتحذير من الاستمرار في استهلاكه ضروري للمحافظة على البناء الديموقراطي الصحيح.

أما في الدول العربية التي عرفت التحوّل الديموقراطي او تعرفه، فيبدو أن سياسييها قد أمسكوا بدليل استخدام الديموقراطية، إن وجد، بالمقلوب، وباشروا في تأسيس الوعي السياسي عبر مطاعم الوجبات السريعة. وأصبح الأنترنت وشبكات التواصل، طريقتهم في التعبير وفي شرح مقاصدهم. على الرغم من أن الشبكات إياها لعبت دوراً فاعلاً في العملية الثورية، إلا أن استخدامها في العملية السياسية المفترض من خلالها بناء واقع سياسي جديد، هو عمل خطير جداً. فمن التبسيط إلى التشويه إلى حرف الحقائق إلى تزوير المعطيات، كل شيء متاح. وارتاح الراغبون بالمشاركة في العمل السياسي من ضرورة التفكير وإنتاج المعرفة وكتابة النصوص، واكتفوا بالتعليقات التهكمية من هنا، وبالجمل الجارحة من هناك، وببعض الأسطر التي تحمل تحليلاً سطحياً وتبسيطياً لأمور جسام، من جهة أخرى.

وحتى أن بعض الجهات السياسية التي لم تصل حتى إلى التخلص من الطغاة وهي في طور المعارضة غير واضحة الملامح، تلجأ إلى الأسلوب ذاته، بل تضيف إليه الكثير من توابل الكذب والنفاق والمزايدة والتخوين والتكفير. إنها تريد أكل السمك قبل اصطياده وبيع جلد الدب قبل قتله. إنها بذلك، لا تختلف البتة عمن تدّعي مواجهته، بل تساهم معه، بوعي أو عن دون وعي، في استدامة الانتظار المميت والدامي. ولكن علماء الصحة الغذائية أثبتوا دائماً أن ارتياد مطاعم الوجبات السريعة بشكل دوري ومنتظم يودي إلى التهلكة، وبأن الحياة السليمة تقوم على الغذاء الصحي. فالديموقراطية العربية التي ما زالت تحبو، بحاجة ماسة إلى هذا الغذاء الصحي ليحميها من الموت المبكر.

– باريس

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى