بكر صدقيصفحات سوريةعلي جازوهوشنك أوسي

ثلاثة مقالات تناولت تركيا والأكراد

الربيع الكردي – التركي: وداعاً للسلاح

بكر صدقي

أمام حشود قدرتها المصادر الكردية بمليون ونصف من كرد تركيا، تمت قراءة رسالة عبد الله أوجالان المنتظرة بمناسبة عيد النوروز، في عاصمة الكرد ديار بكر أو “آمد” كما يفضل الكرد تسميتها. وتصدرت صورة ضخمة للزعيم الأسير منصة الاحتفال، في حين ارتدى آلاف الشبان والشابات قمصاناً كتب عليها شعار “الحرية لأوجالان”.

عيد النوروز الذي كان الكرد يحتفلون به كل سنة وكأنهم في حرب مع قوات الشرطة، فيقع في صفوفهم قتلى وجرحى، وتعتقل الشرطة التركية عدداً من نشطائهم، تحول هذا العام إلى عيد للسلام والأخوة. وكانت الاستجابة الشعبية إيجابية لدعوة أوجالان أنصاره في حزب العمال الكردستاني إلى إلقاء السلاح والتحول من المقاومة المسلحة إلى الانخراط في العملية السياسية الديموقراطية. ولاحظ أحد الصحفيين الأتراك في تغطيته أن استجابة الجمهور كانت فاترة على رسالة أوجالان حين تمت تلاوتها بالكردية أولاً، مقابل حماسة شديدة أمام النص التركي لرسالة الزعيم من سجنه في جزيرة إيمرالي في بحر اسطنبول. الأمر الذي يشير إلى جهل الجمهور الكردي بلغته الأم. ولعل هذه الواقعة بحد ذاتها تفسر جذور الصراع الدامي الذي حصد أرواح أكثر من أربعين ألف إنسان من الجانبين على مدى نحو ثلاثة عقود.

اكتسب حزب العمال الكردستاني بقيادة أوجالان، منذ بداية عملياته العسكرية في منتصف الثمانينات، نفوذاً واسعاً في صفوف كرد تركيا، بسبب مظالم عمرها من عمر الجمهورية التركية التي أسسها أتاتورك في العام 1923 على دعامتي القومية التركية والعلمانية. مصطفى كمال، الضابط في الجيش العثماني، كان يخوض الحرب الوطنية على جبهتين: قوات الاحتلال الأوروبية من جهة، والسلطنة من جهة أخرى. وتمكن، ببراغماتيته وشهوته إلى السلطة، من الإطاحة بالسلطان ثم مؤسسة الخلافة، مقابل تنازلات مؤلمة قدمها لقوى الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. واستأثر لنفسه بالسلطة الدكتاتورية المطلقة إلى أن وافاه الأجل في أواخر الثلاثينات، وصفى في غضون ذلك رفاق سلاحه وتمردات كردية وإسلامية، ليصطبغ تاريخ الجمهورية التركية بصبغة هذا الصراع القومي ضد الكرد، والعلماني ضد إسلام المسلمين. وتكرست ثقافة رسمية لا تعترف بوجود الكرد كجماعة قومية متمايزة، وتمارس مع ذلك تمييزاً ضدهم على أساس عرقي. إلى اليوم نلاحظ التيار القومي المتشدد يرفض الاعتراف بالكرد من جهة، ويمارس عليهم التعالي القومي من جهة ثانية.

على رغم أن الخطاب التركي الرسمي، وجزئياً الشعبي، يعتبر حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية، فقد وصلت القيادة التركية أخيراً إلى الاستنتاج الذي لا مفر منه بعد هذا الصراع الطويل: أولاً الحزب الكردستاني هو الممثل الأهم لمظالم الكرد وتطلعاتهم، وثانياً لا يمكن التغلب عليه بالوسائل العسكرية. وهكذا انخرط قادة أجهزة الاستخبارات التركية في مفاوضات طويلة مع زعيم الحزب الأسير في السجون التركية منذ خمسة عشر عاماً، بوصفه العنوان الوحيد للحوار الهادف إلى إيجاد حل سلمي للمشكلة الكردية في تركيا.

تعرضت هذه المفاوضات، على مدى سنوات، لانقطاعات كثيرة وصل فيها الطرفان عتبات اليأس وإعلان الفشل. فأصحاب المصالح في استمرار الصراع الدموي من الطرفين كانوا يزرعون طريق الحوار بالألغام. لكن إرادة الحل السلمي تغلبت في النهاية عند الطرفين، وانطلق الفصل الأخير من المفاوضات في شهر أيلول الماضي ليكتسب زخماً إضافياً بزيارات قيادات سياسية كردية إلى الزعيم في سجنه. تلك الزيارات التي أنتجت هذا التوافق بين أفكار الزعيم من جهة وقيادة الحزب في الخارج من جهة أخرى. وبالاتفاق مع القيادة السياسية التركية، بدأ أوجالان إطلاق سلسلة مبادرات حسن نية تمهيداً لرسالة النوروز التاريخية، أهمها إطلاق سراح أسرى أتراك في معاقل الحزب الكردستاني في جبل قنديل شمال العراق، قبل نحو شهر.

في رسالة النوروز شدد أوجالان على الأخوة التاريخية بين الكرد والأتراك، فتحدث عن تعايش عمره ألف عام في ظل الإسلام، وعن الشراكة في معركة جنق قلعة في إطار الحرب الوطنية العظمى، وعن الشراكة الكردية – التركية في تأسيس أول مجلس أمة بقيادة أتاتورك (1920) وعن الميثاق الوطني المؤسس للجمهورية التركية. أراد أوجالان في قسم كبير من رسالته طمأنة المخاوف التركية التقليدية من النزعة الانفصالية الكردية، تسهيلاً لمهمة أردوغان الشاقة في إقناع الرأي العام التركي بفوائد الحل السلمي.

لكن النقطة الجوهرية في رسالة أوجالان إنما هي إعلانه عن نهاية المقاومة المسلحة، والانتقال إلى مرحلة النضال السلمي لتحقيق تطلعات الكرد وإنهاء المظالم التاريخية بحقهم. ترى إلى أي حد سيتقبل الرأي العام الكردي هذا التحول، والأهم منه: إلى أي حد يسيطر أوجالان على حزب العمال الكردستاني ليتمكن من فرض هذا التحول الكبير عليه؟

والسؤال الثاني: إلى أي حد يستطيع أردوغان إقناع الرأي العام التركي بتقديم المطلوب منه مقابل تخلي الحزب الكردستاني عن السلاح، أي الاعتراف الدستوري بالوجود القومي للكرد وباللغة الكردية لغة رسمية ثانية، إضافة إلى اللامركزية الإدارية التي من شأنها ان تتيح للكرد اختيار قادتهم المحليين.

الشيطان يكمن في التفاصيل كما يقال، ولم تكن رسالة أوجالان سوى فاتحة مرحلة جديدة في الطريق الشاق والطويل نحو الحل السلمي للمشكلة الكردية وتعزيز النموذج التركي للديموقراطية.

موقع 24

مرآة تعكس التمزق الاجتماعي وفوضى الانتماء القومي: تفتّت الأحزاب الكرديّة السوريّة

علي جازو

طوال ما يقارب سبعة عقود، كانت الأحزاب الكردية السورية، مقموعة، ومحاصرة. هذا ما جعلها سريّة وغريبة، كأنها تعيش حياة خفية معتمة في محيطها الكردي القريب، مجهولة ونائية عن دائرة محطيها العربي الأبعد والأوسع. من حزب واحد “البارتي الديمقراطي”، تأسس عام 1957، ناسخاً تجربة حزب أكراد العراق، انقسمت الحركة القومية لكرد سوريا على نفسها، إلى أن بات لأكثر من حزب الاسم نفسه، لتتوه وتتشعب تالياً إلى ستة عشر حزباً هي قوام المجلس الوطني الكردي، الغطاء الجديد، والوجه الخائب لتفتت حال الكرد السوريين.

يعلّق كثير من الأكراد السوريين ومتابعي الشأن العام، على أحزابهم واصمين إياها بأحزاب “عائلية” وتجمعات “أشخاص” لا أحزاب برامج وأفكار. البيئة الريفية ونسب البطالة المرتفعة والحصار الاقتصادي وضعف مستوى التعليم، عوامل تبرر ذلك، لكنها غير كافية. إلى هذا، ضاعف من الحصار الحالك والتفكك السريع المتوراث، وقوّى من آثارهما الخانقة، ظلٌّ كثيفٌ من الإنكار السوري العام، تتحمل الأغلبية الاجتماعية السورية جزءاً غير قليل من آثاره. رغم ذلك، حافظت الأحزاب الكردية السورية على شكل مناسباتي – سرعان ما تحجر وذوى في رمزيّة كتيمة مجترة وبلا مادة من صلب حياة المجتمع – فبقيت دائرة الرفض الكردية لممارسات النظام السوري منغلقة، من دون أن نغفل عن ظروف محبطة رافقت النشاط السياسي للعموم السوريين، حيث إن مجرد إعلاء الصوت من أجل مطلب قانوني، كحق ردّ الجنسية مثلاً، أو السماح بتملك أصحاب الأرض لأرضهم، بمثابة تمرّد على السلطة الحاكمة. في هذه الأجواء اليائسة، أصدرت بعض الأحزاب دوريات ثقافية باللغة العربية، محاولة تعريف النخبة العربية السورية بثقافة الكرد وقضيتهم، التي تمركزت على الاعتراف بوجود شعب كردي بالدرجة الأولى وإخراجه من ظلام النكران إلى ضوء الاعتراف، ومد جسور التواصل معها، كانت توزع باليد وسرياً في مختلف مناطق سوريا.

في حين تمسكت الأحزاب التقليدية بنهج سلمي في اعتراضها، ومسلك وطني، يمتلك روحية انتماء للعموم السوري، جاء تحالف النظام السوري مع حزب العمال الكردستاني بداية الثمانينيات من القرن الماضي، بمثابة الصاعقة المدمرة لركود الحال الاجتماعية الأقرب إلى عالم ريفي ساذج متناحر. إذ أن الأخير هو حزب عسكري ثوري ذو تنظيم هرمي ماركسي صلب، سرعان ما استغل الضعف الداخلي والفراغ الموجود ليملأه شعارات رنانة، ويجند من الكرد السوريين ما تفوق نسبته كرد تركيا أنفسهم. وقد شكلت انتفاضة 12 آذار 2004، وكانت مفاجئة، هائجة، شعبية وواسعة، نقطة تحول نوعية في الموقع السياسي للكرد السوريين، وفشل السياسيون الكرد في رفع مقام شعب مظلوم إلى سوية وطنية أرقى وأجمع، مع شعورهم الداخلي حينها أنهم تركوا لوحدهم في وجه آلة قمع رهيبة.

بدا طلب الحرية لكرد سوريا سبباً إضافياً لانكماشهم على أنفسهم، وسط محيط عربي بادلهم بعدم اكتراث امتدّ لسنوات طويلة، لكن “القدر السوري الكبير”، الذي بتنا في أطواره الأخيرة، فكّ الحصارَ الأليف وكشف عن المقموع وجهه الخفي وقدراته الهشّة. وبسبب نشوئها في ضيق المكان، حيث تحالف البؤس الاقتصادي مع تراجع فكري وثقافي، وضآلة الفرص للتفاعل العام العلني، ومنع الاحتكاك مع الطيف السوري الأوسع، لم تحول التجربة السياسية لكرد سوريا، وبها خليط من المرارة والإنكار والخيبة، إلى ما يليها من تقويم ضروري وإعادة نظر جدية ومفصلية، فعادت الأحزاب، في طور كان يجدر بها ألا تعود إلى الوراء فيه، لتقرأ الحاضر الثائر والمتسارع، ذي البعد الاجتماعي العميق وغير المقروء بعد، وربما غير الملاحظ، بعين القديم الثقيلة البطيئة ذات الرؤية الضيقة. وإذ يفترض بها على حساب عمرها الزمني العتيق وخبرتها النضالية السرية- تجاوز مرحلة الكبت والحصار المديدة، فوجئت بما يفاجئ الكهل الحرّ من ضعف معوق وتشتت هائل يحملان كرد سوريا، على بؤسهم، إلى موقع ضبابي محير. كانت هناك فرضة طويلة نسبياً للكرد السوريين بداية انطلاق الثورة، قبل أن تمتلئ مناطقهم (كردستان سوريا) بسلاح الـ”بي.كي.كي” (الشقيق الثائر) وما يجره الأخير من فلتان وفوضى وعنف، أن يحافظوا على سلمية حراكهم الاحتجاجي، فيكسبوه نوعاً من الحصانة الداخلية والاعتراف الوطني، العابر للشعور القومي المحض. غير أن الوقائع كشفت عن ضمور هكذا تصور، وعدم استعداد لمدّه وترسيخه. وكي لا يفتضح الكهل السياسي بما فيه، يبادر فيقفز عائداً إلى عالم المراهقة التي غدت منفرة ومقيتة. هذه حال مريضة، تبدو مستعصية على الشفاء، بل هي تبالغ في التألم والتلوي في الآن الذي تحول ألمها الماضي إلى ما يشبه طرفة في زمن طوى الآلام الكردية بمآس سورية لا حدّ لها. لكن المراهق، الذي هو مزيج من رفض متوهج وتسرع طائش وغياب لرؤية واضحة، يأبى قبول موازين جسد الكهل، فيزيد النقمة نقمة والصراخ صراخاً. وعندما يغدو الصراخ وسيلة للتكلم والاحتجاج، واسماً طريقة تفكير وتعامل سياسي أقل ما يقال فيها إنها اعتباطية وبلا رأس، لا نسمع من الكلمات غير أصواتها العالية ومن الاحتجاج غير أحقيته المهدورة. غير أن الكهل السائس لم يكتف بذلك، بل ولّد من جسم عقيم، مناوئ لبعضه البعض، أجساماً أشد عقماً، وهو ربما فرح بهذا التوالد الكابوسي، إذ ثمة نظائر تشبهه وتؤيده في الوقت الذي تدعي فيه الاختلاف عنه. ومحصلة هذا التشابه المهذار والانقسام المحبط، تحت تحكّم “المسلحين الأوجلانيين” وفي فيء سطوتهم الأخويّة المهدِّدة، أن يتردد الصوت الواحد في أكثر من حجرة، حتى يجبرك التكرار لا على الملل وحسب، بل يدفعك مكرهاً إلى نسيان مصدر الصوت الذي كان من قبل صوتاً لحق مهضوم وحامل لمطالب مشروعة ومعقولة. وإذا ما نجحت الأحزاب الكردية السورية، ويبدو أنها مصممة على نيل النجاح الماضوي، في طبع المجتمع الكردي الناشئ بطابعها المرضي المتوارث وخلافاتها المتاهية، كعائلة سقيمة تورث المرض لأبنائها الجدد، حالت حالُ كرد سوريا إلى بدايات بعثية رجعية مع مزيج من خصال فصائل الحركات الفلسطينية المسلحة، وسَمَت التحرر القومي العربي لنصف قرن، وتكَشَّف عن خواء مرير ودمار فادح لما يفترض أن يكون جسد العائلة الواحدة. ليس على المريض حرج إن هو صرخ وتأوه، لكن أن يُبقي على مرضه، ليحوله إلى مطية تستعطف الشفقة، وتتوارى داخل استعطافها فرحة ومنتهزة الفرصة لنقل العدوى إلى من لم يمرض بعد، إنما ينتقل من طور المراهق العابث الذي صار كهلاً، إلى مرتبة العارف الخائر والمبصر الأعمى. والمرتبة الأخيرة، تكاد تطال كل سويٍّ يرى ما لا تريد أن تراه الأحزاب من حقائق على الأرض تكاد لا تبقي للمنتمين إلى أي حزب كردي سوري غير صورة المهرج القاتل، والعابث بعواطف وآمال الأجيال الشابة من الكرد السوريين. صورة محزنة، تبثّ يأساً في روح من لم ييأس بعد. رغم ما سبق التنويه إليه، تبقى الثورة السورية فرصة نادرة على الصعيد النفسي والاجتماعي، وهي ترى لذلك صدى لها في نشاط المجتمع المدني الحديث، داخل المناطق الكردية السورية. ثمة من يتحرك بصمت من دون جلبة، محاولاً اكتساب الخبرة من تجربة مريرة وفي ظروف بالغة الصعوبة. كل ذلك يجري لطي صفحة لا يريد أصحابها، ومحتكرو تدوينها، أن تطوى إلى غير رجعة.

المستقبل

تركيا والأكراد: وداعاً للسلاح وأهلاً بالعقل والسياسة!

هوشنك أوسي *

قبل عشرين عاماً، وتحديداً في العشرين من آذار (مارس) 1993، وعبر مؤتمر صحافي في سهل البقاع اللبناني، أعلن زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان، وقفاً لإطلاق النار، من جانب واحد، تلبيةً لطلب من الرئيس التركي الراحل تورغوت اوزال، للبدء بعملية تفاوض سلميّة كان الوسيط فيها الرئيس العراقي الحالي جلال طالباني. وقتئذ، لم يكتف اوجلان بالهدنة وإسكات السلاح، بل خفّض سقف المطالب من الدولة القوميّة (كردستان) الى الحكم الذاتي في المناطق الكرديّة جنوب شرقي تركيا، دفعة واحدة! وشهدت المفاوضات، في حينه، تطوّراً مهمّاً، وصل الى حدّ ان يتصل أوزال بأوجلان هاتفيّاً لوضع اللمسات الاخيرة على الاتفاق، وتحديد موعد الاعلان عنه في مؤتمر صحافي. وكان مقرراً ان يكون الاتصال يوم 17 نيسان (ابريل) 1993. لكن خبر وفاة اوزال المفاجئة هز تركيا والمنطقة والعالم في ذلك اليوم، وأطاح تلك المفاوضات. ودخل الصراع الكردي – التركي مجدداً نفقاً مظلماً شديد العنف والدمويّة.

عام 1997، عاود اوجلان الكرّة معلناً هدنة جديدة، استجابةً لرسالة ارسلها له رئيس الوزراء التركي السابق، وشيخ الاسلام السياسي التركي، نجم الدين اربكان. لكن، قام الجيش بانقلاب أبيض، او ما سمّاه الاتراك «الانقلاب ما بعد الحداثي» على حكومة اربكان، وحلّت المحكمة الدستوريّة حزبه (الرفاه)، وأبعد اربكان عن الحياة السياسيّة الى حين وفاته في 2011! ومجدداً، عاد سفك الدماء الى سابق عهده بين الاتراك والأكراد. وباتت معروفة بقيّة قصّة هذا الصراع (الاطول في تاريخ الشرق الاوسط، والذي يعود الى عام 1880، انتفاضة الشيخ عبيد الله النهري على الاستانة، مروراً بالعهد الجمهوري عام 1923 الى يومنا هذا).

بعد عشرين عاماً على ذلك المؤتمر الصحافي في البقاع اللبناني، ومن سجنه في جزيرة إيمرالي، ارسل اوجلان رسالة الى حزبه وتركيا والعالم، يعلن فيها نهاية استراتيجيّة الكفاح المسلّح، مؤكّداً ان المرحلة باتت تتطلب اللجوء الى الصراع السياسي والفكري – الأيديولوجي لحلّ القضيّة الكرديّة ونيل حقوق الكرد في تركيا عبر الوسائل السلميّة الديموقراطيّة. قرئت رسالة اوجلان هذه، في الحادي والعشرين من آذار الجاري، امام الاحتفال بعيد النوروز الكردي في مدينة آمد/دياربكر، الذي شارك فيه اكثر من مليون شخص، وكل النوّاب الاكراد في البرلمان التركي والعشرات من الاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني وعدسات الاعلاميين.

مكان وتاريخ اعلان مشروع اوجلان الجديد لهما دلالات مهمّة. فمدينة دياربكر يعتبرها الاكراد عاصمتهم التاريخيّة لكردستان الكبرى، الى جانب ان «العمال الكردستاني» تأسس في هذه المحافظة (قرية فيس التابعة لمنطقة لجة في دياربكر عام 1978) وهي مركز ثقله الجماهيري. اما في خصوص يوم عيد النوروز، فعلاوة على ان الكرد يعتبرونه يومَ الولادة الجديدة والمقاومة في مواجهة الظلم، فإنه يحاكي الهدنة الاولى التي اعلنها اوجلان عام 1993، حين طلب منه اوزال ذلك.

لقد حقق اوجلان بمبادرته الاخيرة مكاسب اعلاميّة وتعاطفاً وتأييداً أميركيّاً وأوروبيّاً ودوليّاً لمشروعه، لم يحققه «العمال الكردستاني» خلال عشرين سنة من الكفاح المسلّح!

قدّم أوجلان تنازلات مؤلمة ومؤلمة جداً، لا تتناسب قطعاً مع حجم التضحيات البشريّة والماديّة التي قدّمها اكراد تركيا خلال العقود الثلاثة الماضية، ولم يعد الكرد الى مرحلة ما قبل 1984 (اعلان «الكردستاني» الكفاح المسلح) وحسب، بل أعادهم الى مرحلة 1920، والميثاق المللي – القومي، الذي ابرمه اتاتورك مع الاكراد، للحؤول دون موافقتهم على اتفاقية «سيفر» التي وقّعت عليها حكومة اسطنبول (الصدر الاعظم علي رضا باشا، والسلطان محمد وحيد الدين). ذلك ان اتاتورك كان يترأس حكومة أنقرة المنشقّة عن حكومة اسطنبول، وكل من الحكومتين كانت تريد استمالة الكرد الى جانبها. بل يمكن القول ان التنازلات المؤلمة التي قدّمها أوجلان للأتراك في مبادرته هذه، هي أقلّ مما منحته للكرد اتفاقية لوزان التي وقع عليها اتاتورك! لذا، فإن حزب الشعب الجمهوري الاتاتوركي المعارض، رحّب هو ايضاً بمبادرة اوجلان، لأنها على مرمى حجر أو قاب قوسين او أدنى من الاستسلام، إن جاز التعبير!

مبادرة اوجلان، من حيث الشكل، مؤلمة بل مجحفة بحقوق الكرد في تركيا وتضحياتهم. ولكنّها، من جهة اخرى، تريد إخراج النضال الكردي من سياقه العنفي التقليدي، المستنزف للأكراد قبل الاتراك. ذلك ان مرحلة الكفاح المسلّح وصلت الى حدّ الاشباع، واستنفدت مبررات الاستمرار فيها. فالقراءة العموديّة لمبادرة اوجلان جلبت عليه الكثير من النقد والسخط في بعض الاوساط الكرديّة وصل الى حدّ التخوين. ولكن القراءة الافقيّة للمبادرة والرسالة التي وجهها اوجلان تشي بفهم جديد للمتغيرات الشرق اوسطيّة والدوليّة. وأوجلان نفسه يذكر في رسالته وبالحرف الواحد ان «من لا يجيد قراءة روح العصر، سيكون مآله مزابل التاريخ. ومن يعوم ضدّ التيّار، مصيره الغرق». ويقول أوجلان ان النضال الكردي يجب ان يدخل مرحلة الصراع السلمي الديموقراطي المعتمد على الفكر والعقل والاساليب السياسيّة الديموقراطيّة.

وقد يسأل البعض: ولماذا هدر كل هذه الدماء وكل هذا الوقت، حتّى يصل اوجلان الى تبنّي هذا الخيار – القناعة؟ ولماذا لم ينصت الى كل الدعوات الكرديّة والتركيّة للتخلّي عن الخيار العنفي المسلّح، والتوجّه نحو النضال السلمي الديموقراطي؟!. وربما أجاب إلقاء نظرة فاحصة على تاريخ قادة الاحزاب اليسارية الذين دخلوا السجون، عن هذا التساؤل. ذلك ان غرامشي قبل الاعتقال ليس نفسه بعده! مانديلا ايضاً، قبل الاعتقال كان يتبنّى الخيار المسلّح، وبعد السجن صار لا عنفيّاً ويدعو الى الخيار السلمي. وعليه، فأوجلان قبل السجن ليس نفسه بعد السجن.

وثمّة رأي يفيد بأن «الشكوك والتحفّظات» التي ابدتها قيادة «الكردستاني» وأرفقتها بموافقتها على مبادرة اوجلان وسحب المقاتلين خارج الحدود، وجدولة نزع السلاح، هي لحفظ ماء الوجه وذرّ الرماد في الاعين، لا أكثر. والاصل في الأمر ان «الكردستاني» وتركيا وأوجلان، قد وصلوا الى تفاهم مبرم وموقّع من كل الاطراف، وواشنطن والاتحاد الاوروبي مطلعان عليه، وسيتمّ الاعلان عن هذا التفاهم – الاتفاق تباعاً، وليس دفعة واحدة لئلا يتفاجأ الكرد والترك بتفاصيله!

أيّاً يكن الأمر، فقد فاجأ اوجلان الجميع، بمن فيهم المعارضة التركيّة بمبادرته وتنازلاته هذه. ويبدو انه يريد استخدام استراتيجيّة التغلغل الناعم والبعيد المدى، لنيل الحقوق الكرديّة. تماماً كما فعل حزب العدالة والتنمية خلال العقد الاخير، مستحوذاً على كل تركيا ومفاصل القرار السياسي والعسكري والأمني والتشريعي والتنفيذي والقضائي والاقتصادي فيها. وما هو مفروغ منه ان اردوغان قد وضع عينه على كرسي رئاسة الجمهوريّة عام 2014، ويريد بتجاوبه مع اوجلان أن ينهي صراعاً دمويّاً دام اكثر من قرن، ويدشّن بذلك ميثاق الجمهوريّة الثانية. وفي حال تكللت بالنجاح طموحات اردوغان في رئاسة الجمهوريّة، وطموحات اوجلان في الحريّة والخروج من السجن، فليس مستبعداً ان تكون «نوبل السلام» من نصيب اردوعان وأوجلان، كما ذكرت في مقال سابق على هذه الصفحة.

إن «العمال الكردستاني» سيسعى حثيثاً لشرعنة وتبرير تنازلات اوجلان، وإظهارها على انها «إنجاز» و «انتصار» تاريخي حققه «القائد» و «انتصار» للثورة… الى آخر هذه التزويقات والتنميقات الاعلاميّة المعروفة. وسينجح «الكردستاني» في هذا الأمر. ذلك انه نجح سابقاً في أمور كهذه. وعلى المقلب الآخر، سيحاول حزب العدالة والتنمية وأردوغان، أن يسلكا المسلك نفسه، وإظهار الاتفاق الذي أبرماه مع «الارهابيين» وزعيمهم، على انه انتصار «فلكي وكوني» أنقذ تركيا من «الارهاب» والعنف وسفك الدماء.

وفي مطلق الاحوال، لا منتصر في الحروب والصراعات الدمويّة إلاّ الموت والدماء والفقر وتجّار الحروب.

* كاتب كردي سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى