بكر صدقيصفحات سوريةعلي العبدالله

ثلاثة مقالات لكتاب سوريين تناولت الموقف التركي من الحدث السوري

 

 

 

تركيا تلعب على التناقض الروسي-الأميركي في سوريا/ عبد القادر عبد اللي

طَلَبُ الخارجية الأميركية من عائلات ديبلوماسييها مغادرة إسطنبول، هو في الحقيقة مؤشر على توتر جديد في العلاقات التركية-الأميركية. وهذا ما حصل أيضاً قبل شهرين عندما بدأت عملية “درع الفرات”، فقد طلبت حينئذ وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين من أسر الديبلوماسيين والعسكريين الأميركيين المقيمين في أضنة مغادرة هذه المدينة القريبة من قاعدة إنجيرليك العسكرية.

الذريعة التي تستخدمها الولايات المتحدة دائماً في مثل هذه الإجراءات هي “التهديد الإرهابي”، ولكن الواقع أن التهديد الإرهابي في كثير من الأحيان لا يجعل الخارجية الأميركية تسحب أسر ديبلوماسييها. فعلى سبيل المثال، عندما وقعت العملية الإرهابية الكبيرة في مركز العاصمة أنقرة عند مواقف حافلات النقل الداخلي في 13 آذار/مارس 2016، كانت المخابرات الأميركية على علم مسبق بأن عملية إرهابية ستُنفذ في أنقرة، وحذرت السفارة الأميركية رعاياها بناء على هذه المعلومات، وطلبت منهم عدم التواجد في الأماكن المزدحمة. ولكن الخارجية الأميركية لم تطلب من أسر رعاياها مغادرة تركيا. أما في أضنة فعلى الرغم من مرور أكثر من شهرين على التحذير الأميركي، والطلب من أسر الرعايا المغادرة، فلم تقع أية عملية إرهابية بعد!

تزامنَ طلب الخارجية الأميركية من رعاياها مغادرة إسطنبول مع تسريب نشرته جريدة “يني شفق” الموالية للحكومة التركية حول اتفاق تركي-روسي بشأن منع حزب ” الاتحاد الديموقراطي” الكردي “PYD” من إقامة كيان متصل جغرافياً في شمال سوريا. وهذا يعني إخراج قوات “قسد” لا من منبج غربي الفرات فقط، بل من تل أبيض والرقة بين كانتوني عين العرب “كوباني” والقامشلي أيضاً.

التسريب المذكور منسوب إلى مصادر مجهولة، علماً أن اتفاقاً من هذا النوع لا يمكن اتخاذه خارج دائرة رئاسة الجمهورية، وهكذا فالمصدر المجهول يكاد أن يصرخ مفصحاً عن نفسه. وفي الوقت ذاته لا يمكن أن يكون اتفاق كهذا فاعلاً تماماً دون اتفاق موازٍ بين تركيا الولايات المتحدة التي تقود “التحالف الدولي” ضد “داعش”. والولايات المتحدة تقف على طرف نقيض من تركيا في القضية السورية عموماً، وفي الوضع شمالي سوريا خصوصاً.

ولكن جريدة “ملييت” نشرت خبراً، صباح الأربعاء، نقلاً عن “واشنطن بوست” حول تسريب بأن تركيا نجحت بإقناع “البنتاغون” بـ”تعليق” تزويد حزب “الاتحاد الديموقراطي” بالسلاح “مؤقتاً”. ولكن المصدر المجهول في الخبر ذاته، يعترف بأن الولايات المتحدة لم تستطع تحقيق التنسيق المرجو بين القوى المقترح مشاركتها في تحرير الرقة من “داعش”. وهذا يعني إصرار الولايات المتحدة على جمع تركيا و”الاتحاد الديموقراطي” في جبهة واحدة، وهو الأمر غير القابل للتحقيق على أرض الواقع. بالطبع فإن “تعليق” و”مؤقت” هما كلمتان ديبلوماسيتان لإرضاء الطرفين، علماً أنه لا يمكن إرضاؤهما بكلمات من هذا النوع.

من جهة أخرى، على الرغم من النفي التركي المستمر، وبيانات هيئة الأركان العسكرية التركية بأن الدعم الناري المدفعي، والقصف الجوي لمواقع “داعش” و”الاتحاد الديموقراطي” في إطار عملية “درع الفرات” لم يتوقف، هناك “تحليلات” كثيرة حول توقف هذه العملية.

تعتمد هذه التحليلات على تباطؤ تقدم الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا نحو الباب، وانسحاب تنظيم “الدولة الإسلامية” من مواقع مهمة لصالح “قسد” التي تشكل “PYD” جلها.

في الحقيقة، لا يمكن لتركيا أن توقف “عملية الفرات”، فهي تعتبرها استراتيجية بالنسبة إلى أمنها القومي، ويمكن أن تتباطأ العملية، أو تتعثر، ولكن توقفها أمر غير مطروح، والأمر نفسه ينطبق على منطقتي تل أبيض والرقة.

صحيح أن المتفق عليه بين روسيا والولايات المتحدة في القضية السورية أكثر بكثير من المختلف عليه، ولكن هناك تناقضات أو اختلافات بالفعل بين الطرفين في هذه القضية. ولعل تعثر إيصال المساعدات الإنسانية إلى حلب الشرقية ناجم عن هذه التناقضات بين البلدين. وموقف الأميركان والروس من “وحدة الأراضي السورية” أيضاً أمر يبدو من هذه المتناقضات.

الواضح من هذه التسريبات أن تركيا تريد استغلال هذا التناقض بين الروس والأميركان. فتسريب “يني شفق” هو مؤشر على مزيد من التقارب التركي-الروسي وإن لم يكن لدينا دليل واضح بعد على وجود هكذا اتفاق. وطلب الخارجية الأميركية من أسر ديبلوماسييها مغادرة إسطنبول مؤشر مهم على استمرار التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا. وهذا التوتر ليس ناجماً عن الموقفين المتناقضين بين تركيا والولايات المتحدة في سوريا فقط، بل ناجم أيضاً، عن الموقف من قضية فتح الله غولن، ودور أميركي محتمل في انقلاب 15 تموز/يوليو. إضافة إلى أن تسريب “واشنطن بوست” حول تعليق تزويد الحزب “الديموقراطي” بالسلاح مؤقتاً لا يشير إلى تحسن في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، فالخلاف أو “عدم تحقيق التنسيق” كما أسماه مصدر الخبر يدل بوضوح على استمرار الخلاف.

على الرغم من هذا الوضع يبدو أن تركيا أمامها فرصة مهمة لتحقيق استراتيجيتها في الشمال السوري، فالتناقض بين روسيا والولايات المتحدة يمنحها فرصة أكبر للمناورة، وفرض أجندتها غربي الفرات والرقة. وعندما تتحدث المصادر المقربة من الحكومة التركية عن تقارب أو اتفاق روسي-تركي، فهو هدف تسعى إليه الحكومة التركية إن لم يكن قائماً بالفعل على أرض الواقع.

المدن

 

 

 

في تركيا مجتمع منغلق على ذاته وحكومة مغامرة/ بكر صدقي

انشغل الرأي العام التركي، في الفترة الأخيرة، بالنقاش حول معاهدة لوزان. وذلك في أعقاب تصريحات للرئيس رجب طيب أردوغان اعتبر فيها المعاهدة المؤسسة للجمهورية التركية هزيمة، لا انتصاراً كما قدمته النخبة المؤسسة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك.

أردوغان بارع بإشغال الرأي العام بنقاشات خارج السياق، للتغطية على مكامن المشكلات الحقيقية التي تعاني منها تركيا، وهي كثيرة بما يكفي لانشغال الجميع، حكومةً ومجتمعاً، بالبحث عن حلول لها. مشكلات في السياستين الداخلية والخارجية، وفي الاقتصاد والتنمية، وفي الثقافة والمجتمع والأمن.

غير أن للنقاش حول معاهدة لوزان بعده الراهن بالتأكيد، ويتصل بصورة مباشرة بمعركة تحرير الموصل من قوات داعش. تلك المعركة التي تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها في الائتلاف الدولي ضد داعش، في حين تخوضها، على الأرض، قوات الجيش العراقي وبيشمركه إقليم كردستان الفيدرالي والحشد الشعبي (الشيعي) الموالي لإيران. ونشأ سجال حاد بين أنقرة وبغداد، على خلفية مطالبة القادة الأتراك بالمشاركة في المعركة، والرفض القاطع لهذه المشاركة من قبل الحكومة العراقية المقربة من إيران، ومطالبة الأخيرة بخروج القوات التركية من معسكر بعشيقه.

واقع الحال أن تركيا ليست مستعدة لخوض معركة ثانية خارج حدودها، هي المنخرطة أصلاً في معركة درع الفرات، في شمال سوريا، ودون تحقيق أهدافها فيها عقبات شائكة، أمريكية وروسية وإيرانية وقوى محلية على الأرض. أضف إلى ذلك حربها الداخلية ضد حزب العمال الكردستاني، وحربها الثانية الاستئصالية لتصفية جماعة فتح الله غولن المتهمة بأنها وراء المحاولة الانقلابية الفاشلة في 15 تموز/يوليو الماضي، من غير أن تقتصر الإجراءات القمعية عليها وحدها. ويدار البلد، منذ ذلك التاريخ، وفقاً لحالة الطوارئ، وتتخذ الحكومة، في ظلها، «قرارات بمثابة القوانين» الأمر الذي يعني إقالة البرلمان من مهمته التشريعية حتى إشعار آخر، بعدما تم تمديد حالة الطوارئ لثلاثة أشهر إضافية قابلة للتجديد.

لكن للنقاش حول لوزان بعدا آخر يتصل بموضوع الانغلاق على الذات الذي بات، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، سمةً للمجتمع التركي وجد انعكاسه في السياسة الخارجية التقليدية لتركيا التي قامت على إدارة الظهر للمنطقة المضطربة التي تنتمي إليها، والانشغال بوهم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. الاستثناء الوحيد لهذه النزعة المحافظة، هو التدخل العسكري في قبرص، في العام 1974، ولعلها كانت ورطة لم تتمكن تركيا من التخلص من عواقبها إلى اليوم، وشكل استمرار احتلالها للجزء الشمالي من الجزيرة الصغيرة، على أي حال، العقبة الأهم أمام قبول تركيا في النادي الأوروبي.

في الحقبة السابقة على ثورات الربيع العربي من حكم «العدالة والتنمية» قاد أحمد داوود أوغلو سياسة انفتاحية جريئة قائمة على «القوة الناعمة»، أي الاقتصاد والتجارة والثقافة والدبلوماسية النشطة، تجاه محيط تركيا العربي ـ الإسلامي بصورة خاصة. وحققت تركيا، في ظل تلك السياسة، إنجازات مشهودة. لكن اندلاع الثورات العربية وضع لها نقطة النهاية، لتنتقل تركيا إلى سياسة تدخلية نشطة لا سوابق لها في تاريخ الجمهورية.

هذه الانعطافة الحادة، ستصطدم داخلياً بمعارضة وازنة يمكن إعادة أساسها إلى ما أسميه الانغلاق الاجتماعي على الذات. ويمكن تلمس مظاهره في وسائل الإعلام كما في ملاحظة سلوك الناس وكلامهم. يستغرب متابع وسائل الإعلام التركية المساحة الضئيلة جداً التي تخصصها للأحداث الكبيرة التي تجري في سوريا والعراق، وهما بلدان مجاوران مباشرةً للحدود الجنوبية، ناهيكم عن بلدان أبعد، في الوقت الذي تنخرط فيه الحكومة، بصورة مباشرة، في الصراعات الدائرة فيها. يعكس التجاهل هذا جهلاً كبيراً بشؤون البلدان المجاورة وما يدور فيها من أحداث جسام. جهل تعززه، فوق ذلك، انحيازات إيديولوجية مسبقة تعكس الاستقطاب الداخلي، أصلاً، بين تيار علماني وتيار إسلامي، وبين نزعة قومية تركية ونزعة قومية كردية، وبين محافظة اجتماعية ونزعة تحررية. ففي المسألة السورية، مثلاً، تجد مؤيدي الحكومة مع «ثورة سورية» هي، في نظرهم غالباً، ثورة الأكثرية السنية ضد «الحكم العلوي»، مقابل تأييد معارضي الحكومة لنظام الأسد بدعوى أنه علماني تارة، أو معادٍ لأمريكا تارة، أو لأنه علوي تارة ثالثة، ولأنه على طرفي نقيض مع الحكومة التركية في كل الأحوال، مع جهل الطرفين بتعقيدات المشكلة وتفاصيلها.

بل إن الجهل/التجاهل المذكور يتعدى الخارج إلى داخل المجتمع التركي نفسه، فنرى أن غرب تركيا يجهل شرقه، وإسطنبول بعيدة كل البعد عن سائر الأناضول، والتركي لا يعرف شيئاً عن الكرد الذين يشكلون القومية الثانية، ثقافياً واثنياً، بالمعيار العددي. تعيش داخل تركيا مجتمعات متعازلة، لا جسور تصل بينها، ولا حواراً يؤلف بين العقول والقلوب. يبدو هذا متعارضاً مع نزعة الانغلاق على الذات المصحوبة باعتزاز قومي مبالغ فيه. لكنه تعارض ظاهري، إذا عرفنا أن الاعتزاز هذا يتمحور حول هوية قومية تركية تشطب على التنوع الداخلي لمصلحة أمة متخيلة تتعيش على أمجاد ماضٍ امبراطوري يعاند في التمسك بالحياة، بعدما شبع موتاً.

بهذا المعنى، فإن «العثمانية الجديدة» التي تتهَمُ بها الحكومة التركية من قبل أقلام عربية وغيرها، هي نزعة اجتماعية – ثقافية أكثر من كونها سياسة حكومية. هناك مثقفون أتراك من تيارات محافظة، يتحدثون عن «الحدود المصطنعة» التي رسمها الاستعمار بين دول كانت، قبل قرن، جزءاً من الإمبراطورية العثمانية (العالم الإسلامي)، من خلال اختلاقه للأفكار القومية، بنفس الطريقة التي يتحدث بها القوميون العرب عن تقسيم الاستعمار للوطن العربي. ورأى أولئك المثقفون في ثورات الربيع العربي فرصة تاريخية لإزالة تلك الحدود المصطنعة.

وهكذا يترافق الحديث عن معاهدات سيفر ولوزان مع استعادة «الميثاق الوطني» الذي أعلنه برلمان أتاتورك، في العام 1920، وحدد حدود الدولة التركية التي ضمت، فيما ضمت، الموصل وكركوك. ثم كانت معاهدة لوزان التي عكست موازين القوى الواقعية بعيداً عن الأحلام الإمبراطورية.

٭ كاتب سوري

القدس العربي

 

 

 

المأزق التركي/ علي العبدالله

تثير تصريحات ومواقف المسؤولين الأتراك ردود فعل متضاربة، مشاعر تعاطف وتطلّع، ومشاعر قلق وخوف، فالتصريحات والمواقف، ناهيك عن التحركات الميدانية، تعكس عصبية  وتوترا واضحين في ضوء تعدد المشكلات وتشابكها وتعقّدها وطبيعة القوى والصراعات التي يواجهها النظام التركي، مشكلات داخلية، سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية، ومشكلات خارجية، من تطورات المشهدين السوري والعراقي وانعكاسهما على مصالح تركيا وأمنها الوطني الى تباين المواقف والتصورات حولهما مع الحلفاء التقليديين في حلف الأطلسي مرورا بالخلاف الذي نشأ مع هؤلاء الحلفاء على خلفية إجراءات النظام التركي ردا على محاولة الانقلاب الفاشلة.

الصورة كما تعكسها تصريحات المسؤولين الأتراك، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشكل خاص، خطيرة وتنطوي على بعدين نافرين، أول يشير الى وجود توجه لدى حلفاء تركيا التقليديين للتخلص من النظام التركي الحالي الممثل بحكومة حزب العدالة والتنمية وسياساتها الداخلية والخارجية، وثان يشير الى وجود توجه لدى الرئيس التركي لإعادة النظر في الكيان التركي ومراجعة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي أسست لقيام الجمهورية التركية. في البعد الأول تعددت الإشارات التركية الرسمية الى ضلوع الإدارة الأميركية في محاولة الانقلاب الفاشلة، مع التركيز على وجود الداعية التركي فتح غولن في الولايات المتحدة ورفض الأخيرة للطلبات التركية المتكررة بتسليمه لها لمحاكمته على وقوفه وراء  المحاولة الانقلابية، بالإضافة الى تأخر هؤلاء الحلفاء في إدانة المحاولة الانقلابية، واعتراضهم على الإجراءات التركية ضد كوادر ومؤيدي منظمة “الخدمة” في الجيش والشرطة والأمن والقضاء والتعليم والإعلام( بلغ عدد المطرودين من وظائفهم الآلاف)، وانتقادهم العلني للتضييق على الحريات العامة والخاصة، وانتقادهم للعمليات العسكرية العنيفة ضد المدنيين في المدن والبلدات والقرى الكردية في جنوب وجنوب شرق البلاد، وتعبيرهم عن القلق لتراجع فرص إحلال السلام بين النظام والكرد، وتجاهلهم لموقف النظام التركي من دور “حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي” وجناحه العسكري “وحدات حماية الشعب” في سوريا، وتحفظهم على التحرك التركي في العراق ومحاولات تركيا لعب دور في تحرير الموصل دون موافقة السلطات العراقية.

في البعد الثاني تنوعت ملاحظات الرئيس التركي حول دور الغرب في تقسيم الأمة الإسلامية، تحدث عن دس عنصر الخلاف والتفرقة بين الشعوب الإسلامية عبر تصدير فكرة القومية إليهم والعمل على ترويجها بينهم ودفع هذه الشعوب الى تشكيل كيانات سياسية وفق اعتبارات عرقية واثنية ما أدى الى تمزيق وحدة المسلمين السياسية والاجتماعية، وأعاد تقويم اتفاقية لوزان 1923 بين الدول الأوروبية التي انتصرت في الحرب العالمية الأولى والجانب التركي المهزوم(كانت النظرة التركية الى المعاهدة تقوم على اعتبارها القابلة القانونية للجمهورية التركية بينما تعلن إعادة النظر أنها كانت السبب في تقزيم تركيا وحصرها في حدودها الحالية بعد أن نُزعت منها السيادة على قبرص وليبيا ومصر والسودان والعراق وبلاد الشام، وفرضت عليها قواعد المرور في مضائق البسفور والدردنيل، مع تلميحات الى العودة عن هذه المعاهدة أو تعديلها أو تقديم ترضية ما لتركيا ثمنا للاعتراف بها، وهذا كله محمولا على ذريعة إشكالية: حماية التركمان خارج تركيا، والدفاع عن السنّة وحماية مصالحهم.

لا ترتب المقاربة التركية لنتائج الحرب العالمية الأولى، وخاصة عملية إعادة النظر في معاهدة لوزان، خلق مناخ سياسي إقليمي ودولي سلبي وخطر فقط بل وتفتح على تعميق المأزق التركي الداخلي كذلك، فالحديث عن حق حماية التركمان لا يتناقض مع التوجه الإسلامي للنظام فقط بل ويثير قضية حقوق غير الأتراك في تركيا( الكرد والعرب والأرمن واليونانيون)، وخلق سابقة تسمح لدول كثيرة بفتح ملفات هذه الجماعات والضغط على تركيا للاعتراف بهم كشعوب غير تركية وما يمكن أن يترتب على ذلك من حقوق وما يستدعيه من مقاربات دستورية وقانونية واقتصادية. بينما يطرح الحديث عن الدفاع عن السنّة وحماية مصالحهم في الدول الأخرى ملف مصالح المسلمين غير السنّة في تركيا(العلويون ونسبتهم في تركيا ليست قليلة)، بدءا من الاعتراف بهم والسماح لهم بدراسة مذهبهم في المدارس الرسمية، ناهيك عن الأقليات الدينية الأخرى (المسيحيون واليهود). واعادة النظر تعيد تركيا الى مواجهة القواعد التأسيسية للدولة التركية الحديثة (الجمهورية، القومية، النزعة الشعبية، العلمانية، تدخل الدولة، الثورية) التي صاغها مؤسس الجمهورية الأول مصطفى كمال أتاتورك(= أبو الأتراك) في ضوء اتفاقاته مع الدول الأوروبية المنتصرة من جهة وتوجهاته لضمان استمرار الكيان الوليد من جهة ثانية، حيث ألغى حضور الإسلام في الحياة العامة وجعله في الوقت ذاته معيارا لهوية التركي، فكل مسلم تركي، كي يلتف على التعدد القومي في الدولة الوليدة، وقمع محاولات التعبير عن التميز القومي والديني بقوة مفرطة.

تحتاج تركيا الى مقاربة مختلفة، مقاربة تعتمد ما اسماه المفكر الأميركي المستقبلي الفين توفلر بـ “الهجمة المنطقية الشاملة” ما يعني معالجة المشكلات مع الأخذ بعين الاعتبار ترابطها وتشابكها وتأثيرها المتبادل بحيث يُنظر الى المشكلة ضمن المشهد بأكمله ويدرس أثر الحل المطروح على حل بقية المشكلات سلبا وإيجابا لتجنب التعارض والتفاضل بين الحلول، والعمل على توفر الخطة على شرطين: منطقي وعملي.

تركيا بحاجة ماسة الى مراجعة توجهاتها وسياساتها الداخلية والخارجية فسياستها الراهنة تضعها في مواجهة مع اكثر من قوة واكثر من طرف ومشكلة وقضية ما يجعلها تنوء تحت عبء ملفات وقضايا لا تكفي التصريحات عالية السقف لمواجهتها والتخلص من تبعاتها وآثارها السلبية.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى