صفحات سورية

ثلاثية السلطة السورية: الأبقار، المقابر الجماعية، الحوار اللاوطني

 


محمود عباس

رامي المخلوف، الرجل الذي ارتبط إسمه بالاقتصاد السوري من أبوابها الخلفية، والرأسمالي الذي يوقظ فينا الخلايا المختصة بفهم الفساد والنهب في العقل الباطن، قبل أن ينبهنا إلى قرابتة العائلية مع الرئيس السوري، فهو الجزء المكمل لسياسة أبن خالته الرئيس بشار الأسد، الطبيب الذي أجرم السياسة والسياسيين على طريقة الأب الراحل. ومع الجزء العسكري لماهر الأسد، الملغي للأعراف والقوانين العسكرية التي لا تمر من بوابته الإجرامية. هذا الذي سخر الإقتصاد السوري لإستثماراته وحسب مقاساته وخططه الإنمائية العائلية. الكل في سوريا يدرك بأن الحديث عن الفساد الاقتصادي وتدهوره هناك يعني رامي المخلوف، وتزايد الإستثمارات في الدولة عرفت بمقدار العوائد التي ستتراكم في مستودعاته والتي فاضت بأموال النهب.

تركيبة ثلاثية كانت حتى البارحة متراصة في عمليات تهديم الإنسان السوري فكراً وعزة واقتصاداً، وهم الأن يتوجهون إلى الشعب بأساليب متنوعة ولغايات فاضحة، لا تخفى عن أبسط المراقبين. الرئيس يتنازل عن مراكز القدسية ويزيل بعضاً من أطراف هالات التعظيم، راغباً بالاستماع إلى شرائح من المجتمع السوري، وكما قيل، بدون صرخات النفاق والتفخيم كالتي يبثها مجلس الدمى عند كل ظهور له. والمجرم يتعهد بالتقنين في المقابر الجماعية، بالتبرأ منها. أما المضحك والمؤذي في كل هذا، الركن الثالث من الثالوث الاجرامي، الذي خرج قبل أيام بلباس الرحمة على الشعب البائس، والناهب حتى قماش نعش الشعب السوري، واعداً اشراك شريحة بائسة من المجتمع في بعض الأموال المنهوبة. ظهر تصريحه هذا بعد أن أغلقت الرأسمالية الدولية أبواب بنوكها في وجهه، ففطن إلى تعامل اقتصادي مغاير، وخرج إلى الشعب السوري بوجه السارق اللطيف، وداعية لتطوير الخدمات الإقتصادية وفتح مجالات العمل، والترحم على أولئك العائلات التي ألقيت بسبب ثالوثهم الشمولي إلى العدم المعيشي من وراء النهب والفساد الإقتصادي المتعمد.

شخص وحيد يود أن يسجل التطور الإقتصادي ورفع معدلات النمو وزيادة نسبة مجالات العمل في الوطن بإسم عائلته، يطلق شركات خدمية لمساعدة البؤساء بإسمه إلى جانب شركاته الاحتكارية لإقتصاد سوريا، ومن جملة خدماته، تلك المزارع التي عملت على تربية الأبقار، وكما نعلم بأن هذه المزارع كانت موجودة قبل ظهور رامي على الساحة الاقتصادية، وكانت مزارع مساهمة، دعمت السوق الوطنية بنسبة لابأس بها من متطلبات الألبان، لكنها بين ليلة وضحاها، أختفت معظمها من سجل الشركات المساهمة، وأنضمت إلى أملاك رأسماليين، كانوا ينهبون في الخفاء، إلى أن ظهر رامي ليقدمها، بل ربما ليعيدها إلى الشعب وبمنة، على سوية دعمه اللاوطني وخدماته اللانزيهة للقطاعات الاقتصادية الأخرى في الوطن والإدعاء بمساعدة اليد العاملة الفقيرة، مثلها مثل صرف أرباح شركته التلفونية، الأكثر فضاحة من بين شركاته في السوق السوري والأكثر شهرة في النهب، إلى جمعيات خيرية لمساعدة الطبقة المسحوقة من المجتمع، متناسياً أن هذه الطبقة ظهرت أصلاً بسبب الفساد المنظم من قبله وبمساعدة الطرفين، السياسي، والعسكري، من الثالوث االطاغي الشمولي في البلد.

عندما يقبض على زمام السلطة السياسية فرد واحد بطغيان مساند من فكر إيدولوجي، تظهر دكتاتورية الرجل المستبد، وتخلق من حوله هالة الرعب ليزرعها في كيان المجتمع، عندها تكثر السجون بدل المعامل، ومراكز الأمن الترهيبي بدل الجامعات والمدارس. وعندما ينتقل الدكتاتور من الحكم السياسي إلى المجال العسكري في اسلوب الحكم، تمتلئ السجون بالمعارضين، وتزداد الهجرة الذاتية والقسرية، السياسية والفكرية، وتظهر الإعدامات العشوائية والإغتيالات، والمحاكم الإستثنائية، وتلغى السلطات لتندمج في سلطة واحدة شبه إلهية. مع كل هذا تبقى السلطة مهزوزة ولن تتمكن من الطغيان الكامل والسيطرة التامة على مصير الشعب إذا لم يرافقها سيطرة اقتصادية مشابهة ومكملة لسوية الطغي، لذلك يبرزون على الساحة رجال أعمال جشعون همهم الأول والأخير تكديس الأموال وأحتكار السوق بأرذل الطرق، مجموعة عليها أن تمتلك أفظع القدرات في النهب وخلق الفساد الاقتصادي، وعليهم أن يكونوا على قدرة باستعمالها بدون رادع ضمير إنساني، عندها تكتمل السلطة شروطها لتصبح سلطة شمولية، بكل معاييرها، من الفساد السياسي والإجتماعي والثقافي والإقتصادي، وفي كل قطاع من هذه القطاعات سيكون هناك شخصياتها الذين يؤدون المهمة بتمامه، لإستمرارية السلطة في الطغيان بشموليته.

السلطة السورية شمولية بكل صفاتها. سياسياً خلق الأسد الراحل، الطوطم الإلهي الذي لا يلمس ولا يبدل ليس فقط حتى الموت بل كان الشعار إلى الأبد، وكان يعني من بعده خلفاءه بالوراثة، وبشكل أبدي، كما أظهر سيطرة اقتصادية متكاملة الجوانب في النهب والفساد، ووضع على رأس الهرم أخيه ” رفعت الأسد ” فقد سمح له بأن يبني ميناءً كاملاً لتهريب النفط الوطني إلى الأسواق العالمية، وكانت تباع في الأزقة الخلفية للأسواق السوداء، وبأسعار متدنية، وذلك لعدة أسباب:

1. الإبتعاد عن المراقبة الدولية في تحديد كميات النفط المصدرة.

2. أدخال العملة الصعبة إلى البنوك العالمية دون المرور بالبنوك السورية، لتسجل في أرصدة خاصة سرية، غير تابعة للسلطة السورية أو دخلها الوطني.

3. لئلا يدخل ضمن إطار الدخل الوطني، الذي يعتبر من حصة الرئيس مباشرة.

4. أما السبب الأهم، فهو غسل الأموال الهائلة المودعة في البنوك العالمية، وبالعملة الصعبة، الواردة من عمليات تهريب المخدرات والتي كانت تزرع في سهل البقاع اللبناني أثناء أحتلال سوريا للبنان، وعلى مدى ثلاثون سنة، إضافة إلى بعض مزارع في مناطق شمال غرب سوريا، وحيث كانت تهرب إلى الأسواق الأوربية والأمريكية وقسم منها بطائرات الشركة السورية. تلك العملة الصعبة كانت تتكدس في البنوك هناك، وهذه كانت تحتاج إلى تغطية هائلة من الأموال الصعبة، من خارج الدخل الوطني السوري الرسمي.

بعد عزل رفعت الأسد من على ساحة النهب الإقتصادي، حدث فراغ في ثالوث السلطة الشمولية، حاول أولاد أخيه ك ” فواز جميل ” وبعض العائلات المتنفذة الأخرى المقربة من الأسد، بينهم أبن ” مصطفى طلاس ” وزير دفاع الأسد الأب، السيطرة على الجانب الاقتصادي من السلطة الشمولية، لكنهم كانوا على سويات متدنية مقارنة بالسلطة السياسية، أوالعسكرية التي فرغت بدورها أيضاً بغياب رفعت الأسد، لذلك كان لابد من البحث عن تلك الشخصية المقارنة برفعت، فكان ظهور ” آل مخلوف ” وعقلهم المتكامل في اساليب وطرق النهب والسلب والفساد وبشمولية واسعة الأفق، فأملئ الجانب الاقتصادي، من الثالوث الفاسد.

أما الجانب العسكري بقي خاوياً، تناوب عليه شخصيات من الضباط العسكريين، كقادة بعض الفرق، وضباط من قوى الأمن المتعددة، المقربين من الأسد الأب والأبن، لكنهم لم يجاروا السوية المطلوبة، بل أن بعضهم، صفيت حساباتهم بعد صراع بسيط، وآخرين كسرت شوكتهم وأنتابهم الصمت، وكانت من بينهم أخت الرئيس بشار نفسها عن طريق زوجها عاصف شوكت، الذي كثيراً ماروجت إشاعات حولهم بالإختفاء أو الهرب إلى الخارج، ولم يتجاوز أمتحان السيطرة إلى أن ظهر ماهر الأسد، فأستلم مراكز عمه وبنفس السوية من الفظاعة والطغيان، وظهرت هذه الصفات فيه بدءاً من ثورة الخامس عشر من آذار، عندما استعمل الرصاص الحي في درعا ومن ثم في معظم المدن السورية الثائرة الأخرى، دون أن يتحرك فيه أية حاسة إنسانية، وبدون ضمير رادع لعملياته الإجرامية ضد الشعب الأعزل، ودون أية مبالاة بالرأي الداخلي أو العالمي.

ما يمن به ” رامي مخلوف ” في هذه اللحظة التاريخية، يعد أثباتاً على أن أركان السلطة الشمولية بدأت تنهار، البارحة كانت التصريحات السياسية وبإسلوب لا يزال فيها من النظرة الفوقية المتعالية على الشعب، كنظرة الإله إلى الرعية، لكنه تنازل فرض عليه تحت تأثير صرخات شوارع المدن الثائرة والهادرة من حناجر الشباب الذي لا يرى سوى التغيير بديلاً وإسقاط النظام بكل جوانبه حلاً نهائياً لبناء جديد قادم.

الأن الثالوث الإقتصادي من السلطة الشمولية، تتنازل للشعب وبلباس الرحمة، ومحتكرها الرئيسي يتحدث عن تقديم الخدمات والمساعدات للشعب، وخلق فرص العمل، والهبات الإنسانية للمحتاجين من العائلات، هل هناك من يصدق هذه الخدع؟! أليست العملية جميعها مترابطة ومتلاصقة، والحديث الجاري لم يكن سوى ضغوطات من قبل الثالوث السياسي والعسكري كمحاولة من المحاولات العديدة للحفاظ على السلطة، التصريح بذاته يكشف عن حقيقة مخزية للشعب السوري، هو أن العائلات الطاغية تجتمع وتوزع بين بعضها أدوار التلاعب بعقول الشعب، وبمصير هذه الأمة التي لا تزال أعظم قسم منها تبتلع هذا النفاق، وآخرين يسكتون بخنوع وعلى مضض.

من المعروف بإن الاقتصاد لا يتطور بشكل كامل إلا بوجود تنافس. والإحتكار من أفظع المعوقات لنموه. وهذا الجانب الأخير هو مايكمن فيه الاقتصاد السوري بكل قطاعاته. حيث احتكر أغلبيته من قبل عائلة متنفذة سياسياً، استطاع مرشحهم أن يزيح ما أراد من الشركات من السوق السورية، فأدخل الاقتصاد في حصار وأحتكار مهلك، من جرائها ظهر جيوش العاطلين عن العمل، وازداد نسبة الفقر في البلد بشكل متسارع، وأحيطت بالمدن الكبرى مخيمات الفقراء والمهاجرين من الأرياف، فظهرت مدن الصفيح في معظم أرجاء الوطن، مقابل عدد قليل من الرأسماليين المختصين بالنهب والفساد، الذين احتكروا الرأسمال الوطني بأجمعه في شركات خاصة وبدون منازع.

بقدر ما دمرت السلطة السياسية القوى المعارضة، وبقدر ما مزقت ثقافة البعث العنصرية النسيج السوري، على نفس السوية قامت السلطة الاقتصادية في تهديم البنى التحتية وأردت بالشعب إلى مهاوي الفقر والعوز والتخلف الاقتصادي، وكانت تقدم الفتات من المشاريع التطويرية مقارنة بوتائر التطور في العالم، وكانت تقف وراء كل هذا سلطة شمولية عسكرية فاشية استعملت أشرس الطرق في تكتيم الأفواه وإرضاخ الشعب على التقبل، لذلك نلاحظ بأن هذا الثالوث هو الأشرس في الظهور في مواجهة ثورة الشباب السلمية حتى عندما كانت شعارهم الحرية فقط.

بصفاقة نادرة، يخرج مدمر الاقتصاد السوري ” رامي المخلوف ” على الإعلام، بتصريحات كانت أكثر من مؤذية للشعب، يهبه ويعيد إليه فتات من أمواله التي نهبت على مدى عقود، لكنه لا يخفي بأنه سيبقى الرجل الرأسمالي الأوحد الذي سيدير هذه الإحتكارات الفاسدة، ويجعل بعض من فوائدها عوائد لبعض من سكان المدن الصفيحية.

ذكرني حديث السيد مخلوف هذا بمنة مشابه للرئيس الراحل حافظ الأسد. بعد أن أنتهى الأسد من بناء القصر الجمهوري على قمة قاسيون، أعلن بأنه يتبرع بشقته إلى الشعب السوري، تلك الشقة التي كانت تتكون من غرفتين وكان قد أشتراها بالتقسيط أيام كان لا يزال ضابطاً بسيطاً في الجيش وهو في بداية زواجه، لقد كان أعلانه ذاك أكثر من صفعة في وجه الإنسان السوري، الرئيس الذي كان قد أتخم من نهب أموال الشعب وبدون رقيب، وخاصة من العوائد النفطية التي لم تدخل يوماً في ميزانية الدولة ولم تسجل تلك العوائد في سجل الاحصائيات السورية العامة. وذلك تحت شعار خلقها بنفسه ” النفط في أيدٍ أمينة فلا تسأل عنها ” وأية أيادي أمينة كانت تلك ؟!…لقد طبل لذاك التبرع وزمر لها الإعلام السوري ومثقفي البعث، على مدى أسابيع، وحاولوا تحريك مشاعر الشعب بجلب أنتباههم إليه، وأصبحت قضية كبرى في الاقتصاد السوري ” الرئيس يتبرع بشقته للشعب ” وحاولوا من خلال دعايتهم أن يوهموا الشعب بأن وتيرة الإقتصاد قد أزداد؟!… ها هو أبن خال الرئيس بشار الأسد يتبرع بفوائد قسم من شركاته الإحتكارية، ويصرح بأنه يجد في ذلك لذة أكبر من لذة النهب والفساد والسرقة، لكنه لا يملك تلك الجرأة ليصرح بأنه يتنازل تحت ضغوط ذاتية من الثالوث السياسي والعسكري، الذين هما بدورهما بدءا يرضخان للظروف الموضوعية المحاطة بهما من قبل الشارع السوري، أويتنازل رعباً وخوفاً من القادم من المصير، يقلد فيها أبن عمته، في التنازلات السياسية…ويودون أن يوهموا الشعب بأنها هبات إنسانية، لا علاقة لها بجبروت الثورة الجارية في مدن سوريا.

هناك حقيقة أصبحت معروفة وواضحة للجميع من في العالم وشرقنا خاصة، بأن الشباب الثائر لا يقفون على حواف الإصلاحات، إنها مسيرات تتراكم من أجل إسقاط النظام، وتقديم الطغاة والفاسدين والمجرمين ” الثالوث الشمولي المستبد ” إلى محاكم الشعب وعدالتهم، وهل يجب علينا أن نذكرهم بالذي جرى في تونس ومصر والذي يجري هناك في دول الفساد الأخرى؟ هل علينا أن نذكر ” رامي مخلوف ” وعائلته ونضيفها إلى العشرات من التنبيهات السابقة، بعائلة زوجة السيد زين العابدين ” الطرابلسي ” أم بعائلة ال “مبارك ” والفاسدين الذين كانوا من حولهم ينهبون الشعب؟ ربما أصبح ” رامي ” يعي قليلاً بما يدور من حوله، وأقدم على هذه الخطوة التي لا تتناسب وهيئته!..

ليعلم الجميع الذين تلطخت أياديهم بدماء الشعب، وأموالهم، وحتى أولئك الذين ينعمون بالهدوء الآن في الخارج، بأن التاريخ لا يرحم، ومدحلة العدالة قادمة.

د. محمود عباس

الولايات المتحدة الأمريكية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى