صفحات المستقبل

ثلاثية الوداع السوري/ مازن حلمي

 

 

ماذا لو مشى الله وحيداً في شوارع أوروبا بثيابٍ رثة وصوت منهك من كثرة البكاء؟

“يعتقد صديقي السوري أن الله حينها لن يحتاج لمنظمات الأمم المتحدة أو حتى زيارات أنجلينا جولي، يحتاج فقط أن يعود لموطنه وسمائه الأم لإلقاء سلامه الأخير على ذاكرته التي سوف تنحت من لونه وجسده وكرامته خلال سنوات اللجوء”.

القاهرة وبكائية آخر المطربين الشاميين

دائماً ما يحتل الكرسي نفسه في أحد بارات وسط البلد في القاهرة، يجلس وحيداً ويرتشف من زجاجة البيرة بالقدر نفسه، ودائماً ما يتوقف عدّاد الزجاجات عند الرقم ثلاثة.

شاب في آخر العشرينيات، شعره مصفف بعناية، ويرتدي ثياباً تُظهر أنه لا ينتمي لذلك البار، وملامحه تُظهر أنه لا ينتمي لتلك المدينة الرمادية.

دائماً ما كان فضول يدفعني لمراقبته، لكنّه لم يدفعني أبداً للتعرّف عليه أو البحث عن حكايته. لكن صديقاً سورياً أعرفه منذ فترة، تعرف عليه مرة كنّا نجلس فيها سوياً، وذهب إليه ودعاه للانضمام إلينّا. لم يكن ذلك كافياً لإرضاء فضولي، لأنه بقي شارداً معظم الوقت.

بعد أكثر من ساعتين معه لم أعرف سوى أن اسمه عمر وأنه من سوريا.

طلب منه صديقنا المشترك أن يغني. بدأ الشاب بالغناء، وارتفع صوته بطريقة واضحة يسمعها كل الجالسين متلاعباً بطبقات صوته بشكل بديع. أو كما ردّد أحد السكارى في البار وهو يسمعه: “الله عليك يا عم صباح فخري”.

غنّى عمر كثيراً دون أن يتوقف لحظة واحدة، ينتقل من أغنية لأخرى، ومن مقامٍ لآخر. كل من في البار كان يسمعه ويطلب منه أن يغني له أغنية ما، وعمر لا يملّ، ولا يتوقف عن الغناء أبداً.

وعندما جاء دور صديقنا المشترك طلب أغنية “أنا وليلى” لكاظم الساهر، لكن عمر تخطّى السؤال كأنه لم يسمع شيئاً.

ظل عمر يغنّي حتى جاء دوري في طلب أغنيتي المفضلة.

– “أريد أن أسمع أنا وليلى، أرجوك يا صديقي”.

نظر عمر بوجه مستسلم لإلحاحي. أغمض عينيه وبدأ يغني. تجرد من المكان واللحظة الزمنية، وارتفع صوته عالياً. ظلت قسمات وجهه تتحرّك وتحاول أن تتمسك بما تبقى من أمل في النجاة.

“واغربتاه… مضاعٌ هاجرت مدني

عني وما أبحرت منها شراعاتي”.

وصل عمر لذلك الجزء من الأغنية وأحباله الصوتية تنتحب. لم يكن العرق المتصبّب على رقبته نتيجة الإرهاق، كانت الدموع التي تتساقط من حباله الصوتية.

بكى عمر لمدة لا أعرفها. خرجنا من البار وعمر يتنفس بسرعة ويحاول النجاة من الغرق، يبدو أن الذاكرة رداء ثقيل يساعد على الغرق بطريقة أسرع.

قال عمر: “كنّا أربعة أنا وحبيبتي واثنين من أصدقائنا، كانت ليلتنا الأخيرة في سوريا، وقررنا أن نُقضيها في أحد البارات، بقينا نغنّي حتى الصباح. كانت الليلة الأخيرة التي أرى فيها حبيبتي، لأنّها كانت ستنتقل مع أهلها صباحاً إلى بيروت، وأنا إلى القاهرة. كانت “أنا وليلى” آخر أغنية غنّيناها، وعند وصولنا إلى هذا المقطع بكينَا جميعنَا، ثم رحلنا دون أن نقول وداعاً”.

انتهى عمر من الحكاية وظل شارداً حتى وصلنا إلى شارع هدى الشعراوي، حيث ودعنا وذهب. أخبرني صديقي أنّ عمر منذ وصوله إلى القاهرة لم يتمكّن من التواصل مع حبيبته، انقطعت كل الاتصالات معها ولا يعرف حتى إن كانت وصلت إلى بيروت، وبأنّه غير قادر على التأقلم مع الحياة في مصر ويريد العودة إلى سوريا.

بعد شهر أو أقل قابلت صديقي مجدّداً وسألته عن عمر. ابتسم وقال: “السمكة عادت إلى المياه مرة أخرى، يبدو أنها تفضّل أن تموت على يد صيادها بدلاً من أن تموت على الشاطئ مختنقة”.

وحده يغني “حكمت الأقدار”

يَبدو أن الأمر يزداد ثقلاً، استنشاق الهواء أصبح صعباً للغاية لما يحمله الصدر من رائحة أماكن تبدو بعيدة جغرافياً، لكن قريبة من الذاكرة.

كانت الطريق طويلةً جداً من فيينا إلى مدينة إيسين الألمانية. ٢١ ساعة تبدو قاسية لشخصٍ مثلي، لكن الحماس يقتل الوقت أحياناً.

من إحدى محطات فيينا كانت انطلاقتي، ابن خالتي يُشير إليّ من خارج الباص، وأنا بداخله متحمس وقلق. بعد عدة دقائق أجده يُشير إليّ لأخرج. وجدته واقفاً يتحدّث العربية مع شخصٍ ما، ثم قال لي: “محمد من سوريا، لا يُجيد أي لغة سوى العربية، قم بمساعدته إذا لزم الأمر”.

صافحت محمد وجلس كل منّا في مقعده. تقول الأسطورة إن العرب لا يحبون بعضهم البعض في الغربة، لذلك ربّما قمت بتجنّبه في محطات عدة. كلّ ما فعلته في الاستراحات القليلة، كان شراء القهوة، والاستماع للموسيقى. بعد استراحات عدة اكتشفت أنه ظلّ شارداً. وقفت بالقرب منه حتى طلب منيّ ترجمة شيء للسائق.

وبعد استراحات عدة أخرى تحدّث معي:

– “بتسمع إيه؟”.

– “محمد منير، عارفه؟”.

– “أكيد يا أخي، بتسمعله إيه؟”.

– “حكمت الأقدار، أغنية من التراث المغربي لفرقة لرصاد”.

– “عارفها عارفها، تقلب عليا المواجع يا أخي”.

ابتسمت ثم نزعت السماعات من الهاتف ليتمكن من الاستماع للأغنية، ومنير يردّد “حكمت الأقدار اللي ما رحمت قلبي ولا باغتني”، وجدته يردّد معه بشجن شديد: “نبقى جواركم وتبرد ناري”. قبل أن يسألني: “سياحة ولا إقامة؟”. أخبرته أنّني جئت سياحة، ووجدت أنّ من السذاجة أن أطرح عليه السؤال نفسه. انتبهت بعدها أنّ مخاوفي لا تنتمي سوى لشاب تافه من طبقة مصرية متوسطة، أرسله أهله للسياحة في أوروبا خلال الصيف. سألته:

– “إلى أين؟”.

– “لا أعرف، أتنقل بين المدن لأبحث عن عمل، لكن اللغة تقف عائقاً دائماً”.

عزمته على قهوة وتمنيتُ له التوفيق، وقبل أن أنسى ذكرت له اسمي وأنا أغادر.

عندما وصلت إلى إيسين، أخبرني صديقي عن سوري يعرفه مشى من إيطاليا لألمانيا طوال أربعة أشهر. تذكّرت سريعاً رفيق رحلتي، وتمنّيتُ ألا تعبث به الأقدار كثيراً.

رفيقة الشاورما السورية

قابلتها في أحد شوارع فيينا، فتاة سورية لم تتعدَّ الثانية عشرة من عمرها. أكلنا الشاورما في أحد المحلات القريبة، وأخبرتني أن والدها تركها أمام بيتٍ للّله، ودخل ليتفاوض معه.

تقول الأسطورة إن أحدهم كان يودع القمر كلمّا جاء، وفي كل مرة كان يلوح له كأنّه الوداع الأخير.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى