صفحات العالم

ثماني سنوات على خروج القوات السورية

 

سليمان تقي الدين

بعد ثلاثة عقود خرج الجيش السوري من كل الأراضي اللبنانية، تحت وطأة قرار دولي واحتجاجات شعبية أعقبت اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، كان المشهد خاتمة درامية لوصاية دولة عربية على أخرى، أو لشكل من العلاقات التكاملية الأمنية أو الاقتصادية أو السياسية. تحولت معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق إلى ما يشبه الاحتلال السالب لإرادة فئات واسعة من اللبنانيين. في تلك اللحظة ارتسم خطر مزدوج على لبنان وسوريا. انقسم اللبنانيون على أنفسهم وعادت سوريا إلى عزلة سياسية، ثم انهارت وحدة البلدين بفشل وانكشاف المنظومة الأمنية الحاكمة فيهما.

بعد تحرير الجنوب العام 2000 انتهى أي تبرير للظروف الشاذة التي عاش فيها البلدان. حمل لبنان وحده عبء المواجهة مع إسرائيل، كما حمل أوزار النزاعات العربية والدولية. بعد زوال الاحتلال لم يعد ممكناً أن يبقى لبنان رهينة يستخدمها النظام السوري جزئياً من أجل استعادة الجولان وعموماً لإعطاء نفسه شرعية وطنية واللعب على التناقضات الإقليمية. انتظر الشعبان اللبناني والسوري طويلاً الالتفات إلى قضاياهما الاجتماعية والإنسانية، إلى حرياتهما وكراماتهما المعلّقة على حبال الصراع مع إسرائيل. انتظر الشعبان حرب التحرير وجبهات الصمود والتصدي، وانتظرا الممانعة فإذا بمعركة السلطة تظل أولوية الأنظمة التي تدمّر بلدانها في ذلك ولا تغامر بالقليل من أجل كرامتها الوطنية.

خرج الجيش السوري من لبنان تاركاً خلفه إرثاً كبيراً من مشاعر الكراهية وسجلاً حافلاً بالانتهاكات، لكن النظام لم يعمل من أجل تصحيح العلاقات بين الشعبين فتمادى في محاولة إلحاق لبنان مجدداً بسياسات القوة والأمن بدلاً من علاقات الحوار واحترام سيادة البلد وأمنه. كان خروج القوات السورية مفصلاً في تاريخ النظام نفسه ودليلاً على أزمة عميقة في علاقته بشعبه وبالشعب الشقيق. فلم يراجع النظام الأمني سياساته ولم يستجب لمطالب الإصلاح ولم يقرأ بوضوح المتغيّرات من حوله. ظل هو نفسه يراهن على المعادلات الدولية التي دعمته فعلاً تجاه الخارج وعجزت عن إعطائه شرعيته الشعبية الداخلية أمام تراكم المشكلات والحاجة إلى التغيير. وما كان إرثاً لسلبيات النظام فاقمه بشكل مريع بعسكرة الصراع الداخلي وانكشاف البلد على الصراعات الدولية. وفي حصيلة عقود لنماذج هذه الأنظمة سقطت المنطقة كلها تحت سلطة وصايات دولية متعددة وجرى استباحة أمنها واستقرارها وثرواتها. وفي كل محاولة من داخل أو من خارج لتغيير هذه الأنظمة تتفكك الدولة نفسها وتنتشر عصبيات وانقسامات يتلقفها الخارج ليبني عليها مصالحه ومداخلااته.

كأننا اليوم في عصر الحمايات الدولية في القرن التاسع عشر حيث لكل طائفة وجماعة مرجعية. وها نحن أمام عالم يخاطبنا بالكثلكة والأرثوذكسية والسنية والشيعية ويبسط نفوذه باسم هويات لا نعهدها فيه ولا تشكل مرجعية لتفكيره وسلوكه.

ومن روما وباريس وموسكو وبكين وطهران وأنقرة وواشنطن يتردد صدى الماضي السحيق وكأننا جاليات ومحميات وبقايا شعوب منقرضة على أرض لا كيانات مستقلة فيها ولا سيادة لها على مصائرها. فلو كان واحدنا يقف خارج المسرح العربي ويتطلع إليه لوجد نفسه منخرطاً في هذه الرؤية حيث تلتهب الهويات الفئوية وتنفجر حروباً أهلية نتيجة حداثة عربية فاشلة انتهت إلى الأصوليات النابذة للحداثة وللتقدم السياسي والاجتماعي.

وكأن العرب جميعهم «بلعوا الموسى» ينوؤن بأثقال الماضي ويصعب عليهم التقدم نحو المستقبل. إلا أن هذا الانفصام العربي لا يترك أكثر من خيار واحد عملياً، هو الاستجابة لمنطق التغيير والتصدي لمشكلاته لا الرهان على تجميد أوضاع لم تعد قابلة للحياة.

خلال ثماني سنوات على خروج القوات السورية من لبنان اختبر الشعبان تجربتين إنسانيتين، حين لجأ قسم من اللبنانيين إلى سوريا في الحرب الإسرائيلية في تموز 2006 ولجأ قسم من السوريين إلى لبنان في الحرب الدائرة اليوم على أرض سوريا. في كلا الحالين يتدبر الشعبان أمرهما في غياب الدولة. انتقلنا من شعوب مقهورة إلى شعوب مهجّرة. نحاول البحث عن إنجاز وطني أو إنساني فسرعان ما تتبخّر «الإنجازات». في حروب الخارج نتهجّر وفي حروب الداخل نتهجّر. هناك مفارقة لا يمكن قبولها والسكوت عنها.

ملايين العرب يحشرون بين القهر والتقتيل والتهجير بالعنف المادي أو السياسي. إن منظر مئات آلاف السوريين في لبنان في أسوأ الظروف الإنسانية يجب أن يحوّل مجرى التفكير السياسي اليوم قبل الغد حتى لا نتحول إلى شعوب نازحة.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى