صفحات الثقافةماهر الجنيدي

ثمة جديد تحت الشمس

 

ماهر الجنيدي

في البحث عن ملامح الآخر، واكتشافه المتأخر، يجوز للمرء أن يسأل “من أنتم؟” إذْ يتخلّص السؤال من بعض سفاهته، حين يطرحه شخص حُجبت عنه الرؤية. أما حين يتحول السؤال ليصبح: “أين كنتم؟”، فإنه يغدو تعبيراً استفهامياً مهذباً، مشبعاً بغبطة الاكتشاف، مفعماً بدهشة الحب.

إذن، بسؤالها المكرر “أين كنتم؟”، تنبئنا أنديرا مطر، في مقالتها العذبة في العدد الماضي من ملحق نوافذ (الأحد 31 آذار 2013)، أن السوريين واللبنانيين ما زالوا يلتقون هذه الأيام بشوق أقرب إلى الوجد، سواء عبر صفحات الفيسبوك، أو عبر تقنيات التواصل الاجتماعي، أو في اللقاءات الوجاهية؛ وأنّ أشقاء “الذنوب والآثام” الماضية الذين بدأوا يكتشفون بعضهم بعضاً مع بدء الثورة، مازالوا يفعلون بعيداً عن سفاهة السياسيين وعنصريتهم، وعن عصابيّة العنجهية الوطنية الفارغة.

يلتقون، فيغمرون بعضهم بعضاً بوابل من العواطف الجيّاشة، وكأنه شوق خفيّ مكبوت مزمن إلى شقيق أو أخ، أو ربما إلى بلد جار يحبونه ويحترمونه ويأنسون إليه، غاب عنهم طويلاً.

هل هذا جديد؟

كتب حازم صاغية في 2004 تحت عنوان “اكتشاف سوريا والسوريين” قائلاً: “من يتابع الصحافة اللبنانية وبعض بيانات المنظمات الإنسانية والديموقراطية ومؤتمراتها، يلاحظ عشرات أسماء الكتّاب والمثقفين والناشطين السوريين ممن لم يُسمع بواحد منهم قبل خمس سنوات. فباستثناء تاريخيي المعارضة السورية كرياض الترك، بدت هذه الأسماء كأنها اكتشاف للسوريين، أو على الأقل لفئة منهم كان يلفّ المعرفةَ بها الجهلُ والغموض”.

إذن، مازال الكشف مستمراً حتى اليوم، بل ويبشّر بمزيد من الاكتشافات، التي تتعدّى الحماسة لثورة تعد بتغيير نظام ظلمهم لتنطلق إلى رحاب حلم مشرق واسع يعمّ البلدين، ويزدهي بعلاقات هي أكثر من الاحترام المتبادل، وأكثر من حسن الجوار، وأكثر من توطيد روابط الأخوة والصداقة، بين بلدين مستقلين، لتصبح “الوصاية” رمزاً لظلمةٍ قاتمة صبغها الاستبداد في تاريخ البلدين.

تُرى هل اقتصرت عبارة “الوصاية” على وصف الجزء “الحكوماتي” السياسي والدبلوماسي من العلاقة المشوّهة السابقة، التي شهد فيها كثير من اللبنانيين، وكذلك الفلسطينيين في لبنان، ومنظماتهم، ونخبهم الفكرية والسياسية، ممارسات لا تتفق إطلاقاً مع “الردع” أو “حفظ الأمن” أو ماشابه من مهمّات كان يروَّج لدى السوريين أنها منوطة بجيشهم؟

وإذا لم تقتصر على ذلك الجزء، فماذا نسمي حالات التوجّس والريبة والحرج والتصادم التي كانت تسم لقاءات عامة السوريين واللبنانيين فيما مضى، سواء في بلدانهم أو في المغتربات التي تضمّهم؟

لم يكن تشويه صورة السوريين لدى اللبنانيين، الذين ذاقوا شتى صنوف التنكيل والاضطهاد والإساءات، سوى وجه من أوجه الإساءة للعلاقة بين الشعبين. فالسوريون، أيضاً، خضعوا على مدار الحقبة الآفلة إلى محاولات دؤوبة كي يُحشروا نفسياً في “شرنقة” سوريّتهم الضيّقة. شرنقة لم يكن لبنان وحده المقصود منها، ولم تجد فحسب تعبيراتٍ عنها في أغنية “أنا سوري آه يا نيّالي” حيناً وفي شعار “سوريّة الله حاميها” حيناً آخر، بل تعدّتها إلى ترويج ثقافة رهاب الآخر، كل الآخر.

لعب الإعلام دوراً أيضاً في صياغة الآخر اللبناني. فحين كان يشرح اللبناني المغترب جاهداً لجاره السوري المغترب أن لبنان ليس فسطاطين ينقسمان بين “ستار أكاديمي” ومسابقات ملكات الجمال من جهة، وعمليات الوعد الصادق وخطابات النصر الإلهي من جهة أخرى، كان هذا السوري يستمع محدّقاً في الفراغ، من دون أن يتمكّن من تبيّن وجود لبنانيين حقيقيين، يرزحون تحت نظام طائفي معاند، يعانون مثله، ويحلمون مثله بأحلام صغيرة: استئجار بيت، وتكوين أسرة، وبناء مستقبل مهني واعد، والعيش في بلد ديموقراطي حر جميل، يزدهر فيه الاقتصاد، وتتحقق فيه الكرامة الفردية والوطنية بمعانيها الحقيقية.

ثمة مسلسلات تلفزيونية، وأفلام سينمائية سورية أيضاً لعبت دوراً في تكريس تلك الصورة، حين اقتصرت في تقديمها للبنانيين على شاب متهتّك، أو فتاة مغرية لعوب تلبس التنورة القصيرة، أو مصفف شعر “كوافير” منحلّ أخلاقياً، أو متعهد حفلات انتهازي.

تساءل الشاعر اللبناني يحيى جابر عبر فيسبوك يوماً عن كنه هذا الشعب الذي لا يتعب ولا يضجر، فأقسم إنه لشعب عظيم: “الشعب السوري من ذهب.. دقّوا على الخشب”. وما أن كتب في “ستاتوس” آخر: “لاجديد تحت الشمس سوى الشعب السوري.. الذي يجعل الشمس “تدور” من الدهشة لشجاعته.. والأرض “ثابتة” من الذهول لدمعته”، حتى سارعت سيّدة لبنانية مغتربة على بعد عشرات آلاف الكيلومترات من بيروت، إلى استئذانه في نسخ هذا النص لتلصقه في صفحتها.

لم تعد وسائل الإعلام التقليدية تهيمن على رسم ملامح الآخر. صار التواصل يومياً، لحظياً، إنسانياً وحقيقياً حتى في صيغه الافتراضية.

نعم.. ثمّة شيء جديد تحت الشمس. لكنّ هذا لن يعفينا من أسئلة كثيرة تتوالى مع الأيام، لحظة السقوط الكبير: “أين كنا”؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى