صفحات العالم

ثورات حقيقية … ومؤامرات خيالية!

 


وحيد عبدالمجيد

الرئيس وحاشيته وقادة أجهزة أمنه هم العالم كله بالنسبة إلى مسؤولين وإعلاميين رسميين في كثير من الدول العربية، فلا شعب هنالك ولا مؤسسات في الداخل، ولا مجتمع دولياً في الخارج.

ولذلك لم يخاطب سفير سورية لدى الأمم المتحدة المجتمع الدولي وأعضاء مجلس الأمن في كلمته أخيراً أمام هذا المجلس، عندما اعتبر ما أوردته صحيفة «واشنطن بوست» عن مساعدات قدمتها منظمات أميركية إلى معارضين وحقوقيين عرب، دليلاً دامغاً على المؤامرات التي تحاك ضد بلاده!

وعلى رغم أن خطاب المؤامرة يبدو متهافتاً في محفل دولي على هذا المستوى، وخصوصاً حين يتخبط أصحابه في بحثهم كل يوم عن «متآمرين» يتهمونهم، فقد تطوعت منظمات حقوقية ووسائل إعلام في الولايات المتحدة بمساعدتهم عندما تفاخرت بما لا فضل لها فيه، وزعمت أن حملات أميركية لدعم الديموقراطية ودعاتها في بلاد عربية كان لها دور فى إثارة الاحتجاجات التى أثمرت ثورات بدأت في تونس، ولم تصل إلى نهايتها بعد.

وربما كان ممكناً التغاضي عن مزاعم من هذا النوع واعتبارها محاولة أخرى لارتداء قناع الحرية والأحرار، لولا أن صحفاً كبرى، مثل «واشنطن بوست» و «نيويورك تايمز»، نَسَبَتْها إلى مسؤولين في منظمات أميركية لبعضها شأن كبير في مجال الديموقراطية وحقوق الإنسان، فالعالم يعرف أن السياسة الأميركية ارتدت في كثير من الأحيان قناع الحرية لإخفاء مصالحها، التي دفعتها إلى مساندة بعض أكثر نظم الحكم طغياناً، والدفع نحو انقلابات عسكرية في مرحلة سابقة، بل المشاركة فى تدبير بعضها.

فلا جديد والحال هذه، إذا زعم مسؤولون في منظمات ممولة من الإدارة الأميركية أنهم ساهموا في صنع «تسونامي» التغيير الذي يجتاح العالم العربي، بالرغم من أن هذه الإدارة انغمست خلال العامين الأخيرين في تدعيم العلاقات مع النظم التي اندلعت الثورات ضدها. حتى عندما تبنت إدارة بوش الأولى قضية نشر الديموقراطية ومشروع «الشرق الأوسط الكبير» عقب غزو العراق، لم تكن حرية الشعوب العربية هي هدفها الأول، بل مواجهة الإرهاب الذي فاجأها في عقر دارها في 11 أيلول (سبتمبر) 2001.

ومع ذلك، لم تلبث إدارة بوش الثانية أن تراجعت عن مشروعها لتغيير المنطقة، عندما غرقت قواتها في المستنقع العراقي واضطرت إلى تكثيف التعاون مع أجهزة أمن توحشت في مصر وبلاد أخرى، وأعطتها الحرب على الإرهاب ذرائع جديدة للتوسع في إرهاب شعوبها. وحتى عندما بدأت ثورة 25 يناير، راهنت واشنطن على استقرار النظام السياسي في مصر ثم ارتبكت وتذبذبت مواقفها، فبعد أن طالبت برحيل الرئيس السابق حسني مبارك فوراً، عادت فقبلت استمراره لفترة قصيرة، على أساس أن نقل السلطة يتطلب وقتاً ليكون منظماً، وأن وجوده ضروري للإشراف على الإصلاحات المطلوبة.

ولذلك، لا يحق لمنظمات يحصل معظمها على تمويل من هذه الإدارة، أن تفخر بدور هامشي لعبته في مساندة الحركات الديموقراطية، في الوقت الذي وقفت هذه الإدارة وراء نظم الحكم، وخفضت منذ 2009 المعونات التي كانت تقدم إلى المجتمع المدني. كما أن التدريب الذي قدمه بعضها في منتديات حضرها عدد محدود من الشبان والشابات في بلاد عربية عدة لتنمية مهاراتهم في استخدام شبكات الاتصال، يسهل الحصول عليه من دونها. ولذلك، لا يصح ادعاء أن مثل هذا التدريب كان له فضل كبير في الحراك الذي أنتج ثورات عربية.

ولو أن النظام السابق في أي من تونس ومصر، نجح في إخماد الثورة، لكانت ادعاءات من هذا النوع مادة رائجة في دعايته ضدها، وفي لائحة الاتهامات ضد آلاف لم يذهب معظمهم إلى الولايات المتحدة يوماً وربما لم يلتق كثير منهم أميركياً واحداً في حياتهم. وقد بدأت مقدمات تلك الاتهامات خلال الثورة المصرية مثلاً، عبر حملة إعلامية رسمت للمحتجين صورة من تحركهم «أجندات» خارجية يمولهم أصحابها دولارات و «وجبات كنتاكي» توزع في ميدان التحرير.

والأكيد أن المنظمات الحقوقية والديموقراطية الأميركية لا تقصد تشويه الثورات والاحتجاجات العربية عبر ادعاء دور لم يكن في انتظارها، لأن التدهور الداخلي كان كافياً لتفجير ثورات منذ سنوات. ولكن هذا الادعاء يقدم خدمة مجانية لبعض نظم الحكم، وييسر محاولة تشويه صورة شبان وشابات عرب شاركوا في منتديات أميركية حول استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في العمل الديموقراطي. ولا يختلف ادعاء أن حضورهم هذه المنتديات ساهم في صنع الثورات، من ادّعاء رئيس جامعة هارفارد مثلاً، أن الاختراق الذى حققته الهند في تكنولوجيا الحاسوب يرتبط بتخرج بعض مهندسيها في جامعته! ولذلك، فما أن ازدادت المزاعم عن دور أميركي في دعم الثورات العربية، حتى بادرت إحدى الحركات التي ساهمت في التحضير لثورة 25 يناير (حركة شباب 6 إبريل)، إلى التوجه إلى النائب العام طالبة التحقيق في هذه المزاعم التي تشوِّه صورتها.

فليس الناس كلهم على المستوى نفسه من المعرفة والوعي، بحيث يدركون أن هذا النوع من المزاعم يناقض حقائق معروفة عن السياسة الأميركية، التي ما برحت مترددة في موقفها تجاه الثورات العربية. ولذلك نبهت «واشنطن بوست» في افتتاحيتها في30 الشهر الماضي، إلى أن بطء التعامل مع ثورات واحتجاجات الشعوب العربية سيزيد المأزق الذي يواجه واشنطن في هذه المنطقة. وفي اليوم السابق، كان الناشط المصري المشهور الذي لعب دوراً مشهوداً في ثورة 25 يناير، وائل غنيم، متحدثاً في حفلة أقامتها مجلة «تايم» للشخصيات المئة الأكثر تأثيراً في العالم، فقال إن الثورات والاحتجاجات العربية تمثِّل صفعة على وجه المجتمع الدولي، الذي فضل سياسيوه الاستبداد على الديموقراطية واستقرار المنطقة على حياة شعوبها.

ومن بين شواهد عدة على المأزق الأميركي إزاء هذه الثورات، كان الحوار التلفزيوني قبل أيام بين وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الخارجية السابق هنري كيسنجر في برنامج «حديث في الديبلوماسية» مثيراً للانتباه، فبالرغم من أن كلينتون أبدت تفاؤلاً بالثورات العربية، فقد بدت قلقة من الاختلافات الدينية والعرقية واحتمال تعرض أقليات أو نساء لاضطهاد منظم. أما كيسنجر، الذي خدم السياسة الأميركية في مرحلة شهدت مساندة انقلابات عسكرية كان بعضها دموياً، فقد جهر بتشاؤمه من الثورات العربية، ونصح بالتريث في التعامل معها والحكم على نتائجها.

غير أن الثوّار العرب، ربما باستثناء الليبيين، لا ينتظرون مساندة أميركية مباشرة. وكل ما يريدونه هو أن تنسجم سياسة واشنطن مع شعاراتها، وأن يكفَّ المتفاخرون فيها بأدوار وهمية، أذاهم غيرَ المقصود عن ثورات واحتجاجات هي من صنع سياسات تراكمت على مدى عقود واستفحل في ظلها التسلط والظلم والفساد والنهب، فهذه ثورات واحتجاجات تندلع لأسباب حقيقية، ولا مكان فيها لمؤامرات يصنعها خيال مَن لا يصدقون أن شعوبهم تستيقظ. ومع ذلك، يظل في الحديث عن أي دور خارجي مَدَدٌ لأصحاب هذا الخيال.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى