راتب شعبوصفحات مميزة

ثورة الضمير السوري المعذَّب: راتب شعبو

 

راتب شعبو

لم تكن الهزيمة العسكرية التي لحقت بتنظيم الأخوان المسلمين في سوريا في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، هزيمة منفردة بل كانت في الواقع بمثابة هزيمة جماعية للمجتمع السوري بأكمله (المؤيد منه للإخوان والرافض لهم سواء بسواء) أمام الدولة التي حولها الاستبداد إلى مملكة خاصة، وأداة في يد السلطة السياسية تسخرها لغاية واحدة هي الحلم بالديمومة الأبدية.

حينها لم يكن الشارع السوري اخونجياً ولم تعبر حركة الأخوان المسلمين في حينها عن مزاج غالبية الشعب السوري، غير أن ذلك لا ينفي أن هزيمة الأخوان تلك مثلت هزيمة لكل تيار سياسي معارض أو حتى مستقل في سوريا. وذلك ليس لأن أجهزة الأمن عملت تحت غبار المعركة مع الأخوان على اقتلاع كل نبتة سياسية معارضة أكانت من اليمين أو من اليسار، أكانت سلمية أو مسلحة، إنما أيضاً لأن هزيمة الأخوان همست في أذن كل معارضي النظام بعبرة مفادها إنه لا أمل، قريب على الأقل، في تغيير فعلي في الاجتماع السياسي السوري، وإن السلطة جاهزة وقادرة على الإخماد والسيطرة، بعد أن سحقت أقوى التنظيمات السياسية المعارضة وأكثرها دعماً من الخارج.

هذا هو الدرس الذي تلقاه السوريون عموماً، حتى بات يمكن تلخيص اللوحة السياسية في سوريا آنذاك على الشكل التالي: سلطة مستبدة منتصرة تترجم نصرها استئساداً وتنمراً وغطرسة، ومجتمع مهزوم يترجم هزيمته خنوعاً وتزلفاً وابتكارات عجيبة في تعابير الولاء. وعلى هذه العلاقة بين منتصر متجبر ومهزوم كسير، قامت فترة الاستقرار السوري التي امتدت من 1982 حتى 2011. الاستقرار الذي كثيراً ما تغنى به السوريون، غافلين أو متغافلين عن طبيعته المشوهة والظالمة، هذه الطبيعة التي جعلت سوريا حينها تشتري حاضرها (ذاك الاستقرار) بمستقبلها (هذا الدمار والخراب في المادة والأرواح والنفوس). وعلى تربة استقرار الإذعان هذا نمت كل مظاهر الفساد السياسي والأمني والاقتصادي والإداري التي أوصلت سوريا إلى مأزقها الحالي.

كان من مظاهر هزيمة الشعب السوري خلال فترة الاستقرار تلك أنه ارتضى أن تكون السجون مليئة بالمعتقلين من أبنائه دون أي اعتراض صريح. الشيء الذي ولد ألماً ضميرياً حاداً يتفجر اليوم عنفاً في كل أرجاء سوريا، هذا الألم الذي عبر عنه الراحل سعد الله ونوس في تقديمه لرواية عبد الرحمن منيف “شرق المتوسط” بالقول: (كيف كنا نستطيع النوم وهناك الكثير من أبناء شعبنا يهترئون في السجون). ومن مظاهر تلك الهزيمة أيضاً قبول السوريين ترداد شعارات لا منطقية تُفرض عليهم كنوع من تباهي السلطة بالقدرة على السيطرة المطلقة على “القطيع”، مثل شعار “إلى الأبد”، الذي يبدو لعين محايدة أقرب إلى الهزل لاستحالته وابتعاده عن الممكن. ومن مظاهرها أيضاً سكوتهم عن هدر المال العام في أنشطة احتفالية وتمجيدية باذخة مفروضة. وقبولهم ألقاباً للديكتاتور منافية للعقل، مثل المعلم الأول والطبيب الأول والرياضي الأول ..الخ. وخنوعهم أمام تجاوزات أزلام النظام وضعف التضامن الأهلي والمناصرة فيما بينهم حين يتعلق الأمر بسلب حقوق وامتهان كرامات وأعراض بعضهم على يد أطراف سلطوية.

لا تستقر الديكتاتورية إلا بهزيمة الشعب وإذلاله. على هذا لم يكن الاستقرار المذكور استقراراً للمجتمع السوري بل استقراراً للديكتاتورية، الاستقرار الذي بدأ تصدعه في أوائل عام 2011، حين خرج الصوت الأول من قلوب السوريين قبل حناجرهم: “الشعب السوري ما بينذل”، وكان طبيعياً أن يثأر السوريون لضمائرهم ونخوتهم بهتافات التضامن والمناصرة “يا درعا نحنا معاك للموت”. كان ذلك الاستقرار الظالم المشوه يغذي إذن وعلى نحو حثيث البركان الذي سيفجره.

اليوم يظهر السوريون استعداداً لتحمل كل اصناف المآسي على ألا يكرر التاريخ نفسه ويستولد من الأزمة الحالية استقرار إذعان جديد.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى