حسان خالد شاتيلاصفحات العالم

ثورة 15 آذار السورية: اليسار في سورية تائه في رقعة ألعاب السياسة الكلاسيكية

 


حسان خالد شاتيلا

مرت أكثر من ستة أسابيع على انتفاضة شعبنا السوري ولا تزال المظاهرات تملأ الشوارع في كل المحافظات بوتيرة ما انفكت تتسع، وذلك في ما يمضي نظام القهر والاستغلال والذي يُمَارَس منذ أربعة عقود ونيف من قبل سلطة الأجهزة من النمط الشرقي، يمضي هذا النظام قدما في توسيع العنف وتصعيده من حيث هو إيديولوجية السلطة وأجهزتها وأدواتها، العنف من حيث هو سياستها الوحيدة في تعاملها مع القضايا المعيشية والمصيرية لجماهير الشعب. ما انفكت إيديولوجية العنف السياسية تشتد وتتصلَّب وتتسع على المسار نفسه، حتى لو كان هذا الرفض للغة الحوار والسياسة المجتمعية في التعامل مع قضايانا الشعبية يؤدي إلى إبادة المئات أو الألوف المؤلفة من الجماهير. فترى نظام العنف يوغل في تصعيد خطابه الأمني، فيصف تارة الثورة الشعبية بأنها “مؤامرة خارجية”، وتارة بأنها “حرب أهلية”.  إلا أن جماهيرنا الشعبية تدحض مع إشراقة كل يوم جديد من تاريخ الثورة هذا الخطاب الأمني لسلطة الأجهزة عندما تتصدى لكل صوت يعلو للمناداة بحلول من شأنها أن تمزِّق التلاحم الجماهيري، أو حينما تؤكد أيضا أن الشعب فقد ثقته بصورة نهائية بالسلطة، وأنه يريد إسقاط النظام . وجماهير الشعب أمام ما تراه على أرض المعركة من عمليات عسكرية للسطلة ضد الجماهير، سواء الصريحة منها كالمدرعات والدبابات وغيرها من الأسلحة، أم المخفية منها كاندساس الاستخبارات المسلحة بين صفوف المتظاهرين، والتي تتسلل ما بين صفوفهم من أجل تصعيد العنف بزريعة مفادها أن “السلفية” و”الإرهاب” يُطلقان النار على رجال الأمن، فإن هذه الجماهير الثائرة ضد الاستبداد تدرك أن لغة الحوار مع هكذا سلطة لا تجدي نفعا، وان الإرهاب ومصدر العنف يأتي من الأجهزة المستغلِة التي ألغت القانون، وأفسدت السلطات الثلاث، وكرَّست العنف من حيث هو الإيديولوجية السائدة التي تملي على الأجهزة التي حلت محل الدولة لغة المدفع والتعذيب في المعتقلات والقتل بلا حساب.  العنف في سورية له تاريخ، وهو إيديولوجيا بامتياز، إيديولوجية السلطة، والإيديولوجية السائدة. إنها سلطة إرهابية بامتياز.

إن جماهير الثورة في سورية التي تشتعل اليوم غضبا من  شدة ما تعانيه من عذاب وحرمان وقهر وقتل بلا حساب، مصممة على الاستمرار بالثورة حتى بلوغها أهدافها وإسقاط النظام مهما طال الزمن وبلغت التضحيات، ومهما اشتدت الأجهزة الإرهابية في استخدام العنف السلطوي من حيث هو لغتها السياسية الوحيدة للتعامل مع القضايا المعيشية والمصيرية للجماهير. إيديولوجية السلطة هي مصدر العنف الإرهابي في سورية. إيديولوجية السلطة هي العنف السائد، من القضاء والتشريعات والقوانين والمجالس والمستشفيات والحكومة التي تدير وتُنتج الفساد، إلى التربية والتعليم والثقافة والأسعار وفرص العمل، عبر الجيش وغيره من أجهزة قمعية. إيديولوجية العنف ذو مضمون وهو احتكار السلطة والثروة معا بالعنف. فإذا كانت إيديولوجية العنف وليدة الثروة والسطلة الاحتكارية، فإن العنف من حيث هو إيديولوجية طبقة الأجهزة المتحالفة مع السوق، هي التي ألغت الدولة السورية ونَصبت مكان الدولة نظام الأجهزة. إن سورية في عهد إيديولوجية العنف السائدة تفتقد للسلطة التنفيذية ما دامت مهام الحكومة تقتصر على إدارة الأعمال، افتقادها للتشريع ما دام مجلس الشعب ليس أكثر من جهاز  ينتمي أعضاؤه النواب لبني نعم نعم المنساقين كالدواب، وذلك في ما امتد الفساد إلى القضاء بعدما توارت الدولة وحلت معها سلطة الجنازير والكرباج والعصا الغليظة. حتى الجيش في غياب الدولة لم يعد له وطن. ذلك أن السلطة عندما تُلغي الدولة تضع الوطن ما بين قوسين، قوس الشك بوطنية السلطة وجيشها، وقوس العنف والفساد الذي يسعى وراء الثروة دون أي رادع نظامي.  فإذا كانت السلطة لا تعدم من أساليب كثر تمدها بأسباب البقاء، لاسيما وأن موازين القوى في الساحة الداخلية راجحة لصالحها ما بقيت العسكريتاريا متماسكة، وكانت علاوة على ذلك تستفيد على المدى المتوسط من تعويل الرأسمالية العالمية والإمبريالية الجديدة على سلطة بشار أسد  لإجراء إصلاحات تنسجم مع العولمة النيوليبرالية الجديدة، وتلبي أيضا السياسة الدولية التي تقع ما بعد سقوط حائط برلين ونهاية الحرب الباردة تحت سيطرة الإمبريالية الجديدة، فإن هذه المعطيات تشير منذ الآن إلى أن ثورة 15 آذار ستستغرق مدة طويلة تقاس بالشهور، إن لم تمتد لمدة تزيد عن السنة الواحدة، قبل أن يَسقط النظام. هذا، ما لم تَسرِق الحرب الأهلية، أو الانقلاب العسكري، أو التدخل الخارجي، من الجماهير الشعبية ثورتها.

من المرجح أن الظروف المتاحة أمام الأجهزة السلطوية لإجهاض الثورة كثيرة. حالة واحدة من هذه الظروف والشروط من شأنها أن تُسقط الثورة، وهي استجابة بشار أسد وحاشيته لمطالب الإصلاح “الديمقراطي”، والتي تأتيه كل يوم ومنذ سنوات من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، والتي تحثه على تغيير بنية النظام، وفتح حيز ولو كان ضيقا أمام التشريعات التي تكفل (حدَّاً مقبولا من الحريات السياسية)، وسن تشريعات تضمن لرأس المال أن يتحرك بحرية واسعة ضمن العولمة النيوليبرالية التي تهيمن على العالم. ضغوط قوية تأتيه من المعسكر الأوروبي والأمريكي للرأسمالية العالمية  تنذره بأن السياسة الدولية بقيادة واشنطن وبروكسيل سوف تتخلى عنه كما تخلت قبل فترة وجيزة عن زين الدين بن علي وحسني مبارك، وتُحيد به جانبا بالاعتماد على أمراء الجيش من أجل إنجاز ما عجز عن إنجازه لهم، ألا وهي الإصلاحات الليبرالية وسد الطريق أمام الثورة الشعبية، والحؤول دون أن تتمخض عن ثورة وطنية، ديمقراطية وتحررية، وذلك على غرار ما حدث في هذين البلدين قبل فترة وجيزة، وما يحدث أو لا يحدث في سورية اليوم أو غدا. لكن التحاق اليسار من جهة، والقوى الوطنية الديمقراطية من جهة ثانية، بالثورة، من شأنه أن يَحُول دون هذا الإصلاح الذي يلبي المصالح الضيقة للطبقات الحاكمة في سورية والعالم، على حساب الجماهير في سورية ومطالبها بالحياة الحرة والكريمة، ويُنقذ الثورة ومستقبل البلاد وجماهير الشعب من الإجهاض القسري، إما عن طريق انقلاب عسكري، أم من جراء الحرب الأهلية والتدخل الخارجي.

نعم، إن الوضع خطير كما يردِّد اليسار في إشارة منه إلى العدوان الخارجي والحرب الأهلية، واللتين تهدّدان سورية بالَدمار. إنه يأخذ من نظرية الأخطار المحدقة بالثورة والتي يروِّجون لها (انظر الكتابات الأخيرة للأستاذ ميشيل كيلو وبيانات اليسار السوري: تجمع اليسار الماركسي، والتجمع الوطني الديمقراطي، وهيئة إعلان دمشق،، والبعثيون المنشقون، والاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي)  زريعة لترجيح أو تبرير نظرية الحوار مع الأجهزة. يبررون امتناعهم حتى اليوم عن إعلان الثورة بالعودة إلى نظرية ثالثة تقول إن الحل سياسي. فكأن الثورة عمل غير سياسي، أخلاقي أو لا أخلاقي، فعلُ إرادة أو خيار، حل شيطاني محمَّل ببذور الشر، وكأن سياسة الحوار حبلى بأجنةٍ محمَّلة بالخير. كلا، إن الشعب لم يختر الثورة عن إرادة وتصميم، وإنما انطلقت ثورته العفوية بصورة لا تقل تلقائية عن العفوية الثورية. فالثورة هي السياسة بعينها. السياسة المادية التي تقترح الحل الوحيد لسلطة الأجهزة غير الصالحة لأي إصلاح. السياسة المادية هي نقيض الماكيافيلية ، والانتهازية، والمنطق التبريري. السياسة المادية هي الثورة بعينها.، أي التحليل الملموس للواقع الملموس”. إنها ليست نقيضا منطقيا أو عقلانيا لسياسة “الأمير” كما كان يُدرِّسها ماكيافيللي للبورجوازية الناشئة في أوروبا، وإنما العدوة لها عداءَ الواقع السوري لأجهزة تشذ عن كل إصلاح، وعداء شباب الثورة لأي حزب ينادي باسم (السياسة) بالحوار مع الأجهزة. الثورة سياسة مادية نظامها هو نفسه الواقع المعذَّب والمقهور للجماهير الثورية المضطَهَدَة. إنها الواقع بعينه عندما يتحول إلى ثورة، فيرى مستقبل التغيير بأعين لا  تراها السياسة الماكيافيلية، الليبرالية والبورجوازية التي توطد ثقافتها على أسس من تكريس الملكية والملك، ونزع السلطة أو التكريس لها، والتعويل دوما وأبدا على السلطة لمعالجة القضايا السياسية. فكأن الإصلاح مسألة قانونية. وكأن الثورة الجماهيرية بعدما فًقَدَت الجماهير الشعبية أي أمل لها بالإصلاح  عملٌ غير قانوني. الثورة على  نقيض من (سياسة) الإصلاح تختلف جوهريا عن الإصلاح من حيث هي تريد التشريع لقوانين وتشريعات جديدة من خارج السلطة، وليس من داخلها. هذا يبيِّن إلى أي مدى يَتَّبع اليسار في سورية سياسة يمينية إيديولوجية، أي سلطوية، ولا يرى حلولا لقضايا الشعب إلا عبر السلطة. إن تلاميذ “الأمير” سياسيون غير ثوريين، ما دامت سياستهم إيديولوجية، والسياسة بهذا المعنى إيديولوجيا بامتياز.

الثورة الجماهيرية في سورية هي رد الفعل التلقائي لجماهير الشعب حيال الأحوال المتردية في جميع مجالات الحياة، وانعكاس تلقائي لما تتركه هذه الأحوال المتردية لدى المُضطَهَدين المُسْتَغَلِّين من عذاب والم وقهر. حتى العنف الثوري أو التحرري ليس خيارا حرا، وإنما يأتي بعدما تَرفض السلطة المُضْطَهِدَة أن تتخلى عن السلطة أو تصلحها بأسلوب الحوار، أو ما بعد انتخابات ديمقراطية حَمَلَت أكثرية شيوعية إلى المجلس التشريعي. فالمُضطَهَدون المُعَذَّبون والمَقهورون لا يلجؤون إلى العنف عن خيار حر طالما أن السلطة المتمسِّكة بصورة مستميتة بثروتها السياسية والمالية ترفض أي تغيير جوهري لإيديولوجيتها ونمط إنتاجها. وإنما يضطرون إلى اللجوء إليه بالرغم عنهم. إن هذه العفوية الجماهيرية تَحمِل من خلال الممارسة التي انخرطت في تغيير الواقع وعيا هو بدوره تلقائي وشعبي. الشعب يريد إسقاط النظام. واحد واحد واحد الشعب السوري واحد. الشعب السوري لا يستكين للذل. غير أن التلقائية والعفوية من حيث هي الانعكاس والرد غير المنظَّم على ظروف الواقع المادي، من جوع وحرمان من السكن والتعليم والصحة والعمل، والاستبداد والقهر والإذلال، والفساد، والسطو على الملكيات العامة والخاصة، هذه العفوية لا تتحول إلى ثورة مُنَظَّمة ومحدَّدة الأهداف من تلقاء ذاتها. إذ إن الثورة تصبح واقعا منظَّما، أو أن الممارسة الثورية ترتفع إلى مستوى المعرفة المادية، وهي مرحلة تمتزج فيها الثورة والمعرفة في عجينة مادية أو تاريخية واحدة، عندما تُعلن القوى الوطنية الديمقراطية، وفي مقدمتها اليسار الثوري، عن الثورة ضد السلطة، وتضع برنامجا انتقاليا، وتنظِّم الثورة الجماهيرية في الشارع بصورة استراتيجية وتكتيكية.

نعم، إن الثورة تواجه أخطارا عديدة، ولعل أكثر ما يهدِّد بإجهاضها أن يَستغني اليسار حتى اليوم عن إعلان الثورة متمسكا بزريعة مؤداها أن الخطاب السياسي، ولغة الحوار مع السلطة يوفِّر على البلاد حالة الدمار. لذا، فإن مثقفي اليسار عثروا  بذكاء خارق على المعادلة السياسية المفقودة. معادلة ماكيافيلية مؤداها أن تتراجع الثورة عن المطالبة بإسقاط النظام، من طرف الجماهير، وأن تُقدِّم سلطة الأجهزة بعض التنازل، فتَعتمد إصلاحات تسير في منحى من الحريات والديمقراطية. يسار يريد على هذا النحو أن يعلو بالسياسة ما فوق الثورة، فإذا  به يروج لنظرية، هي سياسية عن حق بالمفهوم المهني  والليبرالي للسياسية، تنادي بإصلاح الإدارة، وتوزيع جديد للسلطات ما بين الطبقة الحاكمة، وتقاسم الثروة بصورة أوسع. إنه يتخلى بالتالي عن السياسة المادية التي ترتسم معالمها العفوية ووعيها التلقائي أمام أعين الجماهير التي تدرك أن هكذا إصلاح لن يأتي للمجتمع السوري ودولته الحديثة بالحرية والديمقراطية والعدل والمساواة والمعاصرة. السياسة المادية انتقالٌ من الثورة العفوية والوعي التلقائي لما يعكسه الواقع الحي من ردود فعل تَظهر عبر ممارسات المعذَّبين والمقهورين والمستَغَلِّين، قبل أن تنتقل بتأثير من القيادات الجماهيرية أو المعرفة بالممارسة إلى الثورة المنظَّمَة، والمعرفة المادية، وهي  مجبولة من عجينة واحدة بطينة الواقع والممارسة. سياسة الثورة تعرف أن بنى وهياكل  سلطة ليست سوى نمط شرقي لبورجوازية الأجهزة والسوق الرأسمالية، غير قابلة للإصلاح، وأن تفكيك سلطة العنف الايديولوجي والدموي من أجل  بناء مجتمع ودولة حديثة لا يتأتى لجماهير الشعب إلا بالثورة عليها . بيد أن هذا اليسار في سورية تائه في رقعة ألعاب السياسة المهنية التي تكرِّس في عهد العولمة النيوليبرالية للظلم الطبقي البورجوازي، والاضطهاد والظلم، وإبعاد الجماهير عن السياسة، ومحاربة الأحزاب والنقابات والإيديولوجيات ومؤسسات المجتمع المدني والقوميات.

ثم إن الأخطار، إذا ما تأخر اليسار عن اللحاق بالثورة، تهدِّد على المدى المتوسط هذه الثورة بالانحراف عن مسارها الوطني الديمقراطي، لتنجر بالتالي وراء الخطاب الديني، وتنساق في الوقت نفسه وراء الاستنجاد بالتدخل الإمبريالي ومؤسساته الدولية: الحلف الأطلسي والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. ذلك أن اليسار والقوى الوطنية الديمقراطية هي وحدها المرشَّحة، إن هي زجت بقواها في مسار الثورة، أن تقود جماهير الشعب إلى الحرية، والديمقراطية السياسية والاجتماعية، والمساواة، وحقوق الإنسان المجتمعي، والتحرر الوطني، وتسد الطرق أمام شتى الانحرافات التي تتربص بها.  إن ما يحمي الثورة الشعبية من الحرب الأهلية والمؤامرة الخارجية لا يستقيم ما لم يشارك اليسار ومعه القوى الوطنية والديمقراطية في هذه الثورة، وذلك في ما يزعم هؤلاء أنهم يُؤثرون الحوار السياسي مع السلطة في الوقت الراهن على الثورة، طالما أن المخاطر تهدّد ِبتدمير سورية، إما من جراء الحرب الأهلية أم من جراء العدوان الخارجي. كلا، إن هذا الكلام محض هراء سياسي يأتي من مثقفين امتهنوا السياسة بمعناها المهني اليومي والسلطوي والإيديولوجي. ما يفوت عن إدراكهم مؤداه أن إسرائيل والرأسمالية الدولية تريد من بشار أسد أن يكون زعيم الإصلاح ورمزا له في المشرق والمغرب. إنها تشجعه كل يوم على المضي قدما على مسار الإصلاح كي يُلْحِق سورية بالمعاصرة، أي العولمة كما تَفهمها النيوليبرالية، وكي ينال في نهاية المطاف من الثورة، ويَحُول دون أن تبلغ أهدافها، فإذا لم ينجح، فإنها ستقطع رأس السلطة، لتضع رأسا جديدا بلباس زاهية لامعة ومزركشة.

هذا الدرب هو نفسه درب اليسار السوري الذي ما يزال، ما بعد انقضاء ما يزيد عن خمسين يوما على بدء ثورة 15 آذار، يطالب سلطة الأجهزة بالإصلاح، وكأننا بصدد الجنتلمان الذي يَطلب من زميله اعتماد إصلاحات. مستر تشرشيل ومسيو كليمنصو شبيهان بالسيد أسد !! لقد آن الأوان كي يُعلن المجتمع السياسي عن الثورة ويلتحق قبل فوات الأوان بالجماهير الشعبية التي تثور اليوم ولن تتوقف بمشيئتها أو عن خيار حر حتى إسقاط نظام الأجهزة الأمنية بتكويناتها المجتمعية الاقتصادية (النمط الشرقي من التزاوج ما بين بورجوازية السلطة وبورجوازية السوق). إن بيان تيم (26 آذار)، وإن كان يضع يده على المشكلات ويدافع عن المطالب الشعبية، إلا أنه يفتقر إلى “التحليل الملموس للواقع الملموس”، طالما يركن إلى فرضية تقول بالحوار مع السلطة من أجل الإصلاح، ويمتنع حتى الآن عن إعلان الثورة الوطنية الديمقراطية على السلطة القمعية التي تبحث لنفسها عن مكان في السوق الرأسمالية الدولية في عهد العولمة والإمبريالية الجديدة.

إن المعطيات الميدانية للثورة تدلِّل أن سلطة الأجهزة القمعية لا تعدم من أساليب متعددة لإجهاض الثورة. والمعركة ما تزال طويلة الأمد. والتضحيات لا تُحصى. الثوري اليساري، الوطني الديمقراطي، يعَرِف أن الثورة لا تقاس بمقياس العمر والسنوات، فالثورة التي تنتهي مع بناء الدولة تقوِّض الديمقراطية التي كانت ثارت من أجلها. والديمقراطية التي تستغني عن الثورة ما بعد انتخاب أول مجلس نيابي تؤول إلى جهاز من أجهزة الدولة، وآلة قمعية مدجَّجَة بالقوانين العنيفة، الظالمة، والتي تحمي الملكية والملك، أي الطبقة الحاكمة والمسيطرة على السوق والسلطات وقوة العمل. فالثورة والديمقراطية متلازمتان في الممارسة والواقع ، وليس من باب مبدئي، منطقي وعقلاني يردح ويجول ما بين الفلسفة والإيديولوجية، كما كان يفعل أونان حسب “العهد القديم”، وهو الذي كان يفضِّل جلد عميرة على الحب الحقيقي، أي الفلسفة على التاريخ المادي، حسب ما جاء في “الإيديولوجية الألمانية” (جاء في تكوين 38 :8 [ 8 فقَالَ يَهُوذَا لأُونَانَ: «ادْخُلْ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيكَ وَتَزَوَّجْ بِهَا، وَأَقِمْ نَسْلاً لأَخِيكَ»، 9 فعَلِمَ أُونَانُ أَنَّ النَّسْلَ لاَ يَكُونُ لَهُ، فَكَانَ إِذْ دَخَلَ عَلَى امْرَأَةِ أَخِيهِ أَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى الأَرْضِ، لِكَيْ لاَ يُعْطِيَ نَسْلاً لأَخِيهِ.] ومعنى (أَفْسَدَ عَلَى الأَرْضِ) الواردة في النص أي (أَفرَغَ مَنيَّهُ على الأرضِ) كما يوضحه موقع الكلمة [9 وعَلِمَ أونانُ أنَّ النَّسلَ لا يكونُ لَه، فكانَ إذا دخل على اَمرأةِ أَخيهِ أَفرَغَ مَنيَّهُ على الأرضِ لئلاَ يَجعَلَ نسلاً لأخيهِ.]).

السياسة المادية، سياسة الثورة، ليست حالة أخرى غير الثورة المستمرة. هذا هو المقياس الذي يقاس به اليسار السوري في عهد ثورة 15 آ ذار. مدى استعداده منذ اليوم، ليس للمشاركة بثورة 15 آذار فحسب، وإنما مدى استعداده  للاستمرار بالثورة، ما بعد أن تضع ثورة الخامس عشر من آذار رحالها في محطة الديمقراطية الليبرالية، من أجل الحؤول دون أن تسرق السلطة البورجوازية العسكريتارية الثورة كما يحدث اليوم في تونس ومصر، ومن ثم إنجاز ما بعد الديمقراطية السياسية، ألا وهي الديمقراطية المجتمعية. ثوري هو من كان يجري مع الزمان الذي يتغَّير إلى ما لانهاية، فيثور في الخامس عشر من آذار، ويستمر ما بعد تأسيس الجمهورية العربية السورية المعاصرة، الجمهورية الليبرالية من النمط البورجوازي الأوروبي (كذا). فإذا ما لم يستمر اليساري الثوري في الثورة من أجل تأسيس الجمهورية العربية المتحدة بعدما يكون شارك في ثورة 15 آذار، ومن ثم الاتحاد العربي الكردي الأمازيغي، “العرب والبرير ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”، وذلك بانتظار الظروف المؤاتية لتشييد جمهورية المجالس الاشتراكية، فإن ثورة الخامس عشر من آذار ستسقط ما بعد نجاحها، كما سقط البلاشفة ثلاث مرات، ستالين وخروتشيف وغورباتشيف، أو ستُجْهَض وتُسرَق وهي في شهرها الثاني أو الثالث. أما إذا لم يلتحق اليساري، الوطني والديمقراطي، بثورة الخامس عشر من آذار على  وجه السرعة، ويستبق الأحداث،  فإن هذا الذي يَزعم أنه ثوري سيَكتشف أنه لم يكن في أي يوم من حياته ثوريا. حينئذ سوف تتراءى له الحقيقة، ألا وهي أنه سُجِنَ وعُذِّب وعاش عقدا أو اكثر من عمره متنقلا ما بين سجون الأجهزة القمعية لا لشيء إلا لأنه يتلذَّذ بتعذيب نفسه، وهو مأخوذ بالفلسفة عن الثورة، ويفضِّل الحب الموهوم على حب الجسد بلحمه وأحاسيسه. إن التاريخ المادي ذو مسار جارف وعظيم الاتساع لا يلم به وعي إلا  بعدما يصبح حدثا ماديا وموضوعيا ناضجا ما بعد مرور مدة على ظهوره.

وتَخْلُص هذه الأحوال في سورية إلى أن اليسار الذي يتبع سياسة إيديولوجية ويعوِّل على السلطة، إلى أنه انقلابي. ليس ثوريا من كان يعوِّل على السلطة لمعالجة الأوضاع في سورية وسياقها التاريخي في عهد العولمة النيوليبرالية والإمبريالية الجديدة. إنه يماطل في إعلان الثورة ضد السلطة ويتردد، يدور ويلف، يبرِّر ولا يَنتَقِد، يكسب الوقت، بانتظار الحل الإيديولوجي وليس الثوري، ما دامت الثورة هي السياسة المادية للأحوال والأوضاع والشروط في سورية، وما دام الإصلاح سلطوي، وهو نفسه خطاب السلطة. إيديولوجية العنف البورجوازي الشرقي. هذه الحالات التي تشكِّل التكوين الاقتصادي والمجتمعي لسورية وخصوصيتها، تنتهي إلى حالة من تكوينات المجتمع السياسي ألا وهي المقولة القائلة: إن اليسار السوري و(الأممي) ينتظر انقلابا عسكريا (ينقذ سورية من الدمار). إلا أن الجيش السوري، على غرار الجيشين المصري والتونسي، لن يُنقذ الثورة. فإذا ما تفكَّكَت أجهزة القمع تحت تأثير الثورة الجماهيرية، وتمخض تفككها عن انقلاب عسكري دامِ أو أبيض، فإن أمراءَه لن يلبثوا أن يسرقوا الثورة من الشعب، كما سرقها الجنرال أسد من الحزب، وكما يسرقها اليوم الجيش في كل من تونس ومصر. حينئذ، سوف يُصبح اليسار الجديد الذي وُلِد مع الثورة ونشأ في خضمِّها، بعدما دَفَن اليسار الكلاسيكي نفسه، إرهابيا بأعين سلطة سَرقت ثورة 15 آذار 2011 من جماهيرها الشعبية.

عن الثورة اليوم في سورية، ما لم تُسرَق أو تُجهَض، سينبثق  عنها في غد قريب  يسار جديد.

مطلع شهر أيار من العام 2011

خاص – صفحات سورية –

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى