صفحات المستقبل

جامعة أدونيس ومنهاجه/ روجيه عوطة

 

 

اللافتات التي رفعها الطلاب خلال ندوة علي أحمد سعيد إسبر (أدونيس) في “الجامعة الأميركية في بيروت” لا تفيد بالإعتراض على المواقف، التي يطلقها الشاعر البراميلي لمساندة النظام في سوريا، ناكراً مجزرته وصاقلاً وجهه فقط، بل تشير إلى الاحتجاج على حضوره في مكانهم، والإستياء من استقباله إحتفالاً بمرور 150 عام على تأسيس صرحهم الأكاديمي. ذلك، أن الجامعة، وكلية “العلوم والآداب” فيها على وجه الدقة، بدت كأنها منقطعة عما يقع من حولها، وعما يحصل على بعد كيلومترات من مدينتها المتعفنة. إذ إنها، وبحسبها، تستقبل إسبر كـ”شاعر” وليس كصاحب “رأي سياسي”، لا سيما أنها أعطت لندوته عنواناً نمطياً، لا يمت لإجادة الأدب وكتابته بصلة، أي “بيروت: الشعر والفضاء والأجنحة”. بالتالي، بدت الجامعة وكليتها كأنها تستضيف إسبر ما قبل “2011”، وإسبر “المكرس”، وإسبر “المثقف الكبير”، وإسبر “فتّاح” الجملة الشعرية والنثرية و”محدّثها”، وإسبر “المبارك عالمياً”، وإسبر “المفكر”، وإسبر “المسوِّق” الذي كان يظهر في برنامج “خليك بالبيت” لكي يسمي “أفضل عشر روائيين عرب”.

لم تنظر الجامعة إلى غير منهاجها التعليمي، ثبتت فيه، واختارت ضيفها، أو بالأحرى المحتفي به، على أساسه. فهو، على اعتقادها، الأكثر أهلية لإبراز مرور أكثر من قرن ونصف على إنشائها، والأكثر جدارةً بإتاحة حضورها في مناسبة تعميرها. كما لو أنها صرح يستضيف صرحاً، وبناء يستضيف بناءً، واسماً يستضيف لقباً، وأستاذاً يستضيف محوراً من محاور درسه. فإسبر هو “جامعة” تزور “جامعة”، و”تاريخ” يزور “تاريخاً”، و”مبجل” يزور “مبجلاً”. وعلى هذا النحو، بدا كأنه يقصد بيته بغاية تعظيمه وتوقيره، وبغاية التشديد على أنه يأنس به. لقد دعت الجامعة إسبر إلى عيد ميلادها، وجدت أنها لن تسن بدونه، ولن تكمل دورها بلا خطبته في قاعتها، مثلما نظمت الاجتماع معه بسكينةٍ تحيل إلى الإعداد لمفاجأة أو مبادهة، ستغير جو احتفالها، وتجعله هامّاً ولا يمكن إضاعته. إسبر هو الراعي الرسمي، الأدبي تحديداً، للجامعة، التي كشف فعل استقبالها له عن علاقتها المترنحة بالزمن، وتضلعها الملتوي في أحداثه، بحيث أنها تبتر روابطها مع الواقعات، وتحتفظ بروابطها مع الجاحدين بها، وطبعاً، بحجة مكانتهم “الإبداعية” التي توائم حظوتها الأكاديمية.

هناك تبادل بين تلك الجامعة وذلك المثقف، إذ تعطيه منبرها ويعطيها كلامه، تهبه مقامها، فيرفدها بمنزلته، تزوده بسامعين، فيحولهم جمهوراً، يرغبون في نطقه ومنطقه. وفي إثر المبادلة بين المرقبة والنفوذ، يحضر الطلاب على أشكال السكون والإصغاء، ذلك، كأنهم بلا علاقة مع ما يدور في خارج القاعة الأدونيسية منذ ست سنوات على الأقل. فإسبر في محاضرته يفترض أن “جمهوره” الطلابي لا يتصل براهنه الواسع، بل إنه على التصاق بجزء محدد من حاضره، وغالباً ما يكون الإنترنت “فضاءه”. تالياً، أي كانت العبارات التي سيلفظها إسبر، ستحظى بوقعها على أذن “الجمهور”، وستواصل، بحسب المثقف، الطيران كـ”الأجنحة” فوق رأسه، مثلما ستوافق بيروت و”شعرها”.

فعلياً، افتراض إسبر عن “جمهوره”، تشاركه فيه الجامعة إياها، بحيث بدت كأنها تتعامل مع الطلاب بوصفها مالكتهم، التي تستطيع مداهمتهم بمثقفها وتحويلهم إلى لفيف من المستمعين إليه والموافقين على موقعه. وكلما أفرطوا في أفعال السمع والقبول، يصبحون طلاباً مجتهدين. أما، المبتعدين عن هذه الأفعال، فهم، وعلى قول المثقف، “لم يقرأوا كتبه”، وهذا نقص فيهم ولا داعي للتحدث معهم قبل أن يسدّوه. وحين يقرر طالب أن يطرح سؤالاً على إسبر، تمنعه الجامعة، تاركةً الإجابة عنه مفقودة، ومشافهته للمثقف محظورة. فقد شرفها الصرح الأكاديمي بزيارته ليتكلم، ومن الأفضل ألا يعارضه أحد، لا سيما الطلاب الذين لم يبلغوا مرتبة فهمه، وطبعاً، إنتاجه، ومن الضروري أن يقتنعوا بالبقاء في منهاجهم، ثم، في معرفته، ولاحقاً، في صالته.

تتطابق “الجامعة الأميركية في بيروت” مع مثقفها في النظر إلى الطلاب على أساس كونهم جمهوراً خالصاً، وتتساوى بموقعها مع موقعه عبر إنشادهما “العالمية” بالإنطلاق من الإنقطاع عن حدوث الراهن والتستر عليه، كما يتعادل الطرفان في نشر خطابهما و”تجهيل” أي سائل فيه، ونافل القول أن التجهيل هنا هو تخوين معرفي. إسبر يلفظ كلماته كأنها من صناعته المقدسة، وعندما يقدم أحد ما على إبانة ركاكتها الدموية، يخونه ويتهمه بـ”عدم قراءة كتبه”، والجامعة تلفظ كلماتها كأنها معمل المعرفة وسوقها، وعندما يقدم أحد ما على إيضاح ضعف منتجها، وابتعادها به عن أي ضرب من ضروب الإبداع، تسعى إلى دمجه في المنهاج، وتستعين بمثقفها كنموذج صالح له.

فأن يحضر إسبر في “الجامعة الأميركية”، فهذا ليس علامة على رغبة الأكاديميا في إنتاج “أدونيسيين” آخرين فحسب، بل علامة على أنها ما عادت جامعة بقدر ما صارت جثوة. أما، منطقتها، منطقة “الحمراء”، فهي، ومنذ زمن، أضحت في خبر كان، منذ أن هزمتها الخرافة وسلمتها لأسيادها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى