صفحات العالم

هل أتاكَ حديثي عن بلاد الرافدين؟/ محمد صابر عبيد

كلّما فتحتُ كتاباً جديداً أو عتيقاً أو قيد الإنجاز في التاريخ أو في الرؤيا أو في الجنون، انفتح أمامي بلا رحمة رافدان عملاقان ثائران يتوهجان بماء آخر غير كلّ المياه، ماء يروي عطاشى الحبّ والفكر والحياة والنموّ والازدهار والحلم والرغبة والمصير، ماء يرطّب حنجرة الشعر كي يجعل وزنَه مستساغاً، ماء يبعث السلاسة في جوف الحكاية لتكون قابلةً أكثر للتصديق والتداول والإمتاع، ماء يدرجُ مثل طفل مشاكس مدلّل على بواطن السهول ومنعرجاتها وتموّجاتها من أجل أن يخصّب حيواتها بكونٍ أخضر، ماء يتسلّق برشاقة عناد الجبال وجبروتها وخيلاءها ليقنعها بأنّ ثمّة ما هو أعلى وأكثر شموخاً منها حتماً، ماء مبارك مدهون بصلوات الأساطير والأديان والخرافات، ومعجون بالطين والآجرّ والمواويل، وملمّع بأمجاد غابرة لا حدود لآهاتها وجنونها وتحديّاتها وعنفوانها، ماء ملوّن ليس كمثله ماء.

لا شكّ في أنّكم عرفتم أنني أتحدّث هنا عن العراق، عراقي وعراقكم وعراق العالم كلّه، البلد الثاني لكلّ من له بلدٌ أوّل، عراق الشمس والدم، عراق مسلّة حمورابي ورأس الحسين، عراق المتنبي وأبي تمّام والسيّاب وفائق حسن وعلي الورديّ وعبد العزيز الدوريّ وناظم الغزاليّ وعفيفة اسكندر، عراق المقامات والأبوذيات والجالغي البغداديّ، عراق السواد، من سواد النخيل إلى سواد الجوز واللوز، من سواد النفط إلى سواد التعصّب والنقمة والثأر والعباءة وعصابة الرأس، عراق الأثر والأبجدية وبابل وآشور ونينوى والبصرة وبغداد وأربائيلو والمستنصرية، عراق الكتابة والقراءة، عراق النشيد والنشيج، من سماء العين الدامعة إلى أرض القاف المزروعة بالنبوءات، وعشمي في كلّ ذلك أنكم ستتكفلون سماع صرختي المكبوتة وغنائي المخنوق ودعائي المحبوس تحت مسامات جلدي. فالتاريخ والجغرافيا والذاكرة والخيال مجموعة من الاكسسوارات الجميلة تُعيننا على أن نفهم بعضنا جيداً، وأن لا نضطر محدّثَنا ونرغمه على أن يمطّ شفتيه بكلّ ما أوتي من قوّة وعنف كي يقول ما عليه أن يقول دفعة واحدة كمن يتقيّأ. هكذا دعوني أضع حزني العراقيّ الطويييييييييييييييل أمامكم على الطاولة المستديرة وأتلذّذ بإحصاء ما يُرى بالعين المجرّدة من وشوم الطعنات وبثور الأمراض المزمنة، وقد تفنّن في رسمها ونقشها الأشقاءُ قبل الأصدقاء، والأصدقاءُ قبل الأعداء، والصالحون قبل الشياطين، والقريبون قبل البعيدين، وسرعان ما ستكتشفون أنّ ضميري المدحور يحرّضني بخلاعة قاسية على التيه والضياع والهجرة والرحيل والغربة إلى المجهول والعميق والباطنيّ، بعيداً عن قطار الطفولة والبراءة والنجوى وهو يتجوّل على الورق الملمّع الصقيل بحريّة الحكاية وقوّتها التداوليّة العالية: من الشام لبغدان ومن نجدٍ إلى يمنٍ إلى مصرَ فتطوان.

العراق الأول

الشعرُ حين يكتبه العراقيون إنّما يتحرّونَ فيه سبيلاً سحريّاً من سبل الخلاص، واللوحةُ حين يرسمونها يعتقدون أنها تميمةٌ تنقذهم من مغبّة الظلمة وإيهام الضوء، والروايةُ أو القصةُ حين يبدعونها لا يرومون فيها سوى أن تكون فضيلةً حكواتيةً إدهاشية تساعدهم في اجتياز الغابة المليئة بالثعابين بأقلّ ما يمكن من الخسائر. فالعراق دائماً غابةٌ مزدحمةٌ بألوان من الأشجار والنباتات والحيوانات الأليفة وغير الأليفة، حرّاسها ملوك، وملوكها حرّاس، لا فرق بين شجرة الرمّان وشجرة التين، ولا فرق بين الأسد والقطّة، ولا بين الليل والنهار، ولا بين مائدة عامرة ومائدة متقشّفة، ولا بين فيلّا بحديقتين ودار من غرفة واحدة، ولا بين حفل زواج ومأتم، الكلّ سواسية أمام الطبيعة وأمام الكتاب وأمام الحرف وأمام المحبة وأمام الغيب.

العراقُ عراقُ الأزل، نشأ بلا دين ولا سياسة، والسياسة سابقة على الدين، ومعناها اللغويّ الأليفُ في الأصل غير معناها الاصطلاحيّ المُعادي حين تفقدُ أصلها، إذ لم يكتشف الإنسانُ أنّ له “آخر” إلّا حين علّمته السياسة ذلك، فاندلعت في ضميره الصافي رغبة الاستحواذ الملوّث على الأشياء دون الآخر، وبدأ وجدانه في سباقه المحموم الأرعن نحو ابتكار طُرُق لتنحية الآخر وعزله ودحره، في الطريق إلى بناء مملكة الذات الحرّة المستقلّة التي لا آخرَ لها. وتعاظم هذا الشعور الأليم منذ زمن بعيد حتى صار صراع الوجود على هذه الأرض الطيّبة المسكينة هو صراع الأكثرية والأقلية، الأكثرية المهيمنة والأقلية المهيمَن عليها، الأكثرية السلطة (القاهرة) والأقلية الرعية (المقهورة). وإذا كانت الديكتاتورية في العراق قد أَسّستْ للأكثرية الحاكمة من دون أيّة هوية أخرى، فإنّ الديموقراطية التي أهلكتها وولدتْ على أنقاضها، نفضت الغبارَ الكثيفَ عن رُعب الأقليات المهمّشة، وانفتح الصراع الدامي على مصاريعه. ففي حين كانت إشكالية الأكثرية والأقلية في زمن الديكتاتورية إشكالية “حزبية” فقط، انفلتت في زمن الديموقراطية لتكون إشكالية متعددة (قومية وإثنية وطائفية ومذهبية وطبقية وعشائرية وووووو) على النحو الذي أصبح الوضوح فيها مستحيلاً.

في خضمّ هذه الزوبعة القاتمة، لا هوية لأيّ شيء، الهوية الوحيدة هي هوية السلاح والقهر والمصادرة والقمع والتربّص والتلصّص والانتقام. عليك أن تنتمي حتماً إلى ما لا تؤمن به كي تنجو. ملايين العراقيين من الشمال إلى الجنوب تعيش تحت خطّ الفقر، اللصوص هم الأسياد، ولا قيمةَ بعد ذلك لقصيدة يكتبها شاعرٌ مسحوقٌ لكي يتغنّى بالألم البشريّ المجيد. فصوت النهب والسلب والقتل على الهوية هو الغالب، ولا غالب إلّاه، وليس ثمّة أمل لكلكامش، فالأكثرية أكثريات، والأقلية أقليات، ولا أملَ لمستقبل قريب يتباهى بـ”المكوّنات” وهي تبني فسيفساء يتدفّق النور فيها من الأنحاء كلّها، من الشرق ومن الغرب، من الشمال ومن الجنوب، من السماء ومن الأرض، من الصريح ومن المسكوت عنه، من الحاضر ومن الغائب. ولا أملَ لأن تتعانق أشجار النخيل برحابة قومية مع أشجار الجوز، ولا ثمار البرتقال بتسامح وطنيّ مع سنابل القمح، ولا حبات الزيتون بمودّة إنسانية مع حبات الفستق. على أشجار النخيل أن تؤسس دولتها المستقلّة الصافية بلا آخر يزعجها ويأكل من تمرها اللذيذ بأمان وهدوء ولذّة كما يجب، مثلما على أشجار الجوز وثمار البرتقال وسنابل القمح وحبات الزيتون وحبات الفستق أن تفعل ذلك بلا مواربة أو حياء أو تحفّظ. عليها جميعاً أن تعيد أمجاد ملوك الطوائف كي نترحّم على الطيّبين (سايكس وبيكو) حيث قسّمانا على دول، ونحن نمضي قُدُماً وببسالة منقطعة النظير في شرذمة أنفسنا على دويلات.

السفير بريمر حرامي بغداد الأميركيّ السيئء الصيت، جاء إلى العراق ليرسم سياسته المستقبلية برؤية عولمية بعدما قادت أميركا جيوش العالم كي تقضي على الديكتاتورية المقيتة وتنهي عصرها إلى الأبد. بمعنى أنّ الربيع العراقيّ هو ربيع بنكهة أميركية أنقذتنا من التشريب العراقيّ والمزكوف وعرق بعشيقة، وقدمّت لنا همبرغر ماكدونالد وويسكي تشيفاز، بديلاً متحضراً وسريعاً وسهل المضغ والاحتساء، وقسّمت العراق ثلاثة أقسام زرعها بريمر في ضمير العقل السياسيّ العراقيّ وسيّرها على أرض الرافدين بقدمين من ورق هشّ ومصالح ضيّقة وجشع لا حدود له: قسم كرديّ في الشمال يعتصم بالجبال، وقسم سنّي في الوسط والغرب يتدرّع بالصحراء، وقسم شيعيّ في الجنوب يلوذ بالأهوار، وهمس بصوت خافت يسمعه الجميع بوضوح دامغ: هذا هو مستقبلكم يا أصدقائي العراقيين النشامى فطوبى لكم. لا يعلم أحدٌ كمْ تقاضى بريمر لقاء هذه الخدمة التاريخية الجليلة لأنّه هو فقط من قدّر قيمة مكافأته ودسّها في جيبه من دون أن يعلم سرّها أحد، وغادر مكللاً بالنصر المؤزّر تاركاً حبل التقسيم على غارب الطائفية والإرهاب والمفخخات والأحزمة الناسفة والكواتم. وحيث استنكر كلّ الأشراف والوطنيين من أبناء الرافدين فكرة التقسيم المريضة، ودافعوا عن عراق واحد موحّد من زاخو إلى الفاو، أثبتت السنون العشر التي مرّت على غزو العراق وتحريره من الديكتاتورية، أنّ بلاد الرافدين تسير نحو المجهول، على النحو الذي سيلجا فيه الكثير من الأشراف والوطنيين أنفسهم إلى مراجعة فكرة العراق الواحد الموحّد حين لا تنتج هذه الفكرة إلّا مزيداً من الدم والخراب كما رسمها الرسّام الماهر بريمر بالضبط.

هواة السياسة ونهّازو فرص الثراء الفاحش السريع يتسابقون سباقاً دموياً شرساّ نحو مقاعد البرلمان والحقائب الوزارية وما تيسّر من بقية المناصب النافذة، حتى وإن كلّفهم ذلك قتل مئات العراقيين ودفع ملايين الدولارات، لأنّ نفط العراق الغزير مثل دمه كفيل دفع الفاتورة وتحقيق أرباح طائلة لا شبيه لها إلّا عند تجار الحشيشة ومافياتها في أميركا اللاتينية، إذ يتحوّل بائع بسطة على أرصفة الشوارع إلى مليادير بلمح البصر، ويتحوّل أمّيٌّ بقدرة مزوّر حرّيف إلى بروفسور، ويصبح من لا يملك جهاز تلفزيون جيداً في منزله إلى صاحب قناة فضائية تتحكّم بأذواق الناس وتوجيه ثقافاتهم وتحديد مصائرهم ومصادرة إراداتهم، ويصبح من لا يعرف كيف يحدّث جاره بلباقة وتحضّر وأدب إلى محلّل سياسيّ ومنظّر استراتيجي يتوقف عليه مستقبل البلد في علاقاته الدولية وموقعه المؤثّر في المنظمات الأممية والإقليمية.

هذه الطبقة السياسية وقد ولدتها المحاصصة التي هي أسوأ من أسوأ ديكتاتورية عرفها التاريخ البشريّ، حققت لبلاد الرافدين أعظم الإنجازات، منها على سبيل المثال لا الحصر البنية التحتية المحطّمة، والتعليم المدمّر، والثقافة الزائفة، والمحسوبية والمنسوبية بأعلى درجاتها، والبطالة التي لم يشهد لها العراق مثيلاً في تاريخه كلّه، وجيوش من المعوقين بدنياً ونفسياً. فها هم العراقيون المرضى (ولا عراقيّ صحيح الجسد والروح بفضلهم الآن) ممّن لديهم ما يكفي لعلاجهم، يقصدون المشافي في بلدان شقيقة وصديقة لم تكن فيها مدرسة ابتدائية واحدة مطلع خمسينات القرن الماضي حيث خرّجت جامعة بغداد أول دفعة من طلبة كلية الطب، وها هي بلاد ما بين النهرين أقدم حضارة في التاريخ بلا ماء مثل قصيدة عصماء يكتبها شاعر لا يعرف من الشعر سوى أوزان الخليل الخجولة، مدنُهُ مغبرّةٌ ومقمّمةٌ (من القُمامة) بلا شوارع نظيفة، ولا سينمات، ولا مسارح، ولا حانات، ولا حدائق عامة، ولا زهور، ولا نساء سافرات، ولا ملاهي، ولا موسيقى، ولا عشّاق، بلا زراعة ولا صناعة، بلا حبّ ولا ألفة، بلا ذاكرة ولا حلم، بلا ليل بهيّ ولا نهار رائق، بلا شعر يغذّي الروح ولا غناء يرهف الوجدان. نصف قرن تقريباً وأبناء الرافدين مسكونون بالرعب، لا ملامح لهم، مرتابون حتى من ظلالهم، لا يشمّون سوى رائحة الدم، ولا يسمعون سوى إيقاع الموت الرتيب، يركضون كالمجانين من موت إيديولوجيّ مستور إلى موت طائفيّ معلن، ضحايا أبديّون للمغامرين من سياسيي الدين أو متديني السياسة، لا يشغلهم سوى أمل عبثيّ واحد هو البحث عن وطن في أيّ مكان على الأرض، والبحث عن هوية حتى وإن كانت سوداء.كلّ الخيارات أمام العراقيين في سنواتهم الكبيسة هذه سيئة، الإقامة في البلد سيئة، والهجرة سيئة، الاستقلالية سيئة والانتماء سيئ، المكوث في البيت سيئ والخروج إلى الشارع سيئ، العمل الحكوميّ سيئ والعمل الحرّ سيئ، الحفاظ على السرّ سيئ وإفشاؤه سيئ، الزواج سيئ والعزوبية سيئة، وكلّ شيء تقريباً سيئ في سيئ.

العراق الراهن

العراق في عصر النهب والسلب و”الفرهود”، يتعرّض لأكبر عملية سطو في التاريخ. الفرهود مصطلح عراقيّ شعبيّ قديم يعني أنّ كلّ شيء مباح حين تغيب الدولة ويختفي القانون وتصبح ممتلكات الدولة حقاً مشروعاً لمن يتاح له نهبها قبل غيره، ولحلاوة الحصول على الأموال والبضائع بهذه السهولة واليسر أُثرَ عن مبدعي “الهوسات”، ما نصّه “شحلاة الفرهود كُون يصير يومية”، أي ما أحلى النهب والسلب لو يحدث يومياً. وحين سألتْ أحدى العجائز من عصر الفرهود ابنها المثقف عن معنى الديموقراطية التي شاعت في العراق على كلّ لسان، حاول التبسّط معها وإفهامها بأنه كلّ أربع سنوات يأتي رئيس جديد للبلاد، ففرحت وهلهلت وقالت: “يعني كلّ أربع سنوات يصير فرهود؟”.

لا أحد يعلم كيف تُنفق موازنات العراق الضخمة سنوياً، حتى أنها بلغت هذه السنة، كما يقال، بحدود 150 ملياراً (مليار ينطح مليار)، ربما تكفي لبناء عشر مدن حديثة كاملة، غير أنها تتبعثر من دون أن يُبلّطَ شارع، أو يُبنى مشفى، أو تُفتتح حديقة عامة، أو تُبنى مدرسة، أو يُقام مصنع، أو تُستصلح أرض زراعية، أو يُؤسس مركز أبحاث، أو يُستتب أمن، أو يختفي الجياع من على أرصفة الطرق، أو يقلّ عدد العاطلين عن العمل من متخرجي الكليات (في الأقلّ)، أو لا تفيض بيوت المواطنين في يوم ممطر، أو لا يتشرّد مواطنون جدد لأسباب تافهة، أو… أو… أو، حيث لا تقرأ في عيون العراقيين وقد زحف إليها بياض الأسى سوى الحسرة والشكوى وتفويض أمورهم لله الواحد القهّار، بعدما أكلَ اليأس من جرف أحلامهم البسيطة ما أكل حتى جفّت أحلامهم وتصحّرت آمالهم وانعدمت تطلعاتهم، وأصبح لسان حالهم يقول “العُمر يا شامان”، راضينَ من الغنيمة بالإياب، ذلك الإياب الذي لم يعد متاحاً هو الآخر لأنه مهدّد في كل لحظة بمفخّخة هنا وعبوة هناك. قلّ الماءُ وكثُر الدمُ، ربّنا لا نسألك ردّ القضاء ولكن نسألك اللطف فيه، ولتحيا الديموقراطية الهجينة إلى أبد الآبدين.

* شاعر وأكاديمي عراقي

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى