صفحات الرأي

جدل التدين والمواطَنة


د.خالد الحروب

“البكيني والخمور ومثلها من الأمور قد تبدو للأستاذ فهمي (هويدي) ثانوية ولغيره من الأصوليين، لكن المسألة ليست فيها تماماً بل في رمزيتها: أي في أنها تمس الحريات الفردية للمواطنين وليس فقط السياح. أنا مصرية أفتخر بمصر ولن أغادرها ولو بكل المغريات، وقضيت أسابيع الثورة في ميدان التحرير، لكنني ألبس البكيني وأسبح على شواطئ بلدي، فمن له الحق أن يقول لي: لا؟ هذه مصر لنا جميعاً ويجب أن نحترم خياراتنا الفردية. أنا أحترم حق السلفي والأصولي في ممارساته الدينية وعليه احترام حقي في ممارسة ما أشاء في وطني. ومن يتأذى من رؤية البكيني عليه ألا يذهب للشواطئ” هذا تعليق موقع باسم “ناديا مصرية” ورد ضمن تعليقات عديدة على مقالة للزميل فهمي هويدي منشورة على موقع “العربية نت” مؤخراً بعنوان “ليس دفاعاً عن البكيني”.

المقالة المذكورة والتعليقات الواردة عليها ترد في نقاش أثارته تصريحات د. سعد الكتاتني الأمين العام لحزب الحرية والعدالة (الإخوان المسلمين) في مصر دعا فيها لمنع السائحين في مصر من ارتداء لباس البحر وشرب الخمور. والقلق والتخوف الذي استدعته دعوة الكتاتني عند كل من يعمل في قطاع السياحة في مصر، وهو قطاع كبير وتشكل مدخولاته جزءاً أساسيّاً من الدخل القومي بشكل عام قلق مشروع بطبيعة الحال. ولكن القلق والخطر الأكبر هو ما عبرت عنه “ناديا المصرية” ولا علاقة له بالسياح، بل بالمنطلق والفكر والرؤية الأبوية التي تصدر عنها هذه التصريحات. وقبل المضي في هذه المقالة من الإنصاف الإشارة إلى تصريحات لقيادات إخوانية أخرى سابقة على تصريحات الكتاتني كانت معتدلة إلى حد ما إزاء مسألة السياحة والحريات الفردية، وخاصة الصادرة عن الدكتور عصام العريان.

تعليق “ناديا المصرية” يطرح جملة من الحقائق والتحديات التي يجب أن تقض مضاجع القيادات الإسلامية الإخوانية على وجه التحديد خاصة منها المعتدلة نسبيّاً وافتراضيّاً عند مقارنتها بجموح التيار السلفي وجماعاته المتناسلة بشكل مذهل. والحقيقة الأولى وجوب التخلص من التعسف الأخلاقي الكبير في ربط علاقة قوية وشرطية بين التدين والوطنية، كما تم الترويج في المخيلة العامة خلال سنوات المد الإسلاموي الحركي في المنطقة. فهنا اشتغل الخطاب الديني بتنويعاته المختلفة بشكل مباشر أو غير مباشر على التشكيك العميق في وطنية وأخلاقية ومهنية وإخلاص غير المتدينين وفي تحليهم بأي من القيم الإيجابية، وحصر تلك القيم في المتدينين فقط، إلى أن وصلنا الآن في حقبة إسلاميي الثورات العربية إلى ما يقترب كثيراً من نزع الوطنية برمتها عن شرائح عريضة من العلمانيين والليبراليين وغير المتدينين. والمقصود بنزع الوطنية هنا ليس فقط التخوين والاتهام بالعمالة للغرب والخارج وسوى ذلك مما صار معزوفة دائمة في خطابات كثير من الأصوليين إزاء مخالفيهم. بل الأخطر من ذلك كله في هذا السياق، وفي مسألة نزع الوطنية، هو عدم الإقرار الضمني بأن هؤلاء مواطنون يتمتعون بكامل الحقوق والحريات الفردية التي يتمتع بها المتدينون أنفسهم.

إن السؤال والتحدي الكبير الذي يجب أن يواجهه الإسلاميون هذه الأيام يتجسد في مفهوم المساواة المطلقة بين المواطنين بغض النظر عن أي معطى آخر، ديني، طائفي، عرقي، مسلكي أو سواه. ولأن مقولة المساواة هذه تتصف بقدر واسع من العمومية والضبابية بما يهمش من التفاصيل الصعبة التي تتضمنها وبما يُسهل قبولها وإصدار التصريحات من قبل الإسلاميين هنا أو هناك بها تتقبلها وتتقبل الدولة المدنية بشكل عام، يصبح من الضروري تفكيك معنى المساواة والغوص في بعض جوانبه وسؤال الإسلاميين عن موقفهم بعد ذلك. وليس الهدف هنا تعجيز الإسلاميين أو مناكفتهم بل هو الكشف عن ضرورة عدم تناول القضايا المعقدة والمركبة بسطحية وبراءة مُدعاة.

ومن معاني وأدوار الدولة المدنية والمساواة في المواطنة التي تريد هذه السطور تسليط الضوء عليها، وظيفتها في المحافظة على حق مواطنيها في التمتع بحرياتهم الفردية والمسلكية، وليس فقط حرياتهم السياسية. ومن تلك الحريات الفردية التي من واجب الدولة حمايتها حرية الأفراد في عدم التدين. فالتدين والالتزام بأي من الطقوس شأن فردي لا دخل للدولة فيه، وشأن الدولة هو أن توفر المناخ الصحي للمتدين وغير المتدين في الحياة بشكل طبيعي ومن دون قمع. وإذا تدينت الدولة معناه أنها قد تنحاز لشريحة من الناس ضد الشريحة الأخرى وقد تحاول عبر القوانين والتشريعات الحد من حرية غير المتدينين الفردية. ولا فائدة هنا من المناكفة المشتهرة التي تحوم حول “حدود الحرية” وأنها غير مطلقة فهذا من البداهات الاجتماعية، ذلك أنه في أكثر البلدان انفتاحاً في الغرب لا يمكن لأحد أن يمارس حريته الفردية في الخروج عاريّاً في الشارع. بيد أن مطلب “ناديا المصرية” في أن تمارس حريتها في السباحة في شاطئ بلدها، والشواطئ هي المكان المتفق عليه عرفاً وقانوناً ومسلكاً للسباحة، هو مطلب مشروع ويتسق مع حقها كمواطنة، ولا يحق للدولة أيّاً كانت أن تمنعها من ممارسة هذا الحق.

ولنأخذ الجدل إلى مساحة أكثر خلافية وحساسية ولكنها تقع في قلب معنى المواطنة. يواجه العلمانيون والليبراليون اليوم في المنطقة اتهامات لا حصر لها: من التخوين والتبعية، إلى الفساد والإباحية، وصولًا إلى نزع الوطنية والمواطنة. والسؤال الذي يرتبط في خياراتنا بين الدولة الدينية والدولة المدنية هنا لا يتعلق فقط بحق الليبرالي أو العلماني أو القبطي في أن يتساوى مع المتدين في المواطنة القانونية الكاملة بل أيضاً الملحد واللاديني. فأين يموضع الإسلاميون مثلاً ملحداً مصريّاً يفيض حبّاً لمصر وقضى كل أسابيع الثورة في ميدان التحرير وغامر بحياته كلها واعتقل وعذب من أجل إسقاط النظام وتحرير مصر من الاستبداد؟ في الدولة المدنية من حق هذا المصري، كما من حق ناديا، أن يتسلم أي منصب رسمي وسياسي طالما تمتع بالكفاءة والمؤهلات التي يحتاجها ذلك المنصب. وفي الدولة الدينية كيف سيكون الموقف إن كان هذا المواطن هو الأكفأ لتسلم هذا المنصب وأفضل من منافسيه الآخرين بما فيهم بعض المتدينين؟ وهل ستتساوى ناديا في الحقوق وفي التمتع بالمواطنة مع نظيراتها المصريات المتدينات والمحجبات مثلاً؟

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى