صفحات سورية

جدل الثورة والثورة المضادة في سوريا/ حسام ميرو

 

برز جدل الثورة والثورة المضادة في سوريا مع بداية ظهور وتبلور عدد من الحقائق على الأرض، كان في مقدمتها تحول مسار المقاومة الشعبية تجاه عنف النظام، والذي راح يأخذ شكلاً منظماً، عبر تشكل الفصائل والكتائب المسلحة، والتي بدأت تتسم مع الوقت بمرجعياتها الإسلامية، من أيديولوجيا وبنية خطاب ومظاهر عامة، وهو ما ترافق أيضاً مع تحولات في استخدام النظام للعنف، وانتقاله من المرحلة الأمنية إلى المرحلة العسكرية، ومن ثم دخول القوى الإقليمية والدولية على خط الصراع الوطني.

في ظل المآلات الكارثية للصراع الوطني السوري، قد تبدو محاولة الخوض في جدل الثورة والثورة المضادة مسألة نظرية محضة، خصوصاً لفئة واسعة من المعارضين الذين أتحفونا خلال السنوات السابقة بنظرتهم العملية، منذ الدعوات الأولى التي أطلقوها من أجل تدخل “الناتو”، لحسم الصراع لمصلحتهم، وليس انتهاءً بتأييد تدخل قوى إقليمية عسكرياً في بعض مناطق البلاد، لكن من دون الخوض النظري في المسائل المتعددة للمسألة الرئيسية، أي مسألتنا السورية، فلن يكون بالإمكان تأسيس أي جهد عملي مستقبلي، من أجل إحداث اختراق لتلك الكارثية التي باتت واحدة من خلاصات مسألتنا السورية.

وإذا كانت الثورة المضادة هي انحراف عن مسار أساس، وبروز لقوى معادية لطبيعة الثورة، مستفيدة من المتغيّرات التي أفرزتها الثورة، فإن نقاش الأسباب التي أدّت عملياً إلى ذلك الانحراف، وتحوله من إمكانية قابعة في الواقع إلى إمكانية بالفعل، بل وسيطرته على مجمل المسار، ما جعل من المسار الرئيس يتحوّل إلى مجرد خلفية لمجمل المشهد، من دون أن يكون له أي قدرة على تغيير المعادلات في الواقع، فإن نقاش تلك الأسباب يصبح جهداً ضرورياً، لعملية إعادة موضعة الخيارات السياسية، للقوى التي تزعم بأنها تحمل قيم التغيير الديمقراطي، وهو النقطة المفصلية لانتفاضة السوريين، كما أطلقتها ديناميات الحراك الشعبي في منتصف آذار 2011.

إن جهداً مهماً من إعادة كتابة السردية السورية بعد 2011 يتعلق، بشكل من الأشكال، بمفهوم الثورة نفسه، فقد برزت مع “الربيع العربي” فكرة إلى سطح المشهد السجالي، مفادها أنه ما من ضرورة لوجود قوى سياسية وقيادات طليعية، مهمتها قيادة ثورات الربيع العربي، وأن “الربيع العربي” بما هو عليه من حراك شبابي وشعبي غير مؤطر، وفي ظل حالة التصحّر السياسي التي مرّت فيها البلدان العربية، ومنها سوريا، فهو ليس مطالباً بوجود قيادات، بل أن الحراك نفسه سيتمكن من بلورة قياداته، وبناء مؤسساته السياسية المطابقة لطبيعة الحراك نفسه.

هل اتسمت تلك الفكرة، ومن أيّدها، بالخفّة الفكرية والسياسية، أم أنها ذات طابع انتهازي، تعكس مصالح بعض المعارضين الأفراد، أو بعض القوى التاريخية، أم الأمران معاً؟

بالطبع، ليس هناك جواب حاسم لكل الحالات العربية، إذ ليس من معطيات متوفرة بعد في التنظير المشترك لثورات الربيع العربي، لكن في الحالة السورية يمكن العودة إلى بعض نقاط العلام، وهي نقاط فارقة في مسار الثورة السورية، وهي مفيدة لبلورة أحكام قيمة وازنة في جدل الثورة والثورة المضادة.

لقد لعبت المؤسسات السياسية التي تشكلت في الخارج دوراً مهماً في خطف الشرعية لمصلحتها، فقد كان تشكيل “المجلس الوطني” في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2011 بمثابة حسم لشرعية تمثيل الثورة لمصلحة الكيانات والأفراد المعارضين في خارج سوريا، وقد أتى تشكيل المجلس آنذاك كمحاكاة ل “المجلس الوطني” الليبي، وبالتالي بدء التعويل على القوى الإقليمية والدولية في إسقاط النظام السياسي القائم لمصلحة الممثلين في “المجلس الوطني” السوري.

إن فكرة حصر تمثيل الثورة بكيان سياسي محدد تعكس أولى الانقلابات الجدية والخطيرة التي شهدتها الثورة السورية، خصوصاً أنها أتت بناءً على حالة محاكاة، كان العنصر الخارجي حجر الزاوية فيها، وفي إطار إعادة بناء منظومتين جديدتين، الأولى للأمن والاستقرار في الشرق الأوسط، والثانية للمصالح، يكون فيها لمحور إقليمي محدد دوراً قيادياً، وبالتالي فإن القوى السياسية التاريخية التي شاركت في تشكيل “المجلس الوطني”، هي من أسست لمسار الثورة المضادة، عبر إغلاق الباب أمام نمو قيادات من داخل الحراك الشعبي من جهة، وإسقاط حق التمثيل عن جهات سياسية أخرى.

إن الدور السلبي لمسألة حصر تمثيل الثورة لا ينبغي أن يفهم منه أنه المسألة المركزية الوحيدة في تفسير نمو الثورة المضادة، وإلا فإننا نكون قد أسقطنا بذلك دور العوامل السوسيولوجية والثقافية، وهي عوامل غاية في الأهمية، ولم تنل نصيبها من التحليل، في كيفية نمو القوى المضادة للثورة، أو كيفية استغلال تلك العوامل من قبل جهات سياسية محددة، ومن ثم تأطيرها في تحولات الصراع، وتحديداً الصراع العسكري.

وبالعودة إلى الخفة السياسية والانتهازية في تصورات وبرامج قوى سياسية قادت مؤسسات “تمثيل الثورة” فإنهما (أي الخفة السياسية والانتهازية) هما نتاج نقص في تصور دور الثورة نفسها، وحصر ذلك الدور بإسقاط النظام، وكأنما الثورة هي اختزال للصراع على السلطة بين قوى سياسية، من دون النظر إلى طبيعة القوى السياسية نفسها، وإلى المرجعية الفكرية التي يمكن أن تكون متطابقة أيديولوجياً بين القوى المتصارعة نفسها، خصوصاً لجهة القناعة الراسخة بمسائل مفصلية، مثل الديمقراطية وعلمانية الدولة الحديثة والمواطنة والجندر والنظام الاجتماعي الاقتصادي.

إن واحدة من مهمة إعادة فتح السجال، وإعادة الاعتبار للتنظير، بشأن جدل الثورة والثورة المضادة، هي فتح السجال حول طبيعة سوريا المستقبل، أي ماهية الدولة وشكلها، والعقد الاجتماعي الذي يمكن أن يضمن لكل المكونات والأفراد المساواة عبر المواطنة، وطبيعة النظام الاجتماعي-الاقتصادي الواجب اعتماده بعد الخروج من الحرب، وكيفية التأسيس لحياة سياسية جديدة، ودور الداخل والخارج، في ظل ما تكرّس من هيمنة للقوى الإقليمية والدولية في الوطن السوري.

تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى