صفحات العالم

جذور (الحرب) في سوريا

 

 

لمحة:

في صباح الرابع من كانون الثاني عام 2011 وبينما كانت شمس الصباح تلقي خيوطها الذهبية على عربات الفاكهة في مدينة تونسية صغيرة تُدعى سيدي بوزيد، أشعل شابٌ تونسي النار في نفسه في تعبير يائس عن احتجاجه ضد وحشية السلطات في بلاده. مثّلَ انتحار محمد بوعزيزي رمزاً للاستياء الاجتماعي واسع النطاق ضد الأحوال المعيشية اليومية في تونس، وكان بمثابة الشرارة التي أشعلت العديد من الحرائق في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وبدأ في ذلك اليوم ما بات يُعرف اليوم باسم “الربيع العربي”. ومع أن بداياته كانت في تونس إلا أن أشد مضاعفات ونتائج هذا الزلزال الاجتماعي السياسي كان في سوريا.

الواقع أنه وبعد خمس سنوات من الصراع الذي تجاوزت فيه أعداد القتلى 400 ألف وأجبرت الحرب الملايين على الفرار، وصلت الحرب في سوريا إلى وضعية متوازنة تقلل من آمال الوصول إلى حل عسكري للنزاع (المرصد السوري لحقوق الإنسان 2016). في هذا السياق يبدو من الضروري دراسة جذور هذا الصراع من أجل تحقيق تقدم تدريجي نحو الوصول إلى حل نهائي للصراع. لقد وضعت هذه الدراسة هدفاً لها يتمثل في إجراء مسح للأسباب الرئيسية للحرب في سوريا وتقييم مساهمة كلٍّ منها في تصاعد العنف في سوريا. ومن أجل تحقيق هذا الهدف فإننا سنعمَد في هذه الدراسة إلى استخدام نموذج “التسلط الاقتصادي والتسلط السياسي” الذي وضعه كولير عام (2000) مع التركيز بشكل أساسي على أوجه عدم المساواة الأفقية ونظريات العقد الاجتماعي التي حددها ستيوارت عام (2010).

سنخصص الفصل الأول لبحث السياق والتعريفات التي تُميز هذا الصراع، بينما سنتناول في الفصل الثاني أهم المسببات الرئيسية للصراع. وبالتالي فإننا ندعو إلى فهمٍ لأسباب الصراعات المسلحة يُركز على التأثير المتبادل للتسلط السياسي والتسلط الاقتصادي وعلى ذلك الضغط الذي لا مفر منه لتوظيف هذه العوامل في سياق وإطار محدد.

العوامل الأساسية الثلاث للحرب في سوريا

إن أي محاولة لفحص جذور الصراعات المسلحة يجب أن تتحلى بالدقة والتعقل. في الواقع لم يَقل أي من المنظرين السياسيين الذين تطرقوا لهذا الموضوع إن هناك نموذجاً شاملاً بيقين تنبؤي كافٍ يمكن تطبيقه بحيث يشمل جميع السيناريوهات. (سامبانيس و كولير 2005). ومن ثم فإن طموح هذه الدراسة هو ليس الفهم العام العالمي والاتجاه نحو التنميط وإنما محاولة فهم مجموعة من الأسباب المحتملة التي يبدو أنها عززت بعضها بعضاً في هذا السياق تحديداً.

لذلك يبدو من الضروري كخطوة أولى أن نخوض غمار التصنيف ونشكل الإطار ونضع التعاريف التي يمليها هذا الصراع. وهكذا ومن خلال محاولة فهم وتسمية هذه الحرب ومكوناتها، سنكون أكثرَ قدرةً على تحديد أسبابها الكامنة. وكنتيجة لذلك لن يكون الغرض من الفصل الأول تقديم جدول زمني سردي للأحداث وإنما تسليط الضوء على الطبقات الثلاث التي شكلت وأسست للحرب في سوريا.

1.1 الحرب الأهلية

إن الطبقة الأولى للصراع في سوريا هي بلا شك الصراع الداخلي الذي اشتعل في البلاد منذ اندلاع “الربيع العربي”. في الواقع وبعد عدة عقود من الاستقرار النسبي الناجم عن استبداد حزب البعث دخلت البلاد في حالة من الهياج السياسي بعد أن وصلت موجة المد الثورية إلى دمشق في كانون الثاني عام 2011 (رودجرز، هريتن، أوفر، أسار 2016). وفي ذلك الوقت تعرضت سلطة الرئيس السوري بشار الأسد إلى الاهتزاز وهوجمت من قبل العديد من الجهات الفاعلة الحريصة على الاستفادة من سلطته المتعثرة. في أواخر هذا العام وبعد أشهر من الانتفاضة التي تعرضت للقمع الوحشي أصبح من الواضح أكثر من أي وقت مضى أن سوريا كانت تُحلَّل سياسياً واجتماعياً.

استفحل الاستقطاب في نهاية المطاف وغدا الصراع يتطابق تماماً مع التعريف المقبول على نطاق واسع للحرب الأهلية حيث تندلع الأعمال العدائية داخل “حدود كيان سيادي معترف به بين أطراف تخضع لسلطة مشتركة” (كاليفاس 2006 ص 7). عملياً في الجانب الأول احتفظت القوات الموالية للرئيس السوري وهم من أصل علوي (فرع من المسلمين الشيعة) بالسيطرة على دمشق ومعظم المدن الكبرى والسهول الساحلية بينما على الجانب الآخر فهناك شبكة معقدة من الجماعات المسلحة المتمردة تنتشر في المناطق الشمالية وأغلبها من السُّنة وكلها تطمح إلى إسقاط النظام على الرغم من الاختلاف الكبير، فيما بينها في الأيديولوجية والمقاربة السياسية (رودجرز 2016).

وعلاوة على ذلك فإن حجم الاضطرابات والازدواجية الهائلة حول مفهوم “احتكار العنف” يميز هذا الصراع بوضوح عن أي شكل بسيط من أشكال الثورات أو حركات التمرد. (ويبر 2013). وبالتالي وعلى الرغم من قلة وضوح الملامح الأساسية لكلا الجانبين إلا أن الانقسام المتزايد لهذه الفصائل ساهم مباشرةً في تكاثر الحركات السلطوية وبالتالي عدم الاستقرار السياسي، وأكد في الوقت نفسه وصم النزاع بالحرب الأهلية في سوريا. في الأساس تشكل هذه الصراعات الداخلية الركائز الأساسية التي تنبني عليها الحرب الأهلية في سوريا.

2.1 الحرب الباردة

أما الطبقة الثانية فهي تأجيج الأطراف الخارجية للصراع السوري عن طريق استخدامها لسوريا كساحة حرب بالوكالة. في الواقع لقد تحالف العديد من الدول مع أطرافٍ من الصراع السوري مما تسبب في تهجين صفة الحرب ووضعها في منطقة رمادية بين حرب أهلية وصراع دولي. من جهة عرضت الولايات المتحدة والعديد من الدول الغربية الأخرى دعمها لمتمردي المعارضة (المجلس الوطني السوري، الائتلاف الوطني السوري) وللقوات الكردية (تشومسكي وإرليش 2016). على مر السنين اتخذت هذه المساعدات شكل مساعدات مالية وتسليم أسلحة ولكن كانت في جوهرها مساعدات سياسية. وقامت هذه القوى الغربية لاحقاً بحملات متفرقة من الضربات الجوية ولكن هذه التدخلات لم تسمح للمجلس الوطني السوري بفرض نفسه كبديل حقيقي لنظام الأسد (رودجرز وآخرون 2016).

من ناحية أخرى شكلت روسيا والصين ائتلافاً مترابطاً جداً ومؤيداً للنظام السوري ولا يزال هذا الائتلاف حتى اليوم بمثابة الضامن للشرعية الدولية لنظام الأسد. في البداية كان الدعم الروسي الصيني لنظام الأسد دعماً دبلوماسياً فقط إذ استخدمت كلتا الدولتين حق النقض الفيتو في مجلس الأمن الدولي ضد أي مشروع قرار يهدد نظام الأسد (تشومسكي وإرليش 2016). إلا أن مسألة الدعم تطورت في ظل تفاقم الصراع حيث بدأت الدولتان بتقديم الدعم العسكري والمالي واللوجستي لقوات الأسد حتى وصل الأمر إلى تدخل روسيا المباشر وشنّها لضربات جوية مكثفة ضد مناطق سيطرة الثوار. إن هذا التدخل الخارجي يدعو إلى تبني فكرة أن القوى الخارجية تستغل الحرب في سوريا كأداة سياسية لفرض أجنداتها الاستراتيجية وتحقيق المكاسب الدبلوماسية مستخدمةً بذلك الأطراف المتصارعة المحلية من أجل تحسين موقفها العالمي تجاه أعدائها وخصومها من الدول الأخرى. وهكذا وبالإضافة إلى ويلات الحرب الأهلية في سوريا فإن الصراع فيها يتطور تدريجياً نحو شكل جديد من أشكال الحرب الباردة.

3.3 الصراع الديني

أما الطبقة الثالثة فهي ذاك الخليط من الأعمال العدائية الدينية المتجذرة في أعماق التاريخ والتي تشكل مصدراً حقيقياً للنزاع العقائدي وتساهم كثيراً في تعقيد المشهد السياسي. في الواقع نجد في سوريا تنوعاً كبيراً بالنسبة للدين فهي موطن لمختلف الطوائف الإسلامية (السنة والشيعة والعلويين والصوفية وغيرهم) من جهة وكذلك الدروز واليزيديين والمسيحيين (وزارة الخارجية الأمريكية 2015). تعايشت هذه الانتماءات الدينية المختلفة لقرون في هذه المنطقة وتناوبت الأوضاع بين السلام والعداء، ويبدو أنها مالت مؤخراً إلى الانعزالية رداً على هذه العداوات التاريخية (مقدسي وسيلفرشتاين 2006).

وبالتوازي مع الطبيعة العدائية للطوائف داخل سوريا تدخلت أيضاً مجموعات واسعة من الجهات الفاعلة الإقليمية، مدفوعة بمصالح سياسية ودينية تدخلت في الصراع لدعم أتباعها. فمن ناحيةٍ عَرَضَ أمراء دول الخليج على الفصائل السنية المساعدة المالية والسلاح، وذلك في محاولتهم لمواجهة نفوذ العدو التاريخي لهم المتمثل في إيران. ومن بين هذه الدول السنية ساهمت السعودية وقطر والكويت بشكل لا يمكن إنكاره في استمرار الجماعات المعارضة المسلحة، وهناك اتهامات لبعض هذه الجهات بدعم مجموعات متطرفة أيضاً مثل النصرة وداعش وأحرار الشام (رودجرز وآخرون 2016)

وعلى الجانب الآخر توجد شبكة كبيرة من الجماعات الشيعية المتورطة في الصراع لصالح دعم بقاء الرئيس بشار الأسد الذي يُعتبر بالنسبة لهم شريكاً نادراً وحاسماً في هذه المنطقة ذات الأغلبية السنية. تُمثل إيران بدعمها للنظام السوري الحليف الشيعي الأول برفقة حزب الله اللبناني وعدد من الميليشيات العراقية التي تُقاتل جميعها إلى جانب النظام السوري في سبيل دعم المصالح الشيعية في المنطقة. وبالتالي فإن الحرب في سوريا تشكل مظهراً جديداً من مظاهر الصراع السني الشيعي وهذا التنافس يضيف بلا شك طبقة أخرى من التعقيد لهذا الصراع المعقد أصلاً.

في نهاية المطاف فإن الحرب التي تجتاح سوريا منذ عام 2011 هي شكل مختلط من الصراع الذي يضع تداعيات مدنية وسياسية ودينية، ويمثل شبكة معقدة من الروابط المحلية والإقليمية والدولية. وهكذا فإن العوامل الثلاث المبينة أعلاه سوف تمثل الأساس التفسيري الذي تقوم عليه هذه الدراسة، وسوف تسمح لنا بالتالي بالكشف عن الأسباب الأساسية للحرب في سوريا ووضعها في سياقها فيما يلي من فصول الدراسة.

التأثير التكاملي للتسلط الاقتصادي والسياسي

وضع كوليير (2000) أثناء محاولته فهم الأسباب الأساسية التي تؤدي للحرب مجموعة من عوامل الخطر التي يعتقد أنها تزيد من احتمالية نشوب الحرب. من ناحيةٍ تنص فكرة التسلط الاقتصادي على أن الجهات الفاعلة في حالة صراع وشيك ستعمد إلى إجراء تحليل للتكاليف والفوائد الأمر الذي يؤدي بها إلى الاعتقاد أن الأرباح المحتملة للمواجهة هي أكبر من عواقبها (كولير وهيلفر 2004).

في هذا السياق يدّعي أصحاب فكرة التسلط الاقتصادي أن الجشع والإغراءات الاقتصادية وتمثيل المواجهة على أنها استثمار عقلاني للوصول إلى النتيجة المرجوة هو أقوى العوامل المحفزة للصراع. لذلك فإن الأطراف الفاعلة في هذا الصراع يُنظر لها على أنها عناصر عقلانية مدفوعة بمصالح تحقيق الذات وبالتالي مالياً واقتصادياً، “من المعتقد أن الدوافع والفرص (السعي وراء الغنائم الاقتصادية) أكثر ارتباطاً ببداية الصراع من الاختلافات العرقية أو الاجتماعية أو السياسية (السعي وراء تحقيق العدالة)” (بالانتين وشيرمان 2003 ص 58).

من جهة أخرى يرى أتباع نظرية التسلط السياسي أن الصراعات تشتعل بدايةً بيد المجموعات المتضررة والتي تعاني من الكراهية والظلم السياسي و”المظالم الاجتماعية من انعدام الديمقراطية والانقسامات العرقية والدينية داخل المجتمع” (باتل 2012 ص 7). لذلك يُعتقد أن الجهات الفاعلة في إطار النزاع تعمل نيابة عن شرائح واسعة من المجتمع استجابةً للتمييز الممارس ضدها، وعادة ما تتركّز جهودها على فكرة الهوية وعضوية الجماعة. لذلك تفترض نظرية التسلط السياسي أن سلسلة الاستياء الداخلية الكامنة تنجم في الأساس عن هياكل مجتمعية يتزايد فيها النفور داخل بلد ما بالتزامن مع تعزيز حوافزها للمواجهة (بالانتين وشيرمان 2003).

ومع ذلك وفي حين أن كولير وهوفلر صنفا التسلط الاقتصادي والسياسي على أنهما فئتان مستقلتان مكتفيتان ذاتياً إلا أنه يمكننا القول إنهما يشكلان عناصر متكاملة ومترابطة لتفسير الصراعات وإن “تصوير المشهد من حيث أن التسلط السياسي مقابل التسلط الاقتصادي فرض انقساماً لا داعي له على ما هو في الواقع مجموعة معقدة ومتنوعة للغاية من هياكل الحوافز والفرص التي تختلف باختلاف الزمان والمكان” (بالانتين وشيرمان 2003 ص 6).

وفي هذا السياق يبدو من الضروري دراسة عوامل الخطر التي بحثها كلير وهوفلر والتي تنطبق على الحرب في سوريا والتي أدت مفاعيلها إلى اشتعال الصراع هناك. بدايةً في فئة التسلط الاقتصادي كان لمسألة الصادرات السلعية الأولية تأثير كبير حيث تعتمد البلاد اعتماداً كبيراً على احتياطياتها من النفط والغاز والمعادن (CIA 2016). فقد استحوذ هذا القطاع على مدى العقدين الماضيين على أكثر من 25% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، هذه النسبة التي تزيد من هشاشة الوضع في سوريا بحسب نموذج كولير- هوفلر (فيرون 2005، CIA 2016). من الواضح أن وفرة مثل هذه الموارد مجلبةٌ للمطامع وغالباً ما يؤدي الأمر لانتشار وزيادة التنازع، ومن المرجح أن يكون عاملاً لعدم الاستقرار بدلاً من أن يكون ضامناً للازدهار وهذه مفارقة معروفة عموماً باسم “لعنة الموارد” (روسس 2015).

– الموارد: في حالة سوريا استفاد العديد من الجهات الفاعلة في الصراع من هذه المصادر مثل داعش وفصائل المعارضة المسلحة بالإضافة إلى القوات الحكومية، حيث استخدمت جميعها هذه الموارد كمصادر تمويل أساسية من جهة وورقة ضغط سياسي قوية من جهة أخرى. إن توافر هذه السلع الأولية وإمكانية فرض الضرائب على استخراجها وبيعها ونقلها بالتزامن مع ضعف النظام السوري قد خلق بلا شك الكثير من الفرص للخصوم، مما سمح لهم بترجمة عداواتهم إلى أفعال (باتل 2012). وبهذا المعنى يمكن تفسير العلاقة بين الموارد الطبيعية السورية واندلاع الحرب على الشكل التالي “إن فرص الابتزاز التي تتيحها هذه الثروات تجعل التمرد والثورة ممكنة بل وجذابة أيضاً” (كولير وهوفلر، 2004 ص 588).

– ضعف النمو الاقتصادي: علاوة على ذلك نجد في نموذج كولير – هوفلر أن ضعف النمو الاقتصادي وانخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي يُعتبران من العوامل المثيرة للصراعات. إن عوامل الخطر هذه موجودة في كل زاوية من السيناريو السوري، حيث عانت البلاد من معدلات نمو منخفضة في فترة ما قبل الربيع العربي، ثم دخلت الآن في دوامة متوالية من التراجع الاقتصادي. وصلت سوريا في عام 2015 إلى مرحلة خطيرة من الانهيار وانكمش اقتصادها بما يُقارب 10% (CIA 2016). وأصبحت البلاد اليوم تُعد واحدة من أفقر دول الشرق الأوسط من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي (5100$ عام 2014) هذا الوضع أدى بـ 82% من السكان في سوريا إلى النزول تحت خط الفقر (CIA 2016).

– الهشاشة الاقتصادية: تمثل هذه الهشاشة الاقتصادية حجة قوية لصالح فكرة التسلط الاقتصادي طالما أنه ليس لدى السكان في البلدان منخفضة الدخل ما يخسرونه، وبالتالي فهم يشكلون أرضاً خصبة للتجنيد لصالح الجماعات المسلحة (كولير هوفلر 2004). غالباً ما يزيد هذا الضَعف الاقتصادي من جاذبية تلك السلع والموارد الأساسية حيث أن نهب هذه الثروات يمكن أن يشكل سبيلاً سريعاً للتخفيف من حالة البؤس التي ترافق انعدام الأمن الذي تجلبه الحرب في مثل هذه الحالات. ومن المؤكد أن هذه الحوافز ستفقد جاذبيتها في ظل ظروف اقتصادية أفضل.

– البطالة: وفي نقطة أخرى يبدو أن بطالة الشباب ساهمت في زيادة إشعال الصراع إلى حد كبير. في الواقع إن نسبة السوريين العاطلين عن العمل الذين تتراوح أعمارهم بين 15 إلى 24 سنة بقيت أعلى من 20% منذ عام 1990 وارتفعت إلى 30% منذ اندلاع الأزمة (البنك الدولي 2016). لقد عززت ندرة فرص التشغيل دون شك من شعور الإحباط والفزع لدى هؤلاء الشباب، ومن الواضح أن الأطراف المتحاربة في هذا الصراع قد استفادت من هذه الطبقة من الشباب الذين يشعرون بخيبة الأمل، وأصبح الشباب يمثلون بالنسبة لهم “المرشحين الرئيسيين للتجنيد” (باتل 2012). مما لا شك فيه أن بطالة الشباب قد ولدت قدراً كبيراً من الحسد في نفوس هؤلاء الشباب العاطلين عن العمل الذين وجدوا في الانضمام إلى الجماعات المسلحة أو الميليشيات الإسلامية وسيلة تمكنهم من استرجاع حصتهم وتحصيل حقهم، وفي الوقت نفسه وفرت لهم شعوراً مهماً بتحقيق هدفٍ في حيواتهم (بالانتين وشيرمان 2003). ومن منظور أوسع نرى أن ضيق الأفق الاقتصادي الاجتماعي قد عزز من الانطباع بانسداد الأفق الأمر الذي دفع العديد من الناس إلى الانخراط في النزاع كملجأ أخير في سبيل التغلب على الجمود الراهن.

– المصالح الاقتصادية والسياسية الخارجية: بالإضافة إلى ما سبق وعلى الرغم من تهميش كولير وفولر لدور المصالح الاقتصادية والسياسية للجهات الخارجية إلا أنه عامل مهم ويجب أخذه في الاعتبار عند دراسة الصراع في سوريا. يبدو أن هذا العامل يكتسب أهمية خاصة جداً حيث تُعتبر سوريا أحد أهم زبائن السلاح الروسي إذ إنها اشترت من روسيا 78% من مجمل صفقات السلاح في الفترة ما بين عامي 2007 و 2012 (بورشيفسكايا 2013 ص 2). ولدى الحكومة الروسية أيضاً حوافز اقتصادية وسياسية واستراتيجية قوية من أجل حماية موطئ قدمها العسكري الأخير في البحر المتوسط وهو القاعدة الروسية في مدينة طرطوس على الساحل الغربي لسوريا (رودجرز وآخرون 2016). وعلى الجانب الآخر يبدو أن الدعم الغربي للفصائل المسلحة كان مدفوعاً برغبة قوية من أجل موازنة النفوذ الروسي والصيني في المنطقة. في الواقع إن مشاركة الولايات المتحدة والدول الأوروبية في الحرب في سوريا هي أبعد ما تكون عن النزاهة بل هي في الأصل من أجل حماية المصالح الجيوستراتيجية والسياسية المهمة. وبالتالي لم تعد الحرب في سوريا هي مجرد صراع على نفوذ إقليمي بل أصبحت تمثل فرصة مهمة لجميع الأطراف الخارجية المعنية من أجل تأكيد نفوذها على الساحة الدولية واستعراض قدرتها على القيادة والتأثير في خضم فوضى الشرق الأوسط. لذلك من الواضح أن التدخلات الخارجية في الصراع السوري كانت مدفوعة بدوافع اغتنام الفرص والتسلط الاقتصادي كما وضحها كولير وهوفلر (أي ذات طبيعة اقتصادية) لكنها كانت مدفوعة أيضاً بأطماع سياسية واضحة وهي الفكرة التي تحاشاها كولير وهوفلر في دراستهما. في نهاية المطاف يبدو أن جميع العوامل المتصلة بالتسلط المبينة أعلاه قد جعلت من “القيود المفروضة ضد الثورة والتمرد ضعيفة بما فيه الكفاية الأمر الذي أدى إلى تصاعد العنف ووصوله إلى مستوى الحرب الأهلية” طبعاً بإضافة طبقات أُخرى من الصلابة والتعقيد إلى هذا الصراع المعقد أصلاً (كولير و هوفلر 2004).

وعلى الجانب الآخر يبدو أن العديد من العوامل المتصلة بالتسلط السياسي التي اقترحها كولير وهوفلر موجودة في الحالة السورية. ومن بين هذه العوامل يبرز لنا تلك الكراهية العرقية – الدينية العميقة داخل البلد والتي لا يمكن تجاهلها. في الواقع إن أطراف الصراع داخل الحرب في سوريا لا ينقسمون على أساس سياسيّ فحسب بل إنهم يقفون أيضاً على خطوط دينية وعرقية متعددة، حيث يمكننا أن نذكر مثلاً الانقسام الكردي العربي اليزيدي من حيث العرقيات والانقسام بين السنة والشيعة والعلويين على الصعيد الديني (رودجرز وآخرون 2016).

إن هذه الانقسامات العرقية – الدينية التي تبلورها ذكريات المواجهة الصادمة القادمة من أعماق التاريخ تبدو وكأنها تستند إلى أسس “قوية” حيث تبدو متصلة بالهوية التاريخية ومستمرة في شحذ العداء بين هؤلاء الأطراف على مدى القرون الأخيرة (كابلان 1994). وحتى لو افترضنا أن هذه العداوات هي في الحقيقة من عمل الأطراف الخارجية المستفيدة من هذا الانقسام فإن مراجعة سريعة للأحداث التاريخية من شأنها أن تكشف عن هذه الانقسامات والتوترات العرقية – الدينية في سوريا.

إن أكثر الأمثلة وضوحاً عن الكراهية بين الجماعات الدينية في سوريا هي تلك العداوة بين السنة والشيعة. حيث يتجذر هذا الصراع بين الطائفتين لقرون من الزمان وفي المشهد السياسي الحديث نجد أن الأقلية الشيعية (حوالي 10% من السكان) قد تصدرت على حساب الأغلبية السنية (أكثر من 70% من السكان). في الواقع لقد وقعت سوريا منذ انقلاب عام 1963 الذي نفذه حزب البعث تحت حكم عائلة الأسد من الطائفة الشيعية، التي نشرت تدريجياً ثقافة تفضيلية لصالح أتباعها (كريتواز 2016). ومن هنا وبما أن الامتيازات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية غدت بيد الأقلية وهذا التفاوت بين السلطة التي تملكها الأقلية مقارنة بتمثيلها السكاني كل هذا أدى إلى تولد مشاعر الظلم تدريجياً في نفوس السوريين المهمشين.

يبدو أن التمييز السياسي والاقتصادي الذي خضعت له الأغلبية السنية في سوريا خلال العقود الأخيرة يتطابق تماماً مع مبادئ نظرية عدم المساواة الأفقية التي حددتها فرانسيس ستيوارت (2010). في واقع الأمر لقد شرحت ستيوارت في تحليلها لأسباب النزاع نوعين من عدم المساواة وهي الأفقية والرأسية. “حيث تعني بعدم المساواة الأفقية هي تلك الممارسات التي تؤدي إلى تهميش فئة اجتماعية معينة مقارنة مع الآخرين وتعني بعدم المساواة الرأسية هي تلك الفوارق التي تُقاس بين الأفراد على مستوى المجتمع ككل” (فان دورن 2013 ص2). بعد تعريفها لهذين النوعين تؤكد ستيوارت على أن عدم المساواة الأفقية هي مصدر أساسي لإثارة الصراع، وأنه عندما يتداخل التهميش العرقي أو الديني أو الثقافي مع التمييز الاقتصادي والسياسي، فمن المرجح جداً أن تؤدي عدم المساواة تلك إلى إثارة مشاعر الظلم الجوهرية التي يمكن أن ينتج عنها مواجهات عنيفة (ستيوارت 2010).

في هذا الصدد من الواضح أن بذور الصراع كانت موجودة في كل مكان في سوريا على مدى العقود الماضية. في الواقع وبالإضافة إلى التهميش السياسي للأغلبية السنية فإن سوريا أيضاً هي واحدة من أكثر البلدان تمايزاً في توزيع الدخل في الشرق الأوسط (مؤشر GINI)، كما أن هناك اختلافاً كبيراً بين مناطقها من حيث توفير البنى التحتية والخدمات العامة كما أن تركّز الفرص الاقتصادية في المناطق الحضرية يُعيق بشدة عملية تنمية المناطق الريفية في سوريا (أشي 2011). هذه الاعتبارات مثيرة للقلق بشكل خاص في المناطق الشمالية والجنوبية من سوريا حيث تتردى البنية التحتية وتندر فرص الازدهار الاقتصادي الاجتماعي بشكل كبير جداً (أبو إسماعيل، عبد القادر، الليثي، 2011).

لقد انخرطت الجماعات المهمشة من الشعب السوري في هذا الصراع في محاولة منها لتصحيح أوجه التفاوت وعدم المساواة التي تعيشها، وفي نفس الوقت وضعت الجماعات التي تتمتع بالامتيازات في سوريا جلّ جهدها في سبيل حماية هذه الامتيازات باستخدام نفس الأساليب (باتل 2012). إن هذا التشابك الواضح بين هذه الوحدات “المعرفة ثقافياً” من جهة وعدم حصول كلّ منها على التمثيل المناسب الاقتصادي والسياسي كان بالتأكيد أحد أهم أوجه التسلط السياسي في سوريا، وقد شكل أحد أهم الأسباب في اندلاع العنف ونشوب الحرب (ستيوارت 2010).

بالإضافة إلى ذلك يبدو أن رؤية ستيوارت بشأن العقد الاجتماعي متفقة تماماً مع المثال السوري (ستيوارت 2013). ترى ستيوارت – والتي تجد أعمالها جذوراً لها في أفكار فلاسفة التنوير – أن العقد الاجتماعي هو ذلك الاتفاق الضمني الذي يربط بين مواطني أمة ما والذين يضطرون للتخلي عن بعض حقوقهم وحرياتهم لصالح حكومتهم والتي تكون بدورها ملتزمة بتوفير “الخدمات (كالأمن والصحة والتعليم والصرف الصحي…) ومسؤولة عن الظروف الاقتصادية (مثل البطالة)” (باتل 2012 ص 12). وعند تطبيق هذا المفهوم على الصراعات المسلحة نجد أن تدهور هذه الخدمات الأساسية والظروف الاقتصادية البائسة تعزز الانطباع لدى الشعب بانفساخ العقد الاجتماعي وتحرض بالتالي على تمرد الشعب على سلطة الدولة.

إن تفريغ العقد الاجتماعي من مضمونه كان واضحاً في سوريا على مدى السنوات القليلة الماضية، لقد فشلت الحكومة في توفير الحد الأدنى من المستوى المعيشي لنسبة كبيرة من المواطنين، وفي ظل هذه الظروف، يبدو أن انخفاض أهمية العقد الاجتماعي السوري قد قوض بشدة شرعية النظام، وأدى في نفس الوقت إلى تشكيل مشهد سياسي متقلب وغير مستقر، مما سهل إلى حد كبير من تنامي وتعاظم الصراع. وبالتالي فإن كل هذه المشاهد من التسلط السياسي والتي تفاقمت وتضخمت بفعل مشاهد التسلط الاقتصادي المشار إليها سابقاً، قد ساهمت معاً في تعزيز “الميل” في سوريا نحو الصراع ومهدت الطريق لاشتعال الحرب وذلك بعبثها في طبقات النسيج الاجتماعي للبلد (كولير وهوفلر 2004).

خاتمة

من الواضح أننا في هذا البحث اخترنا لغرض الإيجاز اختصار عوامل أخرى قد تكون حاسمة في دراسة جذور الحرب في سوريا مثل انتشار الصراعات في أرجاء هذه المنطقة والتأهب للمواجهة الناجم عن التاريخ الطويل من النزاع وأثر تغير المناخ مثل حالات الجفاف (كولير وهوفلر 2004). ومع ذلك فقد سعينا في هذا التحليل إلى التأكيد على الطريقة التي يتفاعل بها التسلط الاقتصادي مع التسلط الاجتماعي ويسببان بذلك معاً اندلاع وتفاقم الحرب، مع القول بأنه من المثمر إلى حد كبير تقييم الكيفية التي عزز بها كلُّ نوع من التسلط الآخرَ بدلاً من السعي إلى بناء هيكلة ما تجعل أحدهما مقدماً على الآخر (بيردال 2005). وفي هذا السياق يبدو واضحاً أن التفسير المجتزأ الذي وضعه كولير وهوفلر يمثل تحليلاً غير دقيق يجب الخروج منه.

من الواضح أن مظاهر التسلط السياسي مثل المظالم الاجتماعية والسياسية والثقافية العميقة داخل البلد بالإضافة إلى مظاهر التسلط الاقتصادي مثل الوجود المغري للمواد الأولية (النفط والغاز ..) وضعف النمو الاقتصادي وانخفاض حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي وتزايد عدد الشباب وانتشار البطالة قد انتشرت وتفاقمت إلى حد كبير وعززت بعضها بعضاً على مر السنين (بالنتين ونيتششك 2003). ومع تصاعد وتيرة الحرب انزلقت عوامل التسلط السياسي والاقتصادي إلى دوامة من التعزيز المتبادل وساهمت معاً في زيادة تعقيد وصلابة الصراع. وبمرور الوقت خلقت هذه الاتجاهات التكافلية المتبادلة بين الطرفين مشهداً سياسياً فريداً حيث “ازداد الميل نحو الثورة وأصبح الأمر مطمعاً اقتصادياً (تسلطاً اقتصادياً) بينما غدت القيود المفروضة على الثورة ضعيفة بسبب (التسلط السياسي)” (كولير وهوفلر 2004 ص 5 ).بوجود هيكل اجتماعي متآكل بسبب العديد من ممارسات التمييز وعدم المساواة الأفقية ومع اهتراء العقد الاجتماعي في البلد فقد أصبحت هذه العوامل متداخلة إلى حد لم يعد بالإمكان فصلها، مما أدى إلى إزالة جميع العوائق التي تقف في طريق انزلاق سوريا نحو الحرب الأهلية.

لذلك يبدو أن دراسة التفاعلات بين هذه العوامل المختلفة، والتأثيرات المتبادلة بين التسلط الاقتصادي والاجتماعي هو طريقة مجدية لتقييم الحرب في سوريا، وعلى نحو أوسع، في جميع حالات الصراع المسلحة (كرامر 2005). في النهاية نجد من الضروري أن نضع في اعتبارنا أن هذه الحرب شأنها في ذلك شأن جميع الحروب هي ظاهرة ديناميكية منفردة تتطلب بلا شك تقييماً دقيقاً مخصصاً لها. وفي نهاية المطاف لن نتمكن من تطبيق السياسات الصحيحة إلا من خلال هذا النوع من الدراسات التي تضع الحرب في سياقها وتدرس الصراع من خلال أبعاده المتعددة والمتداخلة.

Conflict Studies Quarterly

ترجمة أمجد المنير

السوري الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى