راتب شعبوصفحات الثقافة

جنازة لا تحتاج إلى موتى/ راتب شعبو

 

قالت الطفلة: “ماما، كان صوت الرصاص يأتي من جهة النهر وليس من جهة المدرسة، أنا متأكدة”.

قالت الخالة: “أكثر من واحد رآهم يقتادونه مقيّداً ومعصوب العينين، ثم وضعوه في سيارة كبيرة”.

قال رجل عجوز: “أنا لم أره، ولكن صديقي أبو هاني أخبرني أنه رآهم كيف قتلوه بالرصاص ودفنوه في مكان قريب من المدرسة”.

تابعت الأم طوي الغسيل دون أن تنظر إلى الطفلة التي لم تكن تكف عن ابتكار خيالات تحمي بها شعلة الأمل بعودة الأب. كررت الطفلة بصوت أقوى: “أنا متأكدة، أنا متأكدة، ماما”. لم تفلح الطفلة، مع ذلك، بكسب التفاتة من الأم التي توقفت للحظة عن طوي الغسيل، ثم استأنفت عملها بيدين متعبتين ورأس ضائع بين اليوم والأمس.

قالت الجدة: “لم يكن في الحيّ من هو ألطف منه. كان يلقي تحيته على الجميع حتى حين يكونون بعيدين عنه”.

قالت الخالة: “تتكلمين وكأنه مات. أنا واثقة كما أراك بأنه حي يرزق وسيعود إلى زوجته وأطفاله”.

كان يوماً كافياً لتشويه حقبة كاملة. في أيلول، في اللحظة الفارقة بين الفصول، دخلوا البيت مدججين بالسلاح وبكل أسباب القتل. قالوا إن رصاصاً استهدفهم خرج من هذا البيت، وإن الأفضل لأهل البيت أن يسلّموا مطلقي الرصاص. أمسك أحدهم بطفل صغير وراح يسأله أين خبأ البابا السلاح. “البابا ما عندو سلاح عمو”.

يقول الطفل وهو يبكي محاولاً أن يخلّص نفسه من يد الرجل، والأم تحاول بصوت مرتجف أن تشرح ما لا يحتاج إلى شرح، والنساء يستعطفنهم. ركل أحدهم مدفأة الغاز المركونة في الزاوية وهو مستعد لإطلاق النار وكأنها تخفي مسلحاً.

أدرك الجميع بغريزتهم أن الخطر القادم قادم، لا يرده إنكار ولا شرح ولا استعطاف ولا كلمات الجدّة المتوسلة التي اقتربت، وهي تحتمي بأعوامها الثمانين، من فوهة البندقية الأقرب، وقالت بصوت يزحف زحفاً تحت ثقل الرعب والعمر: “والله ما في سلاح هون يا ابني”.

قالت امرأة في أواسط العمر: “حين دخل علينا ثلاثة رجال ملهوفين، يحملون بنادق في أيديهم، وطلبوا منا أن نغطي رؤوسنا، ثم هربوا من الحوش الخلفي للبيت، أيقنت أن هناك نكبة قادمة”.

قال رجل من الحي: “أنا رأيتهم كيف اقتادوا الرجال وساروا بهم باتجاه المدرسة”. وقال: “بعد ذلك سمعت صوت الرصاص من الجهة الغربية. كان يأتي من جهة المدرسة، نعم من جهة المدرسة وليس من جهة النهر. ولكني لم أر شيئاً. بعد ذلك بقليل بدأ الدخان يتصاعد من بيته”.

قالت الجدة: “سمعنا صوت الرصاص من جهة المدرسة، سألنا الشاب الوحيد الذي بقي واقفاً على الباب يلهو ببندقيته، فلم يجب بشيء. كان لطيفاً هذا الشاب. تكلم بحنين عن أهله الذين تركهم. كان على وشك أن يبكي حين تكلم عن شوقه لأخيه الصغيروأمه، ولكنه الواجب. وقال إنه يظن أن كل يوم هنا هو يومه الأخير.

قال لنا ابتعدوا عن النوافذ لأن الدبابة سوف تقصف. وبالفعل قصفت الدبابة وانهار زجاج النوافذ. ولكن لم يتأذ أحد بفضل تلك النصيحة. ظل واقفاً على الباب كحارس القطيع، بدون عدوانية أو شتائم أو تهديدات، ثم تركنا وانصرف دون أن يقول شيئاً”.

قالت امرأة أخرى: “بقينا وحدنا في القبو، ولم نجرؤ على الخروج من الباب حين رأينا الدخان يتصاعد من بيته. كانت زوجته ما تزال تحتضن طفلها الذي أرعبه ذاك الرجل المسلّح، وظلّت على حالها تحتضن الطفل كأنها تلوذ به، حتى أنها لم تحاول النهوض حين قالوا إن الدخان يتصاعد من نوافذ بيتها”.

في المساء خرجوا من القبو، مروا بجوار المدرسة. كان كل شيء ليس كما كان، شعروا بغربة عن مدينتهم. الشوارع والأرصفة والبيوت نظرت إليهم بلامبالاة. المدينة خالية وكان في هدوئها ما يثير الرعب.

كان صوت خطواتهم كئيباً. ساروا خارجين من المدينة، تماماً كما خرجوا من بيوتهم إلى القبو. بثياب البيت والشحاطات. يخرجون من مدينتهم كغرباء، كأن المدينة أنكرتهم دفعة واحدة. في لحظة واحدة لم يعد لوجوههم وأصواتهم صدى في ذاكرة المدينة. لم يبق لهم جدار يسندهم أو يحميهم. فجأة، ينضب الهناء والجمال والألفة من هذه المدينة الفراتية. يخرجون مطرودين بسياط غير مرئية.

لم يكن خوفاً ذاك الذي سيطر على أرواحهم وهم يبتعدون، الخسارة الكبيرة والشعور العميق بالمهانة تتغلبان على الخوف. كانوا مذلولين وتعساء ومنكوبين ولكنهم كانوا يبحثون، بإصرار يشبه الغريزة، عن نقطة بداية جديدة.

إنهم نساء وأطفال أمام قسوة وجور قوة عارية وخائفة. يسلّمون بالخسارة الكبرى وينكفئون إلى آخر مدى ممكن، كما تنكفئ الشجرة إلى جذرها، أو إلى بذرتها.

يسيرون كالأيتام بعيداً عن مكانهم الأم الذي مات. يبحثون عن الاستمرار، لا يهم أين، المهم أن يكون مكاناً ممكناً لبداية جديدة.

قال الطفل الذي أتعبه المسير: “إلى أين نذهب؟” ولكنه لم يكرر السؤال حين لم يلق جواباً، وتابع السير.

ليست الرقة بعيدة ولا تركيا ولا حتى مصر. مع القهر تقلّ المسافات، القهر يضبّ الأبعاد على بعضها البعض كما تجعلك اليد ورقة قبل رميها.

في مصر قالت الخالة: “ما دام أن هناك من رآهم يقتادونه إلى السيارة بعد سماع صوت الرصاص، فإنه لا يزال حياً بإذن الله”.

“لا خالة!” جاء صوت الابن نزقاً.

طالما جالت صور مرعبة في ذهن الابن. أن يرى أباه تحت يد جلاد يحمل سكيناً، أو أن يرى رأس أبيه على مرمى يد جلاد يحمل مسدساً أو رشاشاً وهو مقيد، أو أن يرى صورة أبيه بين صور الضحايا الذين لفظتهم السجون موتى في هيئات مرعبة من التعذيب والجوع والمرض.

انفجر صوت الابن حاداً وكأنه يطرد بذلك قطيعاً من الصور المرعبة التي أحاطت به: “البابا مات، قتلوه ودفنوه بالحديقة جنب المدرسة. خلص!”.

* كاتب سوري

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى