صفحات الرأي

جنسية (تابعية) اللاجئين بين حق الأرض وحق الدم/ جول لوبوتر

تحل مسألة التوسع السكاني في الاتحاد الأوروبي محل مسألة التوسع الإقليمي، غداة انفجار أزمة اللاجئين. ويرسم دمج الوافدين الجدد إلى أوروبا الملامح السياسية والقانونية القادمة لقضية التابعية الوطنية في بلدان القارة. فالحصول على التابعية الوطنية هو أقوى عوامل دمج آلاف اللاجئين والمقيمين تباعاً بالبلدان الأوروبية. والإقرار بصفة اللاجئ، في بلد اللجوء، قرينة على فك اللاجئ رابطته السابقة بوطنه الأول، ودليل على عجز وطنه عن حمايته، ومسؤوليته ربما عن اضطهاده.
وعلى خلاف الزعم بأن الحق في الجنسية أو التابعية الوطنية ينبغي أن يكون وقفاً على الذين تخلقوا بأخلاق البلد المضيف، يصح القول أن التجنس عامل دمج في الجماعة الوطنية، وعلامة رمزية وسياسية على الانتساب إلى الجماعة الوطنية في رعاية الدولة. فهو (التجنس) ضمان مراتب المساواة بين المواطنين وشرط لا غنى عنه لإلغاء التمييز القانوني بين المواطنين وبين الأجانب، والمساواة، بدورها، تثبت الحق في العمل، وترفع الحواجز التي تقيد مزاولة بعض المهن المحظورة والعمل في الإدارة العامة. ويترتب على المساواة، من ناحية أخرى، تأمين الإقامة على الأراضي الوطنية، وجعل حق الإقامة مطلقاً من كل قيد. وتعطي الجنسية الوطنية في البلد الأوروبي صاحبها وضع المواطن الأوروبي. ويضمن هذا الوضع حقوق انتقال وإقامة، وحقوقاً سياسية أوروبية مكملة للحقوق السياسية الوطنية.
ومثالا التجنيس التقليديان والمعروفان هما التجنيس عملاً بحق الدم والتجنيس بحق الأرض. والأول يوجب التابعية الوطنية من طريق النسب والقرابة أو البنوة. ويوجبها الثاني من طريق الولادة في البلد وعلى أراضيه، بمعزل عن هوية الوالدين. وحق الدم يستبعد تلقائياً اللاجئين، فهم لم يولدوا لوالد (أب أو أم) أوروبي. أما حق الأرض فقد يكون مدخلاً أو ذريعة إلى حصول الجيل الثاني على التبعية الوطنية. وإذا كانت التقاليد والأعراف التاريخية، الحاكمة في حق الأرض وحق الدم بأوروبا، شديدة التباين والاختلاف، فالديناميات المعاصرة تتضافر على إيلاء حق الأرض الأولوية والصدارة.
وفي تاريخ أوروبا الحديث اضطلع الحق في الإرث بالدور الأول في تعريف التابعية الوطنية. فالرعايا «الطبيعيون» هم المولودون على أراضي المملكة أو الدولة، وهم من يحق لهم وراثة والديهم. ويورث الأجانب الملك الحاكم ما يملكون، أي أن الفيصل في التابعية أو الجنسية هو قانون الإرث، والحق في الأرض بواسطة الولادة. وعلى هذا، استبعد برلمان باريس (وهو السلطة القضائية قبل انفصالها) في 1576 حق الأولاد الفرنسيين المولودين بالمهاجر في الإرث ما لم يقيموا إقامة دائمة بفرنسا. وهذا إقرار بصدارة حق الأرض، وقبول مشروط بحق الدم. وكرست دساتير الثورة الفرنسية المتعاقبة في 1791 و1793 و1795 و1797 حق الأرض وحده مسوغاً للتجنيس. وينقسم رأي المؤرخين في المسألة: فبعضهم يرى أن حق الأرض يعرف الجماعة الوطنية كلها، بينما يرى بعضهم الآخر أن هذا الحق يقتصر على من يتمتعون بالحقوق السياسية وحدهم (الذين يسددون مقداراً من الضريبة، وبلغوا فوق الـ25 سنة، ويقيمون بمنزل معلوم…).
ورجع دستور 1804 (النابليوني) عن حق الأرض إلى حق الدم وحده تقريباً. وغذت الحروب الشعور الوطني، وناطت الوحدة الوطنية بالدم. وشاع حق الدم في أوروبا كلها، وأقرته ألمانيا، وبروسيا يومها في صدارتها، (هذا الحق) في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ولكن الخدمة العسكرية الإلزامية استثنت شبان المحافظات الحدودية، المولودين بأرض لم تكن فرنسية حين ولادتهم، وميزتهم من أقران لا يختلفون عنهم بشيء. فأقر المشرع في شباط (فبراير) 1851 قانون الجنسية المزدوجة الذي يقر للولد المجنس بالحق في النزول عن جنسيته الوطنية عند بلوغه سن الرشد. وألغى قانون حزيران (يونيو) 1899 القانونَ السابق تحت وطأة هجرة متعاظمة، وحرم الشاب البالغ من حق النزول عن تابعيته، وجعلها ملزمة، شأن التجنيد.
فالداعي إلى تمييز حق أرض (فرنسي) من حق دم (ألماني) أو السبب في هذا التمييز ليس القانون الأصلي، وهو تغير على مر الزمن، بل أن ثقافة «العقائد الوطنية» أو الرؤى القومية ولدت من الصراع السياسي والعسكري بين الأمتين، وليست الإجراءات القانونية التي تنظم التابعية الوطنية إلا جزءاً يسيراً من أركان الخلاف السياسية والفلسفية.
وأوروبا اليوم أرض هجرة. ومن المنطقي أن يغلب حق الأرض على تشريعها من غير مبرر التجنيد. فالمبرر الراجح هو ضمان اندماج المهاجرين المقيمين على أراضي البلدان الأوروبية المضيفة، من جهة، والتصدي للمسائل السكانية الناجمة عن الولادات (وانكماشها)، من جهة أخرى. فسنت ألمانيا، في العام 2000، ولأول مرة في تاريخها، تشريعاً يجيز للمولودين على أرض ألمانية ويقيم أهلهم بها إقامة قانونية، الحصول على التابعية الألمانية منذ ولادتهم. فدمج أولاد العمال الأجانب، وهم على الأغلب من أصل تركي ومقيمون بألمانيا، أملى على السلطات اتخاذ إجراءات قانونية تيسر الحصول على الجنسية. واقتفت النمسا أثر ألمانيا في هذا المضمار. فنص تشريع صدر في 2005 على حق الأولاد المولودين بالنمسا والمقيمين من غير انقطاع منذ 6 أعوام، في الجنسية النمسوية. وتبنت اليونان، في 2010، الجنسية المزدوجة، وفي 2015 حق الأرض غير المقيد. وأصبح في مستطاع الأولاد المولودين باليونان لوالدين أجنبيين ومقيمين إقامة قانونية الحصول على الجنسية اليونانية حال دخولهم المدرسة الابتدائية وإعرابهم عن رغبتهم فيها. واليونان كانت شديدة التعلق بحق الدم منذ القرن التاسع عشر، وأقدمت على تبني حق الأرض للمرة الأولى. وتكاد بلدان أوروبا كلها تجمع على هذا الحق. وهي تلحق بالمملكة المتحدة التي أخذت به منذ زمن بعيد.
لكن الفروق بين تشريعات البلدان الغربية قائمة وحقيقية. فليس ثمة بلد أوروبي واحد يمنح جنسيته بناء على مجرد الولادة بأرضه، على شاكلة الولايات المتحدة. فكلها تضيف شروطاً أخرى إلى شرط الولادة أبرزها مدة الإقامة السابقة وقانونية جواز إقامة الأهل. ولكن الوجهة العامة والعميقة تقضي منذ اليوم بالتخلي عن حق الدم، ويرى سياسيون ومشرعون كثر أن هذا الحق لا يستوعب الوقائع الجديدة والمتعاظمة، ولا يستوفي مقتضياتها واحتياجاتها. ولا شك في مؤاتاة حق الأرض مصلحة أولاد اللاجئين المولودين في بلاد اللجوء والهجرة وأهاليهم المقيمين.
والحق أن مسألة تابعية الأجانب الوطنية الجديدة تبتها غالباً إجراءات تجنيس سيادية مصدرها السلطات بمعزل من حق الأرض أو حق الدم وقيودها الحرفية. وتميل الإجراءات السيادية إلى تيسير تجنيس اللاجئين. وفي الأعوام القليلة الماضية، تقدم المنحى الأمني وقيوده على المنحى الليبرالي السابق. ويدرس الاتحاد الأوروبي احتمال سن تشريع مستقل للمواطنة الأوروبية، يحرر اللاجئين من مقتضيات تشريع الدول الطارئة والظرفية. ووضع اللاجئ وتجنيسه وجهان متلازمان لمسألة واحدة. وبناء على هذا التلازم نصت معاهدة جنيف التي ترعى أحوال اللجوء (في 1951) في مادتها الرابعة والثلاثين على التزام الدول المتعاهدة تيسير استيعاب اللاجئين وتجنيسهم، وذلك أولاً بواسطة تسريع إجراءات التجنيس وتقليص الرسوم والأكلاف المترتبة عنه.
وما توجبه معاهدة جنيف هو تيسير إجراءات التجنيس فحسب، وليس وجوب التجنيس. وبناء عليه، عمدت الدول الأوروبية إلى تقليص مهلة الانتظار التي على اللاجئ أن يتقيد بها قبل تقديم طلب التجنيس. ففرنسا تجيز للاجئين طلب التجنيس من غير مهلة وحال الإقرار بوضع اللجوء، بينما يلزم الأجانب من غير اللاجئين بانتظاره 5 سنوات قبل أن يحق لهم التقدم بطلب التجنيس. وقلصت بلجيكا المهلة من 3 سنوات إلى اثنتين، واليونان من 10 إلى 3 سنوات، والنمسا من 6 إلى 3 سنوات، إلخ. والشروط الأخرى، مثل وجوب اتقان اللغة الوطنية وتوافر دخل مستقل وخاص، عسيرة وعصية على التلبية والتحقيق في حال هاربين من بلادهم ولم يعدوا العدة قبل قصد بلد لم تسبق لهم علاقة به. ويلاحظ مثلاً أن فرنسا، في 2014، جنست 55010 أجانب (من 4.2 مليون أجنبي يقيمون على أراضيها)، بلغ اللاجئون منهم 4230 (من 175 ألف لاجئ).
والانعطاف الذي يقضي بتقليص عدد اللاجئين المجنسين، على خلاف المبادئ أو الأصول الليبرالية، يؤدي فعلاً إلى خسارة المفعول الإيجابي الناجم عن استقبال اللاجئين، ويُعوَّل عليه في سبيل دمجهم في المجتمع المضيف. فهل من طريق أوروبي إلى مواطنة اللاجئين؟ الطريق، اليوم، إلى المواطنة في الاتحاد الأوروبي يمر إلزاماً بالمواطنة في دولة وطنية وعضو في الاتحاد. والقوانين الاتحادية التي تتولى تنظيم الانتقال من بلد عضو إلى بلد آخر، والإقامة والعمل في بلد من البلدان، تشترط على المنتقل والمقيم توافر موارد خاصة يسد بها حاجاته وحاجات أسرته. والقياس على أحوال بعض الأقليات القادمة من رومانيا (مثل الغجر) إلى بلدان الاتحاد يظهر أن الفرق بين هذه الأقليات وبين الأجانب ضئيل.
وتخالف هذه الأحوال حقوق التابعية الوطنية في المثال الديموقراطي المعاصر، وركناها هما: الحق غير المقيد في الإقامة (وهذا الحق يبطل النفي وإسقاط الجنسية)، والحق السياسي في الاقتراع والوظيفة الإدارية العامة. فالمواطنة الأوروبية، في هذه الحال، ناقصة. فهي لا تقر بحقوق إقامة إقليمية ثابتة وحصينة. ورفع القيود على حرية الإقامة شرط لا غنى عنه في سبيل تحصين الحق في الإقامة، وإقرار مواطنة اتحادية (فيديرالية) ناجزة، تقوي تماسك الأمة السياسية الناشئة عن (تعاقد) المواطنين الأوروبيين. وما لم يرس الاتحاد هذا الأساس فمن المستحيل تصور مثال تجنيس أوروبي واتحادي لا يشترط الحصول أولاً على تابعية وطنية.
واللاجئون هم في مقدم من يعود عليهم التجنيس الاتحادي بالنفع. وهم ربما ذريعة قوية إلى إقرار مثل هذا التجنيس القائم على حق الأرض. ويخولهم هذا الحق الإقامة في البلد الأوروبي الذي يختارونه من غير التمتع بتابعية وطنية سابقة. وقد يبدو الإجراء هذا، بينما تعصف بمبادئ شينغن القيود والاستثناءات، عسيراً وعصياً. وسبق أن اضطرت الولايات المتحدة إلى سن التعديل الدستوري الرابع عشر في 1868، غداة الحرب الأهلية ورداً على نكوص ولايات الجنوب عن تجنيس المواطنين السود. وربما أدى نكوص بعض الدول عن تحمل مسؤولياتها نحو اللاجئين إلى الإجراء الأميركي.
* باحث في مركز البحوث في الحقوق بمدينة ليل، عن «اسبري» الفرنسية، 2/2016، إعداد م. ن.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى