صفحات سوريةغازي دحمان

جنيف 2.. العالم في خدمة أميركا

                                            غازي دحمان

من السذاجة بمكان استمرار إدراج الحالة السورية ضمن خانة القضايا الأخلاقية، وقياس مواقف الدول بخصوصها انطلاقا من هذا المعيار. القضية السورية غادرت هذا الحيز رغم فضائه الواسع، وانكشفت على واقع إجرائي عملاني يمكن من خلاله معرفة المواقع واستشراف المواقف المستقبلية ومآلات الحدث السوري برمته.

الواقع يقول إن المرحلة الثورية في العلاقات الدولية، وحقبة التعاطي مع حدث الربيع العربي، والسوري، تحديداً، بوصفه متغيراً ثورياً سيجري البناء عليه في نسق العلاقات الدولية، انتهت، تحت واقعة اختلاف حسابات الواقع مع حسابات المصالح المتغيرة والمتجددة في عالم ينوء هو نفسه تحت ثقل متغيرات لا تمنحه رفاهية الانتظار.

وبينما تثبّت الربيع العربي على وعد بالتغيير، كانت مصالح الدول وتوجهاتها تشهد حراكاً واسعاً على مروحة ضخمة من الخيارات والممكنات، وما حدث أن الفترة الفاصلة بين انطلاقة الربيع العربي واللحظة كانت كافية في تفاعلاتها الدولية لإنجاز تموضعات نهائية في المواقع وتبلور للمصالح. وإعادة تعريف الفرص والمخاطر ونمط الإستراتيجيات الممكنة وجدواها وتكاليفها.

وتشي التفاهمات والترتيبات الجارية بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بأن الطرفين قد أنجزا الإطار النظري لصيغة التفاهم التي رست عليها مداولاتهما العلنية والسرية، وجرى تحديد نقاط الاتفاق والقواسم المشتركة، وخرائط النفوذ وحدود وتخوم التلاقي والافتراق، كما جرى الاتفاق على مناطق المبادلة، ومناطق الإدارة المشتركة، والمناطق الخاصة أو ذات النفوذ الحصري.

اليوم بتنا أمام حالة، لم تعد الأطراف السورية، بشقيها الثوري والنظامي، تملك أي هامش للتأثير فيها، دور هذه القوى لا يتعدى دور أحجار شطرنج موجودة على الرقعة، وتنتظر أوامر تحريكها حسب هبوب رياح الترتيبات النهائية الدولية، والأزمة السورية لم تعد سوى واجهة لقوى كانت تنتظر فرصة، إما لكسب مواقع جديدة في تراتبية القوة العالمية، كحالة روسيا، أو للتخلص من إرث مكلف وفاقد للجدوى، كحالة أميركا في عهد الرئيس باراك أوباما، ولم تجدها سوى في الأزمة.

هذا الأمر الذي يشرعن إعادة طرح سؤال: هل كان سياق الاستجابة الدولية للحدث السوري سياقاً بريئاً بكامله، أم أنه خضع في بعض مفاصله إلى عملية بناء واعية ومنظمة، وخاصة في ظل صورة المآلات التي توصلت إليها القوى الفاعلة من إعادة لتوزيع الحصص وتقسيم الأدوار، لتكريس المكاسب، والاتفاق على حدود جديدة وقواعد عمل جديدة في سير النظام الدولي، وتحديد الفرص والمخاطر والإمكانيات؟

على ذلك، تبدو جنيف 2 فاتحة عهد عالمي جديد أو منبر للولوج لهذا العالم، ليس على حساب سوريا والمنطقة وحسب، على ما يعتقد الكثيرون، بل حتى أن ثمة قوى كبيرة ووازنة أدركتها الفرصة ووجدت نفسها خارج أطر الإنفاق الأميركي الروسي، منظومة البريكس التي أنشأتها موسكو على عجل لتقوية موقفها التفاوضي وأوروبا القارة العجوز التي تلطت واشنطن خلفها طوال الأزمة، فالاتفاق، على الأقل في مراحله الأولى لا يتسع سوى للأميركيين والروس، ولعل هذا ما يفسر النزق الأوروبي، ومحاولة استعجاله إرباك الترتيبات الأميركية الروسية، عبر إعلان رفع قرار حظر التسلح عن المعارضة السورية.

جنيف 2، هو بمثابة “يالطا” الجديدة، بموجبها سيتم إعادة صياغة الإستراتيجية العالمية، وتحديداً منها مسار وتوجهات الإستراتيجية الأميركية في المرحلة المنظورة المقبلة، بمساعدة روسيا بوصفها قوة ثانية يمكن تحميلها جزءا من تنفيذ هذه الإستراتيجية، مما يذكرنا بالدور الياباني والكوري الجنوبي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتحويلهما إلى أحد عناصر الاقتصاد الأميركي وتوسعته عامودياً باتجاه أسواق أسيا.

إن أي محاولة لفهم التوجهات الأميركية في المرحلة القادمة وأدوارها المحتملة، لا بد أن تنطلق من معطيين باتا يعبران عن نفسيهما بجلاء في الخطاب السياسي الأميركي، وهما وصول أميركا إلى حالة من الاكتفاء النفطي وتخلصها، أخيراً، مما كان يطلق عليه سياسيوها “استعباد النفط”، وبالتالي فإن النفط ومناطق إنتاجه باتا خارج خطوط إستراتيجياتها.

في مقابل ذلك، ثمة نزوع أميركي شديد للخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية التي تهدد وضع أميركا العالمي وموقعها، وهذا الخروج يتطلب ليس فقط البحث عن خطوط صادرات جديدة، وإنما أيضاً التفرغ للقوة الصينية الناعمة التي تشكل الخطر الأكبر على متابعة مسار التفوق والحلم الأميركي.

في هذه الحالة يبدو المحيط الهادي مرسى السفن الأميركية القادم، وتوجه بوصلتها الحقيقي، فيما تتراجع بقية المناطق الأخرى في سلم الاهتمامات والأولويات إلى درجة أدنى، في هذه الحالة تحتاج أميركا إلى تلزيم المناطق الأخرى لقوى دولية أقل درجة في القوة، ويمكن دمجها بطريقة أو أخرى في إطار الإستراتيجية الأميركية.

في هذا الإطار تبدو روسيا صاحبة الطموحات الاقتصادية والجيوسياسية الإقليمية والتي تعرض خدماتها بطريقة مداورة شريطة أن يتم الحفاظ على شرايين حياتها الاقتصادية والتي تتمحور حول ضمان تصدير نفطها وغازها إلى أوروبا، وعرقلة أي مشروع إستراتيجي قد يؤثر عليها، مثل احتمال مد خطوط النفط والغاز الخليجي إلى الأراضي السورية ونقلها إلى أوروبا.

القضية إذاً، لا تخرج عن كونها ترتيبات أميركية خرجت من دون ضجيج، إستراتيجية أمريكية هادئة، تبلورت على ضوء دراسة هواجس القوى المختلفة والفرص والمخاطر التي يتيحها الظرف الدولي الحالي، مع مزاوجة الإمكانيات المتاحة لتطبيق هذا النمط الإستراتيجي. الفرق بين أميركا والقوى الأخرى أن الأزمة السورية هددت مصالح هذه الأخيرة بطريقة أو أخرى، وجميع هذه القوى، روسيا وأوروبا، اشتغلت تحت وقع تهديد تداعيات الأزمة على أوضاعها ودواخلها ولم تملك رفاه التنقل بين خيارات متعددة، وبناء عليه فإن استجابات أغلب الأطراف صدرت عن توتر مشوب بنزق الخوف من التداعيات.

لقد قرأت روسيا الحدث السوري من زاوية مصلحية مباشرة، تنطلق من رؤيتها لأمنها الاقتصادي القائم على بيع الغاز لأوروبا وبيع السلاح للنظام السوري، وروسيا لم تحقق المكاسب التي جرى الحديث عنها، سوريا كانت ملعبها، والتفاوض جرى على ملعبها ومن كيسها، وهي في النهاية تكسب أرضاً خرابا وذات قيمة إستراتيجية تعادل الصفر، فقط روسيا تعتقد أنها بتشبثها بنظام الأسد تمنع تحول الموانئ السورية إلى معبر للغاز المنافس لغازها، وهي تعتقد أنها، وبمساعدة إيران سدت هذا الاحتمال حتى من العراق والأردن.

لكن مقابل ذلك سيطلب منها الكثير من الإجراءات، وللحفاظ على الجرح الإستراتيجي السوري ستنزف روسيا كثيرا في سبيل إغلاق هذه الكوة المفتوحة على مختلف الاحتمالات، باختصار روسيا تحمي مصادر عيشها المهددة بطريقة أو أخرى ولا تتقدم أو تتمدد، وهي تحمي تخومها الإسلامية في أنغوشيا وأوسيتيا، وهي في كل الحالات طرف مدافع والمدافع لا يملك أكثر من التكتيكات.

ربما يبدو نتيجة صادمة هذا المآل الذي يتكشف عنه الحدث السوري، إذ قياساً بحجم وطبيعة انخراط بقية الأطراف، كانت الولايات المتحدة أقلها، ويبدو أن إستراتيجيتها الحذرة كانت أكثر جدوى في خدمة مصالحها. حيث أغرقت كلاً من روسيا وإيران في أزمة لن تكون النجاة منها سهلة، وهاهي تدفع أوروبا، إذا ما طبقت قرارها بتزويد الثوار بالسلاح، إلى حرب بالوكالة مع روسيا وإيران، مما يعني مزيداً من الاستنزاف في الساحة السورية.

هل يعني ذلك أن الأمور استقرت على هذه الشاكلة؟ أميركا تريد حراسا على مصالحها وهي تشغل الروس. الخطر النووي الإيراني يهدد الروس أكثر بكثير من تهديده لأميركا، ولن تستطيع واشنطن معالجته بغير تحفيز الهواجس الروسية تجاهه، وخطر المتطرفين بات يدق أبواب موسكو، عدته صارت جاهزة في الجبال الخلفية لموسكو، مهمة روسيا شاقة في الشرق، وتباشير الصعود التي لاحت لبعض قصيري النظر في الكرملين ليست سوى علامات الانحدار، ثمة فوائض مالية كبيرة في خزائن القياصرة آن أوان استهلاكها في زواريب صراعات الشرق العبثية قبل أن يجري توظيفها في مجالات منتجة.

الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى