صفحات الحوار

جوليا كريستيفا: ما نمر به الآن لحظة جهنمية

 

 

الفيلسوفة جوليا كريستيفا تتهم الشرق والغرب، النساء والرجال بلحظة خطيرة للغاية تعبرها البشرية دون تفكير.

صخر حاج حسين

أبوظبي- الفيلسوفة والمحللة النفسية البلغارية المولد، الفرنسية الجنسية، جوليا كريستيفا توصف بأنها أحد أهم الأصوات النسوية الفرنسية. لكن كريستيفا ذاتها، لا تعترف بالحركة النسوية كما نعرفها.

جذور ظهور الحركة النسوية في العالم. تعتبرها كريستيفا وليدة صراع خاضته النساء ضد هياكل السلطة والهيمنة الذكورية، أي أنها انعكاس ذكوري بشكل أو بآخر.

لا بد إذن من النقد الذاتي، كما ترى كريستيفا. ولا بد من الانتباه إلى عدم انجرار الحركة النسوية إلى التحول إلى سلطة من نوع جديد، تمارس الأمر ذاته الذي مارسته الذكورية. ولذلك لا مهرب من نقد المجتمع ككل. وصبّ الشغل كله على النظام الاجتماعي العالمي بوجوهه المتعددة.

ولدت كريستفيا في العام 1941، وتخصصت في التحليل النفسي والدراسات اللغوية، محللة العلاقة بين اللغة والمجتمع والذات. ومن كتبها الشهيرة “سميوتيك” و”الثورة في اللغة الشعرية” و”قصص حب”.

في هذا المقال أضمّن أجزاء من حوار من نوع مختلف أجرته مع كريستيفا جوزيفينا أيرزا، التي تسأل عن أولئك الأوروبيين الشرقيين الذين وصلوا إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة. ما الذي يمكن أن يحدث للثقافات المحلية والإقليمية في بلادهم بعد هجراتهم تلك؟ تقول كريستيفا “تحدثت عن هذه المشكلة في روايتي “العجوز والذئاب”. فالصدمة أو فلنقل نقطة الانطلاق لهذه الرواية كانت مقتل والدي في مستشفى بلغاري. وهو مثال على ما كان يحدث في تلك الثقافات. تتحدث الرواية عن قوة الشر. ففي تلك البلدان ما أفلح فيه الشيوعيون، هو تفجير الشر وهذا ما أسموه ثقافة”.

تضيف كريستيفا “أعتقد أن أولئك البشر سيمضون وقتا طويلا في جهنم قبل أن يصلوا إلى الحضارة سواء كان ما يمارسونه ثقافة قومية أو كوسموبوليتية، أو نوعا جديدا من تطعيم بين الثقافة الأوروبية والإرث المحلي. نحن أمام شيء جديد منذ نهاية الإمبراطورية الرومانية. وهذا إفلاس في الروابط الإنسانية. وبالطبع له ما يربطه بالثقافة”.

المحللة النفسية وعالمة اللغة والمجتمع تؤمن بأننا قد مررنا بألفي عام من المسيحية والفلسفة النفعية. ونحن مدركون لمشكلة الرغبة والتصعيد والجماعات والمثل، تقول “ما نمر به الآن شيء خطير جدا. وأخشى أن المفكرين الأوروبيين والأميركيين قد أغفلوا شدة الأزمة الناجمة عن هذا الإرث”

الإفلاس من الاقتصاد إلى الفلسفة

وعن معنى كلمة إفلاس صورة ما، وهي مصطلح اقتصادي بالطبع، هل ترى كريستيفا أنها تتضمن إدارة خاطئة لليبيدو أو للنزعة الإيروسية أو للخير أو الشر؟ وهل هناك روابط قبل ذلك لم تعد موجودة الآن؟ ترى الفيلسوفة الفرنسية أن كلمة إفلاس تتضمن جميع أنواع الروابط؛ روابط فاعلة كالعمر، وثقافية. بالإضافة إلى مشاريع ثقافية. وهناك الحب أيضا. كما توجد روابط بعينها تشكل النسيج الاجتماعي. “فأنا وأنت هنا لأننا نمتلك هذه المقدرة على التبادل والحوار. ونحن نقول بذلك لأن النزعة الإيروسية، رابط، لكن الشر يشكل انقطاعا فيه. أما الآن فلم تعد هناك انقطاعات”.

تؤمن كريستيفا بأننا مررنا بألفي عام من المسيحية والفلسفة النفعية. ونحن مدركون لمشكلة الرغبة والتصعيد والجماعات والمثل، “آمل أن نبقى في هذه المرحلة. على أيّ حال، ما نمر به الآن شيء خطير جدا. لحظة جهنمية. وأخشى أن المفكرين الأوروبيين والأميركيين قد أغفلوا شدة الأزمة الناجمة عن هذا الإرث”.

مشروع العالم الغربي

هل يعني كلام كريسيتفا أن عالم كانط في أزمة حقيقية اليوم؟ هي تعتقد أن علينا أن ندرك أن الرغبة تعيش في مكان أبعد من عالم كانط. فالإرث الأوروبي برمته يعود إلى الكتاب المقدس والأناجيل والفلسفية اليونانية. وجميعها وجدت بغية إعادة توجيه جرعات الموت التي شذبها الكتّاب وأدخلوها في الفلسفة والدين. وهذا الإرث مهدّد الآن.

مشروع العالم الغربي كما تراه كريستيفا يكمن بالضبط في أن يرى الروس وغيرهم من بلدان الشرق قادمين إليه. وعندما يذهب المرء إلى روسيا والبلدان الشرقية يلقاهم في حالة من الهمود والحالة السلبية. فهم كالأحجار، محبطون وعاجزون. في حين أن مفكري أوروبا الشرقية وآخرين غيرهم يحبون الثقافة الغربية. ويرغبون بالانضمام إليها. لكن هذا مجرد يوتوبيا في الوقت الراهن.

كريستيفا تقول إن اللغة تعدّ المسألة الأكثر بؤسا في أوروبا وأميركا، عندما يتحدث البشر لغتهم في البيوت والإنكليزية في المدارس

تشرح كريستيفا أن هذا بالتحديد هو ما حلّ ببطل روايتها “العجوز أستاذ اللاتينية”، الذي كان الوحيد الذي واجه فشل حضارته من هذا الموقع. ومن هنا أصبح مارقا. لقد قُتل لأنهم لم يسمحوا له بالثورة. تضيف “في تلك البلدان، منعت القوى الشرسة البشر الطامحين من الانضمام إلى الثقافة الغربية.

ويجب أن يعلم الجميع أن ثمة قوانين غير مدونة في بلغاريا كانت تحظر الأدوية غالية الثمن لكبار السن. إذن ليس من الممكن الحديث عن (كانط) وعن موضوعات الرغبة عندما يعيش المرء في ظل هذا المستوى من الوحشية”.

فقدان القيم

بكل يقين إنه كحال الطبيب الذي يجري عمليات جراحية لكنه لا يمتلك الأدوات اللازمة لذلك. لزام القول إن الأمر في جانب منه أزمة اقتصادية، وفي جانب آخر أزمة إنسانية، أي فقدان القيم. لقد حُوِّلت الحياة الإنسانية إلى شيء يخلو من كل قيمة.

لكن فكرة كريستيفا تواجهها حالات في الغرب تنقضها وتهدمها، فالفنان الأميركي الشهير أندي واهرول، كان قد دخل إلى واحد من أرقى المستشفيات، رغم ذلك مات هناك بسبب الإهمال. هنا تجيب كريستيفا بالقول “لا أعتقد أن تسيّد الشر وغياب القيم، ظاهرة تقتصر على الشرق فقط. فهي موجودة في أمكنة أخرى أيضا. روايتي تلك مجاز لحضارتنا. وهناك فرق هام. ففي الغرب أيضا تحدث أشياء شأن هذه. لكن هناك معارضات لها. بينما لا نرى في الدول الشرقية قوى يمكن أن تحارب غياب القيم ذاك”.

كتبت كريسيتفا في مقالها “اليائس: قوى الانحراف” عن فاشية سيلين فهل هو استشراف لتلك النزعة العرقية الموجودة في أوروبا اليوم؟ تعترف كريستيفا بذلك، تقول “نعم. ترعبني النزعة القومية العرقية ورهاب الأجانب في المجتمعات الأوروبية في الوقت الراهن. نرى ذلك في ألمانيا. رغم أن هذه النزعة أكثر تهذيبا في فرنسا، لكنّها قوية وثمة نوع من انسحاب مفهوم الأمة وأصولها وقيمها. ولا أخفي أن هناك ما يقلقني ويجعلني أفكر بترك تلك البلاد وأرسّخ نفسي مهاجرة. ربما أصبح أكثر قبولا”.

تفضل المفكرة الهجرة من جديد إلى بلاد جديدة، تقول “لديّ انطباع أن المجتمعات الكندية أكثر تسامحا. أعرف أن فرنسا باتت عدائية حيال المهاجرين والأجانب. وهذا ينطبق على أوروبا عموما. أنا أنتمي إلى عصر التنوير الفرنسي. لكن ما أراه في فرنسا الآن هو التشظي والحصار الذي لا يحيل إلى أرضية مشتركة. على المرء أن يجمع التفاصيل والخصوصيات، في الوقت الذي يقر بوجودهم. ثمة منطقان يجب أن يتصالحا”.

كريستيفا تقول إنها تشعر بالرعب من النزعة القومية العرقية ورهاب الأجانب في المجتمعات الأوروبية في الوقت الراهن. نرى ذلك في ألمانيا. ورغم أن هذه النزعة أكثر تهذيبا في فرنسا، لكنها قوية. وثمة نوع من انسحاب مفهوم الأمة وأصولها وقيمها

هل يمكن لهذين المنطقين أن يتصالحا من خلال فكرة “الآخرية” التي قال بها جاك لاكان؟ وبهذا المعنى أليس الحب مبنيا على الفروق وعلى الاعتراف المتبادل بهذه الفروق، ألا يحلّ هذا المعضلة التي تواجهها كريستيفا، التي ترفض الفكرة من أساسها، “لم يكن لاكان هو الوحيد الذي قال بوجهة النظر هذه. على الإطلاق. بل هي كلمة هيغلية. وفي يقيني أنها تعني أن على المرء أن يقر بالآخر كي يأتي به إلى رابط معه. فالحب رابط. وهذا يعني إقرار بالآخرية”.

حتى في أميركا لم تكن الحالة كذلك منذ عدة سنوات. لكنها بدأت تشتد كثيرا. فقد باتت تلك الجماعات تلجأ إلى ثقافات منعزلة. “وكما يعرف الجميع إلى أيّ حد تتشابه تشاينا تاون مع الصين في أميركا. قيل لي إن العديد من المهاجرين الصينيين هناك لا يتعلمون اللغة الإنكليزية”.

لغات البشر

حول اللغة، تصبح المسألة أكثر بؤسا، عندما يتحدث البشر لغتهم في البيوت والإنكليزية في المدارس، وبما أنهم لا يتعلمون القراءة والكتابة بلغتهم الأم، فتتم ترجمة اللغة الإنكليزية بشكل مباشر. مثلا تحولت اللغة الأسبانية الجميلة، والتي يمكن أن نحيلها إلى سيرفانتس وبورخيس، إلى تشويه يكاد يكون متوحشا. حتى باتت تحمل إسما ثانيا “الأسبانكليزية”.

تصف كريستيفا الأسبان والآسيويين بذلك. فبوصفهم مجتمعات كبيرة نسبيا في الولايات المتحدة، فهم مكتفون ذاتيا. إنهم يمتلكون محلات تجارية ويعيشون ضمن جماعات. لكنهم منشطرون عما يفترض أنه المجتمع الأميركي. صحيح أنهم يعيشون في الولايات المتحدة، لكنهم لا يرغبون بأن يمثلها أحد أطفالهم، سواء في البرلمان أو في مجلس الشيوخ أو حتى كقاض.

تقارن كريستيفا بسيمون دي بوفوار في روايتها “المندرين”، وعلاقتها برواية كريستيفا “الساموراي”. دو بوفوار تجعل من المرأة شاهداً على مكائد الرجل. بينما تصبح امرأة واحدة هذا إن لم نقل اثنتين في رواية كريستيفا، بؤرة للمكائد كلها. فهل تعمدت القول إن الرجال أزيحوا عن موقع السلطة؟ وهل يمكن أن نعتبر ذلك موقفا نسويا من كريستيفا؟

لا تعرف كريستيفا إن كان هذا موقفا نسويا أم لا. لكنها تتمنى أن يكون كذلك. على أيّ حال هو ليس بالموقف النسوي بالمعنى الدوغمائي للكلمة “فأنا لست من أفراد الميليشيا النسوية. كنت محقة عندما قلت إن الشخصيات الرئيسة هي من النساء. ومن المضحك حقا أن أحدا لم يلاحظ ذلك من قبل. ما كتبه جيلنا عن تعقيدات هذه التجربة النسوية يتجنب الكليشيهات الجاهزة والمواقع الحربية تلك. إن المهنة الخلاقة للحياة مرتبطة بعمق بالتجربة الجسدية والجنسية وهي تتجلى على نحو أقوى عند المرأة مما هي عند الرجل”.

كريستيفا لا تعتقد أن تسيّد الشر وغياب القيم، ظاهرة تقتصر على الشرق فقط. فهي موجودة في أمكنة أخرى أيضا. ففي الغرب أيضا تحدث أشياء مثل هذه. لكن هناك من يعترض عليها

فينوس ومريم العذراء

كتابها “الرغبة واللغة”، ألمحت فيه كثيراً إلى اللون في لوحات جيوتو. ومن ثم كتبت عن بيلليني. وقالت إن فينوس التي رسمها لها وجه مريم العذراء. تقول كريستيفا إنها تحب بيلليني. وقد أبرزت بعضا من جوانب ذلك في “الساموراي”. وسواء كان الفن ماضيا أم معاصرا فللمرء أن يشير إلى هذه التجربة في سياق التأويل. وتضيف “أعتقد أن غياب الكلمات خلال عملية التأويل مسألة هامة. فهو يعين البشر على تجسيد حالة الإحباط عندهم، أي الغياب الطبيعي للكلمات. وهو غياب طبيعي جدا، ما يجعل من المشروع لنا، أن نطلق عليه اسم “لغة”. كما يستطيع المرء أن يشير إلى بعض اللوحات أو الموسيقى أو الأسلوب الأدبي ويدخل هذا الاستخدام للجمال في عملية التأويل التي تعتمد على التحليل النفسي”.

“أنا أترجم ذلك إلى كلمات. وعندما أشير إلى اللوحة يدرك من ينظر إليها أن كلماتي طبعت عليها. وهنا تمتلك اللوحة سيميولوجيا التصعيد. وبذا تشفي جراح الكآبة. اختياراتي ذاتية جدا. كما أنني مهتمة كثيرا بلوحتي ‘السفراء’ و’المسيح الميت’ لهولبين. ويبرز على غلاف كتابي ‘الشمس السوداء’ رسم لطفل ظهر في واحدة من لوحات هولبين. وكما يعلم الجميع فإن كل البورتريهات التي رسمها هي لأشخاص كئيبين”.

في كتابها “الغريب بداخلنا” الصادر عن فايارد بالفرنسية، تقول كريستيفا “ليس الغريب، الّذي هو اسم مستعار للحقد وللآخر، هو ذلك الدَّخيل المسؤول عن شرور المدينة كلّها. ولا ذلك العدوّ الذي يتعيَّن القضاء عليه لإعادة السّلم إلى الجماعة. إنَّ الغريب يسكننا على نحو غريب. إنَّه القوَّة الخفيَّة لهويتنا، والفضاء الذي ينسف بيتنا، والزَّمان الذي يبتدئ فيه وفاقنا وتعاطفنا. ونحن إذ نتعرَّف على الغريب فينا نوفّر على أنفسنا أن نبغضه في ذاته.

إنَّ الغريب، بوصفه عرضا دالا يجعل النَّحن إشكاليًّا وربَّما مستحيلا، يبدأ عندما ينشأ لديّ الوعيّ باختلافي، وينتهي عندما نتعرَّف على أنفسنا جميعا على أنَّنا غرباء متمردون على الرَّوابط والجماعات”.

تفتح كريستيفا باب السؤال عن الآخر، بقوة السؤال لا بيقين الإجابات التي طرحها المفكرون، متهمة الشرق والغرب النساء والرجال بلحظة خطيرة للغاية تعبرها البشرية دون تفكير.

العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى