صفحات الناس

جيل الثورة السورية: أطفال كبروا قبل أوانهم/ عصام عطا الله

 

 

لا تكمن معاناة سورية بدمار المدن والقرى وهجرة ونزوح الملايين ومقتل أكثر من نصف مليون وحسب، فذلك جزء من التراجيديا السورية، ولا نبالغ إذا قلنا إنّ جوهر المأساة السورية يتمثل بضياع جيل كامل وربما أجيال إذا استمرت الحرب؛ ما يعني حتماً ضياع سورية المستقبل أو جزء لا يستهان به منها.

فامتداد الأزمة السورية لأكثر من خمس سنوات، وتشعبها بهذا الشكل الذي حوّل ثورة إلى حرب، قلب قوانين وموازين الحياة عند السوريين؛ بدءاً من فقدان الاستقرار وما يرافقه من انقطاع عن التعليم وتدهور في الواقع الصحي، وليس انتهاء بالهاجس الأمني وما يرافقه من خوف وقتل ودمار وآلام.

حُرِم الطفل السوري من أجمل سنوات عمره، وكبر قبل أوانه، وعاش في ظل ظروف يعجز الكبار عن تحملها. فمن كان عمره عاماً بداية الثورة أصبح عمره الآن ستة أعوام ويزيد، ومن كان عمره تسعة أعوام غدا اليوم فتًى يافعاً ويبقى السؤال: كيف نشأ هذا الجيل وكيف سيكون ولا سيما إذا طالت الحرب؟

فتح معظم الأطفال أعينهم على التشرد والنزوح، فمعظمهم لا يحمل ذكريات لبيت الطفولة لكثرة الترحال والتنقل، بل ربما حملت ذاكرته ذكرى هدم البيت، ولم يعد همّ الأب والأم تجميل البيت وتأمين مستلزماته، بل غدا همهم النجاة بأولادهم من خطر الموت، ولا شك أن لرحلة النزوح الداخلية أو الخارجية انعكاسات سلبية جداً على نفسية المرء. فالبيت الأول بمثابة الوطن المصغر، وهو الذي يزرع البذور الأولى لحب الوطن، فكيف سيكون تعلق أجيال بوطنها مستقبلاً؟ فلا شك أنّ مفاهيم الانتماء ستتغير.

عاش هذا الجيل فقراً مدقعاً، وحُرم من أبسط حقوق المأكل الصحي والملبس الجيد، وزادت الأمور سوءاً مع انهيار سعر صرف الليرة، وسيولّد هذا الحرمان بلا شك أثراً مستقبلياً على سلوكيات الجيل.

وزادت معدلات البطالة بشكل مرعب، وغدت مدن وبلدات كاملة بلا عمل نتيجة نزوحها للمخيمات فلا زراعة ولا صناعة ولا تعليم.

ويبقى الخطر الأكبر الذي سيترك انعكاسات على أجيال سورية المستقبل عقوداً متمثلاً بالتعليم، فأعداد المحرومين من التعليم صادمة ومرعبة.

وإذا تجاوزنا تقارير المنظمات الدولية ووقفنا على حقيقة إغلاق داعش لكل المدارس الممتدة من ريف حلب حتى البوكمال؛ فذلك وحده كافٍ ليدلل على حجم المأساة، فهذه البقعة الشاسعة من سورية لا يوجد فيها تعليم نهائياً من المستويات الدنيا حتى التعليم الأكاديمي، وبدأ يلحظ الجميع مخاطر ذلك وانعكاساته فكيف سيكون الحال مستقبلاً؟

وما زاد الطين بلة انعدام فرص العمل، فلا تعليم ولا حرفة ومهنة، بل عطالة وبطالة وضياع، وكأن هناك خططاً مدروسة للقضاء على المستقبل.

وأكمل تنظيم “داعش” المشهد القاتم بافتتاح عدد محدود جداً من المدارس، ليس هدفها التعليم ونشر المعرفة، بل خلق قادة متطرفين يقودون المجتمع نحو مزيد من الدمار، ولم يقتصر انتشار الأفكار المسمومة المشبوهة على مناطق التنظيم إنما تعداه لمناطق النظام والثوار، فلكل مكان نصيبه؛ فغدت ثقافة التشبيح والاعتداء والسلب والنهب مقبولة في مناطق النظام، ناهيك عن الانحلال الأخلاقي، وبدت مناطق الثوار أقلها سوءاً، وسيترك هذا الصراع القيمي أثراً عظيماً لا يمكن التكهن بحجمه وعمره الزمني.

ومع تلاطم الأمواج الفكرية، وانتشار الجهل والبطالة والفقر؛ خاض الأطفال معترك الحياة العسكرية، فحمل بعضهم السلاح وشاركوا بمعارك دامية. ومن لم يحمل السلاح أو يشارك في معركة أَلِف منظر الدماء والأشلاء بعد أن غدت مشاهد القتل والصلب والدمار شبه يومية، فلم يعد الجيل شجاعاً كما قد يتبادر للذهن للحظة ما إنما أصبح إنساناً غير سوي بنسب متفاوتة، فلا يعقل أن يحمل طفل رأس مقتول متباهياً.

تحولت الحرب عند كثيرين من ثورة ضد الظلم والطغيان لروتين يومي، فغدا حمل السلاح والقتال مهنة كباقي المهن في كل المناطق أمام انعدام فرص العمل والكسب المشروع.

ثمة مخاوف أن تتحول الثورة من مشروع وطن جامع للسوريين لمشروع آخر فيه كل شيء إلا الوطن؛ فالجيل الذي نما وترعرع خارج سورية فقد ذلك الرابط بينه وبين وطنه، ولا سيما إذا كانت الهجرة لبلد أجنبي، وسيبقى إحساس الدونية وشعور النقص متلازمة للجيل السوري المحروم من أبسط الحقوق.

وغدا حلم الطفل أن يكبر قليلاً ليحمل السلاح أو يهاجر، وغدا حلم الفتاة الزواج؛ فعادت ظاهرة لا نقول الزواج المبكر بل ظاهرة زواج الصغيرات القاصرات.

ويتساءل السوري: أيعقل أن نستسلم ونترك أجيالاً نهباً للظلم والقتل والجهل والتشرد؟

لا شك أن جيل الحرب جيلٌ معقد من كل النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية، وهذه التعقيدات تتطلب حلولاً وبرامج استثنائية ينبغي العمل بها سواء انتهت الحرب التي تعد أعظم وأول خطوة في طريق الحل أو استمرت، فلا يعقل أن نقف مكتوفي الأيدي بانتظار نهاية لا نعلم لها وقتاً.

(سورية)

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى