صفحات مميزةنبراس شحيد

أضواء خافتة على ملامح القاتل


    نبراس شحيّد

في عبث المشاهد

في أحد أفلام الفيديو المسرّبة من ريف دمشق، على ما أذكر، نشاهد رجلاً أعزل يقف أمام جنديين مسلحين، يطلب منهما الإذن في عبور الشارع، فيسمحان له. ما إن يبدأ الرجل بالركض، حتى يطلق أحدهما النار عليه من الخلف ببساطة عدمية! ببساطة، يلتفت الجندي نحو زميله ضاحكاً، وببساطة، يهنئه الآخر على الإنجاز العظيم! وببساطة أيضاً، يشتدّ المشهد عبثيّةً، ويتقرّح الجرح حين تتجرّأ الكاميرا على تصوير ملامح القاتل: شابٌ عشريني، وسيم الوجه، نحيل الجسم، لا “شيطان”! ببساطة، هو شخصٌ مثلنا قد يحب كرة القدم والموسيقى. ببساطة، قد تكون له حبيبةٌ يغازلها آخر النهار، وببساطة، قد يقرأ لها شعراً مسروقاً، وببساطة، قد يكون له أولاد يجلسون في حضنه، ليقصّ عليهم حكايات السندباد! ببساطة، هو رجلٌ “عاديّ” يشبهنا!

في وجه الإنسان “العادي”

تتبّعت الفيلسوفة حنا آرندت محاكمة “مهندس المحرقة”، أدولف أيخمان، الذي كان وراء الكثير من جرائم الإبادة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، لتستخلص من مشاهداتها مفاجأةً ثقيلة: أيخمان ليس بمجنون، ولا هو “ساديّ” أو “منحرف”، ولا يتميز عن غيره من بني وطنه، على الصعيدين النفسي والاجتماعي، بشيءٍ يُذكر! هو ببساطة مرعبة إنسانٌ “عادي”! هو ببساطة مرعبة، كما يقول، “رجل يقوم بواجبه في تنفيذ الأوامر”. هو ببساطة مرعبة، رجل “عاديّ” تتجلى من خلاله “عاديّة الشر”! (“أيخمان في أورشليم”، 1963).

بالطبع، لا يُقصد بالعاديّة هنا تتفيه الجريمة، أو الاستخفاف بفداحة نتائجها، بل يُراد من المصطلح التعبير فلسفيّاً عن إمكان التوحّش الكامن في كل شخصٍ فينا، حين يترعرع في ظل أنظمة همجية شمولية تُخضع شعوبها، فتسحق الفرد مشوِّهةً الإنسان فيه، لتضيع “الأنا” في ضجيج “النحن”. هنا تحديداً، يمكن الإنسان “العادي”، في سوريا وفي غيرها من البلدان، وأكثر من أي وقت مضى، أن يقتل من أجل القتل، لأنه فقد الكثير من فردانيته، فصار أداةً مجيّشة في يد السلطة!

في امّحاء الوجه

تَرافقَ تدمير الحياة السياسية، الذي اعتمده النظام في بلدنا، بتشويه المجتمع أخلاقياً. فعندما صارت المواطَنة خوفاً، والمواطن ببغاء، والحياة اليومية براطيل ومحسوبيات، وعندما احتلّ الجواسيس المدينة كجراد المجاعات، صار الإنسان، كما يشير الى ذلك ياسين الحاج صالح، غير قادر على التطابق مع ذاته، “فلا يستطيع أي سوريٍّ أن يكون أخلاقياً في المجال العام، (بل) ينبغي أن يكون له وجهان غير متطابقين، خاصٌ يشبهه… وعامٌ حميد يتجنب به الأخطار”، ليردّد ما تريد السلطة منه أن يردد (“النهار” 3/12/2011)! إلاّ أن التشوّه الأخلاقي بلغ ذروةً جديدة، تجاوز فيها حد الاغتراب عن الوجه الحقيقي، ليصير فيها الكثير من القتلة غير قادرين على التمييز بين الوجهين، فيحلّ العام مكان الخاص، وخطاب السلطة اللاأخلاقي بدلاً من صوت “الضمير”، وعقلية النظام محلَّ فردانية الشخص، فيغرق أناسٌ عاديون في مستنقعات القتل والمجازر، ويتباهى أناسٌ عاديون، في هتافاتهم “الوطنية” كما في “تشبيحهم” البطولي، بأنهم قتلة!

في مساحات الامّحاء

لكن البنية هذه لا تلقي بظلالها فقط على مواضع النظام، بل على مطارح مهمّة من الثورة أيضاً، فما يرشح عن تجاوزات أخلاقية يرتكبها بعض “الثوار” غير مقبول! يتباهى أحد المتطرّفين مثلاً (في قصة اشتهرت بين ثوار حمص) أمام أصحابه ببطولاته حين انتزع اعترافات شبّيح أُلقي القبض عليه: “لم يعترف، فانهلتُ عليه ضرباً، لكنه أصرّ على الصمت، فأخذتُ السكين وقطعتُ أذنه!”. سواءٌ أكانت القصة التي يرويها الرجل صحيحة أم لا، يكفي التفاخر بها، أمام تصفيق المشاهدين، أن يلقي ضوءاً جديداً على وجهٍ آخر من التشوّه الأخلاقي. ليس المسيطر على الفرد هنا صوت النظام بل حالة وحشيّة أخرى تستولي على إنسانيتنا تحت ستار “الواجب” أو “حقّ الانتقام”! بالتأكيد، لا ترسم القصة هذه حالةً عامة، فأمثلة التضامن والوعي الشعبي اللذين يقاومان التطرف أو الانحدار الأخلاقي كثيرة، لكن القصة هذه (وما شابهها من قصص) تشير أيضاً إلى إمكان أن يستحوذ علينا، أياً يكن انتماؤنا، صوتٌ “غرائزيّ” جمعي، إيديولوجي، وأحياناً ديني متشدد، ليبرّر ما لا يمكن تبريره. هنا، تشير تجاوزات بعض أطراف المعارضة أيضاً التي لا يمكن تجريدها من أسباب حدوثها (وحشية النظام في الدرجة الأولى)، ولا يمكن، في المقابل، التغاضي عنها، بل تقع على عاتقنا جميعاً مسؤولية مجابهتها، إلى إمكان الانزلاق في شموليّة “الشر” المجتمعية، وفيها يكفي عاديّةَ القتل، حتى تستشري، أن يسحق الصوت الجمعيّ، برغباته التسلطية أو الانتقامية، فردانية الوجه الشخصي، ليصير الإنسان “العادي” سلاحاً مشحوذاً قابلاً للاستعمال.

لا يمكن الفرد، ممّا سبق، أن يكون مصدراً مطلقاً لـ”الشر”، فـ”الشر” بنية اجتماعية، اقتصادية، سياسية، ثقافية، لغوية، شوّهت الإنسان في وعيه وفي تصرّفه، من دون أن يلغي ذلك مسؤوليّة الفرد الكاملة عمّا يقوم به من أعمال. هكذا، صار في إمكان الإنسان “العادي”، على ما أعتقد، أن يصير تجلياً لما يتجاوزه من بنى معقّدة جعلت من “بساطة” القتل للقتل أمراً عاديّاً. هكذا أيضاً صار لا بد للثورة لاحقاً من انتاج ثقافة مواطنة جديدة تعمل على تفكيك شيءٍ من هذه البنى، موليةً الفرد فينا ما يستحق من احترام.

راهب يسوعي سوري

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى