صفحات الثقافة

حتى العتمة الخفيفة لم تعد موجودة/ أكرم قطريب

 

 

 

تلك البلاد

 

لم نكن سوى أشباحكِ الذين يفردون الليل

كبطانية ممزقة على الجبهات.

كنا أطفالاً ونضحك بصوت عالٍ وأجش،

بينما تسيل نقاط دم

من حواف النوافذ.

 

البيت

 

1-

لم أنس البيت

بقي كما هو مع الحيطان التي عليها بقايا كلس.

حتى الأصوات التي كانت تطلع من الجذوع

والتنهدات الغامضة والحنان الذي يتكسر

ويقع على المصطبة ثم يصير ورقاً أصفر

تكنسه أمي في الفجر.

 

البيت

 

2-

منذ زمان لم أعثر عليه

ذلك الذي كنت أرسمه على دفتر الجغرافيا مع نهر صغير.

البيت

3-

كلمة من الدمع بين دفتي كتاب

 

الألم

 

الألم حيلة

نرفعه على كتف واحدة.

والله فقير لا يستطيع أن يوقف هذه الحرب.

ألمس شفتيك فيتجمد الدم في عروقي

وفجأة أتذكر الشوارع الخطرة في المدن

التي انمحت عن بكرة أبيها.

أنا الرجل الذي سيعود إلى الحياة

ويحملكِ بين ذراعيه

دون أن يتعب على خشبة المسرح.

 

الرقة الكاذبة

 

الرقة الكاذبة للرجل الذي يبكي

وهو يتفرج على المناظر.

الفيلم كان تحفة:

رواية عن المنزل

والأم التي تنتظر في السيناريو بفارغ الصبر،

وقطعة حلوى على الرف للابن الغائب،

بينما الظلمة إطار ضروري في الريف.

أن نذهب معاً إلى الحديقة

أن أراك ِ في وقت مبكر.

أن أكون معك مثل هذا الصبي الذي يمسكُ أمه في النقوش.

وفمكِ المنحوت في الحجر

يأخذ حياتي، المنضدة على الآلة الكاتبة، بحذافيرها

إلى العدم.

 

كل شيء مضحك ومأساوي

 

كل شيء مضحك ومأساوي:

ملوك في أسرتهم نصف أحياء.

سيفهم الجميع ذلك الفجر الذي يطوق عنقك،

مع أن أخي الذي يصغرني بسنة سافر إلى تركيا عن طريق لبنان

ثم أخذه المهربون من إزمير عبر بحر إيجة.

لم يكن متأكداً وهو يرى قارباً مقلوباً للتوّ

وحوله تطفو الكائنات التي لا تتكلم أية لغة:

جلد ولحم وبسكويت سيأكله سمك البحر فيما بعد.

يكلمني من الحدود اليونانية المقدونية

ثم أقلب المحطات علني أراه بين الحشود الجرارة

التي تمشي بمحاذاة الأنهار وسكك الحديد.

من الكامب الألماني يشرح لي لاحقاً أن الطقس ليس سيئاً

والحياة ليست خطرة إلى هذا الحد،

وأنه صاحب الفكرة التي أوصلته إلى هنا،

وأنه كان مصرّاً ألا يموت في شاحنة نقل.

لن يكون هنالك أي جدوى

لإنقاذ ذلك الطفل الذي يبتسم في الصورة العائلية.

وبعد سنتين من الإقامة جنوب ميونيخ

يتمنى الآن العودة ولو على متن عربة قديمة.

وبالرغم من كل شيء سنضحك على الأيام التي وقعت في حوض الأسماك.

القمر على مبعدة مئة متر،

وكل ما نحتاجه رفش صغير،

كي نستطيع النجاة من تلك الكارثة التي اسمها «الحنين»

ونحن نردم التراب على اليد المرتجفة.

 

كأس كونياك يصدع الرأس

 

تمام الساعة الثانية عشرة

أتأمل تلك الندبة على جلدكِ الشاحب

ونحن نمشي وسط منهاتن:

– لقطة من فيلم.

في بار «الحصان الأبيض» صورة لديلان توماس مأخوذة من جريدة.

أجلس في هذا المكان لا لتعمد ارتكاب أخطاء،

فقط أتأمل البحيرة المرسومة على الجدار

والحدقة السوداء للعصفور الذي يصدأ.

هنا أرى الحياة على حقيقتها مع خلفية موسيقية.

بكلمات قليلة يمكنك أن تصف الشوارع الخالية

وحشرجات الوحيدين آخر الليل.

بعيداً عن البيت:

الوحشة هي تلك البقعة الرطبة على طرف القميص.

 

ديكور في الإستوديو

 

في هذه اللحظة لا أستطيع شرح الرسوم

التي على قطعة القماش:

بيت بعيد على سطحه قمر ودراجة هوائية.

أكتب عن المكالمات الحزينة مع الأهل والأصدقاء

الذين لم يغادروا أو يفكروا بالهجرة من البلاد

التي صارت ضرباً من ضروب الخيال.

الطفل الذي أعرفه مشغول بالسماء والنجوم واكتشاف المجرات.

والأم التي تحيك السراويل والقمصان وتطبخ الأرز،

تقف على الشباك الآن وهي تريد فقط أن تعيد الصور التي في رأسها

إلى الألبوم.

شارع وشجرة وبضعة أبنية لا يصنعون «وطناً من الإسمنت المسلح»:

ديكور في الإستوديو مع إضاءة خفيفة على المغسلة.

الكحول هو ما ينقص الجغرافيا،

وشخص تحبه بصدق على الأقل،

هنا سأحتاج إلى معجزة وأنا أحاول التمدد عارياً

في المشرحة.

أريد فعل شيء في نهاية الأمر:

أن أغرق في البكاء أمام لوحة لمودلياني،

أو أن أذهب إلى المطبخ لأغسل الصحون المتراكمة منذ أسبوع.

 

الواقعية الجديدة

 

سينتهي الأمر هكذا:

أرشيف من الصور وبضعة فروق بسيطة على وجوه الأحياء

وهم يشاهدون فيلماً عن الأبدية والمدن التي تأكلها النيران.

الندوب التي تذكرك بكتابات مارسيل بروست القاسية عن الزمن.

ملفات الميتين القابعة في خزانات مقفلة.

هنا عليك أن تلمع حذاءك جيداً قبل أن تركب القطار

ذاهباً إلى الجهة الخطأ.

أن تشرب البيرة بسرعة عالية

وتنهي ليلتك بنصف ليتر ويسكي

ثم يطلب لك أصدقاؤك سيارة أجرة آخر الليل.

في السيارة سيعبر شريط حياتك أمام عينيك

وتضيع في الشوارع بحثاً عن بيتك حتى الفجر.

الواقعية مجرد كلمة فارغة.

هنالك طريقة واحدة لاستخدام أدوات الالم

دون الإحساس فيه:

أن تخطئ في عدّ النجوم.

أن ترى أناساً على التلفزيون يقفزون من الطوابق العالية

وكأن شيئاً عادياً يحدث.

أن ترى تاجر اللحوم وقد صار رئيساً للحمقى.

في كل لحظة حاولت أن أكون سعيداً.

في كل لحظة سأتذكركم جميعاً.

مع أن هذا لن يضيف شيئاً

مع أن هذا لن يجعلنا أكثر سعادة

في الحرب التي يذهب فيها الأطفال على الكراسي المتحركة

إلى قبورهم الجماعية وهم يضحكون.

 

ظل شجرة

 

كل ما أتذكره من أبي

أن له ظل شجرة

وكان يردد دائماً أن الارض صغيرة

مثل زر القميص.

 

بقعة الزيت

 

كيف نفعل ذلك ونحن نأخذ كل شيء معنا إلى السرير:

لا تفتح الباب لأحد في الليل،

انتظر قليلاً وراءه

وكأنك تنتظر صديقاً سكراناً لا يريد شيئاً سوى أن تصغي إليه حتى الفجر.

تذكّر السنة التي حملتَ فيها الحقيبة على كتفكَ

وغادرت الشارع الذي كنت تنظر إليه من النافذة.

كبرت كثيراً وتحت جلدك أصوات تعضّ قلبك ببطء.

دمعة كبيرة سقطت على ركبتك أيضاً

هي بقعة الزيت ذاتها التي تراها على ثياب الميكانيكي.

* شاعر سوري

كلمات

العدد ٣٣٧٥ السبت ٢٠ كانون الثاني ٢٠١٨

(ملحق كلمات) العدد ٣٣٧٥ السبت ٢٠ كانون االثاني ٢٠١٨

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى