صفحات الناس

“حجّي” الإعلام السوري/ عدنان نعوف

-آخ بس.

– لك شبك.. شو صاير؟

– صرلي سنة قايللو إني بحاجة شُغُل، وهوّا بيعرف إمكاناتي. واليوم لما فتح شركة عبّاها سكرتيرات!.

امتزجت النقمة بالسخرية لدى”رمزي” حين راح يحدّثني عن صدمته من زميله السابق، الذي تنكّر لقيِم الصداقة بعد أن أنشأ شركة إعلاميّة في اسطنبول تقدّم خدماتٍ في مجال الميديا.

كان “رمزي” يمتلك خبرة جيّدة في مجال المونتاج، لكنها لم تسعفه للحصول على عمل لدى صديقه القديم.

– لمّا تسأَلَهْ يقولّك الشركة مااا تتحمّل! طيب شلون متحمّلة كزا بنت فيها؟! مو شي يجنّن؟ لك لسا ما فقس من البيضة وعامللي فيها هارون الرشيد، وبدّو كيف ما تلفّت حواليه يلاقي نسوان!

بلهجته المحليّة تابع “رمزي” بَوحَهُ الساخط في ذلك الوقت ناعتاً صديقه، الذي لم يبلغ السادسة والعشرين من عمره بعدْ، بأوصاف تهكّمية بذيئة.

تأملتُ تلك الكلمات حينذاك، وقد سامحتُ “رمزي” في قرارة نفسي على تشبيهه الأرعن!

– هارون الرشيد ضربة وحدة؟!

كان لاستهجاني ما يبرّره، فهذا الوصف أثقل من أن يحمله شابّ مُحدث النعمة الإعلاميّة، سواءٌ قيل على سبيل الذمّ أو المديح.

الأصحّ هو أنّ هذا المدير عبارة عن “حجّي” ناشىء في مجال الإعلام السوري. ومفهومٌ هنا أنّ سَوق المصطلح يأتي على سبيل المجاز ولا علاقة له بفعل “الحجّ” إلى أراضٍ مقدّسة أو القيام بفريضة دينيّة، بل هو لقب متعدّد الاستعمالات يُستخدم في سوريا على نطاق واسع للإشارة إلى ما يملكه صاحبه من حيثيّة اجتماعيّة أو اقتصاديّة أو أي مكانة أخرى.

وفي الإعلام يَبرُز “الحجّي” دون أن يكون هناك حاجة مستمرّة لمناداته بهذا اللقب. إنه كالطيور التي على أشكالها تقعُ! وهذا مدخل إضافي كي لا يتحوّل الحديث إلى تعميم ظالم يطال مدراءً لديهم بعض أعراض “الحجي” لكنّهم ليسوا مصابين بـ”المرض” بالضرورة.

سنوات مرّت منذ أن عملتُ مع إحدى المؤسّسات الإعلامية الخاصة في دمشق. في تلك الفترة كنت أرى في رئيس التحرير “أبو المجد” دبّوراً ينبغي أن أتّقي شرّ لسعاته، لكنّه وللأمانة كان يبدو أشبه بنحلة تنتقل من زهرة إلى زهرة عندما يتجوّل بين الموظّفات بكل رشاقة ناشراً اهتمامه ولطفه!

ومن العام 2008 وحتى 2018 تنوّعت التجارب التي عشتُها وصولاً إلى الإعلام السوري البديل بكلّ تلاوينه في اسطنبول، لكن أيّ تغييراتٍ لم تزعزع صورة “الحجيّ” في العديد من المؤسّسات.

ليبيرالي، يساري، علماني، إسلامي، عشائري، ثوري، متموّل أو رجل أعمال ومموِّل. يمكن أن يقع “الحجي” في أي خانة من هذه الخانات دون أن يفقد أحقيّته بهذا اللقب الجامع. وللتعرّف عليه يكفي ملاحظة سِمات معيّنة تتفاوت من مدير لآخر، وترفعه على سلّم الاستحقاق، فإما أن يكون مديراً عاديّاً، أو مشروع “حجّي”  تنقصه بعض المزايا، أو “حجّي” كامل الأوصاف.

لكنّ السؤال هو: هل نستطيع اختزال “الحجّي” بكونه شخصيّة كازانوفيّة أو طامحة لذلك، وانتهى؟! بالطبع لا، فالأمر يتعدّى هذا الجانب، مع أنّ إقحام قِسم العلاقات العامة في “علاقات خاصة” يمكن أن يمثّل أحد أبرز الدلائل على وجوده.

ولتعريفٍ أشمل يصبح من الأفضل تلخيص الظاهرة بالمعادلة التالية: كلّما ظهرَ “الحجّي” غابت “المؤسسة” والعكس صحيح. فإذا بُني الهرم الوظيفي على أساس الحظوة لدى المدير، فاعلم أنك تعيش في كنف “حجّي”. وإذا شعرتَ بأنك محاط بـ “عواينيّة” ينقلون كل شاردة وواردة، فهذا يعني أنك في ضيافة “حجّي”. وإن تملّكك التوجّس والخوف الدائم من قيام مَحظيٍّ أو محظيّة في مؤسستك بـ”طق برغي” لك عند المدير، فتأكّد عندها أنّك في بيت “الحجي” وإنْ على هيئة صحيفة أو محطة إذاعية أو تلفزيونيّة. وفي حال وجدتَ في مؤسّستك صحفيّاً بلا خبرات فعليّة، لكنه أصبح “الكل بالكل” فقط لأن المدير حقنهُ بهرمون الأهميّة فغدا ذراعه اليمنى، فلا تستغرب لأنه “صبي الحجّي”. وإذا وجدتَ موظفاً آخر يقوم بدور المهرج ومهمّته تسلية المدير وإضحاكه حتى “يبان السن” ويتماوج الكرش، فذاك هو مهرّج “الحجّي”.

يُضاف إلى كل ما تقدّم عَلامة ذات خصوصيّة في مجتمع “الحجّي” ألا وهي الكَرَم! وهذا طقسٌ محدّد ونسبيٌّ أكثر منه خصلة وفضيلة، وهو ينحصر في مجال الطعام، ويقوم على تكتيك واحد مفاده “طعمي التمّ بتستحي العين”، مع احتمال توسّع الغايات وتشعّبها.

و”الحجّي” بهذا المنطق هو شخصي كريم؛ يُولم ويعزم داخل المؤسسة أو خارجها، وبين هذا النوع من المدراء هناك من يقتصر على جلسات القهوة والشاي وتوزيع الحلوى، وهناك من لا يفوّت فرصة اجتماع أو مناسبة لكي يقيم وليمة دسمة. كلّ ذلك يجري بطريقة تجعلك كموظّف في المؤسسة تعدّ للمليون قبل أن تنال من “الحجّي” بسِهام نقدك (في حال توفّر هامش من الديمقراطية).

وحتى لو حدثَ في إحدى المرّات مثلاً وكنتَ موضوعيّاً بكلامك عن المدير، فقد يقاطعكَ زميلك بقوله: “أي بس يا أخي والله إيدو للخير هيك!!” في لقطة سينمائيّة لا تخلو من أداء حماسي يترافق مع فتح راحة اليد وجحوظ العينين.

لكنّه موقف لحظي سرعان ما ينتهي بعودة اليد إلى مكانها، وكأنّ الحركة نتجَت عن هياج العصارات الهاضمة في معدة يحلم صاحبها بحفلة شواء في ضيافة المدير!

إذاً نحن أمام شخص “معطاء” بالنتيجة – ولو ظاهرياً- وله جمهوره الذي ينتظر منه ما هو أكثر؛ ربما النصيحة والتوجيه أو حتى توفير فرصة عمل لأحد الأقارب، فلماذا الانزعاج والتبرّم؟ ما المشكلة إذا اعتُبِر “الحجّي” الإعلاميَّ الأوّل في مؤسّسته مع أنه في الأساس تاجر سيارات مثلاً ويَنظُر إلى موظّفيه كقطع غيار؟ “شو الشغل عيب”!؟ لماذا كان عليَّ أن أنزعج حين قال لنا “الحجّي” ذات مرّة : أنا المقياس عندي هو الولاء مو الكفاءة”؟ ما المانع أن تصبح المؤسسة و”الحجي” شيئاً واحداً؟ هل لأنه باختزاله المؤسسة في شخصه يذكّرنا ببشار الأسد؟

كثيراً ما كنت أتخلّص من هذه الأسئلة – في كلّ مرّة- عبر تجميعها وكأنّها كومة قشّ، فأضرم النار فيها قبيل دخولي مؤسّسة ما للبدء بعملٍ جديد. لكنّني اليوم وددتُ أن أنقل بعضاً منها إلى صديقي.

– بتعرف يا رمزي… صاحبك اللي ما شغّلك بشركته بيذكرني بمين؟

– بمين؟

– بـ”أبو المجد”

– ومنو هاد بقا؟

-هاد كان أب حقيقي إلنا بالجريدة أيّام لي كنا الشام. بس مشكلتو نفسو خضرا!

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى