صفحات المستقبل

دولة العصابة 22 : حلف الكراهية


  أحمد الشامي

مع تكريس تحالفه الاستراتيجي مع أمريكا والغرب ومشاركته في حفر الباطن ثم في مؤتمر مدريد للسلام، وبعدما جنى أول ثمار هذا الحلف المخالف للطبيعة في لبنان عبر التخلص من الجنرال عون، أصبح اﻷسد مطلق اليدين في بلاد الشام وهذا ما فهمه الشعب السوري بكل فئاته.

من لم يستطع هضم هذه الحالة الغريبة كان عليه أن يختار بين “بلع الموس على الحدين” أو الرحيل في غياب كل فرصة لتغيير ولو طفيف. وضع نظام اﻷسد في التسعينات كان مطابقاً لوضع كوريا الشمالية في نفس الفترة، مع فارق أن نظام اﻷسد جمع “المجد” من أطرافه فالشرق والغرب يدعمانه وكذلك “عدوه” التاريخي في سوريا الجنوب.

بقيت أمام اﻷسد مشكلة ” بسيطة”  فالرئيس جورج بوش اﻷب كان راغباً في ٳحقاق سلام نهائي، بشروطه هو، بين العرب وٳسرائيل مستفيداً من سطوة الولايات المتحدة حينها وهي الدولة التي فازت بالحرب الباردة وأركعت كل أعدائها.

في هذه اﻷجواء انعقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق اﻷوسط في 30 تشرين اﻷول 1991 بحضور كافة اﻷطراف بما فيها رئيس الحكومة اﻹسرائيلية حينها “ٳسحاق شامير” وهو رجل عنصري ضيق اﻷفق وباغض للعرب وللسلام.

لم يكن وارداً أن يتخلف ممثل اﻷسد “محمود الشرع” عن حضور هذا المؤتمر خشية ٳغضاب السيد اﻷمريكي. بالنسبة للأسد، السلام يعني وضع ضوابط لحركة عصابته والبدء في ٳرساء دعائم دولة مؤسسات قادرة على احترام اتفاق سلام و تنفيذ بنوده بشكل مستقل عن شخص الرئيس وعن نزوات هذا اﻷخير.

اﻷسد أدرك أن “رأسه” قد يطير مثل السادات قبله ولكن بعد أن يهييء اﻷرضية اللازمة للسلام، هذا كان يشكل خطراً عليه وعلى مشروع التوريث الذي كان قائماً على قدم وساق لصالح “باسل” وسيتم الاستمرار به بعد وفاة هذا اﻷخير لكن لصالح بشار. المشكلة أن اﻷسد لم يكن في وارد مواجهة الرئيس “بوش” اﻷب المنتصر والذي لن يتورع عن تأديبه مثلما أدب صدام قبله. هذا يفسر السلوك “غير الدبلوماسي” للسيد محمود الشرع حين عرض على الملأ صورة عن بطاقة البحث البريطانية عن اﻹرهابي “اسحق شامير” في حضور هذا اﻷخير.

هدف هذا التصرف كان استفزاز “شامير” وجعله يخرج عن طوره ويترك المؤتمر بنرفزة ويتخلص اﻷسد هكذا من تهديد مشروع السلام اﻷمريكي، على حساب “الشريك” اﻹسرائيلي الذي سيخسر حظوته لدى الراعي اﻷمريكي.

المدد سيأتي لحافظ اﻷسد من جهة “أصدقائه” العنصريين في الجنوب والكارهين، مثله وربما أكثر، لكل فكرة أو مشروع سلام مع العرب حتى لو نفذ هؤلاء كل شروطهم. ٳسحاق شامير سوف يقوم بٳفشال مؤتمر مدريد للسلام لكن “على مهله” ودون حركات مسرحية. “شامير” سيجعل عملية السلام مستحيلة وسوف “يقرف” منه “جورج بيكر” لدرجة ٳعطاء رقم هاتف البيت اﻷبيض علناً ﻹسرائيل “التي تعرف ما عليها أن تفعل ٳن كانت راغبة في السلام…”. من النتائج الجانبية لفشل مشروع الحل الشامل ومؤتمر مدريد كان انطلاق “عملية اوسلو” المنفردة بين اليسار اﻹسرائيلي و “عرفات”.

ما هم “شامير” ٳن غضب اﻷمريكيون أو رضوا ؟ فٳسرائيل قد أصبحت دولة شبه عظمى يحسب لها كل حساب، مسلحة بمئات الرؤوس النووية ومحاطة “بأصدقاء” سوف يبذلون الغالي والنفيس للمحافظة عليها وعلى حالة الحرب.

اللوبي الصهيوني في أمريكا سوف يتولى ٳتمام المهمة وقتل مبادرة السلام اﻷمريكية هذه. سوف يسقط “جورج بريسكوت بوش” في انتخابات عام 1992 بعد اضطرابات عرقية في كاليفورنيا وبعد احتداد اﻷزمة الاقتصادية في أمريكا. منافس “بوش” اﻷب كان حاكم ولاية “اركانساس” السابق، ديمقراطي مغمور اسمه “بيل كلينتون”. كلينتون سيكون خلال فترة حكمه من 1993 حتى 2001 أقرب الرؤساء اﻷمريكيين ٳلى ٳسرائيل. لم تعد هناك مشكلة سلام سوف تفرضه أمريكا على الشرق اﻷوسط. الدولة العبرية هي التي سوف تقرر ٳن كانت تريد السلام وشروطه.

اﻷسد تخلص ٳذاً من الضغوط اﻷمريكية لتحقيق السلام بفضل “أصدقائه” المعادين للسلام في ٳسرائيل وهكذا تمكن حلف الكراهية من الاستمرار بل والازدهار برعاية “شامير” والليكود من جهة وحافظ اﻷسد البعثي “الممانع” من جهة أخرى.

لا يمكن فهم العلاقة الغريبة التي جمعت بين اﻷسد كحاكم أقلوي لسوريا وٳسرائيل دون التطرق لحرب 1948 بين العرب وٳسرائيل. في تلك الحرب هاجم العرب ليس فقط الكيان الصهيوني الوليد في فلسطين بل ٳنهم عادوا اليهود أينما كانوا. هذه النظرة القاصرة والغير عقلانية لدى العرب جاءت لفائدة ٳسرائيل التي وجدت لها حلفاء طبيعيين بين يهود الدول العربية الذين اضطهدوا لا لشيء ٳلا ﻷن يهود أوربا، الاشكناز، المختلفون جذرياً عن اليهود الشرقيين قد نجحوا في بناء دولة لهم على أرض عربية وهزموا جيوش العرب المتحالفة.

لكن، هل كان مسموحاً للعرب أن ينتصروا على اليهود عام 1948 ؟ وهل كان الحلفاء سيسمحون بٳبادة ثانية لليهود في فلسطين بعدما أبادهم النازي في أوربا ؟ انتصار العرب كان مستحيلاً على الصعيد الدولي رغم الرفض اﻷخلاقي لطرد الفلسطينيين من أرضهم وٳحلال اليهود مكانهم. فعلاً، هذا ما حدث فقد ساهم العالم كله في مساعدة اليهود على الانتصار على العرب الذين أداروا حربهم بغباء سياسي وبقصر نظر.

لم يدرك العرب أن العالم قد تغير وأن الزمن قد تجاوز أمجادهم التاريخية فرفضوا التقسيم جملة وتفصيلاً وما كان في مقدورهم ذلك، ثم عاد العرب يجرون أذيال الخيبة “ليفشوا خلقهم” فيمن اعتبروهم سبب هزيمتهم، أعني يهود البلاد العربية الذين تعاطفوا مع ٳخوتهم في ٳسرائيل  بشكل عفوي و دون أن يكون لهم دور حاسم في نتيجة الحرب.

ٳسرائيل تلقفت السياسة العربية المتخبطة بدهاء مما أتاح لها التفاهم مع الدروز والبدو في ٳسرائيل وجعل من هؤلاء مواطنين كاملي الحقوق في ٳسرائيل، وزرع مدماكاً بين اﻷقليات في العالم العربي واﻷغلبية السنية.

من بين أكبر ضحايا التخبط العربي تجاه النكبة وفشل الدول العربية الوليدة وخاصة سوريا في التعامل مع نشوء الكيان الصهيوني بحكمة، كانت الطائفة اليهودية في سوريا ومصر.

الدولة السورية التي فشلت في مواجهة اﻹسرائيليين اﻷقوياء بالدعم العالمي لهم، تفننت في جعل حياة اليهود السوريين جحيماً فحرمتهم من أبسط حقوقهم وحاصرتهم في أرزاقهم ومعاشهم واستضعفتهم بحجة كونهم “يهوداً قابلين للتعامل مع العدو الصهيوني”. صحيح أن من بين اليهود العرب من تعامل مع ٳسرائيل عن رغبة أو بحكم القرابة الدينية، لكن الكثيرين منهم لم يكونوا يعتبرون أن اﻷمر يخصهم، فاليهود العرب قد عاشوا مع المسلمين بسلام منذ الفتح اﻹسلامي لبلاد الشام، مثلهم مثل غيرهم من اﻷقليات.

قلائل من يهود سوريا هم من كانوا يرغبون في ترك بلدهم الآمن والذهاب ﻹسرائيل والعيش في ظل الكراهية والقتال، مع ضرورة تعلم لغة جديدة والاندماج في مجتمع مختلف، دون منافع ترتجى حينها. بالنسبة لهؤلاء الذين لم يعانوا من المحرقة ولا من الاضطهاد في اوربا مثل الاشكناز، وحدهم المتدينون والمتطرفون رغبوا بالهجرة، لكن كثيرين لم يكونوا راغبين في ترك بلدهم، سوريا، ما لم يُفرض عليهم ذلك.

المشكلة أن الدولة السورية الديمقراطية، ثم الانقلابية وبعدها الوحدوية، لم تستطع، أو لم ترد، حماية اليهود والمحافظة على التعايش التاريخي بين الشعبين. كانت النتيجة هي فرار يهود سوريا، مثلهم مثل باقي يهود العالم العربي مع استثناء كبير هو المغرب، ٳلى ٳسرائيل جالبين معهم ما خف حمله وغلا ثمنه، لكن بعدما تركوا وراءهم أملاكاً وأصدقاء وحلماً لم يتحقق لدولة سورية لكل مواطنيها بكل أديانهم.

(في المغرب، كما في تونس، شجع المستعمر الفرنسي هجرة اليهود ٳلى ٳسرائيل، لكن الملك محمد الخامس وضع حداً لهذا التهجير شبه القسري بعد الاستقلال ومنح اليهود حقوق المواطنة كاملة دون منعهم من الهجرة. وحدهم يهود المغرب كان لهم خيار حقيقي في المغادرة أو البقاء في بلدهم الذي ظل محافظاً على صلاته معهم).

سوريا فرضت كلمة “موسوي” على هويات اليهود وحاصرت الباقين منهم في الداخل وجعلت حياتهم شديدة الصعوبة. ما حصل مع اليهود السوريين من اضطهاد جعل باقي أقليات سوريا تخاف على نفسها من مصير مشابه لمصيرهم، خاصة أن ليس لهذه اﻷقليات من دولة، مثل ٳسرائيل، تحميها. هذا قد يفسر نزوع أبناء اﻷقليات ٳلى الانخراط في الجيش وحبك المكائد للوصول ٳلى السلطة ثم البقاء فيها بأي ثمن في غياب دولة لكل مواطنيها وفي غياب ضمانات لحقوق اﻷقليات.

هذا الحراك من قبل أبناء اﻷقليات وسعيهم “لحماية أنفسهم وطوائفهم” من مصير مثل ذاك الذي حل بيهود سوريا، وجد عطفا وتفهما عميقين من قبل الغرب وخاصة ٳسرائيل التي وجدت في قيام أنظمة أقلوية غير ديمقراطية ومكروهة شعبياً، ضمانة لبقائها كأقوى لاعب في المنطقة. بالنسبة لهذه اﻷنظمة المسخ، الأسدي والصدامي وبدرجة أقل اللبناني، كانت ٳسرائيل عملاقاً لا يقهر بفضل تماسكها وديمقراطيتها (لليهود والدروز حصراً) وكانت حليفاً طبيعياً لهذه اﻷقليات في التقدير اﻷخير، مهما كانت الخزعبلات اللفظية والمهاترات الحربجية التي أبدع فيها اﻷسد وصدام.

كلما ازداد الخطاب السياسي تطرفاً ورفضاً للاختلاف وللآخر وكلما تجاهلت الممارسة السياسية حقوق اﻹنسان اﻷساسية بغض النظر عن الدين والجنس والهوية، كلما ازدادت قوة ٳسرائيل “كالديمقراطية الوحيدة في المنطقة” وكحليف طبيعي لا غنى عنه للأنظمة الطائفية واﻷقلوية في العالم العربي وخاصة في الجوار اﻹسرائيلي.

تلك كانت الحلقة المفرغة التي دار فيها الخطاب والسياسة اﻷسديان والتي جعلت مشروع السلام بين سوريا اﻷسد وٳسرائيل مستحيلاً.

لتبرير بقاء نظامه الفئوي كان اﻷسد بحاجة للتهديد اﻹسرائيلي وبحاجة ﻹشهار عدائه اﻷعمى للآخر، الصهيوني اليهودي، لدرجة رفض المفاوضات المباشرة والعلنية معه ! كلما زادت حدة الخطاب اﻷسدي وتطرفه، كلما ترسخت “شرعية” النظام القائمة على العداء على مبدأ “أنا وأخي على ابن عمي..”. هذا ما سماه المتفذلكون بالتحالف الموضوعي بين المتطرفين، بين نظام اﻷسد وٳسرائيل.

بالفعل، مع وصول اﻷسد ٳلى السلطة لم تُزَل كلمة موسوي من هويات اليهود ولم يعد اﻷسد لهم حقوقهم المدنية ولا هو طرح مسألة أملاك اليهود المهجرين من سوريا وحقوقهم في التعويض أو العودة، حتى في ٳطار تسوية شاملة، تماماً كما يطالب العرب بالنسبة للاجئين الفلسطينيين. اﻷسد اكتفي بتسهيل هجرة الباقين من اليهود في سوريا كهدية للرئيس اﻷمريكي نيكسون حين زار دمشق في حزيران 1974 ولم يحتفظ سوى برفات “ايلي كوهين”!

التحالف الموضوعي بين اﻷسد وٳسرائيل أكثر من واضح بدلالة قول “اسحق رابين” : “ٳن أفضل اتفاقيات السلام بين العرب وٳسرائيل هي تلك غير المكتوبة بيننا وبين اﻷسد”. مع ذلك، ربما أدرك رابين قبل اغتياله أن هذه “الاتفاقية” لها حدود وأنها لن تغني عن اتفاق سلام حقيقي بين شعبين ينهي عداء يستنزف قدرات الجميع ويمنع قيام منطقة متكاملة اقتصادياً ومزدهرة سوف تكون محركا للنمو اﻹقليمي والعالمي ومنارة للبشرية ومثالاً للتعايش السلمي. “رابين” ربما كان قد أدرك أن العيش في الدماء والقتل ليس حلا وأن ٳسرائيل تحفر قبرها بيدها ٳن هي استمرت في العيش كقلعة محاصرة أو كجزيرة معزولة في بحر من العداء العربي، ولو مع زعماء “مسايرين” مثل اﻷسد.

مشروع السلام وعرض السلام اﻹسرائيلي المشهور باسم “وديعة رابين” كان آخر كابوس يواجه اﻷسد ! من حسن حظ حافظ أن متطرفي ٳسرائيل قاموا بتخليصه من هذا التهديد حين قام مهووس ٳسرائيلي من أصل يمني اسمه “ايغال أمير” باغتيال اسحق رابين في الرابع من تشرين الثاني 1995. أول اغتيال سياسي في تاريخ ٳسرائيل كان ضحيته رجل جعل من السلام مع العرب، بشروط ٳسرائيلية، برنامجه السياسي ! المتطرفون اليهود نسوا كل ما قدمه الجنرال رابين لدولتهم ودوره في حرب 1967 وتكسيره لعظام اﻷطفال الفلسطينيين أثناء الانتفاضة ولم يغفروا له “عرضه” للسلام مع العدو…

هكذا اجتاز تحالف الكراهية عقبة “عروض السلام” اﻹسرائيلية، اﻷسد اطمأن ٳلى أن له حلفاء مخلصين في قلب المؤسسة اﻷمنية العسكرية اﻹسرائيلية لهم، مثله، مصلحة في دوام العداء الشكلي وحالة “الحرب الاورويلية”.

السؤال هو : هل اكتفى اﻷسد بالتحالف “الموضوعي” مع ٳسرائيل وخاصة مع المؤسسة اﻷمنية العسكرية فيها، أم أنه ذهب أبعد من ذلك؟ هل أقام اﻷسد تفاهمات استراتيجية مع ٳسرائيل تتعدى ٳدارة اﻷزمات وتصل ٳلى تبادل خدمات وخبرات ومنافع، مثلما فعل مع السوفييت واﻷمريكيين ؟ كيف كانت تتم اتصالات اﻷسد مع ٳسرائيل ؟

أحمد الشامي  http://www.elaphblog.com/shamblog        ahmadshami29@yahoo.com

 نشرت في العددالتاسع والثلاثون من “حـريـــــــــــــات “، الجريدة الأسبوعية المستقلة للثورة السورية، والذي صدر الإثنين 7 أيار 2012.  http://www.syrian-hurriyat.com/issues/Hurriyat_issue39.pdf

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى