صفحات مميزة

حرب الإبادة على الغوطة –مقالات مختارة-

تعالوا لنختلف عما إذا كانت إبادةً أم مجرّد مذبحة/ عمر قدور

ربما كان من الأفضل لو كتبت هذه السطور سيدة تدعى ورد مارديني، ورد التي أتيح لها أن تكتب على صفحتها في فايسبوك قبل قليل: إن وصلكم خبر استشهادي يوماً، لا تحزنوا عليّ، ادعوا لي بالرحمة، وسامحوني. قبل ذلك بيومين أتيح لورد أن تعرّف بنفسها، فهي كما تقول من سقبا في غوطة دمشق الشرقية، كان طموحها أن تدرس الصحافة، لكن حصار قوات الأسد للغوطة قتله.

كتبت ورد ذلك التعريف لتقول لنا إنها مثل كل الذين يستحقون حياة عادية، أو بالأحرى مثل البشر جميعاً الذين لا يستحقون الإبادة، وكانت في القليل من تغطياتها الصحافية المنشورة من قبل قد أخبرتنا مثلاً عن الطفلة «بارعة» التي قتلها القصف الوحشي في بلدة دير العصافير، وأخبرتنا كيف هرعت أمُّ بارعة من نقطة طبية أُسعف إليها ابنها الآخر الذي قُتل لتطمئن على ابنتها التي ماتت جراء الإصابة في نقطة طبية أخرى.

لهواة هذا الصنف تحديداً، لا تقصّر رسالة ورد في توبيخ قادة الفصائل الموجودة في الغوطة وتحمّلهم قسطاً من المسؤولية عن اليوم بسبب تناحرهم على المكاسب والسيطرة، وتدعو حتى إلى الاستسلام لأنها تريد الحياة لأهل الغوطة ولأطفالها. لأطفالها هي أيضاً الذين أنجبتهم أثناء الحصار، وهذه أيضاً إشارة إلى هواة هذا الصنف من توبيخ المحاصرين أو المهجّرين في المخيمات بسبب قدرتهم على الغرام والإنجاب، وعدم مراعاة ظروفهم التي تستوجب منهم التحول إلى جثث حية لا علاقة لها بأيٍّ من غرائز الحياة الاعتيادية.

ما يصلنا من الغوطة، منذ بدء القصف الوحشي الكثيف المتواصل بالطيران الروسي والأسدي، صور معفّرة بالدماء أو بغبار البيوت المدمرة لأشخاص يحتضرون أو مقتولين. البعض ممن في طريقهم إلى هذا المصير قد تتاح له فرصة إرسال رسالة ليقول لنفسه، قبل أن يقول لأحد آخر، إنه لم يُقتل بعدُ من القصف أو التجويع، أو حتى من القهر وهو يرى كل ذلك على مدار الساعة.

يمكن في هذه اللحظة سماع صوت متململ يسأل: ما الجديد؟ ألم يكن السوريون يُقتلون طيلة سبع سنوات بصرف النظر عن طريقة القتل؟ ما الجديد إذاً حتى يُثار موضوع الغوطة؟ ثم ألم يكن محتماً بعد حصار لسنوات الوصولُ إلى هذه النتيجة؟ وهل يُنتَظر من بشار إبقاء الخطر على تخوم عاصمته؟ ومن قال إن هناك حرباً رحيمة أو خالية من مثل هذه المآسي؟ أوليس لدينا في التاريخ البعيد والقريب سجل حافل من فظائع الحروب؟

نعم، قد نواجه كل هذه الأسئلة المتململة «البريئة»، وكأننا نتحدث عن مسلسل رتيب، أو عن عادة بشرية متأصلة ومذمومة فحسب. وكما هو معلوم ومتوقع، وفق هذا المعيار، أفضل طريقة لإشاحة النظر عن المجازر هو تكرارها، فالمجزرة الأولى تكون أبلغ أثراً من العاشرة أو المائة. المجزرة الأولى قد تتصدر نشرات الأخبار، أما العاشرة فقد يكون ترتيبها الإعلامي مطابقاً لرقمها، وقد لا تُذكَر إطلاقاً لانعدام عنصر التشويق فيها.

ذلك قد يعني أيضاً النظر إلى المذبحة المتكررة على أنها من طبيعة الحرب، حيث يغدو لكل مذبحة جديدة ظروفها الميدانية. يمكن في حالة الغوطة مثلاً التوقف عند هدف تأمين العاصمة لتنظيم الأسد، أكثر من التوقف عند تجويع أهلها لمدة سنوات قبل الإقدام على إبادتهم في النهاية. وعندما يكون لكل مذبحة ظروفها فلن تكون لخاصية التشابه والتكرار من مغزى، باستثناء مغزى الاعتياد، وتكرار التساؤل عما إذا كانت ترقى لأن تكون جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، على غرار توصيفات درج على استخدامها قادة دوليون أو مسؤولون أمميون.

الضحية في حالتنا، وفي سياق متكامل من المجازر، هي ضحية إبادة ممنهجة. هذا ما لا يُراد الإقرار به، سواءً على مستوى دولي أو حتى على مستوى محلي، بما في ذلك سوريون يحتسبون أنفسهم على المعارضة، ويملكون حساسية إزاء تصنيف يحتمل مدلولات طائفية تعلو على حساسيتهم إزاء الإبادة ذاتها. وقد تأتي الحساسية المذكورة بدعوى منع ثأر قد يُبنى على الإبادة الحالية، أو قد تأتي على أرضية الإنكار التام لموضوعة الإبادة واعتبار كل ما يجري حرباً سياسية خالصة ينتهج فيها تنظيم الأسد العنف المطلق الذي هو من طبيعته.

على المستوى الدولي، كان منذ البداية توصيف الحرب الأهلية مخادعاً، لا لجهة إهماله كون ما حدث ثورة على الاستبداد فحسب، وإنما أيضاً لما يوحيه الوصف بوجود تعادل في ميزان القوى لا يحوز فيه طرف كافة مقدّرات البلاد التي احتكرها لمدة أربعة عقود. لا يمكن مثلاً تشبيه الحالة السورية بالحرب الأهلية اللبنانية التي لم يلعب فيها الجيش دوراً يُذكر، وتُرك ميزان القوى لوزن القوى الداخلية ومقدار دعمها الخارجي، قبل أن تُسلّم جميعاً لوصاية الأسد.

نحن إزاء نظام استخدم المسألة الطائفية منذ أول تظاهرة، وبعده بأشهر قليلة رفع حلفاؤه من حزب الله والحرس الثوري شعارات الثأر لزينب، ثم أتى الاحتلال الروسي ليعلن بلسان لافروف أنه لا يريد انتقالاً في الحكم قد يتسبب باستلام السُنّة مقاليد الحكم. في الواقع يصعب أن نكون على موعد مع فصاحة ووضوح أكبر مما أعلنه هذا التحالف، ثم اختصره بشار الأسد مسروراً بنتائج الإبادة والتهجير وحصوله على مجتمع أكثر تجانساً من قبل.

في محصلة السنوات السبع لدينا ما يقارب المليون قتيل، وما يزيد عن مئتي ألف معتقل لا يُعرف عدد الذين قُتلوا منهم تحت التعذيب، ولدينا ما يزيد عن ستة ملايين مهجّر. هذه حصيلة أبلغ من أي جدل حول ماهية جريمة الإبادة والتغيير الديموغرافي، يُضاف إليها حملات تشيّع يقودها الإيرانيون بكثافة تحت الضغوط والإغراءات المالية. بالطبع هذا الجانب لا يختزل القضية السورية، لكن الأرقام تتحدث عن إبادة وتهجير ثلث السكان، وعلينا التمعّن فيها جيداً لفهم وجه سورية المقبل، وأيضاً لفهم أسباب إبادة أهالي الغوطة اليوم، وتلازمها أسوة بكل ما سبقها مع حملات ضخمة للموالين (على وسائل التواصل الاجتماعي) تدعم الإبادة بأقذع العبارات وأشدّها توحشاً. نعم، الإبادة تحلّق بجناحين، بالمحرّضين عليها وبمن ينكرونها.

الحياة

 

 

عن جدوى الصراخ في مواجهة حرب الإبادة على الغوطة الشرقية/ صادق عبد الرحمن

عندما تُصدِرُ الخارجية الفرنسية بياناً يقول إن ما يجري في الغوطة الشرقية انتهاكٌ للقانون الدولي الإنساني، وعندما تُصدِرُ إحدى مؤسسات الأمم المتحدة، اليونيسيف، بياناً مقتضباً تقول فيه إنه «ليس هناك كلمات يمكن أن تنصف الأطفال القتلى»، فهذا قد يعني أنه لا جدوى من الصراخ.

لماذا ينبغي أن نصرخ بالعربية والإنكليزية والفرنسية وكل لغات العالم؟ الجواب بسيط، كي يعرف العالم ما يجري فيتحرك لإيقاف الإبادة. لكن العالم يعرف، ولا يفعل شيئاً، وهكذا تكتمل دائرة الشعور بالعجز، ويبدو حتى الصراخ فارغاً من أي معنى.

يقول ديمستورا إن ما جرى في حلب يمكن أن يتكرر في الغوطة، والأمم المتحدة نفسها كانت قد اعتبرت أن عمليات التهجير في سوريا قد ترقى إلى جريمة حرب، وديمستورا هو مبعوث الأمم المتحدة. الأمم المتحدة تعرف إذن، فلماذا ينبغي أن نصرخ، وما الجدوى؟!

نصرخ كي تتحرك قوى شعبية فاعلة في العالم وتضغط على حكوماتها؟! لا يبدو هذا كلاماً ذا معنى، لأن معرفة ما يجري في سوريا بالنسبة لشعوب العالم باتت أمراً بالغ الصعوبة، خاصةً بعد أن أغرقَ صحافيون وأكاديميون ومؤسسات إعلامية وأحزاب سياسية، من سائر أنحاء العالم، الفضاءَ الإعلامي بالأكاذيب والأضاليل والحقائق البديلة حول أن ما يجري في سوريا هو حرب الحكومة الشرعية ضد جماعات إرهابية، هذا إذا افترضنا أن هناك قوى شعبية يمكن أن تضغط لتغيير سياسات الدول. ثم عن أي دولٍ نتحدث؟! إذا لم تغير روسيا سياستها، فإن بقية دول العالم لا تستطيع أن تفعل شيئاً إلا عبر التحرك خارج ميثاق الأمم المتحدة، وهذا ما لا يبدو أن أحداً ينوي فعله. دماء السوريين وأعمارهم لا تستحق هذا على ما يبدو.

حتى صور الضحايا والفيديوهات لم تعد تحرك ساكناً، لم يعد أحدٌ يريد مشاهدتها، أو يحفلُ بها. قالت لي سيدةٌ مقيمةٌ في الولايات المتحدة بالأمس، بعد أن أرسلتُ لها فيديو يُظهِرُ انتشال أطفال من تحت الأنقاض في بلدة حمورية: «وما أدراني أنه لم يكن في المبنى نفسه مجموعة لجبهة النصرة، وما أدراكَ أنت نفسكَ أيضاً؟ لا شيء بين أيديكم يثبت أن النظام يتعمد استهداف المدنيين».

كنتُ سأواجِهُ كلامها بالغضب والصراخ في السنوات السابقة، أما اليوم فكان الأمر مختلفاً، حاولتُ ألّا أصرخ، وحاولت أن أقول لها إن وجود مجموعة لجبهة نصرة أو غيرها في أي منطقة لا يبرر القصف العشوائي، وإن استخدام قذائف غير موجهة على مناطق فيها مدنيون هو جريمة، ومخالفةٌ لقوانين الحرب الدولية. حاولتُ أن أقول لها إن من يحاصر الغوطة ومن تسبَّبَ بكل هذه الحرب هو النظام السوري، وإن ما يجري في الغوطة عبر القصف والحصار هو «قتل أعضاء من جماعة بشرية، وهو إلحاق أضرار جسدية جسيمة بأعضاء جماعة بشرية، وهو إخضاعُ جماعة بشرية، عمداً، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً»، وهي حرفياً من الأفعال المكونة لجريمة الإبادة وفق القوانين الدولية. لكن هذا لم يجدِ نفعاً، فهي قالت إن الفصائل في الغوطة تستهدف أحياء سكنية في دمشق بقذائف غير موجهة أيضاً، وهي جريمةٌ أيضاً وفق قولي أنا نفسه. أجبتها أنني متفقٌ معها بخصوص هذا الأمر، ولكن هل ارتكاب فصيل مسلح مخالفات لقوانين الحرب الدولية، يبرر ارتكاب جريمة الإبادة بحق سكان المنطقة التي يتمركز فيها هذا الفصيل؟ ثم كيف يمكن وضع ارتكاب مخالفة لقوانين الحرب على قدم المساواة مع جريمة إبادة جماعية ممنهجة واضحة ومعلنة تتم في وضح النهار. ثم هل يمكن أن ننسى إن استمرار الحرب أصلاً ناتجٌ عن رفض النظام الامتثال للقرارات الدولية، عبر مواصلته رفض نقاش الانتقال السياسي.

تدحرجت كرة الحديث وتشعبت، وغرقنا في تفاصيل لا نهاية لها، حتى بات واضحاً أن الحديث عبثيٌ تماماً، ولذلك انتهى بقولها إنها تتضامن مع الضحايا المدنيين جميعاً، وتدين كل الأطراف التي تتعمد قتل المدنيين بمن فيهم النظام الديكتاتوري في دمشق، وتصلّي كي تنتهي هذه الحرب اللعينة.

كان هذا مثالاً عن عدم الجدوى والعجز، لكن الأمثلة تطول ولا تنتهي، فلماذا نواصل الحديث والصراخ؟ وهل هناك ما يمكن لنا فعله لإيقاف الإبادة في الغوطة الشرقية؟ لا شيء سوى أن نأمل بضغطٍ دوليٍ على النظام يجبره على إيقاف القصف، والأرجح أن صراخنا لن يأتي بهذا الضغط. وحتى الصمود العسكري لفصائل المعارضة في الغوطة أمام الحملات البرية ليس مفيداً بهذا الخصوص، لأنه يمكن أن يمنع النظام من السيطرة على الأرض، ولكنه لن يوقف الاستباحة من السماء، ولن يوقف الحصار والموت بسبب نقص الأدوية والغذاء، وربما يمكننا أن نأمل أن صموداً كهذا قد يجبر النظام على تغيير حساباته، لكن صراخنا أيضاً ليس مؤثراً هنا كثيراً، بل المعادلات العسكرية ومواقف الجهات الداعمة للفصائل، وقيادة الفصائل نفسها وسياساتها.

هل ينبغي أن نطلب من القوى العسكرية والأهلية الفاعلة في الغوطة الاستسلام؟ هو سؤالٌ آخرٌ يضجّ في أذهان كثيرين، ويبقى مفتوحاً بلا أجوبة، وأول ما يُعيق الوصول إلى جواب بخصوصه هو أننا لا نعرف على وجه اليقين ما إذا كان هذا خياراً مطروحاً عليهم أصلاً، وما هي شروط هذا الاستسلام ومتطلباته. التهجير؟! أم الخضوع الكامل والاستسلام لما يختار النظام أن يفعله بهم، على نحو ما كان يحصل بين المنتصرين والمهزومين في عصور مظلمة سحيقة؟! وهل هناك جهة دولية قالت إنها على استعداد لضمان سلامة المدنيين في حال استسلم المقاتلون؟! وهل يحق لنا أن نطلب من المقاتلين الاستسلام لنظام لا يزال يقتل منهجياً تحت التعذيب في السجون؟ نحن الموجودون خارج الحصار والحرب لا نملك إلا أن نحترم خيار المُحاصَرين أياً كان.

هل نصمتُ إذن؟ وننتظر حصيلة توازنات القوى الدولية وحصيلة الموازين العسكرية؟ ليس هذا خياراً أيضاً، لا يمكننا أن نقبل موت أهلنا بصمت.

لا نعرف نحن المقيمون خارج أرض المعركة والحصار ما الذي ينبغي على أولئك الموجودين داخلها أن يفعلوا، لكننا لا ينبغي أن نصمت. هناك توثيقُ الجريمة بهدف البحث عن العدالة، وهناك الصراخ والكتابة والكلام كي تبقى الجريمة حيّةً في ذاكرة العالم، وهناك التضامن مع أهلنا المحاصرين والمعرضين للموت، وهناك كتابة التاريخ كي لا نترك لأولئك «المنتصرين» أن يكتبوه على هواهم.

قد لا نملك فعل ما يوقف الإبادة، لكننا نملك أن نشير إليها وإلى رُعاتها بوضوح، ونملك أن نفكّر فيما جعلها ممكنةً في وضح نهار التاريخ، ونملكُ أن نفكّر فيما قد يؤسس لعدم تكرارها.

والأهم، إذا كنا خارج المعركة والحصار والموت، فإننا لسنا خارج الحكاية، وإذا كنا نشعر بالذنب والعجز والتقصير، ونلوم أنفسنا على أشياء نعتقد اليوم أنه كان ينبغي لنا فعلها سابقاً، فإن ما نستطيع القيام به هو أن نفعل الآن ما ينبغي فعله في هذا الوقت، وهو ألّا نسمح بتجهيل الفاعلين والقتلة والتطبيع معهم، وألّا نقبل برواية «الحرب الأهلية التي يتحمل مسؤوليتها الجميع». الحرب السورية اليوم هي نتاج قمع ثورة شعبية عظيمة بكل صنوف الأسلحة، هذه حكايتنا التي ينبغي الدفاع عنها بكل الوسائل، لأنها وحدها من تنصف الضحايا وتحفظ كرامتهم.

ينبغي أن نواصل الصراخ، وأن نواصل التفكير أيضاً في كل ما جرى ويجري، هكذا فقط يمكننا الدفاع عن أنفسنا في وجه سلطات العالم الفاسدة، وهكذا فقط يمكننا أن نساهم في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح.

موقع الجمهورية

 

 

 

 

الغوطة مذبحة روسية بامتياز/ بشير البكر

تتعرّض منطقة الغوطة في ريف دمشق لحرب إبادة بلغ ضحاياها في الأيام الأخيرة مئات القتلى من المدنيين، منهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال، وسط صمت دولي وعربي على الجرائم التي ترتكبها روسيا والنظام السوري ضد قرابة 400 ألف محاصَر هناك منذ عام 2013.

باتت الغوطة الشرقية تنتظر مصيرا مشابها لما تعرّضت له حلب الشرقية في نهاية عام 2016، على يد الروس والمليشيات الإيرانية، حيث تم حرث المدينة بالطيران الحربي والقصف المدفعي، وجرى تهجير من بقي على قيد الحياة من المدنيين.

معركة إبادة الغوطة روسية بامتياز. القرار روسي والسلاح روسي، ويساعد في ذلك النظام والمليشيات الايرانية، وقد تم تصنيفها من روسيا والنظام ضمن المنطقة التي أطلقوا عليها اسم “سورية المفيدة” أو “النافعة”. وحصل تنافس بين طهران وموسكو عليها، نظرا لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة للعاصمة دمشق، ولغناها منطقةً زراعيةً خضراء، ورئةً تتنفس منها العاصمة التي اختنقت بالإسمنت منذ حوالي ثلاثة عقود، بسبب البناء العشوائي جرّاء النزوح من المدن الأخرى.

يعود تصميم روسيا على إسقاط الغوطة عسكريًا، وتفريغها من أهلها وطرد الفصائل المسلحة منها إلى عدة أسباب. أولها العودة الأميركية إلى الملف السوري. وكانت الشرارة من لحظة استقبال وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، وفد الهيئة العليا للمفاوضات برئاسة نصر الحريري في الرابع عشر من فبراير/ شباط الحالي في العاصمة الأردنية. وكان واضحا أن روسيا لم تتقبل الأمر، بعد أن فشلت في إقناع الهيئة بحضور مؤتمر سوتشي الذي انعقد في نهاية الشهر الماضي، وانتهى إلى فشل ذريع.

والسبب الثاني أن العودة الأميركية إلى الملف السوري باتت تترجم نفسها على الأرض، من خلال السيطرة على كامل منطقة الجزيرة السورية التي تشكل قرابة ثلث الجغرافيا السورية، وهي غنية بالنفط والغاز والقطن والحبوب، وقد تم ذلك من خلال التحالف مع الأكراد الذين شكلت لهم واشنطن “قوات سورية الديمقراطية”، وقامت في الآونة الأخيرة بزيادة عديد هذه القوات بمعدل 50 ألف مقاتل، ورصدت لها موازنة بمقدار 500 مليون دولار، وأسندت لها مهمة حماية الحدود السورية مع العراق وتركيا. وحينما حاولت روسيا إرسال مليشيات تابعة لها إلى حقل نفطي شرق دير الزور، وقضى عليها الطيران الأميركي كليا، وهناك معلومات متداولة عن مصرع 300 روسي.

أما السبب الثالث فهو يعود إلى عملية تقاسم نفوذ على الأرض السورية، بين كل من روسيا والولايات المتحدة وإيران وتركيا وإسرائيل. وفي الوقت الذي يبدو أن منطقة الجزيرة صارت من حصة أميركا، فإن بقية الأطراف لم تحدّد حدودها النهائية، وهناك صراعٌ حتى بين أقرب الحلفاء، كما هو الحال بين موسكو وطهران على الغوطة الشرقية. وحسب أوساط سورية، قد تضطر روسيا للتنازل عن الغوطة لإيران في مقابل تسليم الأخيرة لروسيا بقية المناطق، وخصوصا القواعد العسكرية في طرطوس واللاذقية، وثمنا لسكوت طهران عن التفاهمات الروسية الإسرائيلية في الجنوب.

صراع النفوذ يتم على حساب الدم السوري. السوريون ضحايا نزاعات الأطراف وخلافاتهم، ولا يبدو أن هناك بارقة أمل لتحرك دولي، من أجل تحييد المدنيين على الأقل، وإخراجهم من دوائر حروب المصالح الدولية على الأرض السورية، ولخص وزير خارجية فرنسا، جان إيف لودريان، الموقف بقوله “القادم في سورية أسوأ إذا لم نتحرّك”.

يحتاج الأمر إلى تحرك دولي جاد لوقف روسيا التي ترتكب جرائم ضد الإنسانية في سورية، وإلا فإنها ماضية، ولن يردعها سقوط ضحايا مدنيين، فقد جرّبت ذلك في حلب، ولم تتعرّض للمساءلة، ويزيد تصميمها على ارتكاب الجرائم، مع اقتناعها بأن هذا الطريق سوف يقود إلى تركيع الشعب السوري، ليقبل ببشار الأسد رئيساً من جديد.

العربي الجديد

 

 

 

في أسباب الحرب على الغوطة/ عمار ديوب

تأتي الهجمة البربرية الجديدة على الغوطة قرب دمشق بعد الإخفاق الروسي الكبير، حيث لم يحقّق مؤتمر سوتشي (للحوار الوطني السوري) شيئاً يُذكر؛ فاللجنة الدستورية لم تعطَ أية أهمية عالمياً كما عُوِّلَ عليها. بل إنّها هُمشت قبل انعقاده، حيث طرحت الولايات المتحدة وحلفُها ورقة اللاورقة، أي ورقة سياسية جديدة، وربما لأوّل مرة، وكذلك لم تسمح للروس والإيرانيين والنظام بتغيير الحدود المرسومة بدقةٍ في دير الزور، عبر قتل مئات المقاتلين الذين أُرسِلوا لاختبار تلك الحدود. وأيضاً صاغت أميركا رؤية جديدة للوضع السوري، طرحها وزير الخارجية، ريكس تيلرسون، ويُفهم منها بداية تقارب مع تركيا، حيث صمتت عن غزوها عفرين، وإعادة تشكيل واقع جديد في كل سورية. يريد الأميركان تهميش الوجود الإيراني، وطرح مستقبل النظام الحالي على الطاولة، وتفكيك كلّ الاتفاقيات بين روسيا وتركيا وإيران. وبالتالي أصبح على روسيا رسم مناطق نفوذها، وفرض سيطرة كاملة على العاصمة وأريافها، وهذا من أسباب الهجمة على الغوطة، على الرغم من أنها مشمولة باتفاقية خفض التوتر بضمانة مصرية. وهذا يظهر أن الاتفاقيات الحقيقية لا تتم في أستانة أو مصر أو جنيف، أو حتى من خلال الأوراق التي تطرحها روسيا أو أميركا منفردة أو مع حلفائها؛ فالاتفاقيات تكون بين روسيا وأميركا، وبعد ذلك يتم توزيع الحصص على الأطراف الإقليمية.

دفع تخوّفُ الروس من الحضور الأميركي الكبير في سورية، ومن التقارب مع تركيا، روسيا إلى التوافق مع تركيا على معركة عفرين، وإخراج مسلحي حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) من المدينة، ولا مشكلة إن أعاد النظام فرض سيطرته عليها، وسيكون ذلك مخرجاً للجميع، بدلاً من الحرب المستمرة هناك! فالنظام ذاته تابع للروس، أي لحلفاء الأتراك، لكن تركيا تكون قد أنهت الطموح الكردي، وسيطرت على الحدود، وربطت البلدات المحيطة بعفرين بجرابلس والباب، ولاحقاً بإدلب. وبالتالي، تكون الحدود مُؤمّنة لصالح تركيا. وتأتي عملية رسم مناطق النفوذ في إدلب، لتأمين المنطقة الشرقية والشمالية بالكامل، وهو ما سيوحّد الدول المُحتلة لسورية ضد المجموعات التي لم تذعن بعد، أو لتصفية الجيوب الجهادية المتبقية.

تأتي الهمجة على الغوطة ضمن هذا الإطار؛ فروسيا تريد فرض سيطرتها عليها وعلى القلمون الشرقي، وحمص وحماة، ووصولاً إلى طرطوس واللاذقية، أي تريد إغلاق أي احتمالاتٍ يمكن أن تدخل أميركا من خلالها إلى الغوطة والقلمون الشرقي بالتحديد. الخطوط التي تُرسم بالدم والنار والقتل والإجرام هي سياسات الدول الاستعمارية بكل بساطة، وهي كوارثُ إنسانية، لا يمكن أن يتحسّسها إلا أبناء البلد والمتضامنون مع ثورتهم، وهو شعور أغلبية السوريين للكارثة التي بدأت في الغوطة منذ أيامٍ سابقة، وتتكرّر نفسُها هنا وهناك، وفي كل المدن السورية.

مشكلة الروس أن منظورهم لسورية قائم على أرضية التخوف من تجربة أفغانستان من ناحية، وهزيمتهم فيها، وسحق الثورة السورية كما فعلوا في غروزني والشيشان. رفضهم التعاطي مع الواقع أنّه ثورة، وضد النظام الاستبدادي والإفقاري، واعتبار الوضع مجموعاتٍ إرهابية وضد نظام شرعي. رؤيتهم القاصرة هذه، وتجاهلُهم الدور الإقليمي والدولي الواسع في سورية، هو ما أوهمهم بإمكانية الانتصار السريع. وفي هذا اعتمدوا على السياسة الأوبامية في مكافحة الإرهاب، وتسليم سورية لروسيا والانسحاب من أفغانستان والعراق. وبالتالي، ليس للأميركان مطامح حقيقية في سورية.

روسيا التي جاءت عدة أشهر في سبتمبر/ أيلول 2015، كما أعلنت، تكاد تدخل في العام الثالث لوجودها، وتتحوّل إلى دولةٍ محتلةٍ من جملة احتلالات لسورية. وبالتالي الحرب الدموية التي بدأتها في إدلب ثم حلب، والآن على الغوطة، وقبل ذلك درعا وريف حماة ودير الزور، لا تعطيها سيطرة أكبر من بقية دول الاحتلال. ومن هنا، نرى تخوّفاً روسيّاً كبيراً من سياسات أميركا الجديدة، سواء ما ذكره تيلرسون، أو ورقة اللاورقة، أو التقارب مع تركيا.

مناطق النفوذ، كما تتوضع، تعني أن الروس لم يعودوا المسيطرين الأساسيين، وأن أميركا بالتحديد، بنت ثماني قواعد عسكرية، وتدعم قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردية، ليس لترحل من سورية بالانتهاء من مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). إذاً روسيا تتخوف كثيراً، وتجد نفسها تتخبط في كل مخططاتها؛ فمقرّرات أستانة تأتي من التوافق مع تركيا

“الاتفاقيات تكون بين روسيا وأميركا، وبعد ذلك يتم توزيع الحصص على الأطراف الإقليمية”

وإيران، ومؤتمر سوتشي فشل كما قلنا، والنظام لا يستجيب لها استجابة كاملة، وتحاول إيران دائماً فرض سياساتها، وليس آخرها مطالباتها المتكرّرة بحصصها في الاقتصاد السوري، باعتبارها أهم داعم له طوال سنوات الثورة. ينفرد الأميركان، بشكل شبه كامل، في شمال سورية وشرقها، وكذلك لهم حصّة في درعا وغرب دمشق، وبالتالي لم تنته الحروب بعد.

لن نتكلم عن الرؤية الروسية الإجرامية للثورة السورية ولسورية، حيث صرّح، وزير الخارجية، سيرغي لافروف، أن مصير الغوطة يمكن أن يكون مصير حلب. وأكد التصريح نفسه مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا؛ عكس ذلك هناك تصريحات دولية كثيرة تندّد بالعملية، لكنّها بلا أية قيمة تذكر. يدلل هذا كله على أن المتدخلين بالشأن السوري لم يتفقوا بعد على حلٍّ واضح للكارثة السورية.

تبدو روسيا، كما أوضحت وضعَها الحالي، كأنها تسابق الزمن، لكي لا تُفرَض عليها مفاوضات صعبة، وتكون فيها أحد الأطراف، وليست الطرف الرئيسي فيه. لن تدخل مناطق أميركا ضمن مناطق خفض التوتر، ومناطق خفض التوتر برعاية دول عديدة، والأضعف فيها جميعاً الغوطة وأرياف حمص الشمالي. وبالتالي، ستحاول روسيا وعبر حلفائها إضعاف هذه المناطق وفرض شروط مجحفة عليها، وبما يدخلها ضمن مناطق نفوذ روسيا أكثر فأكثر.

ستفشل روسيا في مساعيها، فهي تفرضها بالقتل والتدمير، لكنها لن تصمد مع أيّة محاولات للاستقرار، حيث ستكون روسيا بمثابة قوة احتلال في نظر أغلبية السوريين. يرسم الروس مناطق نفوذهم نعم، لكنهم سيخسرونها مع بداية أي حل سياسي؛ ليس روسيا فقط، بل كل المحتلين لسورية. وتتطلب هذه الفكرة نصاً آخر.

العربي الجديد

 

 

 

ضحايا الغوطة في ميزان التفاوض لإنعاش «آستانة»/ سميرة المسالمة

تعيد موسكو ترتيب أوراقها ميدانياً، باستخدام القوة المفرطة، لفرض نفوذها في المناطق الضامنة لها في ريف دمشق ومنها الغوطة الشرقية، ونواحي إدلب وصولاً إلى حدود اتفاقيات خفض التصعيد، التي سعت من خلالها إلى تقديم نفسها أمام المجتمع الدولي كحامل لمفتاح الحل، بحكم سيطرتها على سماء سورية، وقدرتها على إسقاط عشرات الضحايا يومياً من السوريين، وهي ترد على خسائرها الميدانية بفعل الضربات الأميركية تارة، واتهامها بتزويد المعارضة ما يمكنها من إسقاط الطائرات الروسية تارة أخرى، وأيضاً هزيمتها الديبلوماسية التي تجلت بفشل مساعيها في توزيع الأدوار سياسياً، من خلال مؤتمر «سوتشي» الذي وضعها آنذاك أمام خيار التعاطي مع نقاط الـ12 لمبعوث الأمم المتحدة، منعاً لانهيار تفاهماتها التركية- الإيرانية، وحرصاً على بقاء «شعرة معاوية» مع الأمم المتحدة، بيد أن ذلك أفرز بياناً باهتاً بسبب غياب المعارضة من جهة، وتجاهل متطلبات الانتقال السياسي المطلوب سورياً ودولياً، ما وضع البيان أمام جملة عثرات من بينها رفض النظام تنفيذ مخرجاته أمام الأمم المتحدة.

سعت روسيا منذ نجاحها في إخراج حلب من معادلة الصراع في 2016 إلى الهيمنة على قرار طرفي الصراع السوري، وإبعاد المعارضة عن ما سمي بأصدقاء الشعب السوري، فحيث امتلكت قرار النظام من خلال تدخلها المباشر لحمايته، وفرت لها «القناة» التركية التأثير المباشر في المعارضة، التي روضتها من خلال مسار آستانة، ثم وفرت المناخ اللازم لقبول سوتشي مبدئياً، والتحايل على رفض الشارع لهذا المؤتمر، من خلال ضمان تمثيل تركيا للمعارضة في المؤتمر، وداخل أروقة إعداد مخرجاته، التي جاءت على مقاس تفاهمات آستانة الثلاثية الرعاية.

ويدلل الصمت الدولي عن إدانة المجازر المرتكبة في غوطة دمشق وإدلب، وتحديداً من الشركاء الثلاثة الضامنين لخفض التصعيد، عن حجم التفاهمات التي تتيح للأذرع العسكرية الروسية والإيرانية والتركية استباحة الدم السوري، من أجل إعادة توزيع الحصص من جديد، وفق واقع الهيمنة الميدانية التي تقاسمتها هذه الدول، لقطع الطريق على أي محاولة دولية في تحقيق تسوية، تخرج أي طرف من الأطراف الثلاثة من معادلة الحل في سورية، تحت شعار «تضامنهم يحقق مصالحهم».

وتوضّح الأمر في شكل جلي بعد عودة الولايات المتحدة الأميركية للإعلان عن وجودها عسكرياً وسياسياً، من خلال ضرباتها الموجعة لأرتال عسكرية من الجنود الروس أو المحسوبين عليهم في دير الزور، أو من خلال مبادرتها السياسية عبر «اللاورقة»، التي تحيك دوراً جديداً للأمم المتحدة وللعملية التفاوضية برمتها، وهو ما اعتبرته الدول المعنية «بخفض التصعيد» يأتي على حساب حصتها من الكعكة السورية، ما مهد بداية لتوافقات «التصعيد الشرس» الذي نشهده اليوم من النظام وموسكو وطهران في الغوطة وإدلب، تنفيذاً لما جاء به مسار آستانة، بما يتضمن من تسليم تركيا المعارضة السورية «مكتوفة اليدين» إلى الجانب الروسي، مقابل إطلاق يد تركيا في معركتها التاريخية مع الكرد، تحت ذريعة حماية أمنها القومي والقضاء على إرهاب الكرد، المتمثل بحزب العمال الكردستاني المحظور تركياً.

ويصبح الحديث عن شراكة النظام والمعارضة للضامنين الثلاثة في الاتفاقيات غير مجد، حيث تحول الطرفان إلى ملحق تابع للدول التي تمثلهما، في أي مفاوضات تعقدها هذه الأطراف، ومع هذا فإن ذلك لا ينفي أن النظام السوري مستمر اليوم بخوض معاركه، التي سبق أن تعهد بها أمام حاضنته، والتي توسع مساحته ميدانياً وتفاوضياً، في الوقت الذي تبتعد المعارضة المسلحة (المشاركة في آستانة) عن دورها، لتقع في فخ تنفيذ أجندة اتفاقات خفض التصعيد (من طرف واحد هو المعارضة)، وما هو في سياقها، كاتفاق الغوطتين، متضمنة المصالح الروسية والإيرانية والتركية، والتي تتقاطع مع رغبة النظام السوري في استعادة السيطرة على مناطق اتفاقات خفض التصعيد، في الغوطة وإدلب ومنها مناطق النفوذ الكردية، وحتى الجنوب السوري المحاذي للحدود مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

وعلى نهج معارضة آستانة، يتخذ بعض المعارضة السياسية موقفاً يتساوق مع موقف تركيا من مجريات المعارك في سورية، ويبتعد عن أي مسؤوليات وطنية تجاه المكونات السورية وما يحدث للسوريين من مجازر على يد الدول الضامنة لاتفاقيات آستانة.

وضمن أجواء هذه الحرب المستعرة في سورية، ومع تغيير في قواعد الاشتباك بين المتصارعين على سورية من الدول الثلاث، في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الغربيين، يدفع المدنيون السوريون في الغوطة وإدلب وعفرين ثمن هذه الخلافات الدولية من جهة، وتلك التوافقات الإقليمية الروسية من جهة ثانية، ويصبح دمهم المراق حبراً لرسائل متبادلة بينهم، بهدف تغيير خريطة تقسيم النفوذ، وصياغة تسويات يتم فيها «قصقصة» سورية وفق مصالحهم، كما يمهد هذا العنف المبالغ به لإعادة رسم خريطة التوزيع الديموغرافي لسورية، حيث يراهن النظام من خلال هذه الحملة الشرسة على ترحيل آلاف العائلات من الريف الدمشقي ليحل مكانهم ما يتجانس وفكرة إحاطة العاصمة بحزام بشري من الحاضنة الموالية للنظام وإيران سياسياً ومذهبياً، باعتبار دمشق وريفها من حصة طهران، في خريطة توزيع الحصص وفق خفض التصعيد المتفق عليه.

وترسم تركيا في معركتها ضد الكرد في عفرين حدوداً جديدة، لمساحة حركتها إقليمياً ودولياً، ليس فقط في تمدد قواتها العسكرية داخل الأراضي السورية، ولكن في استعادتها زمام المبادرة بعد أن فقدتها، خلال الفترة التي احتاجتها لترميم علاقتها مع روسيا، والتعافي من واقعة إسقاط القوات التركية الطائرة الروسية عام 2015، ما أتاح الفرصة لروسيا في استثمار الضعف التركي أمام الملف الكردي، الذي تضعه الولايات المتحدة الأميركية ضمن أولوياتها، وتحت حمايتها، وهو ما باعد بين واشنطن وأنقرة، وقرب بين روسيا وتركيا وإيران وضمناً النظام السوري.

ووفقاً لهذه التطورات فإن كلاً من روسيا وإيران يعول على الاستفادة من توسيع مواقع نفوذه، وانحسار سيطرة المعارضة، وإبعادها عن العاصمة ومحيطها، وكذلك عن محيط إدلب إلى شرق السكة، ما يؤهلهما للجلوس من جديد على طاولة تفاهمات دولية تجمعهما مع الولايات المتحدة الأميركية، آخذة في الاعتبار التغييرات العسكرية الميدانية.

ويمكن القول إن مئات الضحايا في سورية الذين يسقطون بنيران ثلاثي آستانة هم من يضع جدول أعمال القادة الثلاثة (بوتين وأردوغان وروحاني) الذين سيجتمعون بعد انتهاء حروبهم الشرسة في سورية، والتي يتوقع استمرارها إلى الشهر المقبل، حيث التحضيرات جارية لقمة ثلاثية تعيد إنعاش اتفاقات آستانة من مواتها الحالي، كما تهيئ لخطاب النصر الذي سيلقيه الرئيس فلاديمير بوتين أمام ناخبيه في روسيا قبل بدء العملية الانتخابية الرئاسية في (18 آذار- مارس المقبل)، ويؤكد من خلاله أيضاً رعايته الحل السياسي في سورية، ما يبرر عقد جولة تفاوض جديدة (جنيف 9)، ولكن وفق شروط الأمر الواقع، الذي تفرضه حال الغوطة الشرقية المدمرة وأهلها المشردين، وكذلك إدلب وعفرين، تحت عين وسمع المجتمع الدولي.

وبينما تحصي الغوطة ضحاياها، يحتسب زعماء دول الصراع في بلادنا غنائمهم، التي من أجلها تغيرت مواقعهم على خريطة الصراع في سورية، وتحولوا من أعداء إلى أصدقاء في ما بينهم، وضد السوريين، في دوران مستمر خلف مصالح دولهم، التي نمت على حساب تدمير سورية وتشريد أهلها، ودعم أطراف الصراع للاستمرار في استثماره حتى حلول موعد التفاهمات الأميركية- الروسية.

الحياة

 

 

قتلى الغوطة أرقاماً.. ليس إلا/ عدنان عبدالرزاق

بالأمس، باءت محاولاتي المتكررة للوصول إلى أسماء قتلى الغوطة بالفشل، رغم تواصلي مع جهات ونشطاء بالداخل، وكل ما تمكنت من توثيقه أن يوم الثلاثاء، 20 فبراير/ شباط الجاري، فقط، شهد 137 غارة جوية على مدن غوطة دمشق الشرقية، أودت، جراء تفريغ حمولاتها، من براميل متفجرة وصواريخ وطلقات رشاشات، فقط بحياة 110 مدنيين سوريين.

تابعت التواصل والبحث، فوصلت لأرقام وليس لأسماء، إذ أفادتني بعض الجهات المدنية الموثقة، ومن داخل الغوطة، بأنه قُتل بمدينة مرج السلطان 34 مدنيا و11 بعربين.. وهكذا،

ووصل الأمر بمصدري أن يكتفي بذكر الرقم، حتى دون كلمة قتل أو مدني، بل وربما من منطلق الاعتياد، كان يقول لي 11 سقبا و11 عربين و7 مسرابا و5 حمورية، حتى أنهى قائمة الأرقام، دون أن يفرّق لي بين من منهم أطفال أو نساء، أو يبيّن طرائق القتل، هل جاءت جراء إصابات مباشرة أو تحت الأنقاض بعد تهدم البيوت على من فيها.

قفزت إلى ذاكرتي فوراً، الرقمنة التي اعتمدتها هيئات الأمم المتحدة، ومنذ بداية المقتلة السورية، إذ كانت تخرج التقارير “قتل 35 سورياً في مدينة درعا، أدى قصف طيران الأسد لموت 25 مدنياً في إدلب”.

وكانت وسائل الإعلام تنقل الأخبار عن المنظمات الدولية، حتى دون البحث بتوثيق أعداد وأسماء الضحايا، ما حوّل السوريين، مذذاك، إلى أرقام.

وتذكرت ضمن مشاهد القتل المستمر منذ سبعة أعوام، كيف توقفت المنظمات الدولية حتى عن إحصاء القتلى السوريين، وإن عبر الأرقام، إذ ومنذ يناير/ كانون الثاني 2014، أوقفت المفوضية السامية لحقوق الإنسان محاولات إحصاء قتلى الحرب بسورية، وكانوا يومذاك، بحسب المفوضية، فقط 100 ألف قتيل، ما زاد من التوقعات والتخمين وكرس رقمنة القتلى السوريين.

غني عن البيان أن نذّكر بأن ما يجري بغوطة دمشق الآن، هو جريمة إبادة جماعية، بدأت بحصار منذ نيف وخمس سنوات، تخللتها أكبر جريمة ربما بالعصر الحديث، حينما قتل نظام الأسد وعبر السلاح الكيميائي في آب/ أغسطس 2013، زهاء 1500 سوري “كم هو مؤلم أن أقول زهاء، إذ وحتى الرقم هنا، عزّ على التوثيق”.

كما ليس من جدوى للصراخ والاستغاثة، بواقع إشاحة وجه العالم، بما فيه دول الإقليم والأشقاء، عن قتل وتهجير السوريين، بل وتراجعهم حتى عن سلاح الشجب، فقتل السوريين اليوم، لا يلقى ولو بعض إنكار.

بل ونفدت “خزائن” المنظمات الدولية، حتى من كلمات التعاطف والتضامن، إذ أعربت منظمة الطفولة الأممية (يونيسيف) عن تضامنها مع أطفال الغوطة عبر إصدار بيان “خال” من الكلمات، معتبرة أن الكلام لم يعد يفي للتعبير عن الكارثة التي تحل بالصغار المحاصرين هناك، في ظل هجوم شرس وقصف عنيف ومستمر من قوات النظام وحلفائه.

خلاصة القول: لو سألنا ضمن استطلاع عينة عشوائية وبأي شارع عربي، من هو الأسير الإسرائيلي الذي أسرته “حماس” عام 2006، لحصلنا ربما من 90% من المستطلعين على اسم جلعاد شاليط. منه، يمكن الوقوف ملياً، وعلى سلسلة من القهر، إن بدأت من دور الإعلام، قد لا تنتهي عند رخص الإنسان العربي، الذي ضاق بالمنظمات الدولية، حتى احتسابه رقماً.

العربي الجديد

 

 

 

سربرنيتشا”..سوريّة/ إياد الجعفري

لا نعرف بعد، إن كان القرار الدولي الذي حمل الرقم 2401، كان بغاية ترتيب مساومة تكون بموجبها عفرين مقابل الغوطة، أم أنه كان نتاج خشية روسية من “سربرنيتشا” سوريّة.

سيماطل النظام، ربما بضوء أخضر روسي، ساعات، وربما أيام، قبل الانصياع لنص القرار. لكنه على الأرجح، سينصاع في نهاية المطاف. لأن خلاف ذلك، يعني عبثية روسية في العلاقات الدولية، بصورة لا معنى لها. فالروس هم من دعوا لمناقشة الأمر في مجلس الأمن، وقد وافقوا على القرار، بعد إدخال التعديلات التي طلبوها.

لكن، لماذا طلب الروس الذهاب إلى مجلس الأمن لمناقشة التطورات في الغوطة؟.. أحد الأجوبة المرجحة، هو أن الروس أرادوا استباق إحراج غربي لهم، عبر مشروع قرار دولي لوقف المذبحة في الغوطة، حسب وصف أكثر من مسؤول غربي. وهو ما حدث لاحقاً. أي أن الغرب طرح بالفعل، عبر الكويت والسويد، مشروع قرار، اضطرت روسيا إلى النقاش حوله.

لكن، هل كانت روسيا تخشى فقط الإحراج الدبلوماسي، لذلك انصاعت لترتيبات المنظمة الدولية، بل كانت من الداعين للجوء إليها؟.. الجواب ببساطة، لا. فالروس استخدموا الفيتو مراراً لإفشال قرارات سابقة في مجلس الأمن، ولم يكن الإحراج الدبلوماسي الدولي، يسبب لهم أي إشكالية. لكن، ما حدث في الغوطة، هو أنها لم تكن مؤهلة للتحول إلى حلب ثانية. هي كانت مرشحة لأن تكون “سربرنيتشا” أخرى، في سوريا، هذه المرة.

“سربرنيتشا” البوسنية، تلك المجزرة المهولة التي راح ضحيتها أكثر من 8 آلاف مسلم، عام 1995، والتي أحرجت المجتمع الدولي برمته، وأجبرت الغرب على التحرك العسكري السريع والصارم ضد الصرب، كانت محتملة في حالة الغوطة.

فالفصائل لم تكن مستعدة للتسليم. ورفضت تكرار سيناريو حلب، بالانسحاب من الجيب المعارض المجاور لدمشق. وبخلاف شرقي حلب، التي كان هناك على ما يبدو، توافق إقليمي – دولي، على تسليمها للنظام، بقيت الغوطة ذات قيمة استراتيجية في نظر مناوئي روسيا وإيران في سوريا. نقصد، الأمريكيين والأوروبيين، ولاعبين إقليميين.

لا يعني ذلك أن الأمريكيين كانوا في وارد القيام بتحرك عسكري عاجل لإنقاذ الغوطة، حسبما روّجت وسائل إعلام روسية. لكن الأمريكيين كانوا واضحين بأن استخدام الكيماوي، في الغوطة، من جديد، قد يعني اضطرار الأمريكيين للتدخل العسكري، واستهداف النظام. لماذا التلويح بالكيماوي؟.. هي ببساطة، رسالة تذكير للأسد، وحليفيه الإيراني والروسي، بأن الخط الأحمر الذي حكم الصراع المسلح في سوريا، منذ بدايته، وحتى اليوم، ما يزال قائماً. هذا الخط الأحمر ينص على عدم وقوع مجازر كبرى، تحرج حكومات العالم الغربي أمام شعوبها. فأي مجزرة، تسبب بمقتل أعداد مهولة من المدنيين، بصورة مباشرة، ومُكثّفة، كفيلة بتغيير قواعد اللعبة من جانب الغرب، والتخلي عن قاعدة الإبقاء على نظام الأسد في دمشق، ومن ثم التدخل العسكري الحاسم ضده.

ومع تكثف الحملة العسكرية للنظام وحليفيه الروسي والإيراني على الغوطة، ساهم صمود فصائل الغوطة، وأهلها، ورفض غالبيتهم القبول بسيناريو التهجير، في فتح الباب على مصراعيه، لمقتلة عظيمة قد تحدث إن استمر التصعيد العسكري على هذه الوتيرة من القوة.

تصوّر لو قُتل بضعة آلاف من سكان الغوطة دفعةً واحدةً، ونُقلت صور وفيديوهات تلك المقتلة للرأي العام العالمي.. لن يكون هناك أي إمكانية، حينها، إلا للتحرك الدولي المباشر ضد الأسد. وحينها، لن تجد روسيا بُداً من التسليم بالتخلي عنه، وبتغيير كامل قواعد اللعبة، لأنها فشلت في ضبطها وفق القواعد المتفق عليها لسنوات.

لا نعرف إن كانت فصائل الغوطة قد حصلت على ضمانات دعم، من قوى خارجية، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي دفعها إلى التمسك بموقفها، وعدم النزول عند مطلب التهجير والانسحاب من الغوطة، رغم تطور المفاوضات التي كانت تجري قبل أيام من تصاعد الحملة العسكرية. أو أن العكس هو ما حدث. أي أن إصرار فصائل الغوطة على عدم القبول بسيناريو شرق حلب، أجبر الغرب على تكثيف دعمه السياسي لها، عبر الضغط باتجاه قرار دولي لوقف إطلاق النار، خشية حصول مذبحة كبرى تُحرج الغرب نفسه، فيضطر للتدخل العسكري المباشر.

وأياً كان الطرف الذي دفع الآخر، للتمسك بالغوطة، إلا أن ذلك كان كفيلاً بالتلويح بسيناريو “سربرنيتشا” أمام ناظِرَي بوتين. وفهمت روسيا سريعاً الرسالة، فكان انصياعها لوقف إطلاق النار، بعد تلكؤ.

ورغم أن القرار الدولي، يحمل صيغة المطالبة، ولا يتضمن ضمانات أو عقوبات على الأطراف التي ستخرقه، مما يتيح هامشاً أطول للمماطلة من جانب النظام وداعميه الإيراني والروسي، حيال تنفيذه.. إلا أن مهلة المراجعة أمام مجلس الأمن، بعد أسبوعين، كفيلة في التسريع بوقف العملية العسكرية، وإلا، فإن العبثية الدبلوماسية الروسية في مجلس الأمن، ستؤدي بموسكو إلى خسارة ورقة القوة الناعمة التي تملكها على الصعيد الدولي، وستصبح القوى الدولية الأخرى في حل من أي إجماع دولي قد يحدث في مجلس الأمن. الأمر الذي سيضر بروسيا، أكبر الضرر. لأنها ستفقد أي مصداقية على صعيد العلاقات الدولية، بوصفها، قوة كبرى.

ولن يكون البند المتعلق بعدم شمول القاعدة والنصرة بوقف إطلاق النار، مبرراً كافياً للروس، للاستمرار في دعم حملة النظام ضد الغوطة، بعد أن أعلنت فصائل الغوطة استعداد مقاتلي “تحرير الشام”، للمغادرة، إلى جانب تأكيد أكثر من مسؤول دولي، وغربي، أن الحديث عن وجود النصرة في الغوطة، ذريعة واهية، إذ أنهم لا يتجاوزون 300 مقاتل، وسط أكثر من 400 ألف مدني.

يبدو أن ذلك البند خاص بمصالح الأمريكيين، الذين ما يزالون يمارسون نشاطاتهم العسكرية، شرق سوريا، بذريعة محاربة مقاتلي داعش، المتبقين في تلك المنطقة. وهو بند يخلّص الأمريكيين من إحراج البند الرئيسي في القرار الدولي، الذي يتحدث عن وقف العمليات العسكرية في كامل الأراضي السورية.

البند الأخير بالذات، موجّه، على ما يبدو، لتركيا تحديداً. بخلاف روسيا، التي تستطيع متابعة دعمها لحرب النظام على إدلب، بذريعة “النُصرة”، المتواجدة بشكل نوعي هناك، لا تستطيع تركيا أن تفلت من نص القرار. فهي تشن حرباً على عفرين، بذريعة حزب العمال الكردستاني، الذي لا يعتبر تنظيماً إرهابياً، وفق لوائح مجلس الأمن، التي اعتمدها القرار.

بكلمات أخرى، يبدو أن توافقاً روسياً – غربياً، استهدف إحراج تركيا، بموجب القرار الدولي الجديد، الذي يطالب بوقف العمليات العسكرية في كامل الأراضي السورية، التي تشمل عفرين، بطبيعة الحال. هذا التوافق، ربما تم بشكل غير مباشر، بسبب تلاقي المصالح بين الغرب وروسيا، المستائين من استمرار العملية العسكرية التركية ضد عفرين.

الخارجية التركية، علّقت سريعاً على القرار الدولي، ورحبت به، لكنها أكدت أنها ستستمر في عمليتها ضد عفرين. لذلك، من المبكر الجزم إن كانت معادلة “عفرين مقابل الغوطة”، قد حكمت المساومات التي أدت إلى ولادة القرار الدولي.

لكن، بكل الأحوال، يبدو جلياً أن القاعدة الرئيسية التي حكمت نزاع القوى الدولية والإقليمية في سوريا، منذ بدايته، وحتى اليوم، ما تزال قائمة بقوة. ومفادها بإيجاز، ممنوع وقوع “سربرنيتشا” جديدة، وإلا فإن كل قواعد اللعبة ستتغير.

المدن

 

 

 

مجزرة الغوطة: موالو النظام يبثون الكراهية.. فتّش عن الروس!/ وليد بركسية

دعوات الإبادة الجماعية ومشاعر الفرح التي يبثها الموالون للنظام السوري مع كل قذيفة تطلق على الغوطة الشرقية، منذ انطلاق واحدة من أعنف الحملات العسكرية ضد المدنيين المحاصرين في ضاحية دمشق المحاصرة منذ العام 2013، ليست جديدة أو مفاجئة. ليس لأن الشرخ السوري – السوري بات أعمق من أي وقت مضى إثر مرور 7 سنوات على الحرب الأهلية في البلاد، بل لأن المشهد يبدو نسخة كربونية من تفاعل الموالين مع الحملة العسكرية التي شنها النظام على أحياء حلب الشرقية العام 2016.

العامل المشترك بين حملتي الإبادة، هو الدعم الروسي الكامل لسياسة الأرض المحروقة، بعكس معارك أخرى كان فيها مستوى العنف أقل بشكل واضح كما حدث في دير الزور مؤخراً، أو معارك لم تكن القوات الروسية طرفاً حاسماً فيها عسكرياً، بقدر الميلشيات الإيرانية البرية، كما هو الحال في الزبداني والقلمون التي اتبعت فيها أساليب مستمدة من تكيكيات الحروب في القرون الوسطى كالحصار والتجويع قبل فرض الاستسلام والتوقيع على “اتفاقيات المصالحة” والتهجير.

ينعكس هذا الزخم السياسي – العسكري الذي يشعر به النظام بشكل قوة فائضة يترجمها عسكرياً ضد المدنيين من دون أي اعتبارات، ودعائياً عبر ضخ مخيف عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي الإعلام الرسمي، لدعوات الإبادة والقتل الجماعي. “الأصوات اللي عم تطلع بالغوطة أجمل من أصوات The Voice مجتمعة”، تقول إحدى المواليات للنظام السوري في تغريدة انتشرت على نطاق واسع كمثال واحد فقط على نوعية الجو العام بين الموالين تجاه ما يحدث في الغوطة، والتي تذكر باحتفالات المعارضين في شوارع حلب الغربية، قبل انتهاء المعارك في أحيائها الشرقية، وبصور مراسلي النظام مع جثث القتلى هناك في تلك الفترة.

والحال أن الغطاء الروسي لسياسة الأرض المحروقة، التي يتبعها النظام السوري في حملته الأشرس ضد مدنيي الغوطة الشرقية منذ مطلع الأسبوع الجاري، كشف حقيقة حاول نظام الأسد الالتفاف عليها منذ أواخر العام 2016. فالحملة الأشرس اليوم تستهدف المدنيين لا تنظيمات إرهابية بالدرجة الأولى، ويتم تكثيفها بخطاب إعلامي وشعبي يبلغ درك الدعوة للإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يقوم به سوريون ضد سوريين آخرين، للمفارقة البائسة، وهي دعوات تستحق المحاكمة والملاحقة الجنائية لو صدرت من طرف شخص ما في دولة غربية وقت السلم.

وحتى لو بدا الأمر غريباً، فالأرجح أنه لا يمكن فصل الغطاء السياسي الذي يوفره الكرملين للنظام في دمشق، عن منشورات أشخاص عاديين موالين للنظام يجلسون في منازلهم ويبثون كراهيتهم عبر السوشيال ميديا. فالضخ الدعائي لا يحدث من تلقاء نفسه. بل يتم الترويج له أولاً بخطاب رسمي وشبه رسمي، موجه من النظام المنتعش بقوته ودعم حلفائه وغياب قوة قادرة على ردعه، كالمجتمع الدولي والولايات المتحدة، إلى قاعدته الشعبية. ويرسم ذلك النمط العام للتفاعل الإلكتروني المطلوب، الذي يتم استنساخه لاحقاً في صفحات الموالين وتعليقاتهم.

وإن لم يكن تفاعل الموالين موجهاً بشكل مباشر للأتباع، فإنه يبقى متاثراً بالتيار السائد المرسوم سلفاً في أكبر الصفحات الاجتماعية “التشبيحية”، مثل “دمشق الآن” و”مراسلون سوريون” وفي صفحات المراسلين الحربيين مثل إياد الحسين، والتي تبث محتوياتها السامة لملايين الأشخاص في وقت واحد، لتظهر ما هو الحد المسموح به في التعبير عن “دعم الجيش السوري”، من دون الحديث عن الإعلام الرسمي الذي ينتهج نفس الأسلوب بطبيعة الحال.

ويرتكز خطاب النظام هنا على محاور عديدة، بداية بنفي المجزرة التي توصف بأنها خدع بصرية هوليوودية أو مسرحيات تقوم بها “أدوات أجهزة الاستخبارات” الموجودة في سوريا، وصولاً للقول بأن الحملة الحالية هي مجرد رد على قذائف الهاون التي تسقط على العاصمة دمشق، أو “عملية تحرير” للغوطة من الإرهابيين، رغم أن التقارير الدولية ذات الصلة تشير إلى أن العمليات العسكرية تتركز ضد المدنيين والمنشآت الطبية والإغاثية الموجودة في الغوطة الشرقية وليس ضد الفصائل المسلحة نفسها، وعند الإشارة إلى تلك الحقيقة يكون الرد الرسمي و”الصريح” بأن المدنيين هم أداة وواجهة للإرهاب ولا بد من تحريرهم ولو عبر قتلهم، من أجل غاية أسمى هي “نهاية الحرب”.

وهكذا، ربما، وبموازاة شجب نظام الأسد على وحشيته في الغوطة، وشجب سلوك مواليه على مشاعر الكراهية المريضة المستمدة من الانتصارات المتتالية للنظام، يجب أن نتذكر أن المجتمع الدولي ككل فشل في وضع حد للأسد، بسبب الدعم الروسي الذي بات محورياً في البلاد، وبأثر من التفاف النظام ببراعة على “الخطوط الحمر” المرسومة له كاستخدام غاز السارين ضد المدنيين، منذ مجزرة خان شيخون وتبعاتها العام الماضي. وهكذا، نتذكر كم أنه من السخيف التصديق بأن روسيا تشكل جزءاً من الحل السياسي في البلاد، على ما تروج موسكو ودمشق في خطابهما المشترك، لأنها شريكة متحمسة للمذبحة الجارية. سوريا بالنسبة إلى الرئيس فلاديمير بوتين هي المنصة الدولية الوحيدة لاستعراض عضلات موسكو باعتبارها عائدة كقوة عالمية عظمى.

المدن

 

 

 

 

رائحة الدماء تحفز دول الصراع السوري/ معتز نادر

ربما لا يجد المرء الكلمات التي تصف ما يجري في عموم سورية هذه الأيام وبالأخص في مناطق إدلب وغوطة دمشق وعفرين، من صراعات عسكرية دولية رسمية ومليشياوية محلية بإشراف دول كروسيا والولايات المتحدة وتركيا.

تلك القوى التي تتحكم بمجريات الصراع على الأراضي السورية، ومع تطلع المجتمع الدولي – شكليا – لبناء عملية سلام محكومة بالفشل مسبقاً، فإن سياسة النظام وروسيا الراعي الرسمي له، والولايات المتحدة، وتركيا مؤخرا باتت مرتبطة ارتباطاً لا ينفصم بآلية مؤتمرات لا تلبث أن تبدأ حتى تنتهي، وهي لا تغني عن عيش كما يقال.

ولو تذكرنا سريعاً ما تخلل وتلا سلسلة مؤتمرات كـ”الجينفيات”، ومؤتمر أستانة ومؤخراً سوتشي وانسحاب وفد المعارضة، لأدركنا سريعاً أن هذه المؤتمرات كانت مرتكزات لاستراتيجيات عسكرية قادمة تدفع الصراع السوري لذروة يمكن من خلالها بناء تفاهمات دولية معينة تكفل مصالح الدول سالفة الذكر المعنية بالصراع وسط دمار غير مسبوق في بنية المجتمع السوري، وما يحدث اليوم في الغوطة الشرقية، شرق العاصمة دمشق، أكبر من أن تصوغه الكلمات.

وبالتالي فإن الرؤية تتضح لكون مؤتمرات السلام السورية لم تكن يوما مشروعا لصياغة عملية سلام حقيقية وإنما هي وبشكل عملي جزء من مشروع عسكري كبير تتخلله بعض الوقفات السياسية كتلك المؤتمرات، وليس العكس. ما يحدث الآن في المناطق السورية المختلفة من تفاقم عسكري يعكس خيبة تلك المؤتمرات والداعين لها أيضاً، والحديث هنا ليس عن تلك المؤتمرات السالفة وإنما عن توحش وعنف الدول المشاركة والمسؤولة عن تردي الوضع الميداني في سورية وعدم رغبتها في إحلال السلام إلا إذا تحولت البلاد لركام، وبالتالي تصبح الأطراف السورية غير قادرة على الاستمرار بالحرب بكافة أشكالها من دون مساعدة تلك الدول.

وبالنسبة للكثير من متتبعي الشأن السوري، بات واضحاً أن الوصول لهدنة طويلة الأمد في سورية وإحلال حالة أمن لن يكون إلا بتدمير كافة سبل الحياة، وبانعدام فعلي لأي دور سوري عسكري أو سياسي أو مليشياوي على شاكلة ما يحدث في غوطة دمشق الشرقية، وسط صمت دولي مُهين وخائف أكثر من أي وقت مضى.

مؤخراً ساعد تراجع الرؤية المبدئية السياسية الرسمية للمعارضة السورية، وأعني هنا موقف الائتلاف السوري المعارض بوصفه واجهة جامعة لكل السوريين، لكونه بات يفتقر للجدية بطرح مواقفه، إذ لم نعد نسمع على الأقل عن بيانات تحذر من استهداف المدنيين، وعندما تصبح خلف الأحداث فلن يحترمك أحد، إذ ماذا تعني اليوم المعارضة لروسيا أو للولايات المتحدة أو لتركيا؟!

لم نعد نشعر باستقلالية المعارضة حتى بالأشياء الصغيرة باستثناء الموقف القاطع بشأن النظام، لكن رفض المعارضة لنظام دموي قتل عشرات الآلاف من المدنيين يبدو أمراً طبيعيا!

العربي الجديد

 

 

 

الراقصون على جُثَّةٍ سورية/ أسامة أبو ارشيد

وحشية النظام السوري وداعميه الروسي والإيراني، ومن يدور في فلكهم، ليست أمراً جديداً، ونحن نراها اليوم واقعاً، مرة أخرى في الغوطة الشرقية في ريف دمشق، والتي تتعرّض لقصف همجي قتل وجرح مئات من أبنائها، وذلك بعد حصار لئيم استمر سنواتٍ عجاف. أيضاً، ليس النفاق الدولي في سورية أمراً جديداً منذ انطلقت ثورة شعبها عام 2011، لا لشيء إلا كي يحيا حراً كريماً، فكانت النتيجة أن سُحق بالطائرات والصواريخ والمدفعيات، بل حتى بالغاز السام، في حين يكتفي العالم بالتنديد بـ”جرائم ضد الإنسانية” من دون فعل حقيقي لوقفها. وإذا ما أخذنا بالتجارب السابقة التي خبرها الشعب السوري في السنوات السبع الأخيرة، فإن موجة التنديد الدولية، وفي مقدمتها الأميركية والغربية، بما يجري للغوطة الشرقية وقاطنيها الثلاثمائة وخمسين ألف نسمة، لن تفضي إلى وقفها، بقدر ما أنه سيتم الالتفاف عليها، عبر اتفاقات غبن تقوم على إخراج المعارضة المسلحة منها، وإجلاء نسبةٍ كبيرةٍ من سكانها، تماماً كما جرى في حلب أواخر عام 2016، وكما يتم الإعداد له في إدلب اليوم. هذا هو حصاد الوحشية والنفاق الغربي والروسي والإيراني، دع العربيَّ جانباً الآن. فما العرب إلا بيدق يتبعون قوى كبرى أخرى توجه بوصلتهم.

المفارقة أن نفاق الغرب، وفي مقدمته الولايات المتحدة، وروسيا وإيران، يتجاوز الممارسة إلى المزاودة على بعضهم بعضاً، أيهم أكثر نفاقاً وكذباً، بل وقل إجراماً. إلى اليوم، لم نسمع موقفاً

“ما عاد أحد يتحدث عن انتصار إرادة الشعب السوري أو حتى عن إحلال السلام في سورية”

أميركياً أو غربياً حازماً، ولو من باب ذرِّ الرماد في العيون، مما يجري من مذابح في الغوطة الشرقية. الولايات المتحدة مشغولة بتثبيت نفوذها عند حقول النفط والغاز السورية في ديرالزور والرقة والحسكة. وهي، قبل أسابيع قليلة، قصفت قوات موالية لبشار الأسد، كان فيها مرتزقة روس، تقدموا نحو دير الزور، وهاجمت، كما قالت واشنطن، حلفاءها في قيادة قوات سورية الديمقراطية التي يسيطر عليها الأكراد. النكتة الأكثر سماجةً أن يتهم وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، قبل أيام قليلة، الولايات المتحدة بأنها قوة احتلال في سورية، في حين يدافع عن وجود قوات بلاده، وطبعاً القوات الروسية في سورية، على أساس أن النظام السوري “الشرعي” هو من استدعاها! أي نفاق هذا! هو لم يستدعها لدفع عدوانٍ أجنبيٍّ على سورية، وإنما لإعانة نظامه الهمجي على قتل شعبه الذي ثار عليه.

قبل أيام من تصريحات ظريف، طالب وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، من عمّان، إيران بسحب جنودها والمليشيات التي تدعمها من الأراضي السورية. وفي سبتمبر/ أيلول 2016 اتهمت الولايات المتحدة روسيا بأنها تقوم بأعمال “وحشية” في سورية، وبأنها تحتمي وراء حق النقض الذي تمتلكه في مجلس الأمن الدولي، وكأن الولايات المتحدة لا تفعل الأمر نفسه، وما غزوها العراق وتدميره إلا نقطة صغيرة في بحر سوء أفعالها. ولكن لعبة الباب الدَّوارِ لا تتوقف عند حدٍّ، فروسيا تعرف أيضاً كيف ترد. ها هو وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، يحذّر قبل أيام أميركا من اللعب بالنار، ويتهمها بمحاولة تقسيم سورية، عبر دعمها المقاتلين الأكراد في الشمال. المفارقة الثانية، في هذا السياق، أن يدعو لافروف واشنطن إلى الالتزام باتفاق خفض التصعيد جنوبي سورية. وحسب تعريفه، فإن الالتزام بالاتفاق يكون بتسليم الجنوب لقوات النظام. يبدو أن هذا هو تماماً الفهم الذي يحرّك روسيا وإيران ونظام الأسد في الغوطة الشرقية.

لقد تحولت سورية إلى كعكةٍ تتنافس الأيادي على تقاسمها، والظفر بأحسن ما فيها. أيضاً،

“لم يعد القرار قرار النظام، ولا هو قرار المعارضة”

تحولت سورية إلى ساحة حرب إقليمية ودولية، وهي كذلك ساحة حرب بالوكالة. لم يعد القرار قرار النظام، ولا هو قرار المعارضة. كلهم مرتهنون لمصالح وأجندات خارجية. سورية اليوم ممزقة إلى مناطق نفوذٍ روسية وأميركية وإيرانية وتركية وإسرائيلية. وحدهم السوريون أصبحوا غرباء في وطنهم. إنها لعبة شطرنج، إقليمية ودولية، على الجثة السورية، يكسب الكل فيها شيئاً إلا أبناؤها وأهلها. هذا ما جناه نظام الأسد على سورية والسوريين.

كنت أتمنّى أن أختم هذه المقالة برسالة أمل، بالحديث عن ضوء في نهاية النفق، لكن الوقائع تكذب ذلك. لقد انتهى الحال بكثيرين منَّا أن يفرح حين تضرب إسرائيل قوات النظام أو إيران أو مليشياتهما في سورية. ويفرح آخرون حين تُسقط دفاعات النظام الجوية طائرة إسرائيلية معتدية، دمرت بعض قواعد النظام وإيران التي تمارس القتل في حق السوريين. وطرف ثالث يؤيد دخول تركيا إلى الشمال السوري، ورابع يفرح بأي خسائر تلحق بها هناك. وخامس يتمنى صراعاً أميركياً – روسياً على الأرض السورية. وهكذا دواليك. ولكن، ومن أسفٍ، ما عاد أحد يتحدّث عن انتصار إرادة الشعب السوري، أو حتى عن إحلال السلام في سورية، فذلك أمرٌ مؤجل، ولا يعلم متى يأتي إلا رَبُّ العزة جَلَّ وعلا.

العربي الجديد

 

 

المجزرة: حصة سورية من العالم/ حسام عيتاني

بضع مقالات منحازة إلى ضحايا الهمجية في الغوطة ينشرها عدد متضائل من الصحف الغربية، هي كل ما تبقى من شعارات أرادت لنفسها أن تكون عالمية. يقول لنا الأطفال المقطّعة أطرافهم والقابعة جثثهم تحت الجدران المنهارة عليهم بفعل قذائف التحالف الروسي – الإيراني – الأسدي، إن العالم ليس «قرية صغيرة» وأن قيماً مثل حقوق الإنسان وأولوية الحياة البشرية، ليست كونية بل محصورة ويخضع إشهارها أو طيها إلى الاستنساب والتمييز وآليات السوق السياسية.

التأمل في الأرقام والصور الآتية من الغوطة في هدوء المكاتب، يرفع حاجزاً عالياً بين حقيقة ما يجري في الواقع وبين القدرة على التأثير فيه. لقد بلغ العالم من الانقسام حداً لم يعد معه من الممكن الانتقال من حيز التضامن العاطفي مع قتلى الغوطة وسراقب (قبلهم بأسابيع) أو حلب أو أي مدينة سورية منكوبة، إلى حيز التغيير الملموس والسعي إلى وقف المذبحة الشاملة الجارية بموافقة العالم، الضمنية أو العلنية لا فرق. لم يعد ذاك الانتقال ممكناً من دون إعادة نظر بكل المقولات التي اعتُبرت مسلمات أو بداهات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والتي حاول كتّاب على مدى التسعينات إقناعنا أنها انقلبت إلى حقائق كونية.

أعادت أزمات الغرب وسياساته تظهير ضحالة الديموقراطية الليبرالية عندما تواجه اختبارات قاسية. تراجعت الحكومات الغربية إلى قلاعها الحصينة وأغلقت أبوابها أمام موجات اللاجئين واكتفت بشن غارات على من اعتبرتهم إرهابيين في الموصل والرقة. رفضت هذه الحكومات مواجهة الهمجية العالمية التي ساهمت في إطلاقها وامتنعت عن رؤية خطر المشاريع الإمبراطورية المنبعثة من موسكو وطهران، خطرها على كامل منظومة الحداثة الغربية التي بلغت أزمتها مستوى جعل من شخص مثل دونالد ترامب وأفراد عائلته، على رأس أقوى دولة في العالم. هذه الأزمة تسبق تغول فلاديمير بوتين على سورية وعلي خامنئي على أهالي حلب والغوطة، وتعلن انهيار البناء المقام من أوراق اللعب بمجرد أن ظهر من يملك العزم الكافي على إسقاطه.

وقعت الكارثة السورية بالضبط في الهوة الفاصلة بين عالمين. بين عالم الحداثة والديموقراطية التي زال الطلاء عن وجهها وبانت كواجهة للحصرية الغربية ولتمييز عميق لم تنجُ منه إلا حكومات تعد على أصابع اليد الواحدة، وبين عالم الهمجية الفالتة من أي عقاب والتمدد الإمبراطوري والحسابات الجيوسياسية والتطهير الطائفي الذي لم يعد يخجل من الظهور بكل عريه وبشاعته.

ليس هذا الكلام لتغطية المأساة الملموسة بكلام مجرد ومتعالٍ. فلا شيء سيغسل عار البشرية التي ضجرت من قدرة الضحايا على هذا الموت الكثير ومن العناد في رفض «العودة إلى حضن الوطن» – المقبرة. لكن البشرية اعتادت على العيش مع العار بل أدمنت عليه، وليس أيضاً لتحذير من غضب وثأر مقبلين قد يخرجان من بين صفوف ضحايا اليوم ومن تحت أنقاض بيوتهم ومدارسهم. بل للقول إن الحروب السورية هي حصة المشرق العربي من انهيار صورة للعالم جرى الترويج لها كطوبى قابلة للتحقيق في أحضان التعدُّد والديموقراطية وحكم القانون والعدالة، طوبى تستطيع فيها الأمم المتحدة أن توقف العدوان وأن تمنع الحروب وأن تنقذ الضعفاء.

الديموقراطية الليبرالية التي نعاها كتاب وباحثون مرات عدة، أخفقت في كل اختبار يتعلق بتلازم الشعار مع الفعل في كل مرة لم تكن المصالح المادية المباشرة على المحك. وسورية ليست استثناء في هذا الإخفاق. حصة سورية من هذا الإخفاق لم تكن غير مجزرة مجنونة بأيدي قتلة باردي الدماء.

الحياة

 

 

 

 

مأساة الغوطة والسوريّات الكثيرة/ حازم صاغية

لا يكفّ النظام السوريّ عن كسر أرقام قياسيّة. مأساة الغوطة الشرقيّة تشهد بذلك: إنّه «القصف الأعنف منذ…». «اليوم الأسوأ منذ…». «مقتل أكبر عدد من الأطفال منذ…». «تدمير أكبر عدد من المستشفيات منذ…».

هذا السلوك ليس «هستيريّاً». إنّه عاقل جدّاً، بل بارد جدّاً في عقلانيّته الشريرة والقاتلة. إنّه نظام.

لكنّ الضحيّة الذي يسقط اليوم في الغوطة، نتيجة لسلوك كهذا، يموت مرّتين: مرّةً لأنّه يموت ومرّةً لأنّ «مواطنيه» في عفرين يطلبون، ولو أنكروا، عون قاتله كي يحميهم من الأتراك. والشيء نفسه يقال في الكرديّ في عفرين، الذي قتله «مواطنه» السوريّ بعدما ارتضى أن يكون ملحقاً بالقوّات التركيّة التي تغزوه.

وإذ يعبّر علويّون سوريّون كثيرون عن فرحتهم بمقتل الأطفال «الإسلاميّين» و «التكفيريّين» في الغوطة، يعبّر سنّة سوريّون كثيرون عن «أملهم» بأن يحلّ بالعلويّين وأطفالهم ما يحلّ بأهل الغوطة وأطفالهم.

هذا ليس أفضل احتفال ممكن بالذكرى السابعة للثورة السوريّة التي تحلّ بعد أيّام.

صحيح أنّ هناك الكثير ممّا يقال في رداءة الأوضاع الإقليميّة والدوليّة الراهنة. وفي تراخي الشعور بالتضامن الإنسانيّ، بل بأحوال الإنسانيّة عموماً. لكنّ الاكتفاء بتسجيل هذه الحقائق بات يشبه الاكتفاء بتسجيل وحشيّة النظام السوريّ. وقد بات يُخشى تحوّل مثل هذه الإدانات، المُحقّة طبعاً وإن كانت لا توقف الموت، إلى ذرائع تؤدّي غرض السكوت عن المشكلة الأمّ: مشكلة الاجتماع الوطنيّ السوريّ الذي يُلحّ العمل على إنهائه في أسرع وقت ممكن.

فاستمرار هذا الاجتماع لم يعد يعني سوى استمرار الموت، ومعه استمرار هذا النظام، نظام الموت، إيّاه. فإذا كان الأخير مصدر إنتاج للقتل المعمّم، فإنّ ذاك الاجتماع البالغ التفاوت والعدائيّة بين السوريّين هو نفسه ما يعيد إنتاج النظام المذكور.

وقد يقال بحقّ إنّ لهذا النظام اليد الطولى، وإن لم تكن الوحيدة، في إنجاب هذه العدوانيّة المتفشّية. إلاّ أنّ العدوانيّة غدت تتغذّى على ذاتها وتنمو بقوّتها الذاتيّة المحضة، جاعلة إطاحة النظام، وكلّ مهمّة سياسيّة أخرى، أقرب إلى الاستحالة.

لقد تقلّصت الطموحات في ما خصّ سوريّة، وبات المهمّ هو وقف الموت. وأغلب الظنّ أنّ السوريّين باتوا أمام خيار لا يمكن ولا يجوز التحايل عليه، لا باسم الوطنيّة، ولا باسم القوميّة، ولا باسم اتّهام الآخرين أو منظومات ثقافيّة «أقنعتنا» بأنّ الطائفيّة وكلّ «عيب» آخر آتٍ من المستعمرين أو المستشرقين.

وربّما لا زلنا، للأسف، بحاجة إلى الكثير من الشجاعة كي نتجرّأ على هذا المسخ المسمّى سوريّة (أو العراق أو لبنان…). وهي شجاعة قد يتطلّب ظهورها زمناً مديداً نسبيّاً. في هذه الغضون، وإلى أن يحلّ ذاك الزمن، نحن محكومون باليأس. فالمعادلة اليوم: إمّا سوريّة واحدة وإمّا الحياة. والأسرع الأفضل.

الحياة

 

 

 

تواطؤ عربي مع مجازر الأسد في سوريا؟

رأي القدس

شهد العالم العربي منذ إعلان استلام الأمير محمد بن سلمان آل سعود ولاية العهد في المملكة السعودية في حزيران/يونيو 2017 مجموعة من التطوّرات اللافتة في السياسة الخارجية السعودية أخذت بها نحو اتجاه قريب جداً من سياسات الإمارات العربية المتحدة، وتحوّل هذا الاتجاه إلى تحالف ضمّ أيضاً مملكة البحرين ومصر، وكانت أول «إنجازاته» (في بداية شهر حزيران/يونيو 2017 نفسه) محاصرة قطر برا وبحرا وجوّاً، وتوازى ذلك مع ضغط أمريكي على الفلسطينيين (والأردنيين) للقبول بما سمّي «صفقة القرن»، وعلى لبنان عبر احتجاز رئيس وزرائه سعد الحريري.

إحدى ثمار هذا الحلف تمثّلت بتغيّر الموقف السعودي من نظام بشار الأسد وتجلّى ذلك بأشكال عديدة منها الإطاحة بهيئة التفاوض المعارضة السابقة وضمّ ما يسمّى منصّتي القاهرة وموسكو إلى صفوفها، كما تجلّت، خصوصاً على المستوى الإماراتي، بدعم أحمد الجربا زعيم «تيار الغد» الذي ينسّق مع «وحدات الحماية الكردية» تحت مسمّى «قوات سوريا الديمقراطية»، وشارك تياره بحماس في مؤتمر «سوتشي» الروسي، كما شارك أحد مسؤولي التيار، المدعو عبد الجليل السعيد، في زيارة لإعلاميين عرب إلى إسرائيل والتقى الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي، وبذلك تتضح حبّات عقد «السياسة الخارجية» لحلف الحصار: تغيير الموقف من نظام الأسد، والتحالف مع حزب العمال الكردستاني ضد تركيا، والتقارب مع إسرائيل.

ولا تفعل المجازر الوحشية التي يرتكبها النظام حاليّاً ضد بلدات ومدن الغوطة الشرقية لدمشق غير أن تؤكد هذا الاتجاه المخزي، فقد تصدّى «تيّار الغد» المذكور للحديث عن مفاوضات تجريها روسيا، وهي أحد الأطراف الرئيسية المسؤولة عن قصف الغوطة، برعاية مصرية، لإخراج قوّات المعارضة من المنطقة الشاسعة التي تضم قرابة 400 ألف شخص، في الوقت الذي تنسحب قوّات «وحدات الحماية الكردية» من أحياء حلب وتسلّمها للنظام، وتدخل ميليشيات شيعية إلى عفرين لمواجهة الجيش التركي وفصائل المعارضة السورية وهي تحمل صور الأسد.

غير أن الأمر لا يقتصر على استغلال «حلف الحصار» للمجازر لإخراج قوات المعارضة من الغوطة، بل إن جزءاً من اللعبة يجري من داخل الغوطة نفسها، عبر الفصائل المحسوبة على السعودية، وعلى رأسها طبعا «جيش الإسلام»، فالأخبار القادمة من الغوطة تشير إلى أن تلك الفصائل لا تشارك عمليّا في معارك صد تقدّم قوّات النظام، وهو ما يجعل مقاومي الهجوم الأسدي ـ الروسي من الفصائل الأخرى مكشوفي الظهر، مع امتناع إخوانهم في المعارضة عن القتال معهم، وهو ما سيجعل «جيش الإسلام»، إذا تمكن النظام من ضرب «فيلق الرحمن» وحلفائه في المعارضة، الفريسة المقبلة للهجوم الروسي ـ السوري الجديد، ومن المؤكد أن السعودية، المشغولة بتمكين وليّ العهد، ومحاربة الحوثيين، وإرضاء أمريكا وروسيا، لن تكون قادرة على مكافأتهم على خذلانهم لأخوانهم.

والواضح أن هذا التواطؤ العربيّ، والسكوت على أشكال الإبادة الجماعية التي تحصل ضد المدنيين السوريين، ساهم في التواطؤ العالميّ، الذي لم يكتف بالامتناع عن إنجاد الغوطة بالغذاء والدواء، في الوقت الذي جنّد كل قوّاته وإمكانياته لنجدة مسلحي حزب العمال الكردستاني في عين العرب (كوباني)، بل إنّه انخرط، كما فعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في خطة النظام وروسيا، مطالباً بهدنة لإخراج المدنيين، في تشريع عالميّ لترانسفير طائفي يتبعه بالتأكيد تغيير في النسيج الاجتماعي لغوطة دمشق.

 

 

 

 

الخط الأحمر الشاهد في الغوطة الشرقية

منذ خمس سنوات تخضع قرى وبلدات الغوطة الشرقية، في ضواحي العاصمة السورية دمشق، إلى حصار خانق تفرضه قوات النظام السوري والميليشيات الحليفة لها، يترافق مع قصف مدفعي وصاروخي منتظم، وغارات جوية تستخدم فيها البراميل المتفجرة وغاز الكلور. وخلال الأسابيع القليلة المنصرمة كثف النظام هجماته على دوما وعين ترما ومسرابا وعربين، واستهدف المشافي ومراكز الدفاع المدني، ومنع وصول المساعدات الإنسانية إلى قرابة 400 ألف مدني محاصر، بينهم 127 طفلاً «يواجهون خطر الموت» حسب تصريح الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة.

كل هذا يجري تحت سمع وبصر المجتمع الدولي الذي لا يحرك ساكناً للضغط على النظام وحلفائه أو مناصريه، وسط مفارقة فاضحة تشير إلى أن الغوطة الشرقية تقع ضمن مناطق خفض التصعيد، التي تم الاتفاق عليها في مباحثات العاصمة الكازاخية أستانة، سنة 2017، برعاية روسيا وتركيا وإيران. أكثر من هذا، يخرج وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف على العالم بحلّ يضيف الإهانة على جراح أهل الغوطة المحاصرين، فيقترح إمكانية تطبيق نموذج عملية حلب في الغوطة الشرقية لإخراج مقاتلي «هيئة تحرير الشام» منها.

وإذْ يتناسى لافروف أن أعداد هؤلاء لا تتجاوز 100 مقاتل، فإنه يتغافل عامداً عن حقيقة أن فصيل المعارضة المسلح الأول في الغوطة الشرقية هو «جيش الإسلام»، الذي يُعد مقاتلوه بعشرات الآلاف، وأن موسكو والمجتمع الدولي سبق أن تعاطت مع قيادات هذا الجيش في إطار مفاوضات رسمية رعتها الأمم المتحدة، الأمر الذي عنى الاعتراف به كطرف معارض له صفة مكرسة محلياً ودولياً. وإذا صح نفي هذا الجيش دخوله في أي مفاوضات مع النظام، فإن ما يتردد عن جولات تفاوض ترعاها موسكو في هذا السياق إنما يدور بالتالي حول إجلاء العشرات من مقاتلي «تحرير الشام»، وأن القصف الوحشي الذي يستهدف مئات الآلاف من المدنيين يجري لخدمة هذا الهدف الهزيل.

من الواضح، إذن، أن النظام السوري على اتفاق تام مع موسكو وطهران حول ضرورة تحقيق حسم عسكري أياً كانت أثمانه من حياة المدنيين المحاصرين في الغوطة الشرقية، الأمر الذي لن يكون ميسوراً إذا تطورت العمليات العسكرية نحو مواجهة مفتوحة مع «جيش الإسلام» ذي العدد والعدة والتسليح الثقيل، وسيسفر عن مزيد من الضحايا الأبرياء في صفوف المدنيين.

وقبل يومين سقط 100 من أبناء الغوطة الشرقية، فبلغ العدد 700 شهيد خلال الأشهر الثلاثة الماضية فقط، بالإضافة إلى آلاف الجرحى المحرومين من أبسط الدواء والعلاج، خاصة بعد أن تعرضت خمسة مستشفيات للقصف والتدمير. وللتذكير هذه هي المنطقة التي تعرضت للضربة الكيميائية الأخطر منذ انطلاق الثورة السورية، حين قصفها النظام بغاز السارين في صيف 2013 وأودى بحياة أكثر من 1300 شخص، بينهم نساء وأطفال.

وتلك كانت جريمة حرب تعيد التشديد على عجز المجتمع الدولي، لأنها تذكر بالخط الأحمر الشهير الذي رسمه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بصدد استخدام الأسلحة الكيميائية، والذي داس عليه النظام السوري مراراً وتكراراً بعدئذ. تكررت الخطوط، ومعها تواصلت جرائم الحرب، وبقيت دماء الضحايا ترسم الخط الشاهد على هوية عصرنا.

القدس العربي

 

 

 

عن المذبحة التي لا تنتهي/ ساطع نور الدين

لا تقع المذبحة المرعبة التي تدور رحاها الان في الغوطة الشرقية، خارج السياسة ، لكنها تسخّف كل جدل سياسي، وتفرغه من أي محتوى إنساني وأخلاقي. البث المباشر لوقائعها، بالصوت والصورة الملونة بالدماء، والذي يجعلها واحدة من أكثر مذابح الحرب السورية علنية،لا يدع مجالا  للهروب، ولا يعطي فرصة للتوقف. الجلاد يريد أن يثبت مقولته الاولى، والضحايا يقدمون البرهان على صرختهم الاصلية، الممتدة الى ما قبل سبع سنوات.

فظاعة المذبحة تعفي من المقارنة، وتحيلها الى رقم جديد في سلسلة لامتناهية من بقع الدم المنتشرة على المساحة السورية. هي بالتأكيد ليست المذبحة الاولى، ولن تكون الاخيرة. لعلها الأفظع، الأسرع، والأقل اثارة للضجيج والصخب، خارج سوريا، لا بل خارج الغوطة نفسها، أو في بقية الانحاء السورية العاصية والموعودة بمصير مشابه، مثل إدلب ودرعا وغيرها.. لكل مدينة او بلدة مذبحتها الخاصة، التي لا تعني غير ساكنيها.

لم يخالف النظام وحلفاؤه الروس والايرانيون التقدير الراسخ: تكسب الحرب بالكثير من المذابح والقليل من الإشتباكات. ليس من خيار آخر لتعديل الخلل الهائل في التوازن السكاني، وفي التوزع الديموغرافي، وصولا الى اللحظة التي تتيح الاعلان ان الغالبية السورية، تغيرت ، إنقلبت على نفسها، إستكانت مرة أخرى ، ودخلت في نصف قرن جديد من التسليم بمنطق القوة القاهرة من جهة، والشرذمة الظالمة من جهة أخرى.. وما بينهما من مظاهر وحشية وبربرية أفقدت النظام شرعيته ، وحرمت المعارضة من صدقيتها.

في المذبحة، تبدو تلك الثنائية وهمية، برغم ان حضور النظام أقوى وأفعل من وجود معارضيه على إختلافهم:تتعرض الغوطة الشرقية لحملة إبادة جمعية، فيعود النقاش مرة أخرى الى ما قبل الثورة، الى ما قبل التفاوض الاول ، والقرار الدولي الابرز، الى ما قبل جنيف وسوتشي وأستانة. وهي كلها أماكن ومعالم فقدت قيمتها، ووظيفتها الآن. الحسم العسكري، هو الخيار الاوحد ، وكل ما عداه هوامش وإستراحات على طريق العودة الى ما سبق ربيع العام 2011.

النظام قائم على المذبحة، والمعارضة مدمنة على ندبها. والغوطة تبدو وكأنها أتعس حظاً من بقية البقع السورية التي شهد بعضها ولا يزال حروباً عالمية صغرى، تخوضها القوتان العظميان وعدد من البلدان الاقليمية، وكأنها تقاتل من أجل قارة، وتتنازع على مساحات جغرافية ضيقة أصابتها لعنة التاريخ، وكأنها تصارع على عواصمها وتدافع عن حدودها الخاصة. الغوطة هي الآن خارج هذا المكان وذاك الزمان.

على مدى سنوات راكم النظام عناصر حملته العسكرية، وراكمت المعارضة عناصر هزيمتها. وتحول المدنيون الى عناوين للترهيب من جهة، أو الى دروع بشرية من جهة أخرى. في البدء كان القتال مع النظام أو ضده يتيح تحييد المدنيين، وخوض المواجهة خارج الاماكن السكنية. لكنه جدل متأخر جداً . والثمن باهظ جدا. ولا أحد يريد أن يدفعه ، أو أن يبدي على الاقل إستعداداً لخفضه.

عزلة الغوطة في مذبحتها هي أبشع ما يمكن ان يُسجل، وأقسى ما يمكن أن يُذكر. لن تكون خاتمة المذابح، ولا نهاية حرب، لا يمكن لأحد أن يزعم انه قادر على ترجمة مكاسبه العسكرية الى وقائع سياسية: لا يشعر النظام بالخلاص، ولا يحس الروس بالنصر ، ولا يقرب الايرانيون الغنيمة، ولا يدرك الاتراك الطمأنينة، ولا يفصح الاميركيون عن التقية. الجميع في متاهة سورية، كانت ولا تزال قادرة على إستنزافهم، وعلى تبادل الإستفزاز وعلى تقاسم الهزيمة في ما بينهم، وعلى تحفيزهم لتحويل نساء سوريا وأطفالها وكبارها الى طرائد سهلة، الى أهداف متحركة، متحررة من أرواحها ودمائها.

الغوطة وحيدة. ما عاد السؤال مطروحاً. ثمة من ينتقم لهزائمه الاخيرة. ثمة من يدفع ثمن تلك الهزائم.

المدن

 

 

 

 

الغوطة وعفرين والتطمين الإيراني لإسرائيل/ وليد شقير

لا يقتصر تشبيه المجزرة المرتكبة في الغوطة الشرقية لدمشق بتلك التي ارتكبت في شرق حلب وأدت إلى دخول قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية ووحدات روسية من الشرطة العسكرية إليها، على وجه واحد هو حملة الإبادة التي يرتكبها المثلث الجهنمي النظام- إيران- روسيا فقط. الأسلوب نفسه يعتمد: قصف وحشي من الجو يطال المدنيين، إخراج المستشفيات من الخدمة، منع وصول مواد الإغاثة تمهيداً لإتعاب مئات الآلاف واستسلامهم أو نقل المقاتلين إلى منطقة أخرى، هي على الأرجح إدلب.

النتيجة واحدة وهي أن الشعب السوري باق تحت المقصلة نتيجة السلوك الجهنمي للمثلث، فيما المجتمع الدولي يتفرج أو يتواطأ، وبينما تأخذ هواجس رجب طيب أردوغان أنقرة نحو الانخراط في المقصلة مع دفن الرأس بالرمال.

ومع فارق الزمن بين كانون الأول (ديسمبر) 2016 تاريخ سقوط حلب الذي أنتج وقائع جديدة، وبين ما يجري في الغوطة اليوم، فإن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يكرر الدعوة إلى الهدنة لعل اتفاقاً يقود إلى دخول الشرطة العسكرية الروسية الغوطة كما فعلت في حلب، ويكرر استخدام حجة القضاء على الإرهاب فيها بحجة وجود «جبهة النصرة»، في وقت تتألف القوى العسكرية المعارضة التي تتحصن في الغوطة من «فيلق الرحمن» و «جيش الإسلام» إضافة إلى مئات آلاف المدنيين.

مثل حلب، حيث سحب الجانب التركي فصائل من «الجيش السوري الحر»، تقع تحت نفوذه، من المدينة، كي يسهل دخول القوات السورية- الإيرانية إليها، لأن موسكو قررت مراعاة تنفيذ الجيش التركي عملية «درع الفرات» لإبعاد القوات الكردية عن حدوده، تسكت تركيا عن مجزرة الغوطة مقابل غض النظر الروسي عن خوضها المعركة في عفرين ضد قوات «سورية الديموقراطية» لأن مصلحتها تقضي بتشجيع تصاعد الخلاف بين تركيا وأميركا التي تدعم الأكراد. ولا يهتز السلطان العثماني لإهانة صورة بلاده كقوة سياسية- عسكرية كبرى في الإقليم، بظهورها متواطئة، نتيجة قبولها إسقاط الاتفاق على شمول الغوطة ضمن مناطق خفض التصعيد، أنجزه اتفاق روسي- إيراني- تركي في أيار (مايو) الماضي. سبق له أن «بلع» الإهانة في إدلب قبل أسابيع، حين صعّدت قوات النظام قصفها للمنطقة. فطهران وموسكو (شريكتا أنقرة في أستانا وسوتشي)، بدلاً من إدارتهما خفض التصعيد في الغوطة تديران التصعيد الوحشي الذي وصفته «الغارديان» بأنه «ليس حرباً بل إبادة». وبلغ التخبط لدى أنقرة أنها تركض الآن وراء نظام دمشق للتفاهم معه على وقف مساعدته الأكراد في عفرين، عن طريق السماح لمقاتليهم في حلب بالانتقال إليها لمقاتلة الجيش التركي، مقابل استعادة «القوات الشعبية» التابعة للنظام المواقع التي يسيطرون عليها. فمعركة عفرين جعلت النظام في موقع يدفع تركيا والأكراد إلى التنافس على التفاهم معه.

وعلى رغم الأنباء عن التعارض بين النظام وروسيا في شأن الاندفاعة الوحشية لقوات بشار الأسد نحو الغوطة، فإن النكوث بالتعهدات الروسية بإنجاح مناطق خفض التصعيد لا يزيد سوى توريط موسكو أكثر فأكثر في وحول الحرب إلى جانب النظام الذي يتصرف على أنه منتصر، إلى درجة التنصل حتى من نتائج مؤتمر سوتشي الذي جهدت موسكو لعقده، وإعلانه أن الاتفاق فيه على لجنة صوغ الدستور غير ملزم له. فالكرملين يسعى لتكريس شرعية قيادته للحل السياسي المزعوم في سورية، بعد إعلان انتصاره في الحرب على «داعش» وسحب جزء من قواته، لكن تحالف إيران- النظام يجبره على العودة إلى الانغماس في القتال، سواء عبر التشكيلات العسكرية غير الرسمية التي تكبدت خسائر بشرية ضخمة مطلع هذا الشهر في دير الزور على يد الأميركيين، أم عبر الاشتراك في القصف الجوي، لعجزه عن الانسحاب من المواجهات العسكرية، طالما لم يحصد بعد أي نتيجة سياسية من دخوله الحرب منذ عام 2015، لا في المفاوضات مع واشنطن ومع الاتحاد الأوروبي حول رفع العقوبات ولا حول الدرع الصاروخية للناتو في أوروبا الشرقية، ولا حول أوكرانيا…

مع معركة النظام وإيران للسيطرة على الغوطة بحجة حماية دمشق، فإن التخبط والفوضى لدى الدول المتورطة في الآتون السوري دفعا طهران إلى طمأنة إسرائيل أمس، بلسان نائب وزير الخارجية الإيرانية ​عباس عراقجي​، بأن هدف إيران من دخولها سورية لم يكن فتح جبهة مع إسرائيل، بل مواجهة ​الإرهاب​. هذا من مستجدات الميدان السوري.

الحياة

 

 

 

 

روسيا تنكفئ نحو “سوريا المفيدة”/ محمد قواص

روسيا ورغم نفيها الضلوع في غارات الغوطة، فتود الإطلالة من خلال الغوطة على الشركاء الكبار، لا سيما الولايات المتحدة، لإعادة قراءة المشهد الميداني ووضعه في حسابات واشنطن والأوروبيين.

نتائج معركة الغوطة لا يغير من موازين القوى النهائية

 

تدافع الولايات المتحدة عن خيارها في دعم الأكراد شرق الفرات، وتضع لذلك الدعم حدودا جغرافية يُبقي عفرين خارجه. وإذا ما اقترب رتل مشبوه ليخترق الفرات باتجاه الشرق ويهدد قواعد لقوات حماية الشعب الكردية في دير الزور، فإن مقاتلات أميركية تغير لتبيد المهاجمين، كما أغارت وأبادت في مايو 2017 قافلة تابعة أو داعمة لنظام دمشق تقدمت باتجاه قاعدة التنف. وحين يكتشف العالم أن الرتل المشبوه في دير الزور ضم المئات من المرتزقة الروس قضوا بنيران المقاتلات الأميركية، فإن هذا العالم كما واشنطن وموسكو يسكتون عن هذا “التفصيل” داخل المحرقة السورية الكبيرة.

ينطلق وزيرا الدفاع والخارجية الأميركيين مع مستشار الأمن القومي لمعالجة “الإشكال” المُلِح في العلاقات التركية الأميركية. تجري المداولات وفق خطوط الخرائط ما يطلق يد تركيا داخل حدائقها الأمنية في شمال سوريا. ووفق التفاهمات الغامضة بين واشنطن وأنقرة تتعامل القوات التركية مع محاولة قوات تابعة لنظام دمشق التدخل في شأن عفرين.

وما بين ما هو أميركي وما هو تركي تطلق موسكو وطهران ودمشق عملياتها في الغوطة الشرقية. يستفيد الحلف الثلاثي من تمترس أنقرة وواشنطن داخل مناطق الأمن التي اختّطتاها لنفسيهما في الشمال والشمال الشرقي لسوريا، والتي على ما يبدو لا تتمدد نحو الجغرافيا السورية الأخرى ولا صوب ما كان يعرف بـ“سوريا المفيدة” وفق تعبيرات بشار الأسد العتيقة. فحتى إشعار آخر لا يبدو أن تركيا أو الولايات المتحدة معترضتين على المجزرة التي ترتكب في الغوطة الشرقية وكأن نتائجها لا تدخل في حسابات الربح والخسارة لدى البلدين.

والأرجح أن نتائج معركة الغوطة سواء في صمودها أو سقوطها ما لا يغير من موازين القوى النهائية التي ترسم التسوية النهائية في هذا البلد. فيكفي تتبع البوصلة الأميركية لاستنتاج أن معارك التفصيل لم تعد تؤثر على نتائج الجملة، ذلك أن التسويات المتوخاة بين العواصم الكبرى لن تأخذ في الحسبان وقائع الميدان، لا سيما وأن التحديات الكبرى المرتبطة بمصير إيران وحزب الله ونظام الأسد والموقف الجيواستراتيجي الإسرائيلي لن يقف أمام تبدّل مشاهد إدلب والغوطة وغيرها.

يعكس ارتفاع حدة النيران لدى كافة الأطراف الدولية حقيقة أن التسويات في ما بينها بعيدة لكنها ضرورية داهمة بما يستدرج حسما عسكريا هنا وهناك. تستعيد موسكو لغة النار التي لم تسقط حتى في أوج رعايتها لعمليات أستانة وسوتشي التسووية. لا تحتاج واشنطن إلى جراحات سورية كبرى، فميدانها حتى الآن يشمل كل النفط السوري ولا يحتاج إلى فائض مغامرات عسكرية. وحدها موسكو تستشعر نكسة في ورشتها النارية في سوريا التي باشرتها منذ خريف 2015. وحده فلاديمير بوتين يرتعد من هذا الانزلاق الخطير لمغامرته العسكرية في هذا البلد. بات الروس يستقبلون جثث موتاهم العائدة من الجبهات السورية بما يعيد إليهم الذاكرة المقيتة حين كانت جثث القتلى تتدفق عائدة من الجبهات الأفغانية قبل عقود. يترجل رجل الكرملين من طموحاته السورية الكبرى ويعيد الالتحاق بـ“سوريا المفيدة” الصغرى.

تبقى الغوطة الشرقية مخرجا مناسبا لتحقيق النصر. إيران تريد أن توسّع من سيطرة النظام السوري على الضواحي القريبة والبعيدة للعاصمة وبالتالي توسّع من تواجدها العسكري والسياسي، خصوصا إذا ما فرضت الضغوط الإسرائيلية انكفاء القوات الإيرانية كما الميليشيات التابعة لها عن منطقة عازلة واسعة تبعدها عن الحدود الجنوبية مع إسرائيل. أما روسيا ورغم نفيها الضلوع في غارات الغوطة، فتودّ بالقوة العسكرية الإطلالة من خلال الغوطة على الشركاء الكبار، لا سيما الولايات المتحدة، لإعادة قراءة المشهد الميداني ووضعه في حسابات واشنطن والأوروبيين. هؤلاء بدأ حضورهم ثقيلا يطيح بموازين القوى التي كانت معقودة لروسيا قبل أن تثير سوريا شهية فريق ترامب وتجذب الأوروبيين من جديد.

على أن معركة الغوطة تخاض بصفتها عنوانا جديدا من عناوين الحسم العسكري العزيز على قلب دمشق وطهران. خُيّل للنظام السوري وإيران أن الحل العسكري الذي أسقط حلب بالتواطؤ الكامل لتركيا سيسقط سوريا برمتها في أيدي نظام دمشق. وإذا ما خيبت روسيا آمال دمشق وطهران في جرّ موسكو نحو الحل العسكري الشامل في سوريا، فإن موسكو تعيد الاتّساق مع هذه الاستراتيجية وتبشّر عبر وزير خارجيتها سيرجي لافروف بحلب جديدة في الغوطة.

غير أن للأزمة السورية أبعادا مجهولة تتكشف يوما بعد آخر لتتحول إلى أعقد أزمات الأرض وتهدد السلم العالمي برمته. وإذا ما كانت واشنطن تسمح لروسيا وإيران بخوض مغامرة الحسم العسكري، فذلك إما لأن نتائج تلك المعركة، على ما تتسبب به من مآسٍ إنسانية، لا تتعارض مع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، وإما لأن واشنطن نفسها تمسك بمفاصل لا تسمح بتجاوز الخطوط ولا تتيح الاصطدام بسقف المتاح داخل سياق التناتش مع موسكو.

ورغم صعوبة رسم خط بياني واضح لمسار الأحداث في سوريا وعقم التورط باستشراف دقيق لمآلات التحركات العسكرية المتعددة الأطراف، فإن ما شهدته الساحة السورية في الأشهر والأسابيع والأيام الأخيرة يعطي مؤشرات فاضحة عن نوعية المفاجآت الاستراتيجية الكبرى التي قد تقلب مصير أي معركة. من هذه المفاجآت الإغارة الهوليوودية الكثيفة بطائرات درون “مجهولة” على قاعدة حميميم وقبل ذلك القصف الذي طال قاعدة طرطوس، الروسيتين. ومن هذه المفاجآت إسقاط مقاتلة روسية بصاروخ “مجهول” من قبل مقاتلين “مجهولين”، إضافة إلى تمكّن المقاتلين الأكراد من إسقاط مروحية تركية فوق عفرين ما يهدد حرية حركة الملاحة العسكرية التركية في المنطقة. وتوّجت المفاجآت الدراماتيكية بالتدمير الجوي للرتل الروسي الشهير.

سرّب مجهولون شريطي فيديو. الأول التقطته كاميرا جوية كانت تسجل عمليات قصف الطائرات الأميركية للقافلة المؤللة للمرتزقة الروس أثناء تقدمهم باتجاه القواعد الكردية الأميركية بالقرب من دير الزور. تواكب هذا التسريب مع آخر أرضي سجلته كاميرات المرتزقة الروس أنفسهم بحيث ظهرت جسامة الخسائر البشرية والآلية التي تكبدتها القوات الروسية المستهدفة. وبين ما ظهر من الجو وذلك الذي كُشف على الأرض، بدا حجم التفوق الأميركي في فرض وقائع على الأرض تطيح بأي حراك داخل سوريا يتخطى المتاح والمسموح.

قد لا تخرج معركة الغوطة عن سياق مفاجآت مقبلة كتلك التي رافقت معارك سورية في مناطق أخرى. والمتأمل للمواقف التي أطلقها وزيرا الخارجية والدفاع الأميركيين، كما تلك التي كررها مستشار الأمن القومي أمام مؤتمر الأمن في ميونيخ في مسألة العزم على مواجهة إيران، سيلحظ أن معركة الغوطة تأتي خارج تلك الحسابات، لا بل على النقيض منها.

وفيما تروّج في العواصم الأوروبية مواقف تقترب من الموقف الأميركي بشأن البرنامج الصاروخي الإيراني، وفيما يتجه مجلس الأمن للتصويت على قرار يدين ما كشفته تحقيقات الأمم المتحدة من تورط إيراني في تزويد الحوثيين بالصواريخ الباليستية التي ضربت وهددت الأراضي السعودية، فإن للغوطة صدى ناشزا لا يتّسق مع المسارات الدولية الراهنة.

يبقى أن الغوطة تدفع ربما ثمن مجموعة صفقات خلفية تضع روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وإيران داخل تقاطع تدور داخله مقايضات خبيثة. تلك هي الحكاية القديمة الجديدة للعبة الأمم.

العرب

 

 

 

يا أهل الغوطة: لن يأتي أحد لإنقاذكم/ أحمد أبو دوح

التدخل يصبح إنسانيا فقط لو صادف حدوث المذبحة في مكان يملك الغرب فيه مصالح كبرى. لهذا السبب وغيره، لم يصمت الغرب فقط عن قصف الغوطة والأزمة الإنسانية الناتجة عنه، بل مازال يمنح الأسد الوقت لإنهاء المهمة.

أيها السوريون، لن يأتي أحد لإنقاذكم

ما يحدث في الغوطة الشرقية ليس فقط قضية أخلاقية، لكنها معضلة نفسية تتشكل نتيجة تراكم منظومة قيم جديدة تماما.

قصف النظام السوري، الذي خلف خلال ساعات قليلة، عشرات القتلى من الرجال والعجائز والنساء والأطفال ليس جديدا. هذا الحدث صار النغمة التي اعتادت الآذان على سماعها كل يوم، في جميع أنحاء العالم.

الأطفال السوريون، الذين باتوا يبلغون اليوم سبع سنوات، صار قصف الطائرات والمدافع وانهيار بيوت الجيران على رؤوسهم بمثابة صوت المنبّه ساعة الصباح بالنسبة إلي ولك. أما أطفال الجيران، الذين دفنوا أحياء تحت الأنقاض، صاروا رقما لا يقلق أحدا طالما ظل تحت السقف المقبول.

هذا المشهد المتكرر لرجل يصرخ ويحمل طفلا تغطي الدماء وجهه بات ضرورة عادية طالما قرر المرء أن يقتطع من وقته دقائق قليلة لمشاهدة الأخبار.

من مذبحة سربرنيتسا إلى غزو العراق والحرب السورية والقصف على داعش في الموصل والرقة الذي خلف المئات من القتلى المدنيين، كانت أرقام الضحايا تتحول إلى روتين مهما بلغ حجمها.

الناس العاديون في البلدان العربية صاروا خبراء استراتيجيين، وانصب كامل اهتمامهم على الكلام عن تحريك الحدود أو الصفقات السياسية والمفاوضات، في جنيف أو أستانة أو سوتشي أو فيينا، أو تحركات الميليشيات في طول المنطقة وعرضها، وآثار ذلك على مجريات الصراع. لم يعد مصير أقرانهم من السوريين أو العراقيين أو اليمنيين يعنيهم في شيء، بل باتوا أكثر استعدادا لغض الطرف عن بشار الأسد ومنحه الفرصة لإنهاء المهمة!

لكن ليس هذه هي المشكلة التي من الممكن أن تحدث فرقا كبيرا. ثقافة العالم العربي قائمة بطبيعتها على السلبية وعدم المبالاة منذ قرون، خصوصا تجاه الإنسان وقيمته وما يمثله.

المشكلة الأكبر في الغرب. لا أحد يفهم ماذا حدث بالضبط؟ الناس في أوروبا أو الولايات المتحدة لم يكونوا أبدا مستعدين للصمت والاكتفاء بهز الأكتاف مثلما يبدو اليوم.

ثمة تغييرات حادة تحدث في جوهر منظومة القيم الراسخة في الشخصية الغربية منذ قرون. علاقة الموظفين والبقالين وعمال توصيل الطلبات إلى المنازل والمدرسين والسائقين بالتراكم الحضاري الغربي صارت تواجه مشكلة. ثقافة التسامح ودعم قضايا الإنسانية والسلام لم تعد بالنسبة إليهم ثقافة.

الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون كان على وشك الإطاحة به عندما تم الكشف عن أنه أقام علاقة جنسية مع مونيكا لوينسكي. اهتزت أميركا بكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والإعلامية، وتم تحضير الرأي العام، الذي كان مصدوما ومستعدا بالفعل، لقبول تنحية أحد أهم الرؤساء الأميركيين في العصر الحديث.

اليوم لدينا رئيس أميركي يعترف بنفسه أنه يستمتع بملامسة النساء وتقبيلهن رغما عنهن. هذا رئيس لا يجد حرجا مثلا للحديث بصراحة عن أنه دفع آلاف الدولارات لممثلة أفلام إباحية، بالإضافة إلى أن ليس ثمة مؤشر حتى الآن على أنه يملك الحد الأدنى من مقومات كلينتون كرئيس. مع ذلك، لا يبدو نفس هؤلاء السياسيين والصحافيين والنشطاء مهتمين كثيرا بما يجري، وبدأوا يرون الأمر كجزء من حياتهم اليومية عليهم التعامل معه وقبوله.

هذا إما يعني أن هؤلاء الأشخاص قرروا التخلي عن مبادئهم، وإما أن أميركا تغيرت للأبد.

الأميركيون أنفسهم، ومعهم البريطانيون، كانوا أكثر الناس اعتراضا على خطة جورج بوش الابن وتوني بلير لغزو العراق. الملايين من المتظاهرين غطوا مساحات شاسعة من حديقة هايد بارك في لندن قبيل الغزو، اعتراضا على غياب أي مبررات أخلاقية أو حتى غير أخلاقية له. عام 2003 شهد أكبر تظاهرات يشهدها العالم الغربي منذ نزول الناس للاحتفال بانهيار الاتحاد السوفييتي.

أين هؤلاء الآن مما يحدث في الغوطة، وما حدث قبلها في حلب والموصل ودرعا والرقة وتعز؟ ما هذا الصمت الذي صار مجرد التفكير فيه مبعثا على الخوف من الوصول إلى الحقيقة، التي نعرفها جميعا، لكننا نتهرّب من سماعها؟ لماذا لم يعد العالم مهتما بمصائبنا، بل صار يشارك في إخراجها ثم يعيد مشاهدتها كل يوم دون أن يرمش له جفن؟

أيام غزو العراق، قرر الناس أن يكون لمشاعرهم وغضبهم صوت مسموع، والوقوف أمام عمل لا إنساني، رغم أنه كان موجها لنظام مستبد يقبع على رأسه دكتاتور دموي. اليوم السوريون هم من يذبحون من قبل نظام مستبد، من دون أي ضجيج يذكر في الغرب، رغم أن هذه المرة القضية أكثر عدلا وواقعية.

ماذا تغير خلال عشرة أعوام؟ لماذا كان الناس في أوروبا والولايات المتحدة مستعدين للدفاع عن العراقيين ضد غزو عام 2003، وأصبحوا غير مستعدين لفعل الشيء نفسه مع السوريين بعد احتدام الصراع عام 2013؟ إلى جانب تغير قيمه، يبدو الغرب غارقا في همومه. يقول صديقي السياسي البريطاني، الذي كان قائدا للقوات البريطانية في البصرة إبان غزو العراق، إن “بريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) حول بريطانيا إلى بلد غير مستقر، وكأنه أحد بلدان الشرق الأوسط، لكن دون دماء”.

بريكست ليست قضية محلية تقتصر على بريطانيا فقط، لكنها قضية عالمية في دوافعها ومسبباتها الرئيسية. انسحاب بريطانيا من أوروبا لم يكن ليحدث لو لم يكن اليمينيون المتطرفون والتيارات التي تضم في صفوفها كل العنصريين والمتعصبين وغيرهم ممن يعادون الهجرة قد تقدموا للسيطرة على المشهد السياسي في أوروبا بشكل عام. انتخاب ترامب نفسه تحول ستتناوله المناهج الدراسية لاحقا باعتباره خطأ تاريخيا ستحتاج الولايات المتحدة لسنوات طويلة كي تتدارك عواقبه.

ثمة حالة ركود عميقة في الاقتصاد العالمي أيضا، أثرت على المواطن الغربي بشكل مباشر، رغم أننا نعيش عصر الوفرة في كل شيء. الناس العاديون ليسوا مستعدين للاهتمام بشيء آخر إلى جانب مشاكلهم اليومية، حتى لو كان الأمر متعلقا بذبح الأبرياء كما يحدث اليوم في الغوطة.

لم يكن جوناثان غرينلاند موفقا عندما قال، في مقال مهمّ عن مذبحة الغوطة نشرته صحيفة “الغارديان”، إن “أحد نتائج الغزو الكارثي للعراق عام 2003 في الغرب هو تشويه فكرة التدخل العسكري لإنقاذ حياة الأبرياء ووقف المذابح. بغياب الحوار المجتمعي حول هذا التدخل الضروري، يصمت الناس تدريجيا ويتوقفون عن الحديث عن المذابح نفسها، وكأن شيئا لا يحصل”.

حاول غرينلاند أن يقدم منطقا في معالجة آثار الغزو بالمزيد من الغزو، أو بمعنى آخر حاول الحديث عن منطق لكنه ظهر وكأنه أيضا يحتاج إلى منطق.

المشكلة هنا هي أن التدخل العسكري عادة ما يقترن بمصلحة، بغض النظر عن عدالة القضية. لا شيء يسمّى تدخلا إنسانيا. التدخل يصبح إنسانيا فقط لو صادف حدوث المذبحة في مكان يملك الغرب فيه مصالح كبرى. لهذا السبب وغيره، لم يصمت الغرب فقط عن قصف الغوطة والأزمة الإنسانية الناتجة عنه، بل مازال يمنح الأسد الوقت لإنهاء المهمة.

أيها السوريون، لن يأتي أحد لإنقاذكم. لا تعولوا كثيرا على ذلك، أو لعل طول الأزمة وكثرة المذابح وقسوتها علمتكم عدم التعويل إلا على أنفسكم.

العرب

 

 

 

ماذا بعد الغوطة؟/ رياض نعسان أغا

سأفترض أن النظام تمكن من السيطرة على الغوطة بعد خمس سنوات من حصار سكانها وتدمير بناها، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين الذين يتجه القصف المريع إليهم، وتهجير آلاف المواطنين السنة إلى إدلب حيث الفخ الأخير، فما الذي سيفعله النظام في الغوطة؟ ومن سيملأ فراغها السكاني؟ أتوقع أن إيران تخطط لتحويل الغوطة إلى معسكرات إيرانية تحيط بالعاصمة من كل اتجاه، وستوطن “حزب الله” الشيعي السوري فيها، امتداداً إلى المناطق المقدسة- حيث مقام السيدة زينب التي يحرص الإيرانيون و”حزب الله” اللبناني ألا تسبى هذه المناطق مرتين !

لقد سبق أن سقطت بغداد بيد الصفويين، واستباحوا أهلها، ولكن حكمهم لم يدم سوى بضع سنوات، بقيت في ذاكرة الفرس، وصاروا يستمدون منها مشروعية تاريخية في استعادة سيطرتهم على العراق، وقد مكنهم من ذلك الاحتلال الأميركي الراهن الذي فوضهم بإدارة العراق، بينما تقوم روسيا اليوم بتمكينهم من احتلال سوريا، ويصمت الغرب كله عن سيطرة إيران على لبنان، وعن تدخلها المدمر لليمن، وبالطبع لم يعد غالبية العرب يأخذون التصريحات الغربية ضد التغول الإيراني في المنطقة على محمل الجد، وهم يرون كيف ساهم الغرب في كبح جماح التظاهرات الشعبية الإيرانية، ويرون غض الطرف عما ترتكبه إيران من مجازر في سوريا واليمن. وسيكون متوقعاً إنْ نجحت إيران وروسيا في إبادة الغوطة أن يتوجه العدوان إلى الجنوب في درعا، لإخضاعها للنظام الذي هو وحده من يطمئن إليه الفرس والروس، وهو وحده من يمنحهم شرعية التدخل العسكري، ولن تكون معركة الجنوب سهلة.

ومع انطلاق الحملة الوحشية المستجدة على الغوطة، بدأت روسيا تنذر مناطق خفض التصعيد في الرستن وريف حمص، وتدعوهم للاستسلام للنظام، وتعلن لهم في محادثات خاصة أنها لم تعد معنية بالاتفاقية، بل إنها بدأت تهددهم إنْ لم يستجيبوا، وقد أصروا على الصمود.

لقد انهارت اتفاقيات آستانة بعد مؤتمر “سوتشي”، حيث شعرت روسيا بصعوبة أن تفرض الحل السياسي على النحو الذي كانت تخطط له، بما يضمن بقاء الأسد عبر دستور جديد أو معدل، وعبر انتخابات تضمن فوز الأسد بها، و يبدو أن بوتين تمكن من إقناع الرئيس ترامب بأن خطته ستنجح، وأنه قبلَ أن يخوض الانتخابات الروسية سيعلن النصر السياسي كما سبق أن أعلن النصر العسكري في حيميم، لكن الإدارة الأميركية مع الأوروبيين سارعت لإطلاق ما سمته ( اللاورقة ) رغم كونها لاتختلف في تفاصيلها عن مخرجات سوتشي إلا أنها من وجهة نظر موقعيها، تقطع الطريق على الوقوع مستقبلاً في حكم ديكتاتوري عبر تكبيل صلاحيات الرئيس، ولكنها تخلو من الإشارة إلى الأسد تحديداً، والسوريون يعرفون شمس بلادهم، ولايثقون إطلاقاً بإمكانية ترويض الأسد، ويبدو أن من وضعوا هذه اللاورقة لم يقدموها بوصفها مضادة للخطة الروسية، ولكن روسيا تدرك ما يعنيه ذلك من إعاقة لمشروعها، لذلك سارعت إلى الملف السياسي كله في وجه الأمم المتحدة (وهي ضامنة لقدرتها على التعطيل بقوة الفيتو)، وتفرغ بوتين لمتابعة الحسم العسكري حسب خطة إيران والأسد، وعلى غرار ما فعلوا في حلب.

ويبقى السؤال: هل ينجح المخطط الإيراني- الروسي في دعم النظام لاستعادة الغوطة وأرياف حمص وحماه ودرعا؟ وهل يتمكن النظام من استعادة ثلاث محافظات كبرى في الشمال والشرق السوري، وكم ستكون كلفة ذلك من الضحايا؟ وهل سيقبل الانفصاليون من الأكراد والمعارضون الكرد السوريون الوطنيون بالعودة إلى حضن النظام؟ وهل سيخرج الأتراك من إدلب ليسلموها هدية للأسد؟

لقد بدا واضحاً للعالم كله أن الشعب السوري الذي تعرض لأخطر محنة فاجعة في التاريخ المعاصر، يفضل التشرد أو الموت غرقاً أو تحت الأنقاض على أن يعود إلى سلطة متوحشة دمرته، وأخرجت ضده من عفن التاريخ أبشعه، وهي تمارس اليوم في الغوطة ما يجعل البشرية مدانة على صمتها.

الاتحاد

 

 

 

 

كارثة الغوطة.. امتحان آخر للضمير الإنساني!/ عمر كوش

سيناريو حلب

خيانة الاتفاقات

أهمية الغوطة

ما يقوم به النظام السوري وحلفاؤه الروس والإيرانيون ومليشياتهم الطائفية من مجازر وتدمير لقرى وبلدات غوطة دمشق الشرقية هو جريمة حرب من نوع خاص (عدد القتلى تجاوز حتى الآن 300 والمدينة تعيش شللا شبه تام)، بل مجزرة علنية تستهدف قتل ما تبقى من الحاضنة الاجتماعية للثورة السورية، وكسر صمود أهلها وإجبارهم على ترك غوطتهم، استكمالاً لعمليات تهجير قسري ممنهجة اتبعها نظام بشار الأسد وحلفاؤه بمناطق سورية عدة منذ بداية حربهم على غالبية السوريين.

سيناريو حلب

لم يكتفِ النظام السوري وحلفاؤه بفرض حصار جائر على قرى وبلدات الغوطة الشرقية منذ خمس سنوات، بل تحاول قواته ومليشيات حزب الله اللبناني وسائر المليشيات الإيرانية اقتحامها منذ عدة شهور، باستخدام كافة أنواع القصف المدفعي والصاروخي.

هذا فضلاً عن القصف بالبراميل المتفجرة وغاز الكلور السام، ومنع وصول المساعدات الغذائية والإنسانية إلى قرابة 400 ألف مدني يواجهون خطر الموت بسبب الحصار، حسبما أعلنه فرحان حق الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة.

وتستهدف طائرات النظام الحربية والقاذفات الروسية المدارسَ والمستشفيات والمحال التجارية ومحطات الكهرباء والمياه، لكسر إرادة الناس وإجبارهم على ترك أماكنهم ليكونوا لاجئين أو موتى، في محاولة لتنفيذ مشروع التغيير الديموغرافي الذي ينفذه نظام الأسد والإيرانيون في سوريا بارتكاب المجازر، بغية إفراغ المدن والبلدات من سكانها الأصليين وتوطين عائلات من المليشيات وسواهم.

وتُرتكب هذه المذبحة أمام مرأى العالم وسمعه وخاصة مجلس الأمن والدول المعنية بالملف السوري، التي تعجز عن تبني موقف حازم بشأنها يضع حداً لها، في حين أن ما يعرف بالمجتمع الدولي لا يحرك ساكناً سوى إبداء قلقه منها، والدعوة إلى عقد جلسة لمجلس الأمن بغية التصويت على مشروع قرار يدعو إلى هدنة إنسانية لن يمررها الفيتو الروسي.

والأنكى من ذلك هو أن الأمين العام للأمم المتحدة اكتفى بالتعبير عن قلقه المتطابق مع قلق من سبقوه في منصبه، في حين أن مبعوثه الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا تحدث أمام مجلس الأمن -بلغة محايدة- قائلا إن “تصعيد القتال في الغوطة الشرقية قد يجعلها حلب ثانية”.

وكأن دي ميستورا لا يعلم من يشن حرب الإبادة على سكانها المدنيين الذين يسقط منهم العشرات بل المئات كل يوم، ولم يستطع القول إن الروس والمليشيات الإيرانية ومليشيات النظام قاموا بتدمير أحياء حلب الشرقية أواخر 2016، ونظموا عمليات تهجير قسري لمئات الآلاف من سكانها المدنيين، فتحولوا إلى مشردين ونازحين ولاجئين.

خيانة الاتفاقات

رغم أن منطقة الغوطة الشرقية ضُمت -خلال مفاوضات جرت في القاهرة برعاية روسية مصرية- إلى “مناطق خفض التصعيد” في 22 يوليو/تموز 2017؛ فإن الروس -الذين هندسوا اتفاقات مناطق خفض التصعيد مع الأتراك والإيرانيين خلال اجتماعات أستانا- لم يحترموا تعهداتهم وضماناتهم.

بل إن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف هدد سكان الغوطة الشرقية علانية بسيناريو تدميري مماثل لسيناريو حلب، وما يستتبعه من إخراج مقاتلي المعارضة وتهجير سكانها المدنيين؛ وذلك بحجة إخراج عشرات مقاتلي “هيئة تحرير الشام”، التي خاضت فصائل الجيش السوريالحر وفصائل أخرى بالغوطة معارك ضدها فاستطاعت تحجيمها.

ويُخفي الساسة الروس أهدافهم ومخططاتهم المتمحورة حول الوقوف إلى جانب مليشيات النظام والمليشيات الإيرانية للسيطرة على كافة مناطق المعارضة، بدءاً من الغوطة الشرقية ومروراً بشمال مدينة حمص ووصولاً إلى مناطق جنوب حماة، وإخراجها مما سموْها زيفاً “مناطق خفض التصعيد”.

وذلك بعد فشل مسار اجتماعات أستانا واستكمال غاياتها التكتيكية وإخفاق الروس في مؤتمر سوتشي، مع العلم بأنهم اجترحوا هذه الاتفاقات لغاية خاصة بهم وبالإيرانيين والنظام، بغية تسهيل قضم مناطق سيطرة المعارضة الواحدة تلو الأخرى، وخاصة بعد انتهاء معارك مليشياتهم مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في البادية السورية، وإعلانهم الانتصار عليه.

هذا إضافة إلى أن مليشياتهم لن تستطيع الاقتراب من مناطق النفوذ الأميركية شرق نهر الفرات ومنطقة الجزيرة السورية بكاملها، بعد أن قتلت القوات الأميركية المئات من المليشيات الإيرانية والمرتزقة الروس، الذين حاولوا الاقتراب من مناطق النفوذ الأميركية.

وقد تعوّد النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيون على تمرير تمسكهم بالحل العسكري منذ بداية حربهم على الغالبية السورية، وحاولوا إخفاءه بالظهور بمظهر من يريد الحل السياسي، وفي كل مرة كانوا يختبرون ردة فعل المجتمع الدولي على المجازر التي يرتكبونها بحق السوريين، وحين يجدون أن ردة الفعل ضعيفة يتمادون في ارتكاب المزيد من الجرائم.

حدث ذلك مرات عديدة، أخطرها مجزرة السلاح الكيميائي التي استخدم فيها غاز السارين أو غاز الأعصاب ضد سكان الغوطة الشرقية والمعضمية وسواهما، حيث قضى أكثر من 1400 شخص يوم 21 أغسطس/آب 2013.

وكانت تلك كانت جريمة حرب كشفت عجز المجتمع الدولي، حيث بلع الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الخط الأحمر الذي وضعه واكتفى بصفقة مريبة مع الروس، ثم داس عليه النظام السوري مراراً وتكراراً بعدئذ في حالات عدة ليس أخراها مجزرة خان شيخون في أبريل/نيسان الماضي.

أهمية الغوطة

ويبدو أن النظام السوري وحلفاءه الروس والإيرانيين يستعجلون الوقت في أيامنا هذه لتحقيق حسم عسكري مهما كان ثمنه في الغوطة الشرقية المحاصرة على حساب دماء المدنيين، وذلك بعد أكمل مختلف اللاعبين الدوليين والإقليميين تثبيت نفوذهم على الأراضي السورية.

وخاصة بعد أن تلقت المليشيات الإيرانية والروسية ضربة قوية من طرف الولايات المتحدة الأميركية، والاشتباك الذي حصل داخل سوريا بين الإيرانيين والإسرائيليين، وما يمثله ذلك من تحديات للنفوذ الروسي في سوريا، واستهداف القواعد العسكرية الروسية في حميميم وطرطوس الذي أثبتت أن الانتصار الذي أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتينكان وهمياً.

ويولي النظام وحلفاؤه أهمية كبيرة للغوطة الشرقية نظرا لما تمثله من بُعد إستراتيجي، بوصفها المدخل الجنوبي الشرقي لعاصمة “سوريا المفيدة” دمشق، ولإشرافها المباشر على طريق مطار دمشق الدولي ذي الأهمية العسكرية الكبيرة بالنسبة للنظام والإيرانيين.

كما تنبع أهميتها أيضاً من اتصالها المباشر بطرق تفضي إلى محافظتيْ درعا والسويداء باتجاه الحدود الأردنية من جهة الجنوب، وباتجاه الحدود العراقية من جهة الشرق، فضلاً عن أن الغوطة الشرقية هي آخر حصن كبير بالنسبة للمعارضة قريب من العاصمة.

وكانت الغوطة الشرقية -منذ دخول الروس في الحرب إلى جانب النظام ضد غالبية الشعب السوري- هدفاً رئيسياً للقتل والتدمير، حيث شهدت مرات عديدة تكثيفاً للقصف بالمقاتلات الروسية ومقاتلات النظام، رغم محاولات الساسة الروس إظهار أنفسهم وكأنهم معنيون بإيجاد حل سياسي في سوريا.

أما في واقع الأمر؛ فإنهم يؤكدون بأفعالهم أنهم قوة احتلال للبلاد، وطرف فاعل في الحرب البشعة التي يخوضها النظام وحلفاؤه ضد غالبية السوريين، ويسعون إلى إنهاء المعارضة بشقيها العسكري والسياسي وتعطيل أي دور مستقبلي لها.

ويحشد النظام وحلفاؤه المزيد من مليشياتهم وقواتهم لتحقيق غايات الساسة الروس والإيرانيين في تثبيت احتلال سوريا الذي لن يكتمل إلا باحتلال الغوطة، معتقدين أن احتلالها سُيفضي إلى حسم المعركة ضد إرادة غالبية السوريين لصالحهم، كي يتمكنوا من تثبيت نفوذهم في سوريا.

لكن رغم كل ذلك؛ فإن إرادة الصامدين في غوطة دمشق الشرقية والمدافعين عنها كافية للذود عنها، ولإفشال محاولات الغزاة الروس والإيرانيين في قهرها واحتلالها؛ ومهما ارتكبوا من فظائع وحشدوا من قوات ومقاتلات فلن ينالوا من عزيمتهم.

جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة

2018

 

 

محمد نجم.. ابن 15 عاماً يبث يوميات الغوطة

مثل الكثير من المراهقين في الخامسة عشر من العمر، يقضي محمد نجم وقتاً طويلاً من يومه وهو يبث مجموعة من مقاطع الفيديو الشخصية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن بعكس معظم الأشخاص في عمره، تركز مقاطع الفيديو الخاصة به على الضربات الجوية في سوريا حيث تقتل القنابل والبراميل المتفجرة أصدقاءه وأفراد عائلته.

ويقول نجم في واحد من عشرات مقاطع الفيديو التي نشرها عبر حساباته في “تويتر” و”يوتيوب”: “يموت أطفال الغوطة كل يوم بسبب غارات نظام الأسد وروسيا”، متحدثاً لغة انجليزية ركيكة لكنها كافية لإيصال المعاناة المتفاقمة في الغوطة الشرقية، وهي ضاحية قرب العاصمة دمشق، تعاني منذ نحو أسبوع واحدة من أكثر الحملات دموية في الصراع السوري المستمر منذ سبع سنوات، علماً أنها تحت حصار خانق منذ العام 2013، حسبما نقلت شبكة “سي إن إن” الأميركية.

ويذكر نجم بالفتاة السورية الشهيرة بانا العبد، التي كانت واحدة من أبرز الأصوات التي وثقت سياسة الأرض المحروقة التي اتبعها النظام السوري وحلفاؤه في أحياء مدينة حلب الشرقية شمالي البلاد العام 2016.

وبوجه مغبر من أثر القصف، يظهر نجم في أحد المقاطع المختلفة فوق إحدى البنايات ليقول: “اسمي محمد نجم أعيش بالغوطة الشرقية.. نحن نقتل بصمتكم”، مضيفاً بينما يرتفع في الخلفية صوت أزيز طائرات النظام السوري والقوات الروسية: “بشار الأسد وبوتين وخامنئي قتلوا طفولتنا.. من الصعب وصف الوضع الإنساني والطبي في الغوطة الشرقية بالكلمات، وما يحدث الآن إبادة جماعية”، في إشارة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والمرشد الإيراني الأعلى على خامنئي.

ويعتبر نجم واحداً من الأصوات البارزة التي تنقل المعاناة اليومية للسكان عبر مواقع التواصل الاجتماعي، في ظل تشديد قوات الحكومة السورية ونظيرتها الروسية من وتيرة قصفها على الغوطة، فضلاً عن نقل الأحداث المرعبة التي قتل على إثرها مئات الأشخاص، بعدما وجد مئات الآلاف من السكان أنفسهم عالقين في المنطقة التي حولها القصف المتواصل إلى ما يشبه بقعة من الجحيم، حسب وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس.

وخلال نحو 4 أيام، وصل عدد الضحايا من المدنيين جراء القصف العنيف المتواصل، الذي تنفذه طائرات روسية وسورية على مناطق الغوطة الشرقية إلى 325 قتيلاً على الأقل، إضافة إلى نحو ألفي مصاب، حسب أرقام “المرصد السوري لحقوق الإنسان” الذي يتخذ من المملكة المتحدة مقراً له، فيما تقدر الأمم المتحدة وجود نحو 400 ألف مدني تحت الحصار في المنطقة التي يسيطر عليها معارضون للنظام.

إلى ذلك، تضم جميع مقاطع نجم موضوعاً مشتركاً واحداً هو توجيه دعوة للعالم ليشهد ما يحدث في سوريا من فظائع وجرائم بحق الإنسانية. وفي تصريحات نقلتها “سي إن إن” يقول نجم : “يجب على جميع الناس معرفة ما يحدث في سوريا، أريد أن أتابع دراستي، وأريد أن أصبح صحافياً عندما أكبر”. وفي أحدث مقطع مصور له، يقول نجم وهو ينظر مباشرة إلى الكاميراً موجهاً حديثه إلى مشاهديه: “نحن نعرف أنكم تشعرون بالملل من صور الدم لدينا. نحن نعلم أنكم شاهدتم مقاطع فيديو لهم وهم يقتلوننا، لكننا سنواصل مناشدتكم”.

وأشار نجم إلى أن أحد أصدقائه قتل في وقت سابق من الشهر الجاري، عندما كان مجموعة من الأطفال يلعبون في الشارع، مثل أي يوم آخر قبل أن تبدأ الغارات الجوية على المنطقة. وغرد نجم في اليوم التالي لمقتل صديقه بالقول: “البارحة كنا نلعب معاً في ملجأ تحت الأرض، واليوم قتل صديقي وعائلته بطائرة حربية أودت بحياته إلى الموت”، وكانت فريق الدفاع المدني “الخوذات البيضاء” أعلن مقتل 80 شخصاً في الغوطة الشرقية في ذلك اليوم.

ووثقت فيديوهات نجم العديد من الغارات وعمل فريق الدفاع المدني في حال تواجدهم بالقرب من الحي الذي يقطن فيه، ويظهر مقطع فيديو نشره في الثامن من شباط/فبراير الجاري على سبيل المثال عمليات قصف استهدف ثلاث مرافق طبية، ما أسفر عن مقتل عدد كبير من الناس، وفقاً لمجموعة طبية تعمل في الداخل السوري، ويظهر مقطع نجم مجموعة من الضحايا يتم تحميلهم في إحدى الشاحنات من دون إمكانية التأكد إن كانوا فارقوا الحياة أم لا.

وقال مراسلو وكالة “فرانس برس” في الغوطة الشرقية، بعد جولة على عدد من المستشفيات، إن الأسرّة لم تعد تتسع للجرحى الذين افترشوا الأرض، ونقلوا عن أطباء إن غرف العمليات بقيت ممتلئة طيلة ساعات النهار، علماً أن هذا الوضع الكارثي دفع صحيفة “غارديان” البريطانية إلى تشبيه تلك المنطقة المحاصرة، بمدينة سربرينتشا البوسنية، التي كانت محاصرة العام 1995، ونفذت فيها ميليشيات صربية مذبحة مروعة، تحت سمع وبصر قوات الأمم المتحدة هناك، وهو ما يتكرر حالياً في الغوطة، في ظل عجز الأمم المتحدة ومجلس الأمن على كبح جماح نظام الأسد، بسبب “الفيتو” الروسي الحامي له.

وتضم فيديوهات نجم أيضاً مقابلات مع أصدقائه والفتيان والفتيات الصغار الموجودين في حيه، والذين ينبغي لهم التواجد في المدارس وبدلاً من ذلك يتعرضون للقصف والموت والدم بشكل يومي، ومن أبرز المقاطع التي صورها في هذا الإطار، مقطع نشره في كانون الأول/ديسمبر الماضي، يتحدث فيه الأطفال عن أمنياتهم بمناسبة العام الجديد، ويتحدث فيه صبي صغير بحرقة عن رغبته في رؤية والده المعتقل في سجون النظام، فيما يتمنى صبي آخر ألا يضطر لحمل الماء والحطب بعد الآن.

المدن

 

 

 

 

مناطق “خفض التصعيد”: تكتيك عسكري للتصعيد/ سلام السعدي

في مواجهة الضغوط الدولية لوقف حملة القصف المكثفة التي يقوم بها كل من النظام السوري وروسيا على الغوطة الشرقية في ريف دمشق، اقترحت موسكو على مجلس الأمن هدنة تشمل جميع المناطق باستثناء الغوطة الشرقية.

وبينما انطلق الاقتراح الدولي من القلق الشديد على المدنيين الذين سقط منهم نحو ألف بين قتيل وجريح في غضون ثلاثة أيام فقط، انطلق الاقتراح الروسي من تكتيك الاستفادة من وقف إطلاق النار على كل الجبهات، من أجل تكثيف عمليات الإبادة والتدمير في الغوطة الشرقية.

الهدنة بهذا المعنى هي مجرد تكتيك حربي يجري استخدامه لإدارة المعارك، حيث يختار النظام السوري وروسيا المكان والزمان المناسبين لانتهاك الهدنة وفتح جبهة جديدة يجري فيها حشد الموارد العسكرية والبشرية، وذلك بعد تقييد الجبهات الأخرى باتفاقيات هدنة ترعاها الدول الإقليمية.

وقد بدأ هذا التكتيك قبل نحو عشرة أشهر مع التوصل إلى اتفاق “مناطق خفض التصعيد” برعاية روسية – تركية – إيرانية. وقد جرى بالفعل خفض العمليات القتالية، بل وتوقفها الكامل في بعض المناطق بعد سريان الاتفاق، ولكن الهدف لم يكن “خفض التصعيد” وحماية المدنيين وتكثيف الجهود نحو الحل السياسي كما ادعى الاتفاق، وإنما تركيز التصعيد في منطقة تلو الأخرى، ومساعدة الحكومة السورية على استعادة المزيد من الأراضي.

لم يكن هذا التكتيك الحربي ممكنا في سنوات الثورة الأولى. ففي ظل المشاركة الشعبية الواسعة وتأسيس فصائل عسكرية محلية اشتعلت المئات من الجبهات الصغيرة المتناثرة في طول البلاد وعرضها وهو ما أنهك النظام السوري وحزب الله وإيران الذين استنزفوا وكانوا على وشك خسارة المعركة في العام 2015 قبل أن يأتي التدخل الروسي ليجنبهم الانهيار. في تلك المرحلة، كانت المعارضة السورية في موقع الهجوم فيما قبعت قوات النظام السوري وحلفاؤها في موقع الدفاع.

وبالاستفادة من التطورات الإقليمية والدولية في الملف السوري، نقلت القوة الروسية حلفاءها من مرحلة الدفاع إلى الهجوم. وتمثلت تلك التطورات بتراجع الاهتمام العربي بصورة عامة بالوضع السوري، وتراجع الدعم العسكري للمعارضة السورية المسلحة مع اهتمام الدول الداعمة بمسائل تمسها بصورة مباشرة. كما أوقفت الولايات المتحدة الأميركية، مع وصول الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض، دعم المعارضة السورية المسلحة.

وفي المقابل، وصلت مساعي تركيا في لعب دور مهيمن في الحرب السورية إلى طريق مسدود وسلمت بالهزيمة طالبة من روسيا مساعدتها في معالجة هاجسها الأمني الأول، وهو خطر نشوء كيان سياسي كردي ذي حكم ذاتي على امتداد حدودها الشمالية.

ومقابل دعم موسكو، تراجع الدعم التركي للمعارضة المسلحة وأصبح منوطا بتحقيق الأهداف السياسية التركية التي يجري رسمها في غرفة عمليات مشتركة مع إيران وروسيا. وكانت أولى نتائج قطع الدعم عن المعارضة هو سقوط مدينة حلب بيد النظام وحلفائه في نهاية العام 2016.

بعد تلك الضربة الموجعة للمعارضة السورية بنحو ستة أشهر، وقّعت الأخيرة اتفاق مناطق “خفض التصعيد” الذي ساعد النظام السوري وروسيا وإيران على تكثيف عملياتها العسكرية في مناطق تقوم باختيارها بما يتناسب مع الأولويات العسكرية والسياسية وتحركات اللاعبين الآخرين.

كان الهدف الرئيسي للاتفاق هو السباق مع الولايات المتحدة الأميركية على غنيمة تنظيم داعش في شمال وشرق سوريا. فحتى مع التدخل العسكري الروسي والقوة النارية الهائلة التي أدخلتها موسكو للحرب، لم يكن بإمكان النظام السوري وحلفائه إرسال أعداد كافية من المقاتلين لانتزاع مناطق تنظيم داعش الذي كان يتهاوى بسرعة أمام الضربات الأميركية. كان لا بد من اتباع تكتيك حربي جديد يعمل على وقف القتال في كل مكان والتركيز على الحرب على تنظيم داعش.

رضخت المعارضة السورية رغم شكوكها العميقة بما يتعلق باتفاق وقف التصعيد، إذ لم تكن لديها خيارات كثيرة بسبب ارتهانها للدعم الخارجي. إذ شحت مصادر دعمها العسكري، فيما واصلت تركيا تقديم دعم محدود مرتبط بأجندتها السياسية.

ومع هزيمة تنظيم داعش وسيطرة النظام السوري وحلفائه على المساحات التي تركها التنظيم في ريف حلب وفي دير الزور، عاد النظام السوري، بدعم إيراني وروسي، لفتح جبهات جديدة بدأها في ريف حماه وريف إدلب، وها هو ينتقل اليوم إلى الغوطة الشرقية.

في ظل موازين القوى الحالية، تبدو مناطق المعارضة الحلقة الأضعف، ومن المتوقع أن تكون عرضة للهجوم المستمر منطقة بعد أخرى خلال العام الحالي.

لقد أصبح الخطر الأكبر على النظام السوري وروسيا هو التواجد الأميركي في شمال البلاد، ويتطلب التصدي لهذا الخطر القضاء على ما تبقى من جيوب للمعارضة السورية حيث أمكن ذلك، مستفيدين من آلية “وقف التصعيد” كأداة لإدارة الحرب والتصعيد.

كاتب فلسطيني سوري

العرب

 

 

إنهم يلعبون بنار الجحيم السوري/ راجح الخوري

عندما افتتح سيرغي لافروف «منتدى فالداي» يوم الاثنين الماضي، بتوجيه تحذير جديد إلى الولايات المتحدة من اللعب بالنار في سوريا، في إشارة إلى دعمها للوحدات الكردية شرق الفرات، كانت المقاتلات الروسية تشارك النظام وحلفاءه في القصف المدمر الذي تتعرض له ضاحية دمشق الشرقية، والذي يذكّر بمعركة تدمير حلب، وكانت تركيا التي تتوعد بالسيطرة على عفرين، تقصف رتلاً من المقاتلين الشيعة، الذين دفعتهم إيران والنظام للتوجه إلى دعم عفرين، للوصول إلى الحدود الشمالية السورية.

«أدعو زملاءنا الأميركيين مرة أخرى إلى عدم اللعب بالنار في سوريا…». ولكن من الذي لا يلعب بالنار أيها الرفيق لافروف في هذه المحرقة السورية المتأججة، التي تكتب فصولها الدموية الأخيرة في الغوطة الشرقية وفي عفرين، والتي كانت قد شهدت فصلاً قاتلاً آخر على ضفة نهر الفرات، عندما قصف الطيران الأميركي يوم 7 (فبراير) شباط الحالي، رتلاً هاجم قاعدة تابعة لـ«جيش سوريا الديمقراطية» يوجد فيها عسكريون أميركيون، وجاء ذلك موازياً تقريباً للغارات الإسرائيلية على مواقع الإيرانيين، بعد قصة طائرة «الدرون» الإيرانية التي أسقطت فوق إسرائيل، وتلاها سقوط مقاتلة «إف 16» إسرائيلية بصواريخ سوريا؟

التذكير بكل هذا لمجرد طرح السؤال: ومن الذي لا يلعب فعلاً بالنار في سوريا؟ كلهم يؤججون هذا الجحيم الذي يبدو أنه لن يخبو قريباً، فقد تهاوت كل الحلول تباعاً من جنيف واجتماعاتها الثمانية، إلى آستانة واجتماعاتها السبعة، إلى سوتشي التي لفظت أنفاسها سريعاً، رغم الرهان الروسي على أنها ستضع حلاً للأزمة السورية!

نعم كلهم يلعبون بالنار السورية، وهو ما يذكرني بقول وزير الخارجية الأميركي الأسبق جورج شولتز، عام 1988، بعد جولة يائسة قابل خلالها حافظ الأسد، وعبد الحليم خدام، والرئيس أمين الجميل: «إن الأزمة اللبنانية باتت أشبه بمفاعل يعمل بطاقته الذاتية»!

كان هذا بمثابة إعلان لليأس من الحلول، واستمرت الحروب في لبنان وعلى لبنان 17 عاماً، وهناك خوف مبرر من أن تستمر الحروب في سوريا وعلى سوريا زمناً طويلاً، خصوصاً في ظل تقاطع المصالح والحسابات والأطماع المعلنة بالحصول على أكبر حصة من «الجبنة السورية». وفي هذا المجال تحديداً يجدر التوقف عند تصريحات مستشار علي خامنئي، اللواء يحيي صفوي، يوم 17 فبراير الحالي، بأن مساعدة طهران للنظام ليست عملاً خيرياً، وبأن على إيران أن تعوض ما أنفقته في الحرب من النفط والغاز والفوسفات السوري، ذلك أن «الروس عقدوا اتفاقات لمدة 49 عاماً في سوريا، ونالوا عبرها قاعدة عسكرية وامتيازات سياسية، وإيران بدأت تصدّر (لاحظ «تصدّر» لا تستورد) الفوسفات من سوريا حالياً.

هل سيقف الأميركيون ورفاقهم في «التحالف الدولي» متفرجين على الروس والإيرانيين وهم يأكلون «الجبنة السورية»؟ وهل «المائدة السورية» هي مجرد فوسفات وغاز ونفط ومصالح اقتصادية وسياسية؟ وأين حسابات إسرائيل العسكرية التي تنسّق على خطين مع الروس والأميركيين، لضمان تثبيت الحزام الأمني بعمق 50 كيلومتراً في جبهة الجولان الممتدة إلى الحدود الأردنية؟ ثم أين حسابات تركيا الأمنية، التي شنّت حملتين عسكريتين، آخرهما «غصن الزيتون»، لتأمين شريط أمني في الشمال في وجه الأكراد؟ وأين طموحات الأكراد الذين كانوا قد أعلنوا حكماً ذاتياً في منبج وعفرين، والذين خاضوا بدعم وتدريب وتسليح من واشنطن معركة شرسة وطويلة من كوباني إلى تحرير الرقة؟

واضح أنه دون تسوية هذه الرهانات والحسابات المتقاطعة، مراحل طويلة من المواجهات التي لن تتوقف على ما يجري الآن من تدمير ممنهج لضاحية دمشق الشرقية، حيث سقط أكثر من 300 قتيل في الأيام الأخيرة، وسط عجز دولي معيب عبّرت عنه تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وكذلك المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، إضافة إلى الخارجية الأميركية التي تتحدث عن القلق مما يجري، في حين يحاول الروس التنصل من مسؤولية التدمير والقتل الذي تشارك فيه مقاتلاتهم، بالدعوة إلى عقد مجلس الأمن لوقف النار!

السؤال الأكثر إلحاحاً الذي يطرح على الروس: أين ذهبت الوعود المتفائلة عن مناطق خفض التوتر الأربع، التي كانت موسكو قد رتبتها مع إيران وتركيا في آستانة في 7 مايو (أيار) من العام الماضي؟ وأين صار المراقبون الروس الذين قيل إنهم وصلوا وتمركزوا في نقاط على مداخل الغوطة الشرقية لضبط الوضع؟ وماذا يحصل في محافظة إدلب التي حجبتها معركة عفرين؟

كل هذا قد تهاوى؛ لكن الأخطر هو ما حصل على ضفاف نهر الفرات قرب دير الزور، ليل السابع من فبراير الحالي عندما قصفت المقاتلات الأميركية رتلاً من المسلحين، الذين كانوا قد عبروا النهر لمهاجمة أحد مواقع «جيش سوريا الديمقراطية»؛ حيث كان يوجد عسكريون أميركيون، وأسفر القصف الأميركي عن سقوط ما يقرب من 296 بين قتيل وجريح، بينهم عدد كبير من المرتزقة الصرب والأوكرانيين، الذين يعملون مع شركة «واغنر» الروسية، التي تشبه شركة «بلاك ووتر» الأميركية، التي ذاع صيتها في العراق بعد عام 2003.

كان من الواضح في الأيام الماضية أن الروس والأميركيين حرصوا على إحاطة هذه العملية بجو متعمّد من الغموض والالتباس، تلافياً لتدهور عسكري كبير بين الدولتين، والدليل أن سيرغي لافروف قال في «منتدى فالداي»، إن التقارير التي أفادت بمقتل مئات من المتعاقدين الروس في سوريا هي محاولة لاستغلال الحرب السورية، وكانت ثلاثة مصادر مطلعة قد أبلغت «رويترز» بأن نحواً من 300 عسكري سابق متعاقدين لصالح شركة عسكرية روسية خاصة (واغنر) على صلة عملانية بالكرملين، سقطوا بين قتيل وجريح في قصف جوي أميركي، رداً على محاولة الهجوم على موقع في دير الزور!

جاء الهجوم بعدما كان عدد من المقاتلين الأكراد قد انتقلوا لمساندة رفاقهم في عفرين. كانت محاولة روسية لقرع أبواب الأميركيين الذين جاء جوابهم صاعقاً، لكن الضباط الروس سارعوا إلى القول للأميركيين إن موسكو ليست ضالعة في الهجوم، وهنا تلقف وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس الأمر محاولاً تجاوز التصعيد والصدام بالقول: «لست قادراً على تقديم معلومات بأن المهاجمين حصلوا على توجيهات من أحد… لكنني أشك في أن يكون 297 شخصاً قرروا من أنفسهم عبور النهر فجأة إلى أراضي الخصم، وبدأوا قصف موقع له، وحركوا دبابات ضده!».

كان هذا كافياً لتجاوز مواجهة بين أميركا وروسيا؛ لكن المعارك مستمرة بينهما في أماكن أخرى عبر الوكلاء، وآخرها عفرين، في حين ينهمك الروس في تدمير الغوطة على طريقة حلب، ويموهون على ذلك بدعوة مجلس الأمن إلى البحث في وقف للنار… لكنها فصول النار في الجحيم السوري!

الشرق الأوسط

 

 

 

 

الغوطة وهيبة روسيا/ بسام مقداد

تذّكر الدبلوماسية ، التي تعتمدها روسيا في مجلس الأمن الدولي بشأن التصويت على الهدنة السورية ، بسياسة الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ، التي أطلق عليها أحد وزراء الخارجية الأميركيين تسمية “دبلوماسية المثانة”. كان يقال أن الأسد ، ولدى استقباله ضيفاً “مهما” بالنسبة له ، يحرص على إطالة اللقاء ساعات وساعات ، وهو يحدث ضيفه في شتى المواضيع ، إلى أن تمتلئ مثانة الضيف ويصبح “جاهزاً” لمناقشة الموضوع الأساس .

المماحكات، التي تعتمدها روسيا منذ الخميس الماضي في مناقشة قرار الهدنة في مجلس الأمن ، أنهكت اعصاب جميع مندوبي المجلس،  وجعلت مندوب السويد أولوف سكوغ يقول بأن ” الأمر محبط للغاية . لكن المماحكات الروسية هذه بالكاد تخفي المماطلة المكشوفة والإستخفاف بالحملة العالمية المستنكرة للجرائم ، التي ترتكب في الغوطة . فقد رأى المندوب الروسي الدائم في مجلس الأمن ، أن المعطيات ، التي قدمت إلى اعضاء المجلس حول ضحايا الغارات على الغوطة ، بأنها صدى “الجنون العام” ، الذي يلف العالم ، والقرار بصيغته الحالية ” غير واقعي”. ورأى الرجل ، أن المفاوضات حول نص القرار جرت خلال أسبوعين ، لم يتم التوصل خلالها إلى صيغة نهائية ، لكن مندوبي الكويت والسويد ، وبدعم من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ، أصرا ، مع ذلك، على طرح القرار فوراً للتصويت .

الإعتراضات الجديدة ، التي ابداها المندوب الروسي في مجلس الأمن ، والتي نشرتها نوفوستي صبيحة السبت ، تشير إلى أن روسيا ليست أبداً في عجلة من أمرها . وهي تنظر ، بكثير من الشك، إلى كل ما يجري في مجلس الأمن ، وما يجري في العالم من استنكار لمجازر الغوطة ، ليس سوى محاولة لحرمان روسيا والنظام السوري من “الإنتصار” ، الذي يتحقق هناك . فقد ذكرت الوكالة ، أن روسيا قدمت الخميس الماضي ما تراه من تعديلات على نص القرار . وأول الإعتراضات الروسية يطال تحديد مدة 72  ساعة  لبدء تنفيذ الهدنة بعد إقرارها ، فاقترحت هي عدم ذكر موعد لبدء نظام وقف إطلاق النار ، والإكتفاء فقط بالإعلان عن ضرورة ” وقف الإشتباكات بأسرع ما يمكن” . ونقلت عن وزير الخارجية سيرغي لافروف ، بأن موسكو اقترحت صيغة للقرار ” تسمح بجعل حلول الهدنة امراً واقعياً ومرتكزاً إلى ضمانات الجميع ، ممن هم داخل الغوطة الشرقية…ومن هم خارجها من اللاعبين ، الذين يملكون نفوذاً على المجموعات المتطرفة ، التي تتمترس في ضاحية دمشق هذه” .

وتجدر الإشارة ، إلى أن نوفوستي تتحدث للمرة الأولى ، نقلاً عن موقع وزارة الدفاع الروسية، ليس عن المجموعات الإرهابية ، بل عن “تشكيلات مسلحة غير قانونية ” تواصل عرقلة خروج السكان من المناطق ، التي تسيطر عليها ، وأن الكثيرين من السكان المدنيين بحاجة إلى عناية طبية عاجلة .

هذا الإهتمام الروسي المفاجئ بمن هم “بحاجة إلى عناية طبية عاجلة” ، ليس سوى محاولة مكشوفة للإلتفاف على الحملة العالمية الواسعة المستنكرة للجرائم ، التي يرتكبها النظام ،تحت مظلة الطيران الروسي، بحق السكان المدنيين . ولا يخفي “الإهتمام”  المذكور مطالبة روسيا العلنية باستسلام مقاتلي المعارضة ، ودعوتهم إلى مغادرة الغوطة ، والكف عن “التمترس بالسكان المدنيين والجرحى والمرضى منهم” . وقد عبرت روسيا عن مطلبها الصريح هذا بالملاحظة الأساسية ، التي رفعتها بوجه النص الأساسي لمشروع القرار الكويتي السويدي ، ووصفته بأنه “غير واقعي” .

في مقابلة اجرتها إذاعة “الحرة” ، الناطقة بالروسية ، مع أحد الصحافيين الأميركيين ، قال خلالها ان “الواقع” ، الذي تقصده روسيا يختلف عن الواقع ، الذي يراه العالم بأسره ، من آلام بشرية وعذابات ودمار . روسيا لا ترى في الواقع سوى عملية ناجحة جداً ، تخوضها ضد حصن الثوار الأخير في منطقة ملتصقة بالعاصمة دمشق . وهي غير مهتمة مطلقاً بتمرير قرار مجلس الأمن “غير الواقعي ” برأيها ، لأنه لا يعكس الأولويات الروسية ، والتي على رأسها إنقاذ نظام الأسد . ولدى روسيا كل الحق ، برأيه ، في اعتبار مقاربتها للوضع السوري مقاربة ناجحة . قبل أن تتدخل روسيا في النزاع السوري ، كانوا في الغرب وفي العالم العربي يعتبرون أن أيام الأسد معدودة . لكن روسيا تمكنت من كسر هذا التصور ، وأخرجت الثوار من الجزء الأكبر من الأراضي السورية، التي كانوا يسيطرون عليها. ومهما بدا الأمر مستغرباً ، إلا أن بوتين يعتبر أن سياسته في سوريا هي سياسة سلمية ، ولا يرغب في أن يتقاسم مع الغرب أكاليل الغار ، التي يستحقها ، خاصة عشية الإنتخابات الرئاسية في روسيا ، على قول الرجل .

قد لا نتفق كلياً مع استنتاجات هذا الصحافي الأميركي من “The National Interest”، إلا أن استنتاجاته تتفق تماماً مع ما تكتبه وسائل الإعلام الروسية من أنه ليس لدى الغرب إمكانية التأثير على مصير الغوطة ، وأن الحملة العالمية الراهنة من الإحتجاجات على الدمار والمجازر فيها ، تهدف إلى حرمان روسيا والنظام السوري من انتصاراتهم . فقد كتبت صحيفة الكرملين “vzgliad” مقالة تحت عنوان (“المجزرة” الجديدة في سوريا مرتبطة مباشرة بنجاحات جيش الأسد) . الصحيفة لا تعترف بوجود مجزرة  ، أساساً ، ووضعت الكلمة بين مزدوجين ، وقالت ، بأن الغرب اختار حجة جديدة لسوق الإتهامات ضد روسيا بسبب الأحداث السورية . وقد جرى هذه المرة استغلال الأحداث في الغوطة الشرقية ، حيث تدور في الفترة الأخيرة عمليات عسكرية عنيفة جداً. ونقلت عن الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف قوله ، بان الوضع يتحمل مسؤوليته أولئك ، الذين يساندون الإرهابيين ، كما في السابق ، وليست لا روسيا ولا سوريا ولا إيران من ضمن هذه الفئة من الدول ، لأنها هي بالذات من يخوض على الأرض مواجهة حاسمة مع الإرهابيين في سوريا .

نعم ، روسيا ليست على استعداد للمساومة على الصورة ، التي دخلت فيها إلى المقتلة السورية . فقد جاءت روسيا إلى سوريا وهي تحمل شهادة “تفوق في الحرب على الإرهاب” ، حصلت عليها من ضحايا حروبها في الشيشان وتدمير عاصمتها، ومن قتلى أطفال مدرسة بيسلان ، ومن ضحايا كيماوي مسرح موسكو. ولذا هي لا تطيق التهويل عليها بضحايا في صفوف المدنيين وبدمار مدارس ومستشفيات ومساكن ، حين تكون منهمكة في “معاركها ضد الإرهاب” . فلا تعدو هذه الضحايا وهذا الدمار من أن يكون جزءاً من الحرب الإعلامية على روسيا ، انتقاماً من “الإنتصارات” التي تحققها.

تلتزم روسيا في “الحرب على الإرهاب” ، معايير خاصة بها ، ليس مقدراً للعالم أن يعرفها ، وهي تتمحور حول القضاء على “الهدف” بغض النظر عن الثمن مقابل ذلك . وحتى لو كانت روسيا هي من يدفع هذا الثمن ، فهي لا تتوقف عند تفاصيله ، فهي لا تحصي قتلاها ، بل تحتسب انتصاراتها في إعلاء شأن هيبتها و”عظمتها” ، ولذا لا تطيق أن يتطاول البعض على انتصارات هذه الهيبة و”العظمة” باسم أطفال يقتلون ومستشفيات تدمّر في “غوطة” ما في سوريا ما .

المدن

 

 

 

إبادة السوريين طريقاً لمجد روسيا/ محمود الريماوي

تمثل الحرب على الغوطة الشرقية قرب العاصمة دمشق ذروة جديدة من ذرى حرب الإبادة التي تنشط بها روسيا وإيران ومنظماتها الطائفية، العراقية واللبنانية والأفغانية والباكستانية، إضافة إلى النظام. وتدل خبرة هذه الحرب على أن هذه الأطراف تعتبر المدنيين المحاصرين أو النازحين، والمرافق المدنية على تواضعها، وبالذات المراكز الطبية أو ما تبقى منها، أهدافا عسكرية سهلة المنال، ويؤدي إلحاق الضرر البليغ بها إلى نتائج “ممتازة” في الحرب. ولهذا، طغت أخبار استهداف الأحياء السكنية والخدمية والتجارية بالصواريخ والبراميل الحارقة وقذائف المدفعية الثقيلة، وصور القتلى والمصابين تحت الأنقاض، ومشاهد النساء والأطفال المذعورين الذين لا يجدون ملاذا، أو فرصة للنجاة.

وسبق للسيد سيرغي لافروف، رئيس الدبلوماسية الروسية، أن صرح بأن سيناريو حلب قابل للتكرار في الغوطة الشرقية، وكانت روسيا قد استخدمت أسلحة متطورة مخصصة لاستهداف التحصينات في قصف المدنيين المحاصرين في حلب الغربية، وأدى ذلك القصف إلى قتل وجرح مئات من المدنيين، وتشريد نحو 36 ألفا تمت مطاردة كثيرين منهم بالطائرات، لإغلاق سبل النجاة أمامهم. وقد تزامن إسقاط حلب في أواسط ديسمبر/ كانون الأول 2016 مع انسحاب قواتٍ روسيةٍ من مدينة تدمر وسيطرة “داعش” على هذه المدينة الأثرية، في رسالةٍ فُهم منها أن المعركة لم تكن ولن تكون مع “داعش” الإرهابية، بل مع المدنيين السوريين الذين قد يشكلون حاضنةً شعبيةً للمعارضة الوطنية. وإثر انتهاء معركة حلب، وخروج المقاتلين منها، بعد إلحاق أكبر دمارٍ بها، تباهى مسؤولون روس بأن الأسلحة التي تم استخدامها ضد الأحياء السكنية قد لفتت الأنظار، واجتذبت عروضا جديدة لشراء السلاح الروسي، حيث تعتبر صناعة الأسلحة وتجارتها عصبا للاقتصاد الروسي، وبدون منتجاتٍ مدنية تذكر، سوى في بعض القطاعات الطبية الموروثة عن العهد السوفييتي.

تضم الغوطة نحو ثماني مدن، أهمها دوما وزملكا، وقد تراجع عدد سكانها من نحو مليوني

“لا تكتفي روسيا بالحرب المريعة ضد المدنيين لكنها تنشط سياسياً ودبلوماسياً وإعلامياً في قيادة هذه المعركة”

نسمة إلى أربعمائة ألف، نتيجة تعرّض المنطقة للحصار الخانق، عقابا لهم على وقوفهم مع الثورة.

مثل إيران، تجد روسيا أن من مصلحتها القضاء على الثورة، وعلى كل حل سياسي، مهما كان الثمن، ومهما لحق بسورية (غير المفيدة) وبالسوريين من دمار وكوارث، ويشارك سلاحها الجوي بكثافةٍ في تدمير المدن والبلدات والأرياف. وترى موسكو على الدوام أن وقف إطلاق النار غير واقعي. وترتضي أحيانا بهدنة لساعات فقط. وبدلاً من اعتماد وقف إطلاق النار، ابتدعت موسكو ما سمي خفض التصعيد، وهو أسلوب استخدمته هي وحلفاؤها لمضاعفة التصعيد. والغوطة الشرقية، شأن إدلب، مشمولةٌ بخفض التصعيد المبتدع روسياً، والذي دأبت موسكو على نقضه، متمتعةً بامتياز استهداف المراكز الطبية والعلاجية، وإخراجها من الخدمة، جنبا إلى جنب مع استهداف مراكز الدفاع المدني، وهو سلوكٌ أقل ما يقال فيه إنه يندرج ضمن جرائم الحرب. ولم تكتف موسكو بتشديد ضرباتها على مراكز الدفاع المدني، بل شنت حربا إعلاميةً ضد الأشرطة السينمائية التي تتناول جهد الدفاع المدني في أعمال الإغاثة، ووصل “الإبداع” الروسي إلى درجة اتهام الدفاع المدني بالارتباط بالقاعدة (!).

لا تستوقف النتائج الكارثية المروّعة الدبلوماسية الروسية التي تفطنت، الأربعاء الماضي، لأهمية استخدام سلاح النفي، فخرج ناطقٌ باسم الرئاسة للقول إنها اتهاماتٌ بلا أساس، فيما يعرف كل طفل في سورية أن الطيران الذي يطير فوق مناطق المعارضة هو طيران روسي، مع مشاركة جزئية لطيران النظام. وفي مجلس الأمن كان المندوب الروسي غير المعني (كما هي عقيدة إدارة بلاده بالمدنيين) وبحرمة الحياة البشرية، خرج “يتهم” المعارضة بأنها رفضت الاستسلام. وفي واقع الأمر، يريد الأصدقاء الروس للسوريين كلهم أن يستسلموا لهم، من أجل ضمان المصالح الروسية طويلة الأمد في سورية، حتى لو أدى ذلك إلى أن تغدو سورية بلا سوريين، فالمهم أن يتم بأي ثمن بناء المجد الروسي خارج الحدود، وأن تتم منافسة أميركا والغرب، حتى لو أدى ذلك، وهو يؤدي، إلى إبادة شعوب.

وقد جرى في الأثناء مشاغلة تركيا بمدينة عفرين التي تسيطر عليها قوات الحماية الكردية، تماما كما حدث في انشغال تركيا بالمعركة ضد مدينة الباب، قبيل سقوط حلب تحت أنظار القوات التركية. وعلى هذا النحو، تم الفصل بين عفرين وما عداها، بحيث يكون الشاغل الوحيد لأنقرة في سورية هو الحزب الكردي المسلح هنا وهناك. أما أميركا ترامب، فإنها لا ترى في الغوطة، كما في إدلب سوى معارك تستنزف خصومها، حتى لو سقط آلاف القتلى من المدنيين، وحتى لو أدى ذلك إلى تقوية النفوذ الإيراني لاحقاً في سورية، فلكل وقتٍ وقته!

وكما أن تركيا لا ترى سوى الحركة الكردية المسلحة، كذلك فإن أميركا لا ترى سوى “داعش” الذي خسر حقا نقطة تمركزه في الرقة، لكنه حقق انتشارا في بقية المناطق، من دون أن تتم مطاردته أميركيا حيث انتشر.

وجاءت معركة روسيا ضد الغوطة وأهلها متزامنة ومتساوقة مع الحملة الروسية على ريف

“تجد روسيا أن من مصلحتها القضاء على الثورة، وعلى كل حل سياسي، مهما كان الثمن”

إدلب، حيث تتفنن القوات الروسية في الإيقاع بالنازحين البؤساء، وكل تجمع سكني وتجاري، وذلك كله باسم مكافحة جبهة النصرة، فتحت هذه الراية تندفع القوات الروسية إلى قتل كل مظاهر الحياة والعمران.

وسبق لموسكو أن قالت إنها تدخلت في سورية لمحاربة “داعش”، وقد دلت الوقائع المضطردة منذ سبتمبر/ أيلول 2015، ويوماً عن يوم، أن “داعش” هو في آخر قائمة الاستهداف الروسي، الذي يتركز على المدنيين والمرافق المدنية والمعارضة المعتدلة.

لنا أن نستذكر هنا أن الغوطة سبق أن شهدت في أغسطس/ آب 2013 مذبحة الكيماوي التي قضى فيها 1300 مدني خلال ساعة. ومنذ ذلك التاريخ، توطدت علاقة موسكو بدمشق، وسخرت من كل التقارير الدولية التي تدين النظام باستخدام أسلحة محرمة ضد شعبه، ومنها الاستخدام اللاحق لهذه الأسلحة في خان شيخون في ريف إدلب، في مطلع إبريل/ نيسان 2017 الذي أودى بنحو مائة مدني، جلهم من الأطفال، وقد قادت “الحنكة” الروسية، بعدئذٍ، إلى جعل خان شيخون المنكوبة هدفا مفضلاً لهجمات القوات الروسية!

جرى الحديث هنا عن روسيا التي لا تكتفي بالحرب المريعة ضد المدنيين، لكنها تنشط سياسيا ودبلوماسيا وإعلاميا في قيادة هذه المعركة، خلافا لإيران ومليشياتها التي تكتفي بحربٍ “مقدسة” ضد “أحفاد يزيد”، وهم أكثرية الشعب السوري، وتنشغل بوضع الخرائط والمشاريع، للسيطرة على كل ما تمكن السيطرة عليه من الثروات الطبيعية في سورية، لتعويض خسائرها المالية في شن الحرب على السوريين، كما كشف ذلك أخيرا مستشار المرشد علي خامئني، يحيى رحيم صفوي.

العربي الجديد

 

 

 

دماء الغوطة الشرقية تعانق الموصل القديمة/ حامد الكيلاني

نظام الملالي في إيران اتبع سياسة تأميم الدول التي احتلها، وذلك بمصادرة السلطات وقراراتها وتجاربها، واختزلها بنسخة إدارية مختلفة وطاقم عمل وقوانين وإجراءات متطابقة؛ لذلك فإن أنظمة كالتي في العراق وسوريا مهما حاولت الدفاع عن سيادتها ومحتواها الوطني ورفضها لمفردة الاحتلال الإيراني إلا أنها من باب إسكات التأنيب الداخلي ترتضي لسياساتها أن تتعفن في العلب القديمة بحجة الحفاظ عليها من تقلبات الأحداث والزمن.

أين هو الاحتلال الإيراني؟ هل رأيتم دخول قوات عسكرية إيرانية إلى العراق وسوريا؟ من رأى منكم فصيلا من القوات الإيرانية فليخبرنا لنقاتله حتى نخرجه من حدودنا. بمثل هذه الطروحات يغلق قادة الميليشيات الباب على كل من يسألهم عن هيمنة إيران على القرار السياسي المفترض أن يكون وطنيا ومستقلا.

لكن هل تحتاج إيران إلى جيوش نظامية لاحتلال الدول والتمدد في أراضي الغير مع الانتماء المطلق للولي الفقيه بما يعنيه من ضرب الحدود بعرض الحائط وتقزيم الحياة كليا لتنفيذ رغبات المرشد الديني الذي يتربع على عرش السلطة السياسية، وبها يمتلك مصادر التشريع وبرامج الرهانات الكبرى على دور العقائد في خرق منظومات الفكر السياسي حتى في الدول الحديثة ولو من باب العمليات الإرهابية.

الميليشيات تبرر عمليا نفيها وجود قوات نظامية إيرانية لأغراض الاحتلال التقليدي، لأنها ببساطة تؤدي واجبات الاحتلال لكن بالجنسية الوطنية وتلك هي الخيانة العظمى. ما يطبع الجرائم والإبادات بسلوك الاحتلال الإيراني هو توفر أدلة الاتهام في المذابح المتتالية وببصمات أصابع واحدة في جميع المدن المستهدفة.

إذا وضعنا الغوطة الشرقية مع الموصل القديمة على طاولة واحدة، فإننا سنقرأ الإسراف في العنف وعشوائية إطلاق النار من الأسلحة الثقيلة غير المقيدة، بما يرسم خارطة للعمليات العسكرية وحركة آليات السياسة للمحتل الإيراني ونظامه، وأيضا ما يتحرك معها من آليات السياسة الدولية التي ستنتهي بملامح التقاء الأهداف للدول الفاعلة عند نقطة لا علاقة لها بمصير الشعب السوري أو العراقي أو أي شعب آخر.

الغوطة الشرقية شهدت في 21 أغسطس من العام 2013 الضربة الكيميائية بغاز السارين في مجزرة تخطت خط الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الأحمر، ومهدت لتلك الرواية متراكمة الفصول للسلاح الكيميائي.

الآن هل نحن بصدد هجوم كيميائي آخر أم أن الإبادة في الغوطة الشرقية ماضية في حصد الأبرياء بعيدا عن إثارة رد فعل المجتمع الدولي مجددا على تهور النظام في تكرار حماقة الكيميائي، وتحديدا بعد مؤتمر باريس وتعهد الدول المشاركة بعدم إفلات المتورطين من العقاب رغم الفيتو الروسي لمرتين في مجلس الأمن الدولي لمنع تجديد عمل الخبراء الدوليين المكلفين بالتحقيقات.

الجهات المعنية بمراقبة السلاح الكيميائي رصدت أكثر من 30 هجوما كيميائيا في سوريا قبل هجوم الغوطة الشرقية، والخط الأحمر للرئيس أوباما جاء نتيجة لتكرار الهجمات الكيميائية المحدودة قبل المجزرة؛ لكن مصادر التحقيقات الدولية تجاهلت ما هو أهم وذلك في التحقيق مع الخلية المجهولة التي أعلنت وزارة دفاع العراق القبض عليها في بداية يونيو 2013 أي قبل الهجوم على الغوطة الشرقية بمدة قصيرة.

المعلومات المتوفرة اتهمت الخلية المذكورة بامتلاك أجهزة خاصة بالسارين وغاز الخردل وغيرهما ثم اختفت نتائج التحقيق بمجرد الانتهاء من عرض أفراد المجموعة المقنعة رؤوسهم في أجهزة الإعلام بصحبتهم أجهزة واضح عليها أنها مصممة ومصنعة حديثا.

الحقيقة تختفي في سذاجة الطروحات الأمنية في العراق، بما يدلل على أن الخلية الإرهابية عمل مخابراتي مدبر لتشتيت الانتباه عن الكيميائي السوري لما بين العراق وسوريا من وحدة موضوع الاحتلال الإيراني.

قبل أيام أعلنت قوات الحماية الكردية تعرضها لغاز الكلور بما بدا عملية تنسيق وتخادم مع النظام الحاكم في سوريا، اتضحت نتائجها في تسريع التقارب بين الطرفين ودخول قوات النظام إلى عفرين مباشرة؛ رغم الإخراج السيء.

عموما ما تم العثور عليه أو تسجيله كاستخدام لغازات وأسلحة كيميائية لدى تنظيم داعش، أو المجموعات المسلحة في الموصل أو الرقة أو المدن الأخرى، لا يعدو أن يكون إلا تكتيكا مقحما ولا أهمية له في ميزان الاشتباكات من ناحية إيقاع الخسائر أو حسم النزاعات كما هو متوقع.

أما الهجمات الإستراتيجية فهي ملكية صرفة للنظام السوري، بما يدفعنا للقول بعد كل المعارك في العراق وسوريا إن التنظيمات الإرهابية ومنها تنظيم الدولة الإسلامية قدمت خدمات صريحة للنظام الحاكم في سوريا ومن يقف خلفه، لإيجاد مبررات الإفلات من العقاب وتوجيه الانتباه إلى عمليات متخلفة علميا وتقنيا بديلا عن الجهات المنفذة للهجمات النوعية كالتي حدثت في الغوطة الشرقية وخان شيخون.

بعد انتهاء المعارك وتدمير الموصل، القديمة منها بالذات، وبإحصاء جثث القتلى لتنظيم الدولة الإسلامية المتناثرة في الأحياء والبيوت المنهارة قياسا إلى جثث الأبرياء من أهلنا في الموصل تأكد أنهم لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة، بما يعني أن تهويل أعداد المقاتلين في التنظيم وفر فرصة القتل المريح والتهديم لكل الأطراف بما يتناسب ورؤية النظام الإيراني في سياسة الانتقام واللامبالاة بأرواح الناس في المدن المطلوبة أساسا للترويع والتهجير في قرار الإزالة من أي دور وطني في المستقبل القريب.

في الغوطة الشرقية وبذات المبررات، ونعني بها القضاء على الإرهاب وفق الرؤية الروسية الإيرانية السورية، تناثرت جثث الأطفال والنساء تحت قصف البراميل المتفجرة والمدفعية والدبابات لأنهم كما يبدو لا يشكلون جزءا من المجتمع المتجانس مع النظام السوري الحاكم الذي ارتضى لنفسه أن يتحول لأداة تجمع التواقيع المؤيدة لشرعية بقائه بين قواعد جيوش المحتلين وشركاتهم الأمنية السرية وميليشياتهم متعددة الجنسيات.

حصار المدن بالتجويع والقصف العشوائي للمدنيين وبكافة الأسلحة وتدمير البنى التحتية وإخراج مراكز الرعاية الطبية والمخابز من الخدمة، هي مشتركات الخدمة الإيرانية للحفاظ على أمن إيران القومي بعيد المدى. الأمن الذي تجاهل انتفاضة الشعب الإيراني ضد الفقر والجوع وتبديد الثروات.

هل كانت صور الموصل القديمة والغوطة الشرقية وما أصابهما مجرد إشارات تلويح بعصا النظام كعبرة لمن اعتبر من المحتجين الإيرانيين، إضافة إلى استعراض تضحيات ميليشياته كرسائل ولاء استباقية في صراعاته المقبلة التي يصرف بها إخفاقاته الداخلية سياسيا واقتصاديا بصناعة الأزمات، والتوكل عليها لإطالة فترة نظامه وإدامة وتشغيل أكبر عدد من أذرعه الميليشياوية الداعمة لسياساته التخريبية.

المصيبة في الواقع السياسي أن الكل يتشبه بالنظام الإيراني في العمل السياسي والعسكري في المنطقة، وذلك بسياسة النأي بالنفس لتقليل الخسائر من خلال أذرع ميليشياوية تختلف في التركيبة والمكونات والأهداف الخاصة، لكنها تشترك في تعليبها بعلب لماركات قديمة تناوشها العفن وطاردتها أقدام الشعوب منذ أمد بعيد بما تستحق.

كاتب عراقي

العربي

 

 

 

حرب أكثر من باردة بين روسيا وأميركا/ جويس كرم

إطلاق موسكو مفاوضات الهدنة حول الغوطة الشرقية في مجلس الأمن، تسليح واشنطن لقوات سورية الديموقراطية وقصفها لما يقل عن مئة من المرتزقة الروس في الشرق السوري، وثم موافقتها على بيع أسلحة متطورة لأوكرانيا كلها مؤشرات على عودة الحرب الباردة إنما بعيار أقوى بين أميركا وروسيا.

وإذا كانت الحرب الباردة التي انتهت في ١٩٩١ أحاطها تنافس أيديولوجي وفكري حول نهج الحكم بين الليبرالية الديموقراطية والعقيدة الشيوعية، فإن مواجهة اليوم لا ترتقي إلى مستوى التنافس الأيديولوجي وهي في شكلها وأدواتها أشرس وأوسع، وتدور حول تقاسم النفوذ وخوض حروب استخباراتية وعمليات تجسس، وأخرى بالوكالة بأدوات وفرق مختلفة على الأرض.

وهذا الشهر، هناك اسم واحد يلخص هذه المواجهة وهو رجل الأعمال الروسي والأوليغارك المقرب من فلاديمير بوتين يفجيني بريغوزين. بريغوزين ووفق «واشنطن بوست» كان الوسيط بين الكرملين ونظام الأسد في تخطيط هجوم 7 شباط (فبراير) الفاشل ضد قوات سورية الديموقراطية ومعهم جنود أميركيين في شرق سورية، والذي ردت واشنطن عليه بالدفاع عن قواتها وإسقاط مئتي ضحية وفق رويترز من شركة «فاغنر» الروسية التي يشرف عليها بريغوزين.

مخطط بريغوزين في شرق الفرات لضرب الوجود الأميركي تم تنسيقه مع وزير الشؤون الرئاسية السوري منصور فضل الله عزام، وفيه بحسب تقارير استخباراتية على الأرجح أميركية تجسست على اتصالاته وعد الأوليغارك الروسي نظام الأسد بـ «بمفاجأة جيدة بين 6 و9 شباط (فبراير)» وأكد له عزام أنه «سيحصل على مستحقاته». المفاجأة انهارت أمام الطائرات الأميركية، ووجد بريغوزين نفسه بعد الاعتداء منزوع الغطاء من الكرملين الذي أبقى مسافة من الاعتداء، وأكد فقط مقتل خمسة أشخاص.

إلا أن اسم بريغوزين تكرر مرة أخرى في التحقيق في تدخل روسيا وإدانته من المحقق الأميركي الخاص روبرت مولر الأسبوع الفائت، بتمويل والإشراف على حملة دعائية روسية داخل الولايات المتحدة روجت لدونالد ترامب وبيرني ساندرز وجيل ستاين وهاجمت هيلاري كلينتون. وما من شك أن الكرملين سينفي وقد يستخدم بريغوزين ككبش محرقة، إلا أن دوره يعكس حجم المواجهة وتعدد أدواتها بين الطرفين.

روسيا تحاول منافسة واشنطن في عقود النفط والغاز من جزيرة القرم وإلى الدول الخليجية وحتى تركيا، وحديثاً في لبنان حيث استحوذت شركة نوفاتيك على أحد العقود الثلاثة للتنقيب عن النفط والغاز. وهي تستخدم الورقة الكردية في سورية للمناورة مع أنقرة بفتح الأجواء حيناً والتشدد حيناً آخر.

هذه الرقصة الروسية تقلق الأميركيين خصوصا النخبة الاستخباراتية والخارجية والدفاعية. فعمليات القرصنة والتدخل في انتخابات 2016 كانت بحجم غير مسبوق من موسكو في الولايات المتحدة، كذلك محاولاتها أثارة الانقسام بين أميركا وحلفائها بينهم تركيا، ومواجهة الوجود الأميركي العسكري مباشرة في سورية. وفي حين كان الرد الأميركي دفاعياً حازماً وقاسياً، فإن الرد السياسي والاستخباراتي أصعب.

وحاول وزير الخارجية ريكس تيلرسون في زيارته طمأنة أنقرة والبحث بحلول تستجيب لمطالب الجانبين، وفي بيروت الدخول على مفاوضات النفط والغاز وإيجاد حل مع إسرائيل حول «البلوك9».

ما هو مؤكد أن الاشتباكات الروسية – الأميركية لم تعد تحت الطاولة، والمواجهة دخلت مرحلة شرسة ومفتوحة في عدة ملفات وتطال علاقات جيواستراتيجية للطرفين. وفي حين تجاهلت الإدارة الأميركية المتعاقبة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، الخطر الروسي ورفضت التعامل مع بوتين بداية كتهديد استراتيجي، لا تمتلك إدارة دونالد ترامب سوى خيار المواجهة الذكية. وهي رغم العلاقة التجارية التي كانت لترامب مع الروس، ستنصاع لرأي المؤسسات الاستخباراتية والدفاعية، والتي ترى وتقدم أدلة للرئيس حول الإندفاعة الروسية الساخنة من شرق الفرات والى جزيرة القرم وحتى باستهداف الماكينات الانتخابية الأميركية.

الحياة

 

 

الغوطة.. عن العار وأشياء أخرى/ أيمن نبيل

كلنا يعرف الجملة الأشهر في بيانات الأمانة العامة للأمم المتحدة، “الأمين العام يعرب عن قلقه بخصوص…”، والتي تحولت إلى محور نكاتٍ عربيّةٍ عديدة، موضوعها العجز وقلة الحيلة. ولكن إثر المجازر وسحق الأطفال والأبرياء وعمليات الإبادة الجماعيّة، ثمّة سؤال مُلح: لماذا لا يُخرج العجزُ أمام الدماء والفظائع أحد المسؤولين الكبار لما يسمّى مبالغة وتضليلًا “المجتمع الدولي” عن طوره “الرسمي” (وهو طور مُزيّف يصف الالتهاء بالترقي الوظيفي والمكانة الاجتماعية وحفلات العشاء عن المسؤوليّة أمام مآسي البشر بأنه “وقار” و”لياقة”) إلى الطور الأخلاقي بحدوده الدنيا ف “يُعرب” عن شعوره بالعار والخزي؟ ولماذا لا يستحيل إدراك العجز إلى خطوة رمزيّة فيستقيل مسؤول أممي رفيع من منصبه “احتجاجًا” على عجزه، خصوصا حين نتذكر قول الأمين العام الأسبق، داغ هامرشولد، إن الأمم المتحدة لم تؤسس لكي تقود البشرية إلى الجنة، بل لتحميها من الجحيم؟ هذه أسئلة في ظاهرها البساطة والتبكيت، لكنها تمس صُلب العالم السياسي الراهن؛ فحين يقول الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتريس، إنه “مُروَّع بشدة” مما يحدث في الغوطة الشرقيّة قرب دمشق، ثم يذهب إلى إكمال يومه الحافل بالمناسبات والخُطب والاجتماعات، فهذا يدعو إلى بعض التأمل. (ممن “تفاعلوا” مع دعوة غوتيريس الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، من قال قبل شهور إن الأسد ليس عدوًا لفرنسا.. هكذا بكل “لياقة” واتساق!).

أولًا، ثمّة إعاقة أخلاقيّة ناشبة الجذور في صلب هذه المؤسسة، بالنظر إلى تكرار السلوك نفسه طوال سبعين عامًا، بغض النظر عن تغيُّر الشخوص. تنمو بعض هذه الجذور في التوازنات

“استحال الفعل الأخلاقي إلى مهمة إداريّة يضطلع بها بيروقراطيون همّهم الترقي الوظيفي”

السياسية التي تحكم المؤسسة. ولا تناقشها المقالة، ما يهم هنا جذور أخرى، منها مثلًا أن الفساد الأخلاقي مُمأسس، بحيث لا يصبح واضحًا إلا بمعايير من خارجها، بعكس الفساد المالي والإداري في المؤسسات الدولتيّة، والتي يتعارض فيها الفساد مع نصوص القانون. وبالتالي، يمكن ملاحظته بوضوح من داخل هذه المؤسسات. فمثلًا لا يمكن توصيف حقيقة أن مجموع المصروفات التشغيلية (من أجور وغيرها) لبعض مكاتب الأمم المتحدة تفوق المصروفات على النشاطات الإنسانية والتنموية، إلا باعتبارها فسادًا وظاهرة غير أخلاقيّة، هذا علاوة على الفساد المالي والإداري والجنسي والمحسوبيّة، والتهرب من القانون، والتي تمتلئ به أروقة هذه المؤسسة، كما تذكر المقالات والتحقيقات والدراسات.

بمواصلة الاستنتاج، انطلاقًا من الجذر الأول، نصل إلى جذرٍ ثانٍ، أن مؤسسة الأمم المتحدة والهيئات التابعة لها “مَكتَبتْ” نشاطاتٍ أخلاقية كثيرة، مثل حقوق الإنسان والتنمية الاقتصادية وتحسين شروط الصحّة وتوفير الأدوية، ويبدو أن احتكار الأمم المتحدة الفعلي لهذه النشاطات، بفعل الموازنات الضخمة نسبيًا، بالمقارنة مع المنظمات الأخرى، والصفة الدوليّة، قد أدت، في نهاية المطاف، إلى “مَكتبَة” الفعل الأخلاقي نفسه، بحيث استحال إلى مهمة إداريّة، يضطلع بها بيروقراطيون متخصصون ونشيطون، همّهم الرئيس الترقي الوظيفي والاجتماعي على شاكلة شخصية عثمان بيومي في رواية نجيب محفوظ “حضرة المحترم”، وهذا يعني موت النشاط السياسي بما هو عمل أخلاقي، وبقاءه باعتباره نشاطًا مهنيًا بحتًا، وهو أكثر ضحالةً من العمل الحزبي المحلي، حين يتحول إلى مهنة، فالأخير محكوم على الأقل باعتباراتٍ تخص تيارات اجتماعية ونزعات الجمهور. وهكذا تُصبح المجزرة مجرّد “بند” في جدول مزدحم، وعدم إنجاز البنود يبعث على الأسف، لأنه فشل وتقصير مهني، لكنه ليس قضيّة أخلاقية، لكي يصبح عدم الإنجاز بخصوصه وصمة عار.

ولكن، على المستوى الاجتماعي العربي، ما الذي تفعله المجازر فينا؟ نحن العرب، أكثر من غيرنا، نشعر بالعجز والعار إزاء ما يحدث، بالإضافة إلى أن الأنظمة الوحشيّة والمليشيات الدينيّة والطائفيّة تُعمل سلاحها فينا تحديدًا، في سوريّة واليمن والعراق وليبيا ومصر. وبالتالي، تعني المجازر لنا أمورًا إضافيّة: إن عنف الأنظمة العربية والمليشيات الإرهابيّة وساديتهما يُفقِدُان الأشياء معناها؛ فبعكس أنطونيو غوتيريش، أصبح التعبير عن ألم الفواجع عربيًا ترفًا، لأنه بلا معنى ولا فائدة، حتى على مستوى التنفيس؛ فأُولى المجازر تُفجّر الكلام والتعبير منفذا اضطراريا يفرضه العجز والذهول، لكن استمرارها سنوات يُفقد الكلام وظائفه. وثمّة ظاهرة بخصوص الغوطة حدثت من قبل في حصار مضايا، وهي أن في المجتمع السوري والعربي من يطلق النكات على الأطفال المحروقين في الغوطة، ويشجع على حرقها بمن فيها. ويصح ما قلناه بخصوص تجويع مضايا من قبل على الغوطة الآن: هذا السلوك لا يفسر بالعلوم السياسية ولا السوسيولوجيا فحسب؛ فثمّة حاجة مؤكدة لعلم النفس، لفهم هذا الانحراف النفسي.. هذه ظاهرة سايكوباثيّة، وليست مجرّد ظاهرة اجتماعية، نُعمل فيها أدوات التحليل المُعتادة.

هذا ما أوصلتنا إليه الثورة المضادة في العالم العربي، وحلفاؤها في المجتمع والإقليم والعالم،

“إن عنف الأنظمة العربية والمليشيات الإرهابيّة وساديتهما يُفقِدُان الأشياء معناها”

والتي فاقت في توحشها وانعدام وطنيّة وأخلاقيّة من يقودها أسوأ توقعاتنا، ونحن مُقدمون عمومًا على مستقبل عربي ستقوّي فيه هذه المجازر تيارات مختلفة، وبعضها متناقض: ثمّة من سينسحب من هذا العالم بالدرْوَشَة (وهي ليست دينية فحسب، فثمّة نسخ علمانيّة منها)، وثمّة المنحرفون الفرحون بشوي الأطفال، باعتباره تعبيرا مَرَضيا عن نزعة وثنيّة، وثمّة رد فعل قادم، مشوَّه وقبيح، مشتقٌ من انحطاط الواقع، وثمّة من يدفعه تراكم المجازر والجثث إلى بلادة الشعور (مرجح أن هذا سيكون التيار السائد في حال استمرت الأمور على حالها) كآخر المنافذ النفسية للبقاء، عوضًا من الانتحار، وثمّة بالتأكيد من سيتوجب عليهم ترميم عالمنا الأخلاقي، بقوّة الإرادة والإيمان بضرورة الحريّة والعدالة (وهي قوة يصعُب فهم مصادرها بالنظر إلى هذا الجحيم!) حتى نتصدّى لكل ما سبق.. وانتصار هذا التيّار ليس حتميًا بالطبع، بل الراجح، في ضوء ما نراه اليوم، أنه سيُهزَم في معارك كثيرة، قبل أن يحقق انتصاره “الممكن”، لكن وجوده على المدى القصير هو الأهم، وليس انتصاره؛ فبدونه سنبقى أسرى كلماتٍ بلا معنى، وأشياء بلا فائدة، وكلام بلا وظيفة، ومستقبل كقطع الليل المظلم.

العربي الجديد

 

 

 

 

 

مذبحة الغوطة.. ماذا بعد؟/ محمد أبو رمان

تتجاوز غارات الطيران السوري البربرية في الغوطة الشرقية (في ريف دمشق) محاولة تغيير موازين القوى هناك، وإنهاء وجود الفصائل المسلّحة، إلى تغيير قواعد الصراع في سورية بأسرها، من جهة، وإلى تحولاتٍ في واقع الحرب السورية الداخلية ومواقف القوى الدولية والإقليمية، من جهة ثانية.

بالفعل، ما يحدث في الغوطة بمثابة محاولة استنساخ لما حدث في حلب، نهاية 2016، ليس من الناحية العسكرية، بل من الناحية الاستراتيجية، أي بوصفها منعطفاً آخر في الصراع السوري الداخلي، بعدما تحوّلت أولويات الدول ومواقفها وأولوياتها، وحدثت استداراتٌ عديدة، أهمها في ذلك الوقت التحوّل في الموقف التركي، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة (يوليو/ تموز 2016)، والتقارب الروسي- التركي الذي كان إنهاء معركة حلب بمثابة ترجمة سورية له.

اليوم، وبعد أن انتهت دولة “داعش” في العراق وسورية، وبدت الأمور تسير نحو أفضلية كبرى للتحالف الروسي- السوري- الإيراني، ليس فقط في سورية، بل في المنطقة بأسرها، عادت الأجندات الدولية والإقليمية للاختلاف والتضارب، في أوقاتٍ كثيرة، وهو ما ينعكس حالياً في الغوطة، بعدما كان الكل يتحدث عن اقتراب الحل السياسي والخط السريع لمسار أستانة – سوتشي الروسي، عادت الأوراق لتختلط من جديد، مع بروز الاختلاف الأميركي- الروسي، وما يقف وراءه من استقطابات إقليمية وداخلية سورية.

صحيح أنّ الإدارة الأميركية، دونالد ترامب، الحالية لا تقوم بأكثر من عملية “ثرثرة سياسية” ضد إيران، ولا يوجد هنالك أي عمل حقيقي على الأرض (كما يقرّ الدبلوماسي الأميركي، دنيس روس، في مقالة له في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى)، إلاّ أنّ وجود أجندات متباينة ومتضاربة في الموقف من تقسيم النفوذ في سورية والحل النهائي، والتجاذبات الإقليمية بين حلفٍ تقوده الولايات المتحدة مع دول عربية، وفي الخلفية إسرائيل من جهة و”النفوذ الإيراني الشيعي” من جهةٍ ثانية، يجعل من الحرب السورية مسرحاً رئيساً لاختبار هذه التداعيات.

ليس فقط في الغوطة، فهنالك عفرين والتباينات الأميركية – التركية، والروسية – الإيرانية تتجلّى فيها، والحال كذلك في داخل إدلب والأرياف الشمالية الغربية، إذ تجري عمليات صدام وصراع بين الفصائل المسلّحة الإسلامية، بحسب الولاءات الإقليمية، بين موالين لتركيا ومشاركين في الحملة الراهنة ضد “قوات سورية الديمقراطية”، وبين هيئة تحرير الشام التي لا تستقر على موقف استراتيجي واضح، سواء في علاقتها بالأتراك أو الفصائل الأخرى، وانتهى بها الأمر إلى صراعٍ شرس مع العناصر المؤيدين للقاعدة في سورية، بعدما انكشفت الخلافات بين زعيم الهيئة الجولاني وزعيم “القاعدة” أيمن الظواهري.

السؤال المهم: ماذا بعد؟ واضح أنّ التباين عاد ليتسع في مواقف الدول الكبرى والإقليمية من الحلّ النهائي، ما يعني التركيز في المرحلة المقبلة على الصراع المسلّح، والرهان الروسي – الإيراني على أنّ المواقف الأميركية لا تحمل أي تهديد، أو تغيير في موازين القوى العسكرية الداخلية، فليكن التركيز على هذا الجانب لحصد مزيد من الانتصارات العسكرية، في أسرع وقت ممكن، وإنهاء الوجود المسلّح في ريف دمشق، وربما لاحقاً في محافظة درعا، وتأمين هذه المنطقة بالكامل، ما يعني حسم جزء كبير من المعادلة العسكرية.

يبدو هذا السيناريو واقعياً، لولا أنّ النظام السوري (يحظى بدعم روسي- إيراني) في مذابح الغوطة الحالية يستخدم الاستراتيجية العسكرية الروسية (الأرض المحروقة) ما يخلّف كوارث إنسانية كبرى، قد يؤدي، في الحدّ الأدنى، إلى ردود فعل دولية إنسانية وقانونية لوقف المذبحة (مثل جهود وقف إطلاق النار نهائياً)، ولولا أنّ هنالك وجوداً مسلّحاً قوياً ما يزال لـ “جيش الإسلام” و”فيلق الرحمن” والفصائل الأخرى التي لا تجد أمامها خيارات بديلة عن الغوطة الشرقية، كما كان عليه الحال في حلب، عندما انتقل المقاتلون منها إلى الأرياف الشمالية المحيطة. فالمخرج الوحيد لآلاف المقاتلين في الغوطة، وأغلبهم من سكان دمشق وأريافها أصلاً، هي درعا، ومعادلة درعا، كما هو معروف، مختلفة، ليست كمعادلات الشمال، فهي مرتبطة بنفوذ أردني – أميركي من جهة، وباتفاقيات مع الروس من جهةٍ أخرى. لذلك سيكون هنالك رفض كامل إقليمي ومحلي لانتقال المقاتلين إلى درعا.

ما يحدث في الغوطة بمثابة مرحلة جديدة تعكس التعقيدات الدولية والإقليمية التي أصبحت سورية مختبرها الأول في المنطقة.

العربي الجديد

 

 

 

الراقصون فوق القبور/ حسام كنفاني

تكشف المحرقة السورية، يوماً بعد يوم، عن كمية من الحقد الأعمى المتجذر في نماذج عديدة موجودة على الساحة العربية. نماذج تتغنى بالقتل وتطرب لصور الجثث المنتشرة بين أنقاض المباني، وتهلل لمشهد أم تحتضن طفلها المنتشل من بين الركام، أو لأب يقف عاجزاً أمام جثامين أبنائه المسجّاة في المستشفى. لا يخجل هؤلاء من المجاهرة بآرائهم في العلن، وعلى منصات الإعلام ومواقع التواصل، ويجدون من يصفق لهم أيضاً، ويقاسمهم مشاعر الغبطة ذاتها التي ترافق الإعلان عن سقوط ضحايا جدد في المجزرة المرتكبة يومياً في الغوطة الشرقية لدمشق.

هذا المقدار من التشفّي تصادفه يومياً وأنت تتابع مشاهد الجريمة المرتكبة في الغوطة وأخبارها. تظن أن من الممكن النقاش مع هؤلاء، وتغيير أفكارهم، أو دفعهم على الأقل إلى التعاطي بإنسانيةٍ مع الحدث الذي لا يمكن أن تخطئه عين أو قلب. ثم تتذكر نقاشات سابقة وأجوبة معلبة كنت تتلقاها من هؤلاء “الممانعين”. الإجابة الأولى، وقبل أي دخول في تفسيرات قومية وأيديولوجية، ستأتيك بأن “أطفال اليمن والبحرين أيضاً يُقتلون، فلماذا لم نسمع هذا القدر من التعاطف”. عند هذه النقطة، يُفترض أن يقف النقاش، بدايةً لأن التضامن والنصرة لأطفال اليمن والبحرين قائمة، ومن منطلق إنساني غير سياسي، وهو ما يعبّر عنه الجميع، إذ لم نر يوماً أي طرف يتشفّى بالأطفال المقتولين بقصف التحالف العربي في اليمن بهذه الطريقة التي يتعاطى فيها هؤلاء مع قتل المدنيين في سورية عموماً، وليس في الغوطة حصراً. ثم كيف يمكن لهذا التبرير أن يكون منطقياً، فهل الاعتراض على قتل الأطفال في اليمن يكون بقتل الأطفال في سورية، وهل الفرح بهذه المجزرة يكون الرد على مجازر أخرى مرتكبة في اليمن أو البحرين أو العراق أو أي مكان آخر. لا بد أن يكون القتل مداناً بأشكاله كافة، فليس هناك قتل شرعي وآخر مدان.

التبرير الآخر الجاهز، والذي سمعناه في أكثر من مناسبة، ولا يزال يتردد يومياً، هو “محاربة الإرهاب” و”اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية”، حتى جملة “هناك ضحايا في الحروب” لم نعد نسمعها، فلا يعتبر هؤلاء الأطفال والمدنيين ضحايا، هم شركاء في الحرب لمجرد وجودهم في المكان الخاضع لسيطرة هذا الطرف أو ذاك. تحاول تذكّر أين سمعت سابقاً التعابير نفسها حرفياً، فتقفز إلى ذهنك الحروب الإسرائيلية الكثيرة، داخل فلسطين وخارجها. هو المنطق نفسه الذي كان هؤلاء الممانعون يدينونه أيام القصف الإسرائيلي على قطاع غزة أو لبنان أو المداهمات في الضفة الغربية، أي “محاربة الإرهاب” و”اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية”. وفق هذا المنطق الذي يتبناه الممانعون، من الممكن التبرير لإسرائيل قتلها المدنيين في فلسطين ولبنان، ما دام يأتي في إطار ما تسميه إسرائيل “إرهاباً”. ولعل حالة تبرير المحرقة في الغوطة هي أكثر ما يتشابه حالياً مع المنطق الإسرائيلي في تعاطيه مع غزة، إذ إن ذريعة القصف اليومي هو وقف إطلاق قذائف الهاون من الغوطة على أحياء دمشق، وهو ما تفعله إسرائيل أيضاً لوقف إطلاق الصواريخ من قطاع غزة على المستوطنات المجاورة، مع فارق أن عدد الضحايا في الغوطة أكبر بكثير من كل حروب إسرائيل على غزة.

لن تكون صياغة كل ديباجات الرد هذه صالحة للتعاطي مع هؤلاء الممانعين الذين احترفوا الرقص فوق القبور، رافعين شعارات المقاومة والعروبة والوطن، ومعلنين “نصراً قريباً” على جثث الأطفال.

العربي الجديد

 

 

 

 

حماة 1982… وسوريا الجديدة/ خيرالله خيرالله

كل ما يفعله العلويون حاليا بدعم إيراني وروسي هو الخروج بسوريا جديدة من منطلق طائفي ومذهبي ليس لإيران غيره لتبرير تحولها إلى دولة متوسطية تستخدم فيها سوريا جسرا إلى لبنان الذي لم تعد تحتاج فيه إلى الكثير من أجل الإمساك به.

ماذا تبقى في البلاد

تكشف مأساة الغوطة الشرقية حيث يقتل النظام السوري يوميا بدم بارد العشرات من مواطنيه، بدعم إيراني وروسي، أنّ هناك إصرارا على تكريس التغييرات الديموغرافية في سوريا.

من الواضح أن المطلوب انطلاقا من هذه التغييرات إعادة تشكيل سوريا. هل يمكن أن ينجح النظام في البناء على ذلك مع الذين يقفون خلفه ويوفرون لبشّار الأسد الحماية التي يحتاجها للبقاء في دمشق حاكما صوريا؟

هل سوريا الجديدة ستكوّن نتيجة التحولات التي جرت على الأرض، بما في ذلك تدمير المدن السنّية الكبرى وتدجين دمشق وتغيير طبيعة تركيبتها وتركيبة المنطقة التي تحيط بها؟

ما يتبيّن كلّ يوم أكثر من أيّ وقت أنّ النظام، الذي ليس سوى بيدق يحرّكه الإيراني والروسي، ماض في حربه على شعبه.

لا يدرك النظام، على الرغم من أنّه صار في مزبلة التاريخ، سوى أن الحلّ الذي اعتمده في حماة في العام 1982 سيبقيه في السلطة. هذا منتهى اللاواقعية لا أكثر. كيف يمكن للنظام والذين يفاخرون بأنّه لا يزال قائما بعد مضي سبع سنوات على بدء الثورة الشعبية تصوّر أن بشّار الأسد يمكن أن يعود رئيسا في يوم من الأيّام؟

لا يمكن لتجربة حماة في 1982 أن تتكرّر في 2018 على نطاق سوريا كلّها. كلّ ما تدلّ عليه المجزرة التي يرتكبها النظام مع الإيراني والروسي هو تمهيد لقيام سوريا الجديدة.

في سوريا الجديدة، يبدو أنّ أسس التسوية لن تتبلور قبل أن يقرّر الأميركي ما الذي يريده، بما في ذلك هل سيكون هناك وجود إيراني في الجنوب السوري، وهو وجود تعترض عليه إسرائيل شكلا ومضمونا.

كان متوقّعا أن تكون السنة 2018 سنة التسوية في سوريا. يبدو أنّها ستكون سنة بداية مرحلة جديدة من الحرب التي يخوضها النظام مع الإيراني والروسي على الشعب السوري. ما يمكن قوله الآن إنّ شمال شرق سوريا، الذي يشكّل “سوريا المفيدة” صار تحت السيطرة الأميركية. معظم الثروات السورية في تلك المنطقة التي أفهمت واشنطن كلّ من يعنيه الأمر أن لا مجال للاقتراب منها.

تبدو أميركا، على الرغم من عدم امتلاكها استراتيجية واضحة بالنسبة إلى مصير سوريا في المدى الطويل، جدّية في الاحتفاظ بشمال شرق سوريا، أي بالمنطقة الواقعة شرق الفرات.

بات ثابتا الآن أن الأميركيين حصدوا قبل أسابيع قليلة بواسطة طائرات هليكوبتر من نوع “أباتشي” مجموعة من المرتزقة جنّدتهم شركات نفطية روسية. حاول أفراد المجموعة وكان عددهم نحو 300 الاقتراب من أحد حقول الغاز في منطقة دير الزور. كانت النتيجة، استنادا إلى وسائل إعلام أميركية محترمة، مقتل ما لا يقلّ عن مئة من هؤلاء.

يعطي التصرف الأميركي فكرة عن مدى الإصرار على البقاء في تلك المنطقة التي فيها عرب وأكراد بحجة أن الانسحاب منها قد يسمح بعودة “داعش” إليها.

يستطيع الأميركيون الانتظار طويلا في منطقة شرق الفرات حيث معظم الثروة الزراعية والمائية ومعظم حقول النفط والغاز. لذلك، سيتوجب على من يريد التوصّل إلى تسوية نهائية الدخول في مفاوضات مع إدارة ترامب التي لا تبدو مستعجلة على شيء في سوريا.

يشير إلى ذلك وقوفها موقف المتفرّج من المجزرة اليومية التي تدور في الغوطة، وهي مجزرة تذكّر بحماة 1982 مع فارق كبير يمكن في أنّ مجزرة حماة التي راح ضحيتها ما لا يقلّ عن عشرين ألف سوري نفّذت في الخفاء في غياب الإنترنت.

حصيلة الأمر أنّ كلّ ما يقال عن حرب الغوطة ليس سوى غطاء لحقيقة ما يدور في سوريا. كان لا بدّ من انتظار السنة 2018 للتأكّد من أن الحرب على الشعب السوري لن تنتهي غدا. مازالت هذه الحرب طويلة وذات طابع طائفي ومذهبي أوّلا وأخيرا.

كانت ندوة نظمها في بيروت في العشرين من شباط – فبراير “بيت المستقبل” الذي أسسه الرئيس أمين الجميّل مع “مؤسسة كونراد أديناور” الألمانية تحت عنوان “حقيقة ديموغرافية جديدة في سوريا” مناسبة لسماع آراء خبراء دوليين وسوريين ولبنانيين في ما يدور في سوريا انطلاقا من الواقع الذي فرضته التغييرات التي حصلت على الأرض.

من بين ما قيل في الندوة إن العلويين هم الأكثر تعلّقا بالدولة المركزية في سوريا من منطلق أنّهم كانوا الحكام الفعليين لهذه الدولة منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة واحتكاره لها في العام 1970. في الواقع، كان حافظ الأسد وزيرا للدفاع منذ العام 1966. ما لم يشر إليه أيّ من المشاركين هو دوره في تسليم الجولان إلى إسرائيل في حرب العام 1967.

ما لم يفت المشاركين أنّ إخراج أهل الغوطة الشرقية من أراضيهم يخدم مشروع إبعاد أكبر عدد من السنة عن دمشق. أشار مشارك إلى أن هناك مليون علوي في دمشق حاليا وأنّ تغييرات حصلت داخل المدينة ومحيطها عن طريق شراء الأراضي والممتلكات. ذكر آخر أن معظم أهل حمص هجروا منها وهناك هجمة علوية عليها. تشمل هذه الهجمة الاستيلاء على أملاك أهل حمص.

ذهب مشارك إلى حد القول إنّه إذا كانت هناك من دولة علوية ستقوم في سوريا، ستكون دمشق عاصمة هذه الدولة التي سيكون لها امتداد في اتجاه المناطق التي يسيطر عليها “حزب الله” في لبنان. ستضم الدولة العلوية دمشق وحمص وحماة والقسم الأكبر من الساحل السوري حيث اللاذقية وطرطوس وبانياس. ستبقى حلب خارج هذه الدولة.

كان ملفتا ما ذكره مشارك آخر في الندوة عن احتمالات المواجهة بين الأكراد والعرب في شمال شرق سوريا وعن زوال الوجود المسيحي في تلك المنطقة. لم يعد في دير الزور كلّها سوى مسيحي واحد!

كشفت الندوة حقيقة لم يتحدث عنها أحد في الماضي عن الوجود المسيحي في سوريا عموما. تتمثل هذه الحقيقة أنّ نسبة المسيحيين في بداية العام 2011، أي قبل اندلاع الثورة في شهر آذار – مارس من تلك السنة كانت 4.6 في المئة من عدد السكان وليس 10 في المئة كما هو شائع. هجّر حافظ الأسد ثمّ بشّار الأسد المسيحيين من سوريا على دفعات وذلك قبل اندلاع الثورة الشعبية التي كانت ثورة على نظام حرم المواطن السوري من كرامته.

ما كان سرّا في سوريا منذ تولّي حزب البعث السلطة في العام 1963، صار أكثر من حقيقة في السنة 2018. ما تشهده سوريا هو حرب طائفية لم تعد شعارات البعث، بكلّ تخلّفه، قادرة على تغطيتها.

كلّ ما يفعله العلويون حاليا بدعم إيراني وروسي هو الخروج بسوريا جديدة من منطلق طائفي ومذهبي ليس لإيران غيره لتبرير تحولّها إلى دولة متوسطية تستخدم فيها سوريا جسرا إلى لبنان الذي لم تعد تحتاج فيه إلى الكثير من أجل الإمساك به.

تبقى علامة استفهام تتعلّق بالموقف الأميركي وما إذا كانت هناك استراتيجية أميركية تتجاوز الاكتفاء بالاحتفاظ بـ”سوريا المفيدة” والتفرّج على إحدى أفظع الجرائم منذ بداية هذا القرن، أي جريمة الغوطة الشرقية… هذه الجريمة المرتبطة بالحقيقة الديموغرافية الجديدة في سوريا.

إعلامي لبناني

العرب

 

 

إنجاز الخريطة الديموغرافية لمحيط دمشق/ إياد أبو شقرا

ببلاغة وإيجاز، كتب روبرت فيسك في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية، أمس، ما يلي «ستسقط الغوطة. هذه هي الرسالة. وبعد سقوطها ستليها إدلب حتماً، وبعد ذلك سيتوجب على السوريين تقرير كيف يكسرون قبضة الأميركيين والأكراد على الرقة».

في التقرير لم ينسَ فيسك أن يشير إلى أن الغوطة الشرقية باتت «جيباً» مُحاصراً… لكنه، طبعاً، لم يكلّف نفسه عناء شرح كيف أصبحت هذه المنطقة «جيباً» بعد 7 سنوات من القتل والتدمير والتهجير الممنهج. أما الأغرب فهو أن فيسك سمح لنفسه في العبارة التي بدأتُ بها هذه المقالة – مستخدماً كلمة «السوريين» في سياق الإشارة إلى النظام – تجاهل حقيقة أن النظام لم يحارب بمفرده، بل خاض معه كل معاركه التدميرية والتهجيرية الطيرانُ الحربي الروسي وميليشياتُ إيران المذهبية المجلوبة من لبنان والعراق وإيران وأفغانستان وباكستان…

فيسك يعرف أكثر من كثيرين طبيعة نظام آل الأسد منذ ما قبل مجزرة حماة عام 1982، لكنه مع ذلك يعتبر اليوم أن بشار الأسد وأخاه ماهر الذي يدكّ الغوطة الشرقية تمهيداً لتهجير سكانها – على غرار «منجزاته» في الغوطة الغربية ووادي العجم ووادي بردى – يمثلان «السوريين». ولعله يعتقد أيضاً أن مَن أسهم، بدعم روسي مباشر وفي ظل المشروع الاستيطاني الإيراني المتمدّد من العراق إلى البحر المتوسط، في قتل مليون سوري وتهجير ملايين السوريين… حقاً يمثّل السوريين ويعبّر عن «سيادة» سوريا.

هذا نموذج بسيط لمقاربة بعض العقول والدوائر ووسائل الإعلام الغربية لمحنة سوريا، وبالذات، منذ اختار الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما أولويات إدارته في الشرق الأوسط.

لقد تحوّلت كل القراءة الغربية عن الواجب الأخلاقي لدعم انتفاضة شعبية سلمية ضد نظام طائفي تسلّطي أطبق على سوريا منذ خريف 1970، إلى «حرب على إرهاب» كان مطلوباً السماح له بأنه ينمو ويرتكب الفظائع كي يبرّر إجهاض الانتفاضة الشعبية، وإعادة تأهيل التسلط والطائفية «غير الانتحارية» – وفق مصطلح أوباما الشهير عن إيران – في سياق تسويقه للأميركيين اتفاقه النووي مع طهران.

من ناحية ثانية، من السذاجة تصوّر أن الاعتبارات الإيرانية كانت وحدها وراء قرار باراك أوباما في الوقوف ضد انتفاضة السوريين؛ إذ يوجد ممثل مصالح أخرى لا يقل ذكاءً ونشاطاً داخل واشنطن، وتحديداً، داخل الحزب الديمقراطي الأميركي هو «اللوبي الإسرائيلي» الذي كان مرتاحاً لالتزام نظام دمشق بـ«التعايش السلمي» معه عبر خط الفصل بالجولان منذ أكتوبر (تشرين الأول) 1973.

الإسرائيليون حفظوا عن ظهر قلب نظام الأسد، وفهموا مكامن قوته ونقاط ضعفه وأولوياته السياسية الوجودية. هضموا لهجة المزايدة والتصعيد التي اعتادها بينما كان يقدّم لإسرائيل الخدمة تلو الأخرى. ومن ثم، رأينا البراغماتية الإسرائيلية ضد القفز في المجهول. ضد المجازفة بالاستعاضة عن حالة ثبتت منفعتها… ببديل لا يقدم لها أي ضمانات.

وهكذا، مع تقاطع المصالح الإيرانية والإسرائيلية – وبالتالي الأوبامية – على أرض سوريا، اُتخِذ قرار ترك الشعب السوري لمصيره.

في جانب آخر، كان هناك لاعبان مهمان: تركيا، اللاعب الإقليمي الطامح لاستعادة الدور العثماني وتنصيب نفسه حامياً لأهل السنة والجماعة في مناطق تعربد فيها إيران وإسرائيل برضا واشنطن. وروسيا، تحت حكم «قيصري جديد»، التي قرّرت المحافظة على آخر مواطئ أقدامها في المنطقة العربية، بعد انحسار حضورها في العراق بعد 2003 وانتقال ليبيا إلى مزيد من الفوضى بعد 2011.

تركيا دخلت الساحة بعرض عضلات ولهجات تهديد مرتفعة، بينما اختارت روسيا أسلوباً أكثر فاعلية مزجت فيه بين فرض «الفيتو» والتستّر بالدبلوماسية والتضليل التفاوضي لتغطية تغييرها قواعد اللعبة العسكرية على الأرض.

بعد ذلك، مُنيت سلطات أنقرة بنكستين إقليميتين: الأولى، عندما سمحت لنفسها بالدخول طرفاً في النزاعات العربية – العربية، والثانية، عندما تراجعت أمام التهديدات الروسية في أعقاب حادث إسقاط الطائرة الحربية الروسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2015 فوق المنطقة الحدودية السورية التركية (حدود لواء الإسكندرونة/ هتاي). وكان من نتيجة هاتين النكستين فقدان أنقرة زمام المبادرة وتقليص طموحها الجيوسياسي في سوريا، ولا سيما بعد استغلال موسكو وطهران الرهان الأميركي على العامل الكردي.

إذ ذاك أدركت سلطات أنقرة حدود قدراتها، وأيضاً مخاطر التهم الموجهة لها «بدعم الإرهاب». وفي المقابل، رأت بعد اندفاع واشنطن لدعم الميليشيات الانفصالية الكردية السورية قواسم مصلحية مشتركة بينها وبين موسكو وطهران… سرعان ما أثمرت مسار آستانة، الذي شكّل عملياً أول «انقلاب» سياسي على مسار جنيف.

أما موسكو، فبعد استفادتها من مُسايرة أوباما لإيران، استفادت مُجدّداً من ارتباك إدارة دونالد ترمب وتخبّطها في أزماتها الداخلية داخل دهاليز واشنطن. وكشفت – بالتنسيق مع إسرائيل – عن طموحاتها في سوريا، وأمّنت التغطية اللازمة للإيرانيين ونظام الأسد للمضي قدماً في التغيير الديموغرافي في سوريا.

وبموجب هذه السياسة جرى تهجير حلب الشرقية وضواحي دمشق الغربية والجنوبية، ومنطقة وادي بردى، تمهيداً لوصل دمشق بالعمق اللبناني الواقع تحت هيمنة «حزب الله»، وذلك بعد تهجير معظم أحياء حمص ومناطق عدة في ريفها وريف حماة وريف إدلب. وبحجة «داعش» – المجهولة النسب والمُلتبسة الولاء – امتد التهجير إلى محافظات الرقة ودير الزور والحسكة، بل، وحتى درعا.

اليوم عندما يتكلم روبرت فيسك جازماً عن إسقاط الغوطة… ثم إدلب، فهو لأنه ما عادت هناك أسرار. ما عادت هناك أوهام، رغم مساومات مجلس الأمن الدولي.

ذلك أن المؤامرة الديموغرافية على سوريا تقترب الآن من اكتمال فصولها. و«تبخّر» «داعش» بقدرة قادر، وتسليم الانفصاليين الأكراد مناطقهم لجيش آل الأسد وميليشيات سليماني وطيران بوتين، من هذه الفصول الأخيرة.

ماذا بعد؟ المنطق يقول إنه لم يتبقَّ لإكمال «السيناريو» سوى ضبط تفاصيل هوية شرق الفرات بتحديد العلاقة الكردية – الأميركية، وحسم أمر الجنوب السوري في ظل الحسابات الإسرائيلية.

سوريا ما قبل 2011 انتهت، وهذا واقع مؤلم يجب الاعتراف به. لكن ما هو أخطر تداعيات البدء برسم خرائط إقليمية جديدة لمنطقة تزداد هشاشة ووهناً بمرور كل يوم!

الشرق الأوسط

 

 

 

 

سوريا: جرائم تصفية جماعية/ د. شملان يوسف العيسى

طلبت السويد والكويت عقد جلسة خاصة لمجلس الأمن لبحث وقف إطلاق النار في سوريا لمدة شهر كامل لاعتبارات إنسانية وحفاظاً على أرواح الأبرياء من المدنيين الذين يعيشون في منطقة الغوطة الشرقية.

وتتعرض منطقة الغوطة منذ سنوات لقصف مدفعي وجوي عنيف من قوات النظام والطائرات الروسية أودى بحياة آلاف المدنيين ودمار كامل للمنازل والبنية التحتية.

القصف الأخير على الغوطة الذي جرى في الأيام الأخيرة أدى إلى مقتل 400 شخص منهم 60 طفلاً، وما تزال طائرات النظام الفاشي وحلفائه الروس تضرب يومياً المنطقة بصواريخ والطائرات بدون أي اعتبار للأبرياء من المواطنين السوريين الذي يقدر عددهم بحوالى 400 ألف مواطن سوري.

الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش طالب بتعليق فوري لكل الأعمال الحربية. واصفاً أوضاع الناس في الغوطة بالجحيم على الأرض.

الحكومة الألمانية من جانبها اعتبرت ما يحدث بأنه مجازر قتل للأطفال، وذكرت بأن رئيس النظام السوري بشار الأسد يشن حرباً عسكرية على المدنيين من شعبه في الغوطة الشرقية.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أيضاً طالب بهدنة في الغوطة الشرقية وندد بشدة بهجوم النظام السوري على المدنيين في الغوطة الشرقية لدمشق.

أما الصليب الأحمر الدولي فوصف الوضع في الغوطة بأنه كارثي بمعنى الكلمة، وحمَّل النظام مسؤولية الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية هناك. وطالب الصليبُ الأحمرُ الدوليُ بالسماح لفرقه الإنسانية بدخول أحياء الغوطة الشرقية المحاصرة، للمساعدة في علاج الجرحى والمرضى وإخلاء من يمكن إخلاؤه منهم إلى مستشفيات لتلقي العلاج. وأعربت رئيسة الصليب الأحمر عن اعتقادها بأن القتال سيتسبب في مزيد من المعاناة خلال الأيام والأسابيع المقبلة.

وأدانت الدولُ العربيةُ في معظمها مجازر النظام السوري، ودعت المجتمع الدولي للتدخل، وهذا كل ما تستطيع الدولُ العربية فعله حتى الآن، لأن الأوضاع في الوطن العربي لا تسر أحداً، ولأن بعض دوله تشهد حروبا أهلية طاحنة أو أزمات اقتصادية كبيرة تجعلها تعجز عن مساعدة الشعب السوري الشقيق.

والتساؤل الذي يطرحه الجميع هو: إلى متى تستمر مأساة الشعب السوري؟ وهل هناك حلول سلمية في الأفق القريب؟

يبدو أن النظام السوري، وحلفاءه الروس والإيرانيين والميليشيات الشيعية القادمة من العراق ولبنان وأفغانستان وإيران، مصرون على تحقيق النصر العسكري في الغوطة مهما كانت نتائج الجرائم أو حرب الإبادية التي يمارسونها. النظام السوري وحلفاؤه يراهنون على استسلام المقاومة السورية التي استطاعت الصمود وسط الحصار القاسي والعنيف لعدة سنوات من دون أن تستسلم للنظام الاستبدادي.

وأخيراً: هل هنالك إمكانية لتدخل قوى خارجية تمنع النظام من الاستمرار في قتل شعبه؟

حتى الآن لا توجد بوادر ولا مبررات للتفاؤل. وكان الله في عون الشعب السوري ومقاومته.

——————-

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة الكويت

الاتحاد

 

 

 

 

عن الغوطة الشرقية وموت الضمير/ ياسر الزعاترة

أحد مؤيدي نظام الأسد، كتب رافضا المذبحة التي تجري في الغوطة الشرقية تحت أي مبرر سياسي، الأمر الذي قد يرتّب عليه هجاءً من أمثال بهجت سليمان، وبعض الرفاق اليساريين والقوميين ممن لا يجدون أي مبرر لانتقاد النظام المجرم، ولو أحرق الأرض ومن عليها.

كما لا يجدون أي معضلة في التدخل الإيراني والروسي، ولو هجاهم علي أكبر ولايتي باعتبار أنهم يريدون سرقة إنجازات “الولي الفقيه” في العراق، ولا يرون إشكالا في عناق بوتين نتنياهو، ولو قدّم له ما يشاء من ضمانات في سوريا، ولن يتوقفوا عند قول نائب سفيره (سفير بوتين) في تل أبيب إن بلاده ستقف بجانب الكيان الصهيوني إذا تعرض لـ”عدوان إيراني”!!

في سوريا، لم تُفتضح الشعارات الكاذبة (من شعار الحسين، إلى شعارات القومية، واليسار والمقاومة والممانعة) وحسب، بل افتضحت أيضا الضمائر الخربة التي صمتت على قتل الطفل حمزة الخطيب في أقبية بشار (حزيران 2011)، قبل أن تطلق رصاصة واحدة في الثورة، تماما كما صمتت على كل المجازر التالية التي تابعها العالم أجمع بالصوت والصورة.

الضمائر المعطوبة لا حلَّ لها، وهي نهاية الإنسان من حيث هو إنسان، ذلك أن من يبرر قتل الأطفال بدعوى محاربة الخارجين على النظام؛ إنما يعلن موت إنسانيته، ذلك أن قتل الأبرياء من قبل أي نظام لا يمكن أن يقبله ضمير ولا أي منطق قانوني، حتى في حالات الاحتلال المباشر.

هل نكرر على مسامع هؤلاء فضح الشعارات الكاذبة التي تم من خلالها تبرير التدخل الإيراني مثلا، والتي تمثل انقلابا على أساس مبدأ الولي الفقيه، وثنائية (الحسين ويزيد) المعروفة، أو فضح الموقف الروسي الذي ينتمي لمنطق “الدول الإمبريالية”، ولا صلة له البتة بالمقاومة والممانعة، أو نقض أوهامهم حول الموقف الأمريكي الذي كان ولا يزال ضد الثورة، ولا يعنيه سوى استمرار الحرب لاستنزاف الجميع، وهو من ضغط على كل القوى لمنع السلاح النوعي عن الثوار؟!

قد يثير تكرار ذلك بعض الملل، لكن ذلك كله شيء، وتبرير قتل الأبرياء، ومنهم جحافل من الأطفال، فضلا عن تجويعهم، وحرمانهم من الأدوية، شيء آخر. شيء يعبر عن موت الضمير في أوضح صوره على الإطلاق.

حين وقفنا مع الشعب السوري، لم نسأل عما إذا كان سينتصر أم لا، وقلنا ذلك مرارا منذ الشهور الأولى للثورة، بل وقفنا معه، لأنه شعب خرج يطلب حريته من طاغية فاسد ضمن موجة الربيع العربي، بصرف النظر عن أي مواقف أخرى.

ونذكّر هؤلاء بموقف الولي الفقيه وأتباعه من صدام حسين، حيث كان يتناقض تماما مع اليساريين والقوميين، ولاعتبارات طائفية صرفة، فضلا عن موقفهم من المقاومة العراقية ضد الاحتلال الأمريكي، ودفاعهم، ومنهم نصر الله نفسه، عمن كانوا يعانقون الغزاة، ويتعاونون معهم ضد المقاومة.

سوريا هي فضيحة الشعارات السياسية والطائفية، وفضيحة الضمائر أيضا.

وفضيحة الضمائر أكبر بكثير (يجتمع البعدان في كثيرين بالطبع)، مع أن الأولى مهمة أيضا، ولن يغير شيئا في المشهد ما يجري على الأرض من مآلات الصراع الذي سيتواصل إلى زمن لا يُعرف مداه.

ولن ينتهي كما يريد القتلة وحلفاؤهم؛ بخاصة إيران التي كانت تسيطر على البلد فصارت تابعا لروسيا، مع أن انتصار طاغية على شعبه، بقتل وتهجير الملايين وتدمير البلد ليس انتصارا في عُرف من لديهم الحد الأدنى من الحسِّ الإنساني.

كاتب صحفي أردني/ فلسطيني

الدستور الأردنية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى