صفحات الثقافةممدوح عزام

حرج المسدس/ ممدوح عزام

 

 

أفضل ما في تاريخ النقد الأدبي والنظريات الأدبية أنها لم تتوقف عن التوالد والظهور. فمنذ زمن أرسطو ما يزال العقل، أو المخيّلة البشريان يبتكران النظريات الأدبية والنقدية، التي تريد أن تقول شيئاً ما عن الأدب، أو تريد أن توجّه رسالة إلى كليهما، ومنذ ذلك التاريخ، وربما قبل ذلك، ما تزال المخيّلة البشرية تبتكر ألواناً من الإبداع، تتسم بالابتكار والخلق الجديد المتنوّع.

ويمكن أن يظنّ أحياناً أن النظريات المتعدّدة تعكس اختلافاً عميقاً في رؤية واحد من الحقول الأكثر غموضاً وسرية في الحياة الفكرية للبشر، وهو حقل الأدب والفن.

غير أن الاختلاف يعني الحرية. حرية الرؤية، أو حرية التأويل كما أشار إليها بول آرمسترونغ في “القراءات المتصارعة”. إذ كانت الحرية في مجال الأدب هي الوجه الآخر لاختلاف الرأي، فلدينا حرية شبه مطلقة، من ناحية النوع الأدبي في كتابة الرواية.

وقد استعصت الرواية واللوحة والقصة حتى اليوم على الشروط المسبقة، وهو ما يبيح لها أن تكون حرة تماماً في بناء أنواعها، والاقتراب من المعاني بالطريقة التي تجدها ملائمة. كما يجعلها قادرة على إنشاء لغة اختلاف تتسم بالسلمية، والميل إلى الحوار المتبادل.

وقد يكون انفتاح النصوص الأدبية على إمكانات التأويل، أحد أكثر أشكال حرية الممارسة، التي لا تؤدي أبدا إلى نشوب النزاعات. إذ لم يحدث أن خاض أحدهم معركة بالأيدي، أو بالأسلحة، من أجل تطبيق البنيوية، أو النقد الجديد. ولم يحدث أن كان تفسير سلوك “الملك لير” سبباً في نشوب الحرب. وثمة الكثير من التأويلات أو القراءات المتعدّدة التي يرى كثيرون أنها علامة على ثراء النصوص، وحريتها في المخيّلة، وغنى التفكير النقدي الذي يقارب التفسير المتعدّد.

غير أن التأويل اتسم بالدموية في التاريخ، وفي الحاضر العربيين. ولم تنفع حقائق الأدب في تنفيس احتقان السياسة. بل إن بعض النظريات الأدبية التي تبنّتها الثقافة العربية، مالت إلى الروح الحربية، أكثر من ميل السياسة المقاتلة إلى الحوار. فيما كان المأمول أن نتحرر جميعاً من الرغبة في الشجار التي تحوّلت في الوقت الراهن إلى ثقافة تشبيح، يتولى أمرها أحياناً “مفكرون” لا يجدون حرجاً أخلاقياً في استخدامات المسدس.

يذكر يان كوت في الفصل المخصص لدراسة مسرحية “هاملت” من كتابه ” شكسبير معاصرنا” أن بيبلوغرافية الدراسات التي كتبت عن المسرحية، تزيد عن حجم دليل التلفون لمدينة كبرى، ويرى أن التفاسير والشروح والتعليقات ما زالت تنهال على هذه الشخصية منذ أن كتبها شكسبير، حتى اليوم.

وقد انفصلت الشخصية عن المسرحية، وعن المؤلف. والأمر نفسه ينطبق على “الموناليزا” فابتسامتها المعلقة ما تزال حتى اليوم تثير الجدال، والتأويل لدى النقاد والمشاهدين الذين يرونها في المتحف، أو في الصور.

ومن المستبعد، حتى اليوم، أن تتمكن فكرة الاختلاف السلمية، من إحراج المسدس، ومن غير المتوقع أن تتغلغل فكرة التأويلات إلى روح السياسة العربية. فما يزال العالم العربي يبحث عن الثأر بهمّة لا تعرف التردد الهاملتي، واندفاعة لا تنشغل بالبحث عن لا أخلاقية القتل.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى