الحرية لرزان زيتونة، الحرية لمخطوفي دوماصفحات مميزة

حرّاس الذاكرة/ حسان عباس

 إلى مازن درويش ورزان زيتونة

قد يبدو صحيحاً أن الحرب “نار تجلو صدأ الشعوب”، وقد يبدو صحيحاً أنها “شرّ لا بدّ منه” لكي تنبعث الأمم من رمادها، لكن ليس صحيحاً أنها هذا فحسب، لأن الحرب هي أيضاً، وقبل كل شيء آخر، موت ودمار وخراب. قد تشقّ الحروب طريقاً لجديد آت، وقد تهيئ لقيامة ما، لكن لا هذه القيامة ولا ذاك الجديد يقدَّر لهما أن يكونا بدون الويلات التي تنثرها الحروب.

الحرب انتهاك للإنسانية وللإنسان، ونخصّ هنا الحرب التي تقوم بين أبناء البلد الواحد سواء أكانت حرباً داخلية (كما هي الحال في سوريا) أم حرباً أهلية. كل ما في الحرب فعلٌ جرمي. وكل من ينخرط فيها، شريك، بهذا القدر أو ذاك، في جريمة. من المفارقة المؤلمة أن الكثير، بل غالبية، أولئك الشركاء هم ضحايا. ليسوا ضحايا وقع عليهم الانتهاك فقُتِلوا أو جُرِحوا أو شوِّهوا فحسب، بل هم ضحايا لأنهم أُرغموا أو اضطروا أو أُجبِروا على المشاركة في القتل والجرح والتشويه. الذين تحولوا إلى أدوات قتل في يد نظام مستبدّ أحمق هم ضحاياه أولاً، والذين اضطروا لحمل السلاح دفاعاً عن انتفاضة كرامتهم هم ضحايا النظام مرتين: مرة لأنه اضطرهم إلى حمل السلاح ومشاركته في المقتلة ومرّة لأنه قتلهم حقاً، والذين تحولوا إلى مرتزقة وأدوات قتل في يد إرهاب ديني أعمى مموّل هم ضحايا أمراء الحرب وسدنة الجهل والظلامية. الحرب آلة حمقاء تصَنِّع ضحايا ليقوموا بدورهم بصُنع ضحاياهم لدى الطرف الآخر. وفي الحرب الداخلية، الكلّ هو الآخر. حيث لا منطق يبيح لطرف أن يكون ال(نحن) المطلقة التي تتجسّد فيها روح الوطن فتنال شرعية القتال باسمه.

الحرب الداخلية مصنع للضحايا يديره مجرمون. وهؤلاء الأخيرون قلّما ينالهم العقاب الذي يستحقونه. يُخطَف الناس ويعذّبون ويقتلون بأمر منهم، وهم يقبعون في دشماتهم ومراكز قياداتهم يتابعون على الخرائط الباردة حركة البيادق المرمية في الميدان. فإن انتصر طرف منهم أرّخ لما كان بالشكل الذي يريد، بينما تغيب الضحايا في جبّ النسيان. وتُنسى أسماؤها وأسماء قاتليها.

من هنا كانت فكرة توثيق الانتهاكات في زمن الحرب فكرة عظيمة، لأنها، من جهة، تحفظ للضحايا ذكراهم، ومن جهة أخرى تقيم الحجة على الشركاء في الجرم بدءا من الذي خطط، إلى الذي أعطى الأمر بالتنفيذ، إلى الذي نفّذ. وتكون الانتهاكات المسجّلة وثيقة لا بدّ منها لكل بناء لسيرورة عدالة انتقالية. من هنا يلد حقد المسؤولين عن الإجرام على النشطاء الحقوقيين، وعلى كل مؤسسة مدنية تعمل في مجال توثيق الانتهاكات. والأمثلة على ما عاناه ويعانيه النشطاء في مجال حقوق الإنسان وتوثيق انتهاكات هذه الحقوق في سوريا لا تعدّ ولا تحصى. ففي بداية الانتفاضة ضد نظام الاستبداد لاحقت الأجهزة الأمنية هؤلاء النشطاء وحبستهم. ومنهم الصحافي مازن درويش، رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، الذي ينهي يوم الاثنين 16 كانون الأول، 22 شهراً على وجوده في المعتقل. أما بعد انحراف الثورة وسقوط غالبية المناطق الخارجة عن سلطة النظام تحت سطوة الإرهاب الإسلامي الظلامي فقد عاد الوضع شبيهاً بما كان عليه قبل الانتفاضة، بل وبشكل أكثر بشاعة. لكن هذا لم يمنع النشطاء، رغم كل الصعوبات، من الاستمرار بتوثيق الانتهاكات التي تمارسها القوى المتسلطة الجديدة. وبالطبع لم يرق هذا لأمراء الحرب الملتحين فبدؤوا بعملية كمّ أفواه النشطاء مثل رزان زيتونة ورفاقها الذين تمّ اختطافهم على أيدي “ملثمين”.

في سوريا، وبين الاستبداد السياسي الذي يقتل باسم قوّة من الأرض والإرهاب الديني الذي يقتل باسم قوّة من السماء يسقط ضحايا أبرياء يتهدّد النسيان أسماءهم وأشكالهم ولون وجوههم. لكنهم لن يُنسوا مادام هناك ناشطون وناشطات يوثقون للانتهاكات ويقفون حرّاساً للذاكرة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى