صفحات مميزةمنير الخطيب

حزب البعث وبورقيبة في عين التاريخ/ منير الخطيب *

بينما كان العالم يشاهد على الشاشات الصغيرة آلاف الصور لجثث المعتقلين السوريين الذين قضوا تحت التعذيب، ويشاهد جحيم البراميل المتفجرة وهي تتساقط على معظم المدن السورية، كان المجلس التأسيسي التونسي (البرلمان) يصوت على الدستور الجديد للبلد، الذي حسم نهائياً مبدأ «مدنية الدولة» ومبدأ حمايتها حرية المعتقد والضمير، وكذلك أقر التساوي التام في الحقوق والواجبات بين المرأة والرجل.

بكلام مختصر، صوت المجلس التأسيسي على دستور علماني وفقاً للمعايير الكونية. والسؤال الكبير الذي تفرضه المقارنة بين مصيري الثورتين السورية والتونسية: لماذا حكم التاريخ، على ثورتين متزامنتين، انطلقتا من أجل ذات الأهداف: الحرية والكرامة وبناء الدولة الوطنية والتوزيع العادل للثروة وإرساء مرتكزات المواطنة، حكمين مختلفين في النتائج إلى حد الآن؟.

هناك أسباب متعددة أدت إلى هذا التغاير في النتائج، لكن من أهم الأسباب المحددة: هو الفرق المنهجي بين المرحلتين البورقيبية في تونس والبعثية في سورية. فإذا كان علينا أن نصفق للمجلس التأسيسي التونسي مرة، علينا أن نصفق لبورقيبة مرتين، مرة لأنه نصح العرب بالتسوية مع إسرائيل، ولم تكن وقتها الضفة الغربية والجولان وقطاع غزة قد احتلت (قبل عدوان 67)، وأقام، حين ذاك، الممانعون والمقاومون، الذين يذبحون شعبهم اليوم، عليه الدنيا ولم يقعدوها، ورفعوا بوجهه تهم العمالة والخيانة… وعلينا أن نصفق له مرة أخرى، لأنه حيّد تونس عن مناخ البله الجماعي، الذي اجتاح المنطقة العربية تحت تأثير الثوران القومي/اليساري، وذهب فيها نحو «التحديث» وإن كان تحديثاً ليس عميقاً، أي ذهب فيها مبكراً نحو خيار الوطنية التونسية.

وكما يقول المناطقة: النتائج تكمن في المقدمات، فإن تصويت المجلس التأسيسي على هذا الدستور العلماني، يرجع إلى تلك المقدمات التحديثية التي أرستها البورقيبية. فقد أنتجت كتلة كبيرة من الفئات الوسطى والمثقفين والمتعلمين والتكنوقراط، إضافة للمرأة بالطبع (كتلة علمانية)، كان من الصعب أن تعصف بهذه الكتلة رياح الإسلام السياسي، واندفاعة الهويات الماضوية. بكلام مختصر: لقد حصّنت البورقبيية المجتمع التونسي مرتين، مرة ضد البله القومي في الخمسينات، وهذه المرة في عام 2013 ضد البله الإسلاموي. يكفي أن نشير، مثلاً، إلى أثر التحديث في تونس في الحد من ظاهرة الانفجار الديموغرافي: لقد كان عدد سكان تونس في الستينات مساوياً لعدد سكان سورية، والآن عدد سكان تونس يقترب من 10 ملايين نسمة، بينما عدد سكان سورية يقترب من 24 مليون نسمة، هذا حافظ إلى حد كبير على وزن الفئات الوسطى (العلمانية) في المجتمع التونسي، في الوقت الذي أدى الانفجار السكاني في سورية إلى تآكل هذه الفئات.

على النقيض من التجربة البورقيبية، كانت تجربة البعث في سورية تجربة نزع الحداثة. لقد استلم البعثيون سورية متقدمة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وحضارياً عن تونس، فسورية كانت أول دولة في آسيا وأفريقيا تستقل من دون حساسيات طائفية أو مذهبية أو إثنية، وكانت تمتلك برلماناً اقتحمه اقتحاماً أول نائب شيوعي في المنطقة العربية (خالد بكداش)، وكان هذا البرلمان يضم ممثلاً عن الطائفة اليهودية في سورية، وكان يحاسب رئيس الدولة على مصروف بنزين سيارته الحكومية. لقد أدخل البعثيون السوريين، قسراً، في تجربتهم وهم يسيرون على طريق تشكيل شعب ودولة، وأخرجوهم منها طوائف ومذاهب وإثنيات، وسلطات قاتلة سواء كانت هذه السلطات «ممانعة» أو «سلطات داعشية» بكل أنواع الداعشية. نعم ما نشاهده اليوم في سورية من قتل وتدمير، لم يسبق له مثيل في التاريخ، هو نتاج تلك المقدمات التي زرعتها التجربة البعثية المشؤومة. وإن الدرس التاريخاني الذي تعلمنا إياه المقارنة بينها وبين التجربة البورقيبية، تدفعنا إلى التمسك بالحداثة الجذرية في مواجهة طوفان الموت الذي قذفت مجتمعاتنا إليه السلطات والتنظيمات الممانعة والمقاومة بشقيها السني والشيعي اللذين هما من ماهية واحدة، ينبعث من أصلابها الدمار العميم.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى