صفحات الرأي

حسابات إيرانية قديمة لواقع جديد

 


ميشيل كيلو

تمتلك إيران، كغيرها من الدول الكبيرة، وعياً حاداً جداً بمصالحها القومية، رغم خطابها غير القومي، بل والمعادي للقومية في الكثير من مفرداته ووعوده . هذا ما يتفق عليه كل من يتابع مجريات المنطقة عموماً، وسياسات إيران خصوصاً . وثمة هناك من يشهد لطهران ببراعة خاصة في ملاحقة أهدافها القومية التي تتفاوت درجات نجاحها، لكنها تبلغ الذروة عندنا، في وطننا العربي، حيث يوجد لها حضور ونفوذ متفاوت في كل مكان، وتتابع كل ما يحدث بروحية شريك أو حليف مقرب يحق له، بل ومن واجبه، إبداء الرأي واتخاذ المواقف في كل ما يتعلق بعلاقاته العربية، أو بما يؤثر فيها سلباً أو إيجاباً، من ضمن نظرة أيديولوجية ترى أن الإسلام يمحو، أو لا بد أن يمحو، الحدود بين المسلمين، وتعتقد أن تكافل هؤلاء وتعاضدهم واجب شرعي لا مهرب منه .

ومع أن عرباً كثيرين لا يقرون إيران على نهجها، ويرون في إعلاناتها مجرد مسوغات تبرر تدخلها في شؤونهم، فإن نفوذها وحضورها واصلا تعاظمهما في معظم أنحاء عالمنا العربي، حتى بدا وكأنها تتحول بالقول والفعل إلى مركز استقطاب للأمة، بعد زوال المركز المصري بدوره القومي المميز، بعد غياب عبد الناصر، و”التسوية السلمية “مع العدو “الإسرائيلي”، والتحالف مع أمريكا، والانسحاب الواسع من الشؤون العربية، بل وترك العرب لمصيرهم . والحق، إن قيادة طهران الحالية فعلت كل ما من شأنه تعزيز دورها عندنا: اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وتنظيمياً، وبذلت جهوداً حثيثة داخل مجالها السيادي، وفي كل مكان، لإشعارنا بأنها موجودة في كل زاوية وركن من زوايا وأركان وجودنا، وبأن من الأفضل لنا التعاون معها، خاصة أنها بلد شقيق وشريك حضاري وديني ولغوي وتاريخي، ليس له مطامع في ثرواتنا وأوطاننا، فضلاً عن أنه يبني مواقفه على فكرة الإسلام الجامعة التي تمثل ضرباً من الحماية بالنسبة لجميع بلدان المسلمين، ومن الكابح الجدي لخصومهم، فلا شيء يمنع إذاً، تشكل توازن جديد بينها وبيننا، يريحها ويريحنا ويوحد مواقفنا مع مواقفها، ضد العدو المشترك: أمريكا و”إسرائيل” .

بهذا التصور الذي لم يتفق دوماً مع الواقع والوقائع، سعت إيران إلى فرد جناحيها وتوطيد وجودها ونفوذها في المناطق القريبة منها، ولاسيما في دول الخليج والعراق، وحققت اختراقاً مهماً في سوريا ولبنان، حيث تحالفت مع الأولى فقامت بينهما علاقات لم يقم ما يشبهها في أي مكان آخر من أرض العرب، ووطدت حضورها في لبنان بالسياسة والسلاح، عبر دعمها غير المحدود لحزب الله، وعلاقات الشراكة الكاملة والمطلقة معه، التي عادت عليها بمصداقية شعبية واسعة في أوساط عربية مختلفة، ترى في حزب الله قوة تحمي الوجود العربي والإسلامي بنجاح، في وجه عدو لطالما أنزل هزائم متعاقبة بالجيوش العربية، واحتل أراضي تابعة لدول يفترض أنها تحمي سيادتها ووحدتها الإقليمية .

لا عجب أن تكون السياسة الإيرانية فخورة بما حققته، وأن تتمسك بالأسس التي أدت إلى إنجازه على أرض الواقع، وأن تقدم قراءات للتغير العربي المتتابع منذ أوائل هذا العام تضعه في سياق ثورتها الإسلامية وما ترتب عليها من سياسات عربية خاصة وخارجية عامة، مثلما فعل السيد علي خامنئي في خطبة شهيرة خلال الثورة المصرية ضد نظام مبارك . غير أن نقطة قوة إيران العربية قد تنقلب إلى العكس وتصير نقطة ضعف جدية، إن هي تجاهلت طبيعة التحول وحقائقه، ولم تفهم مراميه الحقيقية ومطالبه، ورفضت أن تنطلق منه باعتبار أنه سيكون من الآن فصاعداً الأرضية والحاضنة الجديدة لأية سياسات: محلية وعربية وإقليمية ودولية، سيقترف من يستمر في رسم مواقفه وسياساته انطلاقاً من الوضع الذي كان قائماً قبله غلطة كبيرة جداً ستلحق ضرراً عظيماً به ومصالحه التي صار من الضروري أن يعاد إنتاجها انطلاقاً من واقع جديد، يبدو العرب عازمين على ملئه بأنفسهم وسياساتهم الخاصة، بعد أن ساده فراغ مديد غابوا خلاله عن أمورهم، وتركوا لجيرانهم حرية التدخل شبه المفتوح في شؤونهم، وانقسموا واختلفوا، فكان حالهم فرصة أغرت جيرانهم بهم . واليوم، ومصر تستعيد وضعها الطبيعي، وتخرج من حسابات النظام إلى مصالح الدولة، آخذة نفسها وعالمها العربي إلى أفق جديد سيكون طابعه القومي والمجتمعي أوسع وأعمق وأكثر جدية وقوة بما لا يقاس من طابعه السابق، ستستعاد النظرة التي رأت في المجال القومي مجالاً عربياً داخلياً لا يحق لأحد التدخل فيه دون موافقة أصحابه .

وستبادر مصر على الأرجح إلى ملء الفراغ الذي سببه انسحابها منه، فلا بد إذاً، أن تسارع إيران إلى قبول الأمر الواقع، وتسلم بحقيقة أن الفراغ العربي سيتقلص، وأن حضور مصر سيبدأ بالتوطد من جديد فيه، وتبدأ للتو عملية مراجعة لسياساتها تجاهه تنطلق من مبدأ شراكة متوافق عليها تتم بتراضي الأطراف جميعها، عوض سياسات التدخل الراهنة، التي بدأت تشهد الانتكاسة تلو الأخرى: من البحرين إلى الكويت فاليمن فمصر فسوريا، علماً أن الاختيار يجب أن يكون سهلاً بالنسبة إلى طهران بين كسب العرب كأمة وكسب موطئ قدم تصعب المحافظة عليه أو الدفاع عنه هنا أو هناك، في هذا البلد أو ذاك . هذه الضرورة التي نلمسها اليوم في مراجعات واسعة للسياسات الدولية تجاه العرب، وكان آخر تعبيراتها إعلان الخارجية الأمريكية أن أوباما سيقدم خلال أسبوعين رؤية جديدة لمواقف بلاده من المسائل والتطورات العربية، لا بد أن تستجيب السياسة الإيرانية لها بدورها، وأن تتفاعل معها بإيجابية إن كانت لا تريد خسارة ما حققته من حضور ونفوذ في بلداننا، وتحرص بالفعل على علاقة مميزة مع أمتنا، وإلا خسرت جزءاً كبيراً مما حققته وربما تعرضت لانتكاسة فائقة الخطورة على نظامها، بالنظر إلى مكانة العرب وحجمهم في الإقليم، وإلى أن نجاح طهران الرئيس في السياسة الخارجية تمثل في تغلغلها داخل مجالهم، واحتلال مواقع فيه سوغت من خلالها الأسس التي اعتمدتها مدرسة خامنئي – نجاد في المنطقة برمتها، انطلاقاً من الداخل الإيراني، فإن هي اهتزت خارجه انعكس اهتزازها على علاقات وتوازنات القوى فيه، في ظرف متاعب جدية كانت هذه المدرسة تعانيها مع قطاعات واسعة من شعبها، يحتمل أن تتجدد في حال وقع إخفاق خارجي كبير كهذا .

لا تتابع الدول الراشدة التمسك بمعايير قديمة، إذا ما تغيرت الأوضاع التي كانت تنطبق عليها . ولا مفر من أن تطور معايير مختلفة تمكنها من إعادة تعريف مصالحها وسبل الوصول إليها، فالمعيار يتبع دوماً الواقع وليس العكس، وإلا كانت السياسة نتاج الرغبات وتجاهلت ما يجري على الأرض وأخفقت . أما إيران، الدولة الشقيقة والكبيرة والعظيمة، فهي ليست ولن تكون بمنأى عن هذه القاعدة الذهبية، وعليها التكيف معها، إن كانت تريد أخذ موقع جديد في عالم عربي جديد، سيتمحور من جديد حول نفسه وليس حول أية قوى إقليمية، وسيسعى إلى بناء علاقات تقوم على الندية والتشارك مع جيرانه، فيها مصالحه ومصالحهم، على الطريق نحو علاقة من طابع أخوي وعميق، تتسق وروح الإسلام والإرث الحضاري والتاريخي المشترك بين أمتين لطالما عاد عليهما بالخير تعاونهما واحترام كل واحدة منهما للأخرى .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى