صفحات الثقافة

“حضارة الاستعراض” باكورة فارغاس يوسا بعد نيله نوبل الآداب


لا يثير المثقف الاهتمام إلاّ اذا تحوّل لعبة دارجة أو مهرجاً

    رلى راشد

ترك الكاتب الارجنتيني الراحل ارنستو ساباتو وصية تصلح لتكون مساراً يهتدي به كل كاتب او طامح الى الاقتراب من ضوء المعرفة، ولا يرغب في ان يحترق جناحاه. سئل ساباتو من هو المبتكر؟ فأجاب إنه شخص يرى في الشائع قسمات مستترة، قبل ان يردف ان الكاتب من احترف المغالاة خصوصا. الكاتب ذاتٌ متطرفة وفق ساباتو اذاً، مأخوذة الى هوس يجري شحذه الى الحد الأمضى. لا ينفك يضحّي بالنفيس والغالي، لمصلحة ولادة النص المهم. لكن “عصر الاستعراض”، على ما يسمّيه الكاتب ماريو فارغاس يوسا في باكورته بعد نوبل الآداب، أدخل واقعاً مختلفاً. صار المثقف لا يثير الاهتمام سوى “اذا تحول لعبة دارجة او مهرجا”.

دأب كل جيل، على تأمّل إيجابيات الأجيال السابقة، فاعتبر ابناء الحاضر، في غمامة الحنين المعطوف على شيء من المعطيات الواقعية، ان المنصرم أرفع شأنا من المعيش. نظر والتر بنجامين الى التاريخ فرآه يترك ظهور الناس ركاما، يتوارثونها جيلا بعد جيل. اعلن انه كان من الافضل ان نولد قبلذاك، او ان لا نولد بتاتا ربما، كما ذهب كالديرون. والحال ان فارغاس يوسا يضع بحثه الصادر بالقشتالية لدى “الفاغوارا” تحت سقف هذه المعطيات. سددت الحداثة ضربة قاضية للمنطق غير العلمي. اما الثقافة الانسانية التي أنبتت بعض اكثر المعرفة الادبية والفنية رفعة، ففي تقهقر، ذلك ان المثقف أصبح حليف الترفيه والدعاية. يخرج الكاتب البيروفي افكاره هذه، من كُتب آخرين سبقوه ويسمّيهم في نصه. نعثر على ت. س. اليوت وبوبر وشتاينر وبرلين وليبوفيتسكي، الى آخرين كثيرين لا يذكرهم، من مثل شوبنهاور ونيتشه وتوكفيل، لعدم رغبته في القاء القارئ في الملل وبحافز الاختزال. ليست نظريات فارغاس يوسا فريدة تاليا، وليست تحليلاته اكثر عمقا من تلك التي تولاها سواه في الشأن عينه. غير انه لا يمكن سوى تقدير مبادرة ان تنشر في هيئة موجز او مفكرة، وان ينشرها كاتب يحظى بمروحة واسعة من القراء. هذا الروائي الذي يحلو له ان يصير باحثا احيانا، يعاين ثقافة باتت فوضى “حيث ونظرا الى عدم التمكن من تحديد ما يندرج في اطار الثقافة، صار كل شيء ثقافة، في حين ان لا شيء كذلك”. يعترض بحث يوسا الساخط، على الاهتمام المتعاظم بالترفيه والمتعة، ويصل في تشخيصه الى ترقب انتفاء الثقافة “بالمعنى التقليدي” الى “تسخيفها وتعميم الخفّة”.

يُلحق يوسا كتابه بمقالات مختارة كانت نشرت في صحيفة “ايل باييس” الاسبانية حيث يشدد على مسؤولية الصحافة في ترسيخ حضارة “لايت” (يستخدم التعبير الانكليزي الدال على الخفيف) تدفع بالمتلقين الى التغاضي عما يكتنف الحياة من المأساة والالم والغموض والكبت. يتابع نسقاً أدبياً غدا الاكثر تمثيلاً لما بلغناه من تراجع، يطلق عليه هو الآخر صفة “لايت”، واصفاً إياه بأنه هيّن ومفتقر الى الوزن، “يقترح من دون ادنى خجل ان يرفّه اولا واخيرا، بل وحصرا”. ليردف “اتمنى عليكم ان تعوا اني لا أدين هذا الادب ذلك ان في وسطه اصحاب موهبة حقيقية يوفرون نصوصا رفيعة، أعني، ولكي استبقي الافضل، جوليان بارنز وميلان كونديرا وبول اوستر وهاروكي موراكامي”. يصر الكاتب على عدم القاء اللوم على الكتّاب فقط، إذا لم يتجاسر عصرنا على الانغماس في مغامرات أدبية من طراز منجز جويس وتوماس مان وفولكنر وبروست. يمكن ايجاد مبررات اضافية في نوعية الثقافة حيث نهيم، ثقافة لا تحفز اي مجهود دؤوب، بل تقضي عليه. بينما تفرض النصوص المحورية في ذروتها على القارئ ان يستقدم تركيزا فكريا هائلا، يكاد يوازي التركيز الذي يطلبه انجاز هذه النصوص.

يلاحق فارغاس يوسا تسلل “حضارة الاستعراض” الى امكنة الثقافة في الصحف حيث برزت فسحات للمطبخ والموضة بعدما تقدم الطهاة والمصممون والمصممات المشهد، على نسق ما فعل ماضيا، العلماء والمؤلفون الموسيقيون والفلاسفة. اما النقاد، اولئك الذين اضطلعوا في زمن الاجداد واجداد الاجداد، كما يعتبر الكاتب، بدور اساسي في عالم الثقافة لأنهم قدموا النصح في ما يتعلق بما ينبغي الاستماع اليه او مشاهدته او قراءته، فصاروا غير مرئيين. استحالوا فصيلة مهددة بالانقراض. لم يعد احدهم يهتم لمنظورهم سوى إذا انخرطوا هم أيضا في عجلة الاستعراض والترفيه. يروي فارغاس يوسا أن ادموند ويلسن، بتّ، قبل نصف قرن، من طريق مقال في “ذي نيو يوركر” او “ذي نيو ريبابليكان”، مآل نجاح عمل تأليفي او فشله. كان في عقد من الكلمات، يقضي على مجموعة قصائد او رواية او بحث، او على نقيض ذلك، يتولى بعثها. اما اليوم فباتت برامج اوبرا وينفري التلفزيونية، المرجع والمقياس. يزيد الكاتب لبيروفي بما يشبه المرارة المستترة باللاإكتراث “لا اقول ان الامر سيىء. اقول انه هكذا فحسب”.

يتنبه “عصر الاستعراض” الى الفساد السياسي ايضا، فيروي فارغاس يوسا ندرة اخبره بها الكاتب خورخي ادواردو بينافيديس. استقل الكاتب سيارة أجرة في ليما يوماً، فما كان من سائقها إلاّ ان حاول حثه على انتخاب البرتو فوجيموري (المرشح لرئاسة الجمهورية وخصم فارغاس يوسا في انتخابات 1990) لأنه “سرق ما توجب عليه فقط”. الحكاية مذهلة في بساطتها المعبّرة، يقول يوسا. يمكن السياسي ان يسرق، بل اكثر، لا يمكن إلاّ ان يسرق، اما المهم فألاّ يسرق اكثر مما يجب!

في سياق متابعة انتشار “منطق الاستعراض”، تتراءى السياسة الاكثر سقما بالنسبة الى يوسا، إذا قورنت بما جرى في الادب والسينما والفنون التشكيلية. ذلك ان الشعارات والسخافات استراحت في فسحة خصصت في الماضي للتحليلات والبرامج والافكار والعقائد. تبدل وجه السياسي ليتحول رهينة شعبية تهمش القيم والاقتناعات والمبادىء، ليتمحور اهتمامه على صقل الحركات الخارجية السطحية.

في الاعلام ايضا صار التسخيف واقع الحال، على ما يشير يوسا، حيث الغلبة لتصرفات تفتقر الى المسؤولية. طغت ثقافة الزينة حيث يمارس نجوم التلفزيون ولاعبو كرة القدم البارزون تأثيرا مارسه في ما مضى الاساتذة والمفكرون (وقبلذاك) اللاهوتيون. لتتبدى ملاحظته حول كسوف المثقف في المجتمع المعاصر، صدى لاعلان الفيلسوف الفرنسي دومينيك لوكور في “المفكِّرون التافهون” حلول عصر “المفكِّرين التافهين” مكان عصر “المفكرين المعلِّمين”.يبلغ فارغاس يوسا خلاصة متشائمة في خاتمة بحثه. لا يسعه ان يعوّل على الصحافة بغية تبديل “حضارة الاستعراض”، بعدما ساهمت جزئيا في خلقها. تحول الاعلام أداة للتسلية عملت على تشريع نوع ظل لأعوام هامشيا وشبه سري. بات الاعلام مطرح الفضيحة والخيانة والثرثرة وانتهاك الخصوصية، وصولا الى الهجو والافتراءات والزيف. هذه تفوق حضارة الاستعراض. انها حضارة الكارثة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى