صفحات الرأي

المشهد الدولي…”تراجيديا” ومفارقات


نعوم تشومسكي

ليس من السهل على المرء أن يخرج من جلده لكي يرى العالم على نحوٍ مختلفٍ عن الأسلوب الذي يتم من خلاله تقديمه لنا يوماً بعد يوم. ولكني لا أرى ضيراً في المحاولة، لذا لنأخذ بعض الأمثلة. إننا نسمع طبول الحرب تُقرع ضد إيران، وأصوات هذه الطبول تتعالى يوماً بعد آخر. فتخيلوا لو كان الوضع معكوساً وأن طبول الحرب تُقرع ضد إسرائيل.

تخيلوا لو أن إيران تشن حرباً وحشية وتدميرية ضد إسرائيل بمشاركة قوة عظمى، وأن يعلن قادة إيران أن المفاوضات تراوح مكانها، بينما ترفض إسرائيل التوقيع على اتفاقية عدم انتشار السلاح النووي وتمنع حصول عمليات تفتيش داخل أراضيها على عكس إيران التي وافقت على ذلك. وتواصل إسرائيل تحدي دعوة المجتمع الدولي إلى جعل المنطقة خالية من السلاح النووي، في حين تبقى إيران تحظى بدعم القوة العظمى وبرعايتها لها.

بالطبع تبقى كلّ هذه الأمور خارج نطاق تصورنا، إلا أنها تحصل في واقع الحال، ولكن الوضع معكوس. فالمحاكاة لا تكون دقيقةً على الإطلاق كما أنها غير عادلة أيضاً.

اقتداءً براعيتها وحليفتها، تلجأ إسرائيل إلى العنف عندما يحلو لها ذلك. كما أنها تواصل عملياتها الاستيطانية غير الشرعية في الأراضي المحتلة في تحدٍ وقحٍ للقانون الدولي ولمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. أضف إلى أنها شنت مراتٍ ومرات اعتداءات وحشية ضد لبنان وضد الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة وقتلت عشرات آلاف الأشخاص من دون مبرر يُعقل.

منذ ثلاثين عاماً، أقدمت إسرائيل على تدمير مفاعلٍ نووي عراقي، ومؤخراً تمت الإشادة بهذا العمل رغم البراهين القوية، حتى تلك المقدمة من قبل وكالة الاستخبارات الأميركية، التي تثبت أن هذا الهجوم لم يؤدِ إلى إنهاء برنامج صدام حسين النووي، بل على العكس كان سبب إطلاقه، وعليه فإن توجيه ضربة لإيران، ربما سيكون له الأثر عينه.

إيران بدورها نفذت عدواناً وأقدمت على احتلال الجزر الإماراتية الثلاث الواقعة في الخليج العربي، وذلك حصل خلال القرن المنصرم وبالتحديد إبان حكم الشاه.

وقبل أكثر من أسبوعين، اجتمعت في طهران حركة دول عدم الانحياز التي تضم حكومات أكثر البلدان كثافةً سكانية. لقد صادقت الحركة بقوة على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، في حين أن بعض أعضائها كالهند على سبيل المثال، يلتزمون بالعقوبات الأميركية الصارمة المفروضة على إيران بشكلٍ جزئي وعلى مضض.

هذا، ويقر مندوبو دول عدم الانحياز بالتهديد الذي يطغى على الخطاب الغربي، والذي عبّر عنه الجنرال “لي باتلر”، الرئيس السابق للقيادة الإستراتيجية الأميركية، علانيةً عندما قال

“إنه من الخطير جداً أن يكون هناك في مستنقع العداوات الذي نسميه الشرق الأوسط دولة تملك أسلحة نووية، لأن ذلك من شأنه تحريض الدول الأخرى على الحذو حذوها”.

بالطبع، إن “باتلر” لا يشير هنا إلى إيران وإنما إلى إسرائيل، التي يُنظر إليها في الدول العربية وفي أوروبا على حدٍ سواء على أنها أكبر تهديدٍ للسلام. في حين تحل الولايات المتحدة الأميركية في المرتبة الثانية بعدها في العالم العربي، وتُعتبر ثاني مصدر تهديد.

ثمة أحداث أخرى ظهرت على الصفحات الأولى للصحف يمكن قراءتها من وجهة نظر مختلفة أو معكوسة. لنفترض أن “جوليان أسانج” سرب وثائق روسية تكشف معلومات مهمة تريد موسكو حجبها عن الجمهور، وأن الظروف كانت متطابقة.

في هذه الحالة لن تتوانى السويد عن ملاحقة مسبب قلقها الوحيد المعلن عنه. وبالتأكيد ستوافق على عرض استجوابه في لندن. كما أنها ستعلن أن أسانج عاد إلى السويد (كما وافق على القيام بذلك) وأنه لن يُسلم إلى روسيا حيث من المستبعد أن تتم محاكمته بشكلٍ عادل.

وعليه، ستتم الإشادة بالسويد على خلفية هذا الموقف المبدئي. أمّا “أسانج” فسيبجل أيضاً لأداء خدمة عامة. وهذا بالطبع لن ينفي الحاجة إلى أخذ الاتهامات الموجهة ضده على محمل الجد، كما هو الحال في جميع القضايا المماثلة.

في الوقت الراهن، أهم خبر يجري التداول فيه هنا هو الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقد قدم” لويس برانديز”، قاضي محكمة العدل الأميركية العليا، وجهة نظر مناسبة لخّص فيها حال بلاده بقوله “يمكننا أن نحصل على الديمقراطية في هذا البلد أو أن تبقى الثروة محصورة في أيدي قلة قليلة من الناس، ولكننا نعجز عن امتلاك الأمرين معاً”.

وانطلاقاً من هذه الفكرة، ينبغي أن تركز تغطية الانتخابات على تأثير الثروة على السياسة، وهذا الموضوع تم تحليله بإسهاب في دراسةٍ حديثة أعدّها “مارتن جيلنز”، تحمل العنوان التالي “الثراء والنفوذ: عدم المساواة الاقتصادية والقوة السياسية في الولايات المتحدة الأميركية”. وأشار الكاتب في هذه الدراسة أن الأكثرية الساحقة من الناس تعجز عن صياغة سياسة الحكومة لأن أولوياتها تختلف عن أولويات الأثرياء، الذين يحصلون إلى حدٍ بعيد على كلّ ما يريدون عندما يريدون ذلك.

لا عجب إذن في أن تحلّ الولايات المتحدة الأميركية في المرتبة 27 من بين 31 دولة عضو في التصنيف الأخير الذي نشرته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية حول العدالة الاجتماعية، بالرغم من كافة الامتيازات الاستثنائية التي تتمتع بها.

أو يبدو أن المعالجة العقلانية للمواضيع تميل إلى التبخر في الحملة الانتخابية الراهنة على نحوٍ تتحول فيه الأمور أحياناً إلى كوميديا.

وخير دليلٍ على هذا الواقع الكلام الذي جاء على لسان الكاتب “بول كروجمان” نقلاً عن كبير مفكري الحزب “الجمهوري” وأكثرهم تقديراً “بول رايان”، الذي صرّح أنه يستقي أفكاره حول النظام المالي من إحدى شخصيات رواية “أطلس شرجد” الخيالية تدعو إلى استخدام العملات الذهبية عوضاً عن العملات الورقية.

ما كان ينقصنا هو استلهام الأفكار من كتابات كاتب مميز بالفعل هو “جوناثان سويفت”، ففي كتابه “رحلات جليفر”، يقوم الحكماء بحمل كافة ممتلكاتهم معهم في حزمٍ على ظهورهم وهكذا يمكنهم استخدامها من أجل المقايضة من دون رهن الذهب. وبالتالي من خلال اتباع هذه الفكرة يمكننا أن نضمن ازدهار الاقتصاد والديمقراطية والأفضل من ذلك كله، يمكننا أن نحد من عدم المساواة بشكلٍ كبير، بالطبع بفضل روح العدالة التي يتسّم بها “برانديز”.

نعوم تشومسكي

أستاذ الفلسفة واللغويات بمعهد ماساشويتس للتقنية

ينشر بترتيب مع خدمة “نيويورك تايمز”

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى