خولة حسن الحديدصفحات سورية

حكاية حميدة فياض وعائلتها

 


د.خولة حسن الحديد

المرأة والأرض صنوان … ولطالما كانت المرأة رمز الخصوبة والجمال والحب والخير والعطاء، وخاصة في بلاد الشام في ما قبل الإسلام إذ كانت الآلهة الأم تمنح خيرها وعطاءاتها للأرض والناس، فمن “ريا” آلهة المطر إلى “إنانا” آلهة الحب والجمال كانت المرأة حاضرة في تاريخ وحاضر شعوب تلك البلاد ..

امتداداً لهذا العطاء كانت المرأة في بلاد الشام المعاصرة حاضرة بقوة في كل مفاصل الحياة ووجوهها المختلفة، وفي البلاد التي شهدت احتلالاً أجنبياً أو أزمات تألقت المرأة في صمودها وقدرتها على منح الحياة استمرارية ،فكانت العمود الذي ارتكزت عليه الأسر المحاصرة في غزة وكانت شجرة الزيتون التي قاومت جدار الفصل العنصري في نعلين وكل قرى فلسطين الصامدة ..وكانت المعتقلة والسجينة في سجون الاحتلال الاسرائيلي، والشهيدة ضمن قوافل الشهادة التي انطلقت من فلسطين الحبيبة ومن جنوب لبنان ومن الجولان السوري المحتل.

حميدة الفياض المرأة السورية القروية كانت أول شهيدة “امرأة” من شهداء الثورة السورية هي سليلة تلك الآلهة، وشقيقة هؤلاء النسوة اللواتي استشهدن في بلاد الشام، ولكن يا للمفارقة المؤلمة ،حميدة استشهدت ودمرت عائلتها برصاص الغدر، برصاص أبناء بلدها الذين لا نعرف حتى الآن هل هم رجال الأمن السوري أم “الشبيحة” لأننا فقدنا بوصلة التمييز بينهم لكثرة تماهيهما مع بعضهما ، ولم تكن حميدة الفياض شهيدة الرصاص فقط بل كانت شهيدة الفقر والعوز والحاجة التي دفعتها أن تغادر قريتها “تلبيسة ” في محافظة حمص وترتحل إلى مدينة بانياس الساحلية مع زوجها وولديها لتعمل في الزراعة في أحد مزارع البيوت البلاستيكية في وقت يخشى فيه أي إنسان حتى من مدينة بانياس نفسها الخروج من بيته .

في صباح الثاني عشر من نيسان الماضي استيقظت حميدة ( أم فايز) مبكرة ، أدت صلاة الفجر وجهزت زوادتها مما تيسر لها من زيتون وبيض وخبز ،نثرت بعض الحبوب لدجاجاتها ووعدت أن تملأ لهن حوض الماء عندما تعود ..تفقدت خم الدجاج لم يبضن اليوم .ما زال الوقت مبكراً ..عندما أعود سأجد خمس بيضات سأعطيها لعبد الله المبروك جارنا الأعمى .يا حسرتي لا يشيل الفقير إلا المعتر مثله ؟؟ حدثت نفسها.. أيقظت فايز ابن الرابعة عشرة وولدها الآخر ، هما اليوم لن يذهبا إلى المدرسة سيذهبان معها للعمل ومساعدتها في جني الخضار لأن التعب والمرض أنهكها ولا تريد أن تتغيب خوفاً من أن يستبدلها مالك المزرعة التي تعمل فيها بعاملة أخرى وبالتالي تفقد مصدر رزق العائلة ؟؟ كانت أم فايز تشعر بانقباض في صدرها حدثت جارتها التي صبحت عليها وهي في طريقها إلى موقف الباص ؟؟ هاتف يخبرني بأن أترك الأولاد في البيت .في صدري ضيق وانقباض .لكنهما رفضا خوفاً علي وأصرا مرافتي ؟؟ سأتوكل على الله ..

توكلت أم فايز على الله ويممت وجهها وعائلتها شطر بانياس ..ومع نهاية اليوم جاء سريعاً تفسير شعور أم فايز بالانقباض .. رجال مسلحين بلباس أسود اعترضوا طريق العائلة وهي في طريقها إلى الطريق العام لاستقلال سيارة تعيدها إلى قريتها طلبوا بطاقات الهوية الشخصية التي استفزتهم ..يا للهول ..هل أنتم من تلبيسة ؟؟ تلبيسة المدينة الصغيرة المجاورة لمحافظة حمص التي خرجت منها أول مظاهرة في المحافظة تأييداً لأهالي درعا ؟؟ ذنب لا يغتفر ؟؟ وصيد ثمين ؟؟ لم يشفع لأم فايز “حميدة” إن أصلها من قرية جرجناز التابعة لمحافظة إدلب وكانت جرجناز حتى ذلك الحين لم تخرج بمظاهرات قد انضمت إليها لاحقاً ؟؟؟ بادرتهم رصاصات الغدر عن القرب ووجهاً لوجه.. أصيب جميع أفراد العائلة أبو فايز وولديه وأم فايز … بجوار أم فايز تمدد فايز ابن الرابعة عشرة ينزف لم تكن إصابته خطيرة وكان يمكن إسعافه ..نزفت أم فايز دمعاً ودمت وهي تتوسل قاتليها أن يسعفوا فايز وباقي أفراد العائلة ..ولكن كيف يترك القاتل شاهداً على جريمته..؟؟ استشهدت أم فايز وقد اختلطت دموعها بدمائها برجاءها في إنقاذ فايز الذي استودعت قلبه آخر كلماتها وهي تعتذر : تقبرني يا أمي يا ريتني ما جلبتك معي ؟؟؟ بعدها بدقائق استشهد فايز .لم تعرف أم فايز باستشهاده ولا بالمصير المجهول لابنها الآخر وزوجها المفقودين حتى هذه اللحظة ، لم يتمكن مشايخ ووجهاء “تلبيسة” من اسرجاع جثامين الأب و الولد الآخر الذين استشهدوا حسب رواية شهود العيان ،وهناك إشاعات أن “الشبيحة” قد قتلت مجموعة من المخطوفين ودفنتهم في وادي قرب مدينة اللاذقية للتقليل من عدد الشهداء ولكن في الوقت الراهن لا يمكن لأحد التأكد .

دمرت عائلة “أم فايز” الفياض، تاركة جرحاً عميقاً عند أهالي مدينة تلبيسة الثائرة ، ومؤكدة على الحبل السري الذي تعمد بالدم الذي يربط أهلها بكل إخوانهم في سوريا الحبيبة من درعا إلى بانياس ومروراً بدوما والتل والمعضمية وصولاً إلى جبلة واللاذقية. من قتل عائلة الفياض؟ من قتل حلم أم فايز بفرحها بنيل فايز هذا العام الشهادة الإعدادية؟ من قتل عائلة الفياض وأشعل في قلوبنا ناراً لن تطفىء إلا بالقصاص من القاتل وإحقاق الحق والعدالة لا نريد الثأر .نريد العدالة؟ من قتل ودمر عائلة الفياض ؟هل هو الفقر أم رصاص الغدر … وهل يوجد فرق ؟؟؟ .. دجاجات أم فايزالعطشى ما زالت تنتظر من يصب لها الماء في الحوض ..وما زال جار أم فايز عبد الله المبروك ينتظر البيضات الخمس التي وعد بها ….

كاتبة سورية

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى