رزان زيتونةصفحات سورية

حكاية سجين سوري

 

رزان زيتونـة

قبل نحو عام من الآن، كان شاباً صغيراً يبتسم بأمل، فتغدو هموم الدنيا خلفه. بقي كذلك حتى بعد تجربة اعتقاله الأولى التي دامت ثلاثة أشهر فقط، بعد قليل من بدء الثورة.

يومها قلنا إنّها روح الشباب، تقف في وجه كل معاناة، وتتحدى الأهوال التي يشهدها السوريون في معتقلات لا تُشبه إلا أجواء جهنم. في ذلك الوقت كان المعتقلون يخرجون من زنازينهم رافعين رايات النصر. تضيع آلامهم بين ضحكاتهم وثرثراتهم وكأنهم كانوا في نزهة! لم تختلف ظروف الاعتقال كثيراً عن ذلك الوقت.. لم يختلف جحيم التعذيب وهوس تحطيم تلك الأجساد من قبل السجانين.. لكنّ شيئا آخر قد تغير.

اليوم بعد اعتقاله الثاني الذي امتدّ عاماً كاملاً، بالكاد يتعرّف فيه المرء إلى ملامحه القديمة. نصف ابتسامته لا تشبه في شيءٍ النور الذي كان يشعّ من عينيه قبل سنة. الجسد الفتي أصبح ظلاً، والألم في كل انحناءة والتفاتة، وفي كل ما يبديه الجسد من أوجاع لا يتقن إخفاءها هذه المرة.

يحكي بشكل متقطّع عن تلك الزنزانة أو تلك الجماعية. عن عصا الكهرباء أو الشبح. عن المئات من الأجساد في بضعة أمتار تتنازع المساحة والألم. ما الجديد في ذلك كله؟ لا شيء.. هكذا كان الحال دائماً في تلك المعتقلات.. ربما مع مرور الوقت أصبحت سياط الجلادين أكثر وحشية بدرجة أو اثنتين.. فلا يمكن أن تتفوق على نفسها وقد وصلت أعلى مراحلها منذ زمن بعيد. ربما عدد مرات “حفلات” التعذيب ازداد قليلا. فما الذي غيّر الفتى فأصبح كهلاً في اثني عشر شهرا!

كان فخورا بأن ندبات التعذيب لم تعلق بجلده كبعض رفاقه. لا تزال جروح بعضهم تنزّ قيحاً حتى اللحظة كما يصف. لم تختلف القصص كثيراً. من لم يمت بالتعذيب مات بغيره. ودّع ورفاقه في الزنازين عدداً من المعتقلين الذين قضوا من انعدام الهواء! لا هواء في علبة كبريت يُحشَر فيها العشرات.. والهواء ليس كرغيف خبز يابس يمكن التحايل للحصول عليه برشوة أو حتى سرقته من معتقل منهك آخر.. لا سبيل للحصول على شيء من الهواء للتنفس.. فماتوا، هكذا ببساطة..

كثيرون أصيبوا بنوبات هيستيريا.. لماذا قد يحتفظ المرء بعقله طيلة سنتين من انعدام العقل والمنطق في كل ما حوله؟ لماذا لا يصرخ كالمجنون طالما أن كلام العقلاء لم يجد نفعا مع أحد؟ أصوات الصراخ المذعور والمنفلت واليائس مرعبة تماماً كأصوات الجسد تحت آلة التعذيب.

لم تختلف الأمور كثيرا عما كانته يوماً. عدا عن أن أنباء الموت السريع شغلتنا إلى حد بعيد عن عشرات الآلاف ممّن يواجهون موتًا مقيتًا وحقيرًا وعلى مراحل. لم ينهزم الثوار ولا استسلم الوحش.. وكلما ازداد الشبان صلابة ازداد الوحش جبروتاً.. هكذا يتحوّل الفتى كهلا في اثني عشر شهرا. هذا ما اقتضاه منه كي لا تنكسر روحه أو يخزله جسده. كم تشبه البلد كلها ذاك الفتى وما أصبحه. وكم يشبه العالم كله ذلك السجان.

موقع لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى